Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=152918&book=5517#6e260e
فضيل بن عياض بن مسعود
ابن بشر أبو علي التميمي ثم اليربوعي الخراساني المروزي الزاهر قدم الشام.
حدث عن أبي علي بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه.
وحدث عن الأعمش بسنده إلى علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. وأشهد أنه مما كان يشر إلي: لتخضبن هذه من هذه. وأشار إلى لحيته ورأسه.
قال الفضيل: بينما أنا ذات يوم جالس إذ قال رجلٌ من أصحابي: ألا تأتي فلاناً فقد لزم بيته وحفر قبراً؟ قلت: كيف عقله؟ قال: قيل سديد طباعٍ. فأحببت أن آتيه، فأتيته فجلست
إليه أتأمله، فسيق إلي قلبي أنه كل ما قيل فيه أنه الحق وأكثر من الخوف - يعني قال: فلم أرده أن قلت بعد السلام عليه: إن الناس قد قالوا خبرك، فانظر أي رجلٍ تكون. قال: ثم خرجت من عنده فلقيني بعد كم شاء الله في بلاد الشام يوم جمعة، فبصر بي ولم أره، فقبض علي ثم قال: أبا علي! لقد أتعبتنا؛ قال فضيل: فرجعت باللائمة على نفسي فقلت: أيها العالم أتيت أخاً لك فألقيت إليه كلمةٌ فأتعبته، فأنت كنت أحق بالدؤوب والتعب أيها العالم.
ولد الفضل بخراسان بكورة أبيورد، وقيل ولد بسمرقند. وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع الحديث، ثم تعبد وانتقل إلى مكة. وكان ثقةٌ، ثبتا، فاضلاً، عابداً، ورعاً، كثير الحديث.
ونهر عياض الذي على نصف فرسخٍ من مرو منسوب إلى أبيه. وكان أحد العلماء والزهاد والفتيان. تفتى في أول أمره. وكان شريك بن عبد الله القاضي وسفيان الثوري، وإسرائيل، وفضيل بن عياض، وغيرهم من فقهاء الكوفة ولدوا بخراسان. كان يضرب على آبائهم البعوث، فيتسرى بعضهم وتزوج بعضهم، فلما قفلوا جاء بهم آباؤهم إلى الكوفة.
قال الفضيل: ولدت بسمرقند - وكان من أهل نسا - ورأيت بها عشرة آلاف جوزةٍ بدرهم.
وكان فضيل شاطراً يقطع الطريق في مفازةٍ بين أبيورد ومرو. فربما كان ينتمي إلى أبيورد.
وقيل: كان يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس. وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " فقال: يا رب قد آن. فرجع، فآواه الليل إلى خربةٍ فإذا فيها رفقة
سابلة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال قوم: حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا. فتاب الفضل وآمنهم، وجاور الحرم حتى مات.
وقيل إنه قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقومٌ من المسلمين هاهنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.
وقيل: إنه خرج ليلةٌ ليقطع الطريق فإذا هو بقافلةٍ قد انتهت إليه ليلاً، فقال بعضهم لبعض: اعدلوا بنا إلى القرية فإن أمامنا رجلاً يقطع الطريق يقال له الفضيل. فسمع الفضيل، فأرعد وقال: يا قوم أنا الفضيل جوزوا، والله لاجتهدن أن لا أعصي الله أبداً. فرجع وترك ما كان عليه.
وقيل: إنه خرج عشية يريد مقطعه، فإذا بقومٍ حمارة معهم ملح، فسمع بعضهم يوقل مروا لا يفجأنا فضيل فيأخذ ما معنا. فسمع ذلك فضيل فاغتم وتفكر وقال: يخافني هذا الخلق الخوف العظيم! فتقدم إليهم وسلم عليهم وقال لهم وهم لا يعرفونه: تكونون الليلة عندي وانتم آمنون من الفضيل. فاستبشروا وفرحوا وذهبوا معه فأنزلهم وخرج يرتاد لهم علفاً فرجع إليهم فسمع قارئاً يقرأ " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق " فصاح الفضيل ومزق ثيابه على نفسه وقال: بلى والله قد آن: فكان هذا مبتدأ توبته.
قال الفضيل: إذا أحب الله عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض عبداً وسع عليه دنياه.
وقال الفضيل: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي لا أحاسب بها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه.
وقال الفضيل: لو حلفت أني مراءٍ أحب إلي من أن أحلف أني لست بمراء.
وقال: ترك العمل لأجل الناس هو الرياء، والعمل لأجل الناس هو الشرك.
وقال أبو علي الرازي: صحبت الفضيل ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً ولا مبتسماً إلا يوم مات ابنه علي! فقلت له في ذلك، فقال: إن الله أحب أمراً فأحببت ذلك.
وقال ابن مبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن.
وقال الفضيل: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي.
وكان عبد الله بن المبارك يقول: رأيت أعبد الناس، ورأيت أورع الناس، ورأيت أعلم الناس، ورأيت أفقه الناس؛ فأما أعبد الناس فعبد العزيز بن أبي رواد، وأما أورع الناس فالفضيل بن عياض، وأما أعلم الناس فسفيان الثوري، وأما أفقه الناس فأبو حنيفة. ثم قال: ما رأيت في الفقه مثله.
قال ابن المبارك: ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عياض.
قال إبراهيم بن سعيد: قال لي المأمون: يا إبراهيم، قال لي الرشيد: ما رأيت عيناي مثل فضيل بن عياض! قال لي وقد دخلت عليه: يا أمير المؤمنين، فرغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه، فيقطعاك عن معاصي الله ويباعداك من النار.
قال شريك بن عبد الله: لم تزل لكل قومٍ حجة في أهل زمانهم، وإن فضيل بن عياض حجةٌ لأهل زمانه؛ فقام فتى من المجلس، فلما توارى قال الهيثم بن جميل: إن عاش هذا الفتى يكون حجة لأهل زمانه. قيل: من هذا الفتى؟ قيل: أحمد بن حنبل.
قال إبراهيم بن الأشعث: رأيت سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل بن عياض مرتين.
قال عبد الله بن المبارك: إن الفضيل بن عياض صدق الله فأجرى الحكمة على لسانه. فالفضيل ممن نفعه علمه.
وكان الفضيل بن عياض يقول: لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق وطلب الحلال. فقال له علي: يا أبه! إن الحلال عزيز. قال الفضيل: يا بني، وإن قليله عند الله كثير.
قال ابن المبارك:
إذا نظرت إلى فضيل بن عياض جدد لي الحزن ومقت نفسي. ثم بكى.
قال عبد الله بن المبارك لأبي مريم القاضي: ما بقي في الحجاز أحدٌ من الأبدال إلا فضيل بن عياض وعلي ابنه، وعلي يقدم على أبيه في الخوف. وما بقي أحدٌ في بلاد الشام إلا يوسف بن أسباط وأبو معاوية الأسود، وما بقي أحدٌ بخراسان إلا شيخٌ حائك يقال له معدان.
قاليحيى بن أيوب: دخلت مع زافر بن سليمان على الفضيل بن عياض بالكوفة فإذا الفضيل وشيخ معه؛ قال: فدخل زافر وأقعدني على الباب، قال زافر: فجعل الفضيل ينظر إلى ثم قال: يا أبا سليمان هؤلاء أصحاب الدنيا ليس شيء أحب إليهم من قرب الإسناد، ألا أخبرك بإسناد لا يشك فيه: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جبريل عن الله عز وجل " ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكةٌ غلاظٌ شداد " الآية.. فأنا وأنت يا أبا سليمان من الناس. قال: ثم غشي
عليه وعلى الشيخ، وجعل زافر ينظر إليهما، قال: تحرك الفضيل فخرج زافر وخرجت معه والشيخ مغشي عليه.
قال إبراهيم بن الأشعث: ما رأيت أحداً كان الله عز وجل في صدره أعظم من الفضيل بن عياض؛ كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده، أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من بحضرته؛ وكان دائم الحزن شديد الفكرة، ما رأيت رجلاً يريد الله يعلمه وعمله وأخذه وعطائه ومنعه وبذله وبغضه وحبه وخصاله كلها غيره - يعني الفضيل.
قال إبراهيم بن الأشعث: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي لكأنه مودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة، حتى يبلغ المقابر، فيجلس، فلكأنه بين الموتى جلس، من الحزن والبكاء حتى يقوم ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
وكان فضيل يقول: لأن أكون هذا التراب أو هذا الحائط أحب إلي من أن أكون في سلخ أفضل أهل الأرض اليوم؛ وما يسرني أن أعرف الأمر حق معرفته إذاً لطاش عقلي. ولو أن أهل السماء والأرض طلبوا أن يكونوا تراباً فسفعوا كانوا قد أعطوا عظيماً. ولو أن جميع أهل الأرض من جن وإنس، والطير الذي في الهواء، والوحش الذي في البر، والحيتان التي في البحر، علموا الذي يصيرون إليه، ثم حزنوا لذلك وبكوا كان موضع ذلك؛ فأنت تخاف الموت أو تعرف الموت؛ لو أخبرتني أنك تخاف الموت ما قبلت منك، لو خفت الموت ما نفعك طعام ولا شراب ولا شيء من الدنيا.
قال سهل بن راهويه: قلت لسفيان بن عيينة: أما ترى إلى الفضيل بن عياض، ما تكاد تجف له دمعة! قال سفيان: كان يقال: إذا فرح القلب نديت العينان؛ ثم تنفس سفيان نفساً منكراً.
سئل الفضيل بن عياض عن قوله عز وجل " سلامٌ علسكم بما صبرتم "؟ قال: بما احتملتم من المكاره وصبرتم عن اللذات في الدنيا.
قال الفضيل بن عياض: دانقٌ حلالٌ أفضل من عبادة سبعين سنة، وقال: من عرف ما يدخل جوفه كتب عند الله صديقا؛ انظر عند من تفطر با مسكين.
قال بشر بن الحارث: عشرةٌ ممن كانوا يأكلون الحلال لا يدخلون بطونهم إلا حلالاً ولو استفوا التراب والرماد. قلت: من هم يا أبا نصر؟ قال: سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، وسليمان الخواص، وعلي بن فضيل، ويوسف بن أسباط، وأبو معاوية نجيح الخادم. وحذيفة بن قتادة المرعشي، وداود الطائي، ووهيب بن ورد، وفضيل بن عياض.
قال الفضيل بن عياض: مكثت في جامع الكوفة ثلاثة أيام لم أطعم طعاماً ولم أشرب شراباً، فلما كان اليوم الرابع هرني الجوع، فبينا أنا جالس إذ دخل علي في باب المسجد رجلٌ مجنون وبيده حجرٌ كبير، وفي عنقه غل ثقيل، والصبيان من ورائه، فجعل يجول في المسجد حتى إذا حاذاني جعل يتفرس في، فخفت على نفسي منه، فقلت: إلهي وسيدي! أجعتني وسلطت علي من يقتلني! فالتفت إلي وقال: من الطويل
محل بيان الصبر فيك غريزة ... فيا ليت شعري هل لصبرك من أجر
قال فضيل: فزال عني جوعي وطار عني هلعي وقلت: يا سيدي لولا الرجاء لم أصبر، قال: وأين مستقر الرجاء منك؟ قلت: بحيث مستقر همم العارفين، قال: أحسنت يا فضيل، إنها لقلوبٌ الهموم عمرانها، والأحزان أوطانها، عرفته فاستأنست به، وارتحلت
إليه، فعقولهم صحيحة، وقلوبهم ثابتة، وأرواحهم بالملكوت الأعلى معلقة. ثم ولى وأنشأ يقول: من الطويل
فهام ولي الله في القفر سائحاً ... وحطت على سير القدوم رواحله
فعاد لخيرٍ قد جرى في ضميره ... تذوب به أعضاؤه ومفاصله
قال الفضيل: لقد بقيت عشرة أيامٍ لم أطعم طعاماً ولم أشرب شراباً وجداً لكلامه.
قال عبيد الله بن عمر: دخلت أنا ويحيى بن سليم إلى الفضيل نعوده، فقال الفضيل وجعل يضرب بيده على رأسه: يا فضيل، خلقك وأفرغ علسك نعمه ظاهرة وباطنة، وحرسك بعينه، وصرف وجوه الناس إليك وكنت تشتغل عنه! من أنت وما أنت؟ ثم شهق شهقة وسقط، وغطي بثوبه، وجعل ينتفض وهو لا يعقل، وتركناه.
وقال الفضيل بن عياض ليلةٌ: يا رب! أجعتني وأجعت عيالي، وأعريتني وأعريت عيالي، ولي ثلاثة أيامٍ ما أكلت ولا أكل عيالي، ولي ثلاث ليال ما استصبحت، فبما بلغت عندك حتى تفعل بي هذا؟ وإنما تفعل هذا يا رب بأوليائك، أفتراني أنا منهم؟ إلهي! إن فعلت بي مثل هذا يوماً آخر علمت أني منك على بال. فلما كان اليوم الرابع إذا داق يدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال: أنا رسول ابن المبارك، وإذا معه صرة دنانير وكتاب يذكر فيه أنه لم يحج هذه السنة، وقد وجهت بكذا وكذا. قال: فجعل فضيل يبكي ويقول: قد علمت أني أشقى من ذلك أن أكون عند الله بمنزلة أوليائه.
قال الفضيل بن عياض: إن الله يزوي الدنيا عن وليه ويمررها عليه مرة بالعري ومرة بالجوع ومرة بالحاجة، كما تفعل الوالدة الشفيقة بولدها مرة صبراً ومرة حضضاً، وإنما تريد بذلك ما هو خير له.
وفي حديثٍ آخر بمعناه عن بشر بن الحارث: فبأي يدٍ لي عندك حتى فعلت بي هذا؟ ثم بكى حتى رحمته فقلت له: يا أبا علي! ما هذا البكاء؟ فقال لي: يا أبا نصر، بلغني أن الصراط مسيره خمسة عشر ألف عام خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف نزول، وخمسة آلاف مستوى، أدق من الشعر وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوزها إلا كل ضامرٍ مهزولٍ من خشية الله. قال: فبلغني في بعض الروايات أن إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ذكروا أهل الجنة: هل بقي أحد على الصراط بعد خمسة وعشرين ألف عام؟ فقال: بقي رجلٌ يحبو، قبلغ ذلك الحسن البصري فقال: يا ليتني أنا ذلك الرجل. فأنا يا أبا نصر لا أهدأ من البكاء أبداً.
قال بشر بن الحراث: كنت بمكة مع الفضيل بن عياض، فجلس معنا إلى نصف الليل، ثم قام يطوف إلى الصبح فقلت: يا أبا علي! ألا تنام؟ قال: ويحك! وهل أحدٌ سمع بذكر النار تطيب نفسه أن ينام؟! قال إسحاق بن إبراهيم: ما رأيت أحداً كان أخوف على نفسه ولا أرجى للناس من الفضيل! كانت قرائته حزينة شهية بطيئة مترسلة، كأنه يخاطب إنساناً، وكان إذا مر بآيةٍ فيها ذكر الجنة تردد فيها وسأل، وكانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعداً يلقى له حصير في مسجده، فيصلي من أول الليل ساعة، ثم تغلبه عينه فيلقي نفسه على الحصير فينام قليلاً ثم يقوم، فإذا غلبه ألنوم نام، ثم يقوم هكذا حتى يصبح، وكان دأبه إذا نعس أن ينام. ويقال: أشد العبادة ما تكون هكذا. وكان صحيح الحديث، صدوق الللسان، شديد الهيبة للحديث إذا حدث؛ وكان يثقل عليه الحديث جداً، ربما قال لي: لو أنك طلبت مني الدراهم كان أحب إلي من أن تطلب مني الأحاديث. وسمعته يقول: لو طلبت مني الدنانير كان أيسر علي من أن تطلب مني الحديث، فقلت له: لو حدثتني أحاديث فرائد ليست عندي كان أحب إلي من
أن تهب لي عددها دنانير. قال: إنك مفتون، أم والله لو عملت بما سمعت لكان لك في ذلك شغلٌ عما لم تسمع. ثم قال: سمعت سليمان بن مهران يقول: إذا كان بين يديك طعام تأكله فتأخذ اللقمة فترمي بها خلف ظهرك، كلما أخذت اللقمة رميت بها خلف ظهرك متى تشبع؟ كان ابن المبارك يعظم الفضيل وأبا بكر بن عياش، ولو كانا على غير تفضيل أبي بكر وعمر لم يعظمهما.
وقال بشر بن الحارث: قال الفضيل بن عياض: بلغني أن الله قد حجر التوبة عن كل صاحب بدعة، وشر أهل البدع المبغضون لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم التفت إلي فقال: اجعل أوثق عملك عند الله عز وجل حبك أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنك لو قدمت الموقف بمثل تراب الأرض ذنوباً غفرها الله لك، ولو جئت الموقف وفي قلبك مقياس ذرة بغضاً لهم لما نفعك مع ذلك عمل.
قال الفضيل بن عياض: إذا علم الله في رجلٍ أنه مبغضٌ لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له وإن قل عمله.
وقال: إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكون مجلسك، لا يكون مع صاحب بدعة، فإن الله لا ينظر إليه، وعلامة النفاق أن يوقم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة.
وقال الفضيل: ليس لأحد أن يقعد مع من شاء، لأن الله عز وجل يقول: " وإذا رأيت الذين يخوضون في أياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره " " إنكم إذاً مثلهم " وليس له أن ينظر إلى من يشاء، لأن الله عز وجل يقول " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " وليس له أن يقول مالا يعلم أو يستمع إلى ما يشاء أو يهوى ما يشاء لأن الله
تعالى يقول: " ولا تقف نا ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ".
وعن الفضيل قال: لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليه اللعنة.
وقال: علامة البلاء أن يكون خدن الرجل صاحب بدعة.
وقال: طوبى لمن مات على الإسلام والسنة. ثم بكى على ومانٍ يأتي تظهر فيه البدعة، فإذا كان ذلك فلتكثر من قول ما شاء الله.
وقال: من قال ما شاء الله فقد سلم لأمر الله.
وقال: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة.
قال مليح بن وكيع: سمعتهم يقولون: خرجنا من مكة في طلب فضيل بن عياض إلى رأس الجبل فقرأنا القرآن، فإذا هو قد خرج علينا من شعبٍ لم نره، فقال لنا: أخرجتموني من منزلي ومنعتموني الصلاة والطواف، أما إنكم لو أطعتم الله ثم شئتم أن تزول الجبال معكم زالت. ثم دق الجبل بيده فرأينا الجبال أو الجبل قد اهتزت وتحركت.
وقال الفضيل: أصل الإيمان عندنا وفرعه وداخله وخارجه بعد الشهادة بالتوحيد وبعد الشهادة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبلاغ، وبعد أداء الفرائض: صدق الحديث وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، ووفاءٌ بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين. قال معاذ: قلت: يا أبا علي، من الثقة والفضل لم أتكلم به. قال معاذ: وكانت سبعاً فنسيت واحدة.
قال بشر بن الحارث: قال لي الفضيل: يا بشر، الرضا عن الله أكبر من الزهد في الدنيا، قلت: يا أبا علي! كيف ذلك؟ قال: يكون العطاء والمنع في قلبك بمنزلةٍ واحدة.
سأل رجلٌ الفضيل فقال له: يا أبا علي، علمني الرضا. قال له الفضيل: يا بن أخي ارض عن الله، فرضاك عن الله يهب لك الرضا.
توفي للرشيد ابن فكتب إليه الفضيل: أما بعد يا أمير المؤمنين فإن استطعت أن يكون شكرك له حين أخذه منك أفضل من شكرك له حين وهبه لك؛ يا أمير المؤمنين إنه جل ثناؤه لما وهبه لك أخذ هبته، ولو بقي لم تسلم من فتنته، أرأيت جزعك عليه، وتلهفك على فراقه؟ أرضيت الدنيا لنفسك فترضاها لابنك؟ أما هو فقد خلص من الطدر، وبقيت أنت في الخطر.
رأى فضيل بن عياض رجلاً يسأل في الموقف فقال له: أفي هذا الموضع تسأل غيرالله.
قال عبد الصمد بن يزيد: سمعت فضيل بن عياض يقول - وشكى إليه أهل المدينة القحط فقال: مدبراً غيرالله تريدون.
نظر الفضيل بن عياض إلى رجلٍ يشكو إلى رجلٍ حاله فقال: يا هذا! تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك!.
قال الشري: سمعت فضيلاً يقول عن ابنةٍ له توجعت كفها فعادها فقال لها: يا بنية، كيف كفك هذه؟ فقالت له: يا أبه قد بسط لي من ثوابها مالا أؤدي شكره عليه أبداً. فتعجب من حسن يقينها، قال الفضيل: فأنا عندها قاعد إذ أتاني ابن لي له ثلاث سنين، فقبلته وضممته إلى صدري، فقالت لي: يا أبه، سألتك بالله أتحبه؟ فقلت: إي والله يا بنية إني لأحبه، فقالت: يا سوأتاه! لك من الله يا أبه، إني ظننت أنك لا تحب مع الله غير الله، فقلت لها: أي بنية أفلا تحبون الأولاد؟ فقالت: المحبة للخالق والرحمة للأولاد.
فلطم الفضيل في رأسه وقال: يا رب! هذه ابنتي هيمتني في حبها وحب أخيها. وعزتك لا أحببت معك أحداً حتى ألقاك.
سأل رجلٌ فضيل بن عياض: متى يبلغ الرجل غاية حب الله؟ قال: إذا كان عطاؤه إياك ومنعه سواء.
قال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله عنهما.
قال محمد بن أبي تميلة: خيبة لك إن كنت ترى أنك تعرفه وأنت تعمل لغيره.
قال فضيل بن عياض لرجل: لأعلمنك كلمة هي خيرٌ لك من الدنيا وما فيها: والله لئن علم الله منك إخراج الأدميين من قلبك حتى لا يبقى في قلبك مكانٌ لغيره لم تسأله شيئاً إلا أعطاك.
قال الفضيل بن عياض:
ليتني أموت وأنا مخلط، أخاف أن أموت وأنا مراءٍ، يدعى بي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، يا فضيل خذ أجرك ممن عملت له.
كان الفضيل يقول: والله ما أدري ما أنا، كذاب أنا؟ مراء أنا؟ ما أدري ما أنا.
قال الفضيل: ما دخل علي أحدٌ إلا خفت أن أتصنع له أو يتصنع لي.
قال الفضيل: خير العمل أخفاه، أمنعه من الشيطان وأبعده من الرياء.
اجتمع فضيل بن عياض بسفيان الثوري، فتذاكرا، فرق أو بكى سفيان، فقال سفيان لفضيل: يا أبا علي، إني لأرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمةٌ وبركةٌ، فقال له الفضيل: لكني يا أبا عبد الله أخاف أن لا يكون هذا المجلس جلسنا مجلساً قط هو أضر علينا
منه. قال: ولم يا أبا علي؟ قال: ألست تخلصت إلي أحسن حديثك فحدثني به، وتخلصت أنا إلى أحسن حخديثي فحدثتك به، فتزينت لي وتزينت لك؟ فبكى سفيان أشد من البكاء الأول، ثم قال: أحييتني أحياك الله.
كان الفضيل يقول: لأن آكل الدنيا بطبلٍ ومزمار أحب إلي من أن آكلها بدين.
كان الفضيل يقول: إنما يهابك هذا الخلق على قدر هيبتك لله عز وجل. وقال: إنما يطيع الله كل إنسانٍ على قدر منزلته منه.
قال الفيض بن إسحاق: قال الفضيل بن عياض: تزينت لهم بالصوف، فلما ترهم يرفعون بك رأساً تزينت لهم بالقرآن، فلما لم ترهم يرفعون بك رأساً تزينت لهم بشيءٍ بعد شيء. كل ذلك إنما هو لحب الدنيا.
قال: وقال لي الفضيل: لو قيل لك يا مرائي غضبت وشق عليك، وعسى ما قيل حق، تزينت للدنيا وتصنعت لها، وقصرت ثيابك، وحسنت سمتك وكففت أذاك حتى يقولوا: أبو يزيد عابدٌ ما أحسن سمته، وأحسن جواره، وأكف أذاه! فيكرمونك ويفطرونك ويهدون إليك ... مثل الدرهم الستوق لا يعرفه كل أحد، فإذا قشروا قشروا عن نحاس، ويحك! ما تدري في أي الأصناف تدعى غداً أفي المرائين أم في غير ذلك؟ ثم قال: اتق الله لاتكن مرائياً وأنت لا تشعر.
قال الفضيل: إن خفت الله لم يضرك أحد، وإن خفت غير الله لم ينفعك أحد.
سئل الفضيل بن عياض عن شيءٍ فقال: من خاف الله خاف منه كل شيء، ومن خاف غير الله خاف من كل شيء.
قيل للفضيل: يا أبا علي، ما الخلاص مما نحن فيه؟ فقال له: أخبرني من أطاع الله هل تضره معصية أحد؟ قال: لا، قال: فمن عصى الله هل تنفعه طاعة أحد؟ قال: لا، قال: هو الخلاص إن أردت.
قال الفضيل: من أحسن فيما بقي غفر له ما مضى وما بقي، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي. ثم بكى الفضيل فقال: أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يحسن فيما بقي.
قال الفضيل: بلغني أن العلماء فيما مضى كانوا إذا تعلموا علموا، وإذا عملوا شغلوا، وإذا شغلوا فقدوا، وإذا فقدوا طلبوا، وإذا طلبوا هربوا.
قال الفضيل بن عياض: طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله أنسه.
وقال: اطلب العلم لنفسك، وانظر إلى من تسلمه يا مسكين، فإن الله يسألك عنه. وقد قيل لإبراهيم بن أدهم: من أبن أقبلت يا أبا إسحاق؟ قال: من أنس الرحمن، قيل له: فأين تريد؟ قال: إلى أنس الرحمن.
وكان الفضيل يقول: رحم الله عبداً أجمل ذكره وبكى على خطيئته قبل أن يرتهن بعمله.
وقال الفضيل بن عياض: كامل المروءة من بر والديه، وأصلح ماله، وأنفق من ماله، وحسن خلقه، وأكرم إخوانه ولزم بيته.
قال الفضيل: أخلاق الدنيا والآخرة أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك.
وقال فضيل: إذا خالطت فلا تخالط إلا حسن الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى الخير ولا تخالط سيئ الخلق، فإنه لا يدعو إلا إلى الشر.
وقال: إذا رأيت الأسد فلا يهولك، وإذا رأيت ابن آدم فخذ ثوبك ثم فر، ثم فر.
وقال: من خالط الناس لا ينجو من إحدى اثنتين: إما أن يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل، أو يسكت إن رأى منكراً أو يسمع من جليسه شيئاً فيأثم فيه.
قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت الفضيل وهو يقرأ " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " فجعل يردد هذه الآية ويقول: إنك بلوت أخبارنا هتكت أستارنا، إنك بلوت أخبارنا فضحتنا.
وقال الفضيل: ما أجد لذة ولا راحة، ولا قرة إلا حين أخلو في بيتي بربي، فإذا سمعت النداء قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون كراهية أن ألقى الناس فيشغلوني عن ربي تبارك وتعالى.
وقال: كفى بالله محبا، وبالقرآن مؤنساً، وبالموت واعظاً، وكفى بخشية الله علماً، والاغترار بالله جهلاً.
وفي آخر: اتخذ الله صاحباً ودع الناس جانباً.
وقال: تفكروا واعملوا من قبل أن تندموا، ولا تفتروا بالدنيا، فإن صحيحها يسقم وجديدها يبلى، ونعيمها يفنى، وشبابها يهرم؛ ألا إن الناس قد تاهوا بين الدراهم والدنانير، وليس لامرئ خيرٌ مما نوى وقدم.
وقال: إن أردت أن تستريح فلا تبالي من أكل الدنيا.
وقال: رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله، وزهادته في الدنيا على قدر شوقه إلى الجنة.
وقل: جعل الش ركله في البيت. وجعل مفتاحه حب الدنيا؛ وجعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الزهد في الدنيا.
وقال: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي حلالاً لا أحاسب عليها لكنت أقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه.
وقال: من عمل بما علم استغنى عما لا يعلم، ومن عمل بما علم وفقه الله لما لا يعلم.
وقال: من ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته.
قال: وكان يقال: من خا الله كل لسانه.
وقال: أكذب الناس العائد في ذنبه؛ وأجهل الناس المدل بحسناته؛ وأعلم الناس بالله أخوفهم منه.
وقال: لن يكمل عبدٌ حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه.
وقال: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل.
وفي رواية: كثرة النوم، زكثرة الأكل.
وقال: فرحك بالدنيا للدنيا يذهب بحلاوة العبادة، وهمك بالدنيا يذهب بالعبادة كلها.
وقال: حزن الدنيا للدنيا يذهب بهم الآخرة.
وقال: إن من الشقاء طول الأمل، وإن من السعادة قصر الأمل.
وقال: خمس من علامات الشقاء: القسوة في القلب وجمود العين، وقلة الحياء والرغبة في الدنيا، وطول الأمل.
وقال: تكلمت فيما لا يعنيك فشغلك عما يعنيك، ولو شغلك ما يعنيك تركت ما لايعنيك.
وقال: إنما أمس مثل، واليوم عمل، وغداً أمل.
وذكر عند الفضيل مجالسة العلماء فقال إن في مجالسة بعضهم لفتنة، إذا كان العالم مفنوناً بالدنيا راغباً فيها، حريصاً عليها، فإن في مجالسته فتنة تزيد الجاهل جهلاً وتفتن العالم، وتزيد الفاجر فجوراً، وتفسد قلب المؤمن.
وقال الفضيل: من عامل الله بالصدق ورثه الحكمة. وقال: إن الله يحب العالم المتواضع ويبغض العالم الجبار، من تواضع لله ورثه الحكمة.
قال شعيب بن حرب: بينا أنا أطوف إذ لكزني رجلٌ بمرفقه، فالفت فإذا أنا بالفضيل بن عياض فقال: يا أبا صالح، فقلت لبيك يا ابا علي، فقال: إن كنت تظن أنه قد شهد الموسم شر مني ومنك فبئس ما ظننت.
وقال الفصيل لسفيان: إن كنت ترى أن أحداً في هذا المسجد دونك فقد بليت ببلاء.
وقال له: لئن كنت تحب أن يكون الناس مثلك فما أديت النصيحة لربك، كيف وأنت تحب أن يكونوا دونك!؟ وقال الفضيل: من رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب. وسئل الفضيل عن التواضع فقال: تخضع للحق وتنقاد له وتقبله ممن قاله.
قال الفضيل: أوحى الله إلى الجبال أني مكلم على واحدٍ منكم نبياً، فتطاولت الجبال وتواضع طور سيناء، فكلم الله عليه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لتواضعه.
وقال الفضيل: ما يسرني أن أعرف الأمر حق معرفته، إذاً لطاش عقلي.
قال رجلٌ للفضيل: كيف أمسيت يا أبا علي وكيف؛الك؟ فقال: عن أي حالي تسألني، عن حال الدنيا أو عن حال الآخرة؟ فإن كنت تسألني عن حال الدنيا فإنها قد مالت بنا وذهبت كل مذهب، وإن كنت تسألني عن حال الآخرة فكيف ترى حال من كثرت ذنوبه، وضعف عمله وفني عمره، ولم يتزود لمعاده، ولم يتأهب للموت ولم يتيسر له.
قال إسحاق بن إبراهيم الطبري: وقفت مع الفضيل بن عياض بعرفات، فلم أسمع من دعائه شيئاً إلا أنه زضع يده اليمنى على خده واضعاً رأسه يبكي بكاءً خفياً، فلم يزل كذلك حتى أفاض الإمام، فرفع رأسه إلى السماء فقال: واسوءتاه - والله - منك وإن غفرت! ثلاث مرات.
قال الفضيل: والله ما يحل لك أن تؤذي كلباً ولا خنزيراً بغير حق، فكيف تؤذي مسلماً.
قال الفضيل: إذا أراد الله أن يتحف العبد سلط عليه من يظلمه.
وفي رواية: إذا أراد الله أن يحب العبد سلط عليه من يظلمه.
وقال: لا يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوه.
وقال الفضيل: إذا لم يستح القلب من الله عز وجل سقط عن القلب مكارم الأخلاق.
وقال: بلغني أن الله عز وجل يحاسب العبد يوم القيامة بحضرة من يعرفه ليكون أشد لفضيحته.
وقال: من رأى من أخٍ له منكراً فضحك في وجهه فقد خانه.
وقال: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.
وقال: ما حج، ولا رباطٌ، ولا جهادٌ أشد من حبس اللسان، ولو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في عمر شديد. قال: سجن المؤمن، وليس أحدٌ أشد غماً ممن سجن لسانه.
وقال: المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل.
وقال الفضيل: إذا قيل لك: أتخاف الله؟ فاسكت، فإنك إن قلت: لا، جئت بأمرٍ عظيم، وإن قلت: نعم، فالخائف لا يكون على ما أنت عليه.
وقال: المؤمن يحاسب نفسه، ويعلم أن له موقفاً بين يدي الله تعالى، والمنافق يغفل عن نفسه، فرحم الله عبداً نظر لنفسه قبل نزول ملك الموت به.
قال الفضيل: يا مسكين تهلك! إنك مسيء وترى أنك محسن، وأنت جاهل وترى أنك عالم، وأنت بخيل وترى أنك سخي، وأنت أحمق وترى أنك عاقل، وأجلك قصير واملك طويل.
قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت الفضيل يقول: هيه، وتريد أن تسكن الجنة! وتريد أن تجاور الله في داره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين! وتريد أن تقف المواقف مع الأنبياء، مع نوحٍ وإبراهيم ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين يا أحمق! بأي عملٍ، بأي شهوةٍ تركتها لله؟ بأي غيظٍ كظمته لله؟ وبأي رحم قاطعٍ وصلتها؟ وبأي قريبٍ باعدته في الله؟ بأي بعيد قربته في الله؟ بأي حبيبٍ رأيته يعمل بما يكره الله فأبغضته في الله؟ بأي بغيضٍ رأيته يعمل بما يحب الله فأحببته في الله؟ ولكن بعفوه ورحمته نرجوه، بإساءتنا لا تقول أحسنا، ولكن تقول: أسأنا وبئس ما صنعنا.
وقال الفضيل: إذا أحب الله عز وجل عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض الله عبداً أوسع عليه دنياه.
قال رجلٌ للفضيل: أوصني، قال: أعز أمر الله حيث كنت يعزك الله.
وكان يقول: حرها شديد، وقعرها بعيد، وشرابها الصديد وأنكالها الحديد.
وكان يقول: صبر قليل ونعيمٌ طويل، وعجلة قليلة وندامةٌ طويلة.
وقال: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وطلب الدنيا بعمل الآخرة من كثرة الذنوب.
وقال: بقدر ما يصغر الذنب عندك كذلك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك كذلك يصغر عند الله.
وقال الفضيل: دعاك الله إلى دار السلام وقد آثرت في دنياك المقام! وحذرك عدوك الشيكان وأنت تخالفه طول الزمان! وأمرك بخلاف هواك، وأنت معانقة صباحك ومساءك! فهل الحمق إلا ما أنت فيه؟! قال محرز بن عون: أتيت فضيل بن عياض بمكة، فسلمت عليه فقال لي: يا محرز، وأنت أيضاً مع أصحاب الحديث؟ ما فعل القرآن؟ والله لو نزل حرفٌ باليمن لقد كان ينبغي أن نذهب حتى نسمع كلام ربنا. والله لأن تكون راعي الحمر وأنت مقيمٌ على ما يحب الله، خيرٌ لك من أن تطوف بالبيت وأنت مقيمٌ على ما يكره الله.
وقال الفضيل: من أوتي علماً لا يزداد فيه خوفاً وحزناً وبكاءً خليقٌ أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، ثم قرأ: " أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون ".
وقال: لا يزال العالم جاهلاً بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالماً.
وقال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، ولا يقبله إذا كان له خالصاً إلا على السنة.
قيل للفضيل بن عياض: ألا تحدثنا تؤجر؟ قال: على أي شيءٍ أوجر؟ على شيءٍ تتفكهون به في المجالس؟.
وقال: من عرف الله حق المعرفة فهو بعيدٌ من الضلالة، ومن عرف اإخلاص فهو بعيدٌ من الرياء، ومن أنزل الموت حق المنزلة فلا يغفل عن الموت.
وكان يقول: لا إله إلا الله، ما أقرب الأجل وما أبعد الأمل!.
وقال: أفضل الجهاد المواظبة على الصلوات، وأكبر الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة.
قال: وقال بعضهم: أفضل الجهاد مجاهدة النفس، أن تجاهد نفسك عن الحرام. وعما نهى الله عز وجل عنه، وعن هواك.
وقال الفضيل: لو أني أعلم أن أحدهم يطلب هذا العلم لله تعالى لكان الواجب علي أن آتيه في منزله حتى أحدثه.
قال أبو روح حاتم بن يوسف: أتيت الفضيل فقلت: يا أبا علي، معي خمسة أحاديث إن رأيت أن تأذن لي فأقرأ عليك؟ فقرأت، فإذا هو ستة، فقال لي: أف! قم يا بني، تعلم الصدق ثم اكتب الحديث.
وقال الفضيل: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان.
قال فيض بن إسحاق:
كنت عند الفضيل بن عياض فجاء رجلٌ فسأله حاجةٌ، فألح بالسؤال عليه، فقلت:
لا تؤذي الشيخ، فزجرني الفضيل وصاح علي وقال لي: يا فيض، أما علمت أن حوائج الناس إليكم نعم من الله عليكم؟ فاحذروا أن تملوا النعم فتحول نقماً؛ ألا تحمد ربك أن جعلك موضعاً تسأل ولم يجعلك موضعاً تسأل!.
قال أبو نصر بشر بن الحادث: كتب أبو رجاء الذي كان بمكة إلى فضيل يستقرض دراهم، قال أبو نصر: بعث مسكينٌ إلى مسكين. قال: ولم يكن عند فضيل إلا بعير له يعمل عليه، فأمر ابنه أن يبيعه ثم يبعث إلى أبي رجاء بنصف ثمنه ويأتيه بالنصف الآخر.
قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت الفضيل يقول وقد سأله رجلٌ فقال: يا أبا علي، أحب أن تصف لي كيف كان ... في المؤاخاة؟ فقال الفضيل: هيهات! كالمتعجب، دعني. وأين المؤاخاة. ثم قال الفضيل: إن كان الرجل ليحفظ ولد أخيه من بعد موته يتعاهدهم أربعين خمسين سنة عمره كله، يأتي أهله فيقوم على بابه فيقول: هل لكم من حاجة؟ تريدون شيئاً؟ عندكم دقيق؟ عندكم سويق؟ عندكم زيت؟ عندكم حطب؟ عندكم كذا؟ حتى يسألهم عن الكسوة، فيقولون: نعم. فيقول: أروني. فإن كان عندهم وإلا اشترى لهم. وربما اشترى لهم الخادم بخمس مئة درهم فيقول: خذوا هذه تخدمكم. وأحدهم اليوم تطلب إليه الحاجة فما يقضيها، ويغضب حتى كأنه أذنب إليه ذنباً. ويعادي ويقاطع، فإذا هو قضاها أفسدها بمن أو تطاول. وأنت لو طلبت منك عشرة دراهم لشق عليك، نعم والله، ودرهم لو طلب منك لشق عليك.
وقال الفضيل: يزعم الناس أن الورع شديد، وما ورد علي أمران إلا أخذت بأحداهما، فدع ما يريبك إلى مالا يريبك.
قال عبيده بن عبد الرحيم المروزي: كنت عند فضيل بن عياض وعنده عبد الله بن المبارك فقال: إن أهلك وعيالك قد أصبحوا مجهودين محتاجين إلى هذا المال فاتق الله وخذ من هؤلاء القوم - يعني الخلفاء - فزجره عبد الله بن المبارك ثم أنشأ يقول: من مجزوء الرمل
خذ من الجاورس والأ ... رز والخبز الشعير
واجعلن ذاك حلالاً ... تنج من حر السعير
وانأ ما استطعت هداك ال ... له عن دار الأمير
لا تزرها واجتنبها ... إنها شر مزور
توهن الدين وتدني ... ك من الحوب الكبير
ولما تترك من دي ... نك في تلك الأمور
هو أجدى لك من ما ... لٍ وسلكانٍ يسير
منه بالدون فأبصر ... واذكرن يوم المصير
قبل أن تسقط يا مع ... رور في حفرة بير
واطلب الرزق إلى ذي ال ... عرش والرب الغفور
وارض يا ويحك من دن ... ياك بالقوت اليسير
إنها دار بلاءٍ ... وزوالٍ وغرور
كم ترى قد صرعت قب ... لك أصحاب القصور
وذوي الهيبة في المجل ... س والجمع الكثير
أخرجوا كرهاً وما كا ... ن لديهم من نكير
كم ببطن الأرض ثاوٍ ... من شريفٍ ووزير
وصغير الشأن عبدٍ ... خامل الذكر حقير
لو تصفحت وجوه ال ... قوم في يومٍ نضير
لم تميزهم ولم تع ... رف غنياً من فقير
خمدوا فالقوم صرعى ... تحت أطباق الصخور
فاستووا عند مليكٍ ... بمساويهم خبير
فاحذر الصرعة يا وي ... حك من دهرٍ عثور
أين فرعون وهاما ... ن ونمروذ النسور
أو ما تخشاه أن ير ... ميك بالموت المبير
أو ما تحذر من يم ... مٍ عبوسٍ قمطرير
إقمطر الشر فيه ... بالعذاب الزمهرير
قال: فغشي على الفضيل ورده ولم يأخذه.
قال أبو حفص أحمد بن الفضل البخاري:
كنت عند الفضيل بن عياض فجاءه هارون أمير المؤمنين يزوره ومعه أبو قتادة، فقال أبو قتادة: رحمك الله، الخليفة على الباب، فقال فضيل: ليس له أن يزورنا، لنا أن نزوره! ثم قال: إن أمير المؤمنين على الباب، فقال: يا أبا قتادة، ليس له أن يزورنا، لنا أن نزوره، فارجع فلا آذن لكم. قال: فرجع هارون أمير المؤمنين.
قال الرشيد هارون لسفيان: أحب أن أرى الفضيل فقال له: أذهب بك إليه؛ فاستأذن سفيان على فضيل فقال: من هذا؟ فقال: سفيان، فقال: ادخل، قال: ومن معي؟ قال: ومن معك. فلما دخلواعليه قال سفيان له: يا أبا علي، هذا أمير المؤمنين، فقال: وإنك لهو يا جميل الوجه! أنت الذي ليس بين الله وبين خلقه أحد غيرك؟! أنت الذي يسأل يوم القيامة كل إنسانٍ عن نفسه وتسأل أنت عن هذه الأمة؟ فبكى هارون.
وفي حديثٍ بمعناه: فدخل فإذا فضيل مستقبلٌ القبلة بوجهه فقال: يا أبا علي! هذا
هارون أمير المؤمنين قد دخل عليك! فمكث طويلاً لا يلتفت إليه ولا ينظر إليه، ثم رفع فضيل رأسه إلى هارون فقال له: يا حسن الوجه، ما أحسن وجهك! لقد قلدت أمراً عظيماً، حدثني عبيد المكتب، عن مجاهد في قوله: " وتقطعت بهم الأسباب " قال: الوصل التي كانت بينهم في الدنيا، وأومى بيده إليهم. قالوا: فبكى هارون وخرج من عنده وحمل إليه تلك الليلة مئة ألف فأبى أن يقبلها.
قال الفضل بن الربيع: حج أمير المؤمنين هارون، فبينا أنا ليلةٌ نائمٌ بمكة إذ سمعت قرع الباب فقلت: من هذا؟ قال: أجب أمير المؤمنين؛ فخرجت مسرعاً فقلت: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي أتيتك، قال: ويحك إنه قد حك في نفسي شيء، فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً فقال: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي أتيتك، فقال خذ لما جئنا له رحمك الله، فحادثه ساعةٌ ثم قال: أعليك دين؟ قال: نعم فقال: يا عباسي اقض دينه.
ثم انصرفنا فقال: ما أغنى صاحبك شيئاً، فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت: ها هنا عبد الرزاق بن همام، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً فقال: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: خذ لما جئناك رحمك الله، فحادثه ساعةٌ ثم قال: أعليك دين؟ قال: نعم قال: يا عباسي اقض دينه.
ثم انصرفنا فقال: ما أغنى صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً، فقلت: ها هنا الفضيل بن عياض، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه، فإذا هو قائم يصلي، يتلو آية يرددها، فقال لي: اقرع، فقرعت فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين! فقلت: سبحان الله! أو ما عليك طاعة؟ أو ليس قد روي عن
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ليس للمؤمن أن يذل نفسه؟ قال: فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاويةٍ من زوايا الغرفة. قال: فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت يد هارون إليه، فبكى وقال: أوه من كف ما أليهنا إن نجت غداً من عذاب الله! قال: قلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلامٍ تقي من قلبٍ تقي، فقال له: خذ لما جئنا له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد اللهن، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاءً يا أمير المؤمنين وعددتها أنت وأصحابك نعمةً. فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله عز وجل فصم عن الدنيا وليكن إفطارك فيها الموت. وقال له محمد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وصغيرهم عندك ولداً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت؛ ثم إني لأقول لك هذا وإني أخاف عليك أشد الخوف يوم القيامة، يوم تزل الأقدام. فهل معك رحمك الله مثل هؤلاء من يأمرك بمثل هذا؟
قال: فبكى هارون بكاءً شديداً حتى غشي عليه؛ فقلت: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا بن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا! ثم أفاق فقال: رحمك الله زدني. فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكي إليه فكتب إليه عمر: يا أخي، اذكر طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، فإن ذلك يطرد بك إلى الرب نائماً ويقظاناً، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد ومنقطع الرجاء. فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما أقدمك؟ قال خلعت قلبي بكتابك، لا وليت ولاية حتى ألقى الله. فبكى هارون بكاءً
شديداً ثم قال: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أمرني على إمارة، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عباس، يا عم النبي، نفسٌ تنجيها خيرٌ لك من إمارة لا تحصيها، إن الإمارة حسرةٌ وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل. فبكى هارون بكاءً شديداً ثم قال له: زدني رحمك اله. فقال: يا حسن الوجه! أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة؟ فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، إساك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة. فبكى هارون بكاءً شديداً حتى غشي عليه. ثم قال: عليك دين؟ قال: نعم. دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن ساءلني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. فقال: إنما أعني من دين العباد. فقال: إن ربي لم يأمرني بهذا؛ أمرني أن أصدق وعده، وأن أطيع أمره. فقال: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق " فقال له: هذه ألف دينار، خذها فأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادة ربك، فقال: سبحان الله! أنا أدلك على النجاة وتكافئني يمثل هذا! سلمك الله ووفقك. ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال لي هارون: يا عباسي إذا دللتني على رجلٍ فدلني على مثل هذا، هذا أزهد المسلمين اليوم.
زاد في رواية: فدخلت عليه ارمأة من نسائه فقالت: يا هذا! ترى سوء ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال تفرجنا له. فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قومٍ كان لهم بعيرٌ يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه. فلما سمع هارون الكلام قال: أدخل فعسى أن يقبل المال: فدخلنا، فلما علم به الفضيل خرج فجلس على ترابٍ في السطح وجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلم يجبه. فبينما نحن كذلك إذ
خرجت جاريةٌ سوداء فقالت: يا هذا آذيت الشيخ منذ الليلة؛ فانصرف رحمك الله. قال فانصرفنا.
قال: وقال الفضيل: تقرأ في وترك: " نخلع ونترك من يفجرك " ثم تعدو إلى الفاجر فتعامله! قال: وقال الفضيل: لا تنظر إليهم من طريق الغلظة عليهم، ولكن انظر من طريق الرحمة. يعني السلطان.
وقال فضيل: لا تجعل الرجال أوصياءك، كيف تلومهم أن يضيعوا وصيتك؟ وأنت قد ضيعتها في حياتك! وأنت بعدها تصير إلى بيت الدود، وبيت الوحشة، وبيت الظلمة، ويكون زائرك فيه منكر ونكير، فقبرك روضةٌ من رياض الجنة. أو حفرةٌ منحفر النار. ثم بكى وقال: أعاذنا الله وإياكم من النار.
وقال: حسناتك من عدوك أكثر منها من صديقك. قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: لأن صديقك إذا ذكرت بين يديه قال: عافاه الله. وعدوك إذا ذكرت بين يديه يغتابك الليل والنهار، وإنما يدفع المسكين حسناته إليك، فلا ترض حتى إذا ذكر بين يديك تقول اللهم الهلكة، لا بل ادع الله له: اللهم أصلحه، اللهم راجع به، فيكون الله يعطيك أجر ما دعوت له.
قال فضيل: آفة العلم النسيان، وآفة القراء العجب والغيبة، وأشد الناس عذاباً يوم القيامة الساعي والنمام، واحذروا أبواب الملوك فإنها تزيل النعم. وتذهب بالنعم. قلنا: يا أبا علي، هذا الحديث الذي جاء " إن عليها فتناً كمبارك الإبل "؟ قال: لا، ولكنه هو الرجل يكون عليه من الله نعمة، لا يكون به إلى خلقٍ من خلق الله حاجة، فإذا دخل
على هؤلاء ورأى ما قد بسط لهم استصغر ما هو فيه، فمن ثم تذهب النعمة أو تزول النعمة.
وقال فضيل:
ليس الآمر الناهي الذي يدخل عليهم يأمرهم وينهاهم ثم يدعونه بعد إلى طعامهم وشرابهم فيجيبهم، إنما الآمر الناهي الذي اعتزلهم ولم يدخل عليهم، فهو الآمر الناهي.
قال الفضيل: لم يتزين العباد بشيءٍ أفضل من الصدق، والله عز وجل سائلٌ الصادقين عن صدقهم، فكيف بالكذابين المساكين؟! وقال: لم ينبل من نبل بالحج، ولا بالجهاد، ولا بالصوم، ولا بالصلاة، إنما نبل عندنا من كان يعقل أيشٍ يدخل جوفه. يعني الرغيفين من حله.
وقال الفضيل: المؤمن ينظر بنور الله، الناس منه في راحة، وهو بركةٌ على من جلس إليه لا يغتاب أحداً، كريم الخلق، لين الجانب؛ والمنافق عياب خياب، خشن الجانب، خشن الكلام، إن رأى خيراً كتمه، وإن رأى زلةً كشفها، غضب الله عليه، ومأواه جهنم، لأن الله قال: " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ".
وقال: إن الفاحشة تشيع في الذين آمنوا، حتى إذا بلغت الصالحين كانوا لها خزاناً.
وقال: رحم الله عبداً كسب طيباً وأنفق قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وفاقته، رحم الله من ترحم على أصحاب رسول الله، فإنما نحسن هذا كله بحبك أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الفضيل: من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، ألا فأضروا في الدنيا فإنها دار فناء، واعملوا لدار البقاء.
وقال: ليكن شغلك في نفسك ولا يكن شغلك في غيرك، فمن كان شغله في غيره فقد مكر به.
وقال: المؤمن في الدتيا مغموم يتزود ليوم معاده، قليل فرحه. ثم بكى.
وقال: وإياكم والعجب فإنه يمحو العمل؛ ومن رمى محصناً أحبط الله عمله؛ ومن قال في رجلٍ مالا يعلم كتب عند الله كذاباً، ومن كتب عند الله كذاباً فقد هلك.
وقال: من علم الله منه أن يحب أن يصلح بين الناس، أصلح الله الذي بينه وبينه وغفر له ذنبه، وأصلح له أهله وولده؛ ومن أحب أن يفسد بين الناس أفسد الله عليه معيشته.
وكان الفضيل يقول: هل ترك الموت للمؤمن فرحاً؟ وإنما المؤمن يصبح مغموماً ويمسي مغموماً، وإنما دهره الهرب بدينه إلى الله عز وجل.
وكان يقول: خلقٌ كثير من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لا يقبل الله منهم ذلك. وذلك لأنهم يريدون به غير الله، وقد يكون الرجل الواحد يأمر العباد فيقبلون منه، فينجي الله به العباد والبلاد.
وكان يقول: طوبى لمن نظر في مطعمه ومشربه وجعله من حله، وبكى على خطيئته.
وكان يقول: عليكم بالشكر فإنه قل قومٌ كانت عليهم من الله نعمة فزالت عنهم إلا لم تعد إليهم أبداً.
وكان يقول: من ازداد علماً فليزدد شكراً، إن المنافق كلما ازداد علماً ازداد عمى.
وقال: إن لله عباداً لا يرفع لهم إلى الله عمل، وهم أصحاب الرياء الذين يكون حبهم في غير الله، إن أعطوا رضوا، وإن منعوا سخطوا، فمن كان كذلك وريه الله العمى.
وقال الفضيل: اجعلوا دينكم بمنزلة صاحب الجوز، إن أحدكم يشتري الجوز فيحركه، فما كان من
جيد جعله في كمه، وما كان من رديء رده؛ وكذلك الحكمة، من تكلم بحكمة فاقبل منه، ومن تكلم بسوى ذلك فدعه.
وقال الفضيل: لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا في الإمام. قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: متى صيرتها في نفسي لم تجزني، ومتى صيرتها في الإمام، فإصلاح الإمام إصلاح العباد والبلاد، قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟ فسر لنا هذا، قال: أما إصلاح البلاد فإذا أمن الناس ظلم الإمام عمروا الخراب، فتزكو الأرض، وأما العباد فينظر إلى قومٍ من أهل الجهل، يقول: قد شغلهم طلب المعيشة عن طلب ما ينفعهم من تعلم القرآن وغيره، فيجمعهم في دار، خمسين خمسين، أقل أو أكثر، يقول لرجل: لك ما يصلحك وعلم هؤلاء أمر دينهم. وانظر ما أخرج الله من فيهم مما يزكي الأرض فرجه عليهم. فقال: كذا صلاح البلاد والعباد.
قال رباح الكوفي: إن ابن المبارك قبل جبهته في جبهته في عذا الحديث فقال: يا معلم الخير من يحسن هذا غيرك؟ وقال الفضيل: ما لكم وللملوك؟ ما أعظم منتهم عليكم أن قد تركوا لكم طريق الآخرة! فاركبوا طريق الآخرة، ولكن لا ترضون، تعيبونهم بالدنيا ثم تزحمونهم على الدنيا! ما ينبغي لعالم أن يرضى بهذا لنفسه.
وقال الفضيل:
إنما ينبغي للدنيا أن تتلاعب بالجاهل لا بالعالم. وقالوا له: لو كلمت هارون في أمر الرعية فإنه يحبك. قال: لست هناك؛ فكرر القول عليه فقال: لو كنت داخلاً عليه يوماً ما كلمته إلا في علماء السوء، أقول: يا أمير المؤمنين، إنه لا بد للناس من راعٍ. ولا بد للراعي من عالم يشاوره، ولا بد له من قاضٍ ينظر في أحكام المسلمين، وإذا كان لا بد من هذين الرجلين فلا يأتك عالمٌ ولا قاضٍ إلا على حمار بإكافٍ خلفه أغبر، فبالحري أن
يؤدوا إلى الراعي والرعية النصيحة؛ يا أمير المؤمنين، متى يطمع العلماء والقضاة أن يؤدوا إليك النصيحة ومركب أحدهم بكذا وكذا؟ فإذا حملتهم على حمرٍ بأكف، فبالحري أن يؤدوا إليك النصيحة.
وقال الفضيل: لو تعلمون ما أعلم لم يهبكم طعامٌ ولا شراب.
مات ولد بعض العلماء بمكة، فأتاه جماعةٌ من العلماء يعزونه فلم يتعز، فأتاه الفضيل فقال: يا هذا، ما ترى في رجلٍ كان في سجن هو وولده. فأخرج ولده من السجن، فأولى به أن يفرح أو يحزن؟ فقال الرجل: أولى به أن يفرح، قال: فإنك كنت أنت وابنك في سجن وأخرج ابنك من السجن. فقال: تعزيت والله.
قال الفضيل: أتيت في منامي فقيل لي: يا فضيل اذكر الله، فإنه ما من أحد يوم القيامة إلا ود أنه زيد في صحيفته مثقال حبةٍ من خردلٍ من بر، ولو كان داود عليه السلام.
احتبس على الفضيل بن عياض وله فقال: سدي! أطلقه عني. فما بال، فقال في الثانية: وعزتك لو قطعتني إرباً إرباً ما ازددت لك إلا حبا. فما بال، فقال في الثالثة: بحبي لك إلا ما أطلقته عني. فما برحنا حتى بال.
قال فضيل بمكة: لا تؤذوني ما خرجت إليكم حتى ثلاثٍ وستين مرة أو نحواً من ستين مرة. وذلك قبل الظهر.
ومما أنشد فضيل بن عياض: من الرجز
ياأيها الذاهب في غيه ... محصول ما تطلبه القوت
والأمر قدامك مستعظمٌ ... قد جل أمر بدؤه الموت
قال رجلٌ من أهل مكة: كنا جلوساً مع الفضيل فقلنا: يا أبا علي كم سنك؟ فقال: من المتقارب
بلغت الثمانين أو جزتها ... فماذا أؤمل أو أنتظر
أتت لي ثمانون من مولدي ... ودون الثمانين ما يعتبر
علتني السنون فأبلينني.........................
ثم نهض، فلما ولى التفت وقال:
........................ فدق العظام وكل البصر
قال القاضي: ولدت سنة ستين ومئة. وأنشدنا: من البسيط
عقد الثمانين عقد ليس يبلغه ... إلا المؤخر للأخبار والعبر
ومن شعر الفضيل بن عياض: من البسيط
إنا لنفرح بالأيام ندفعها ... وكل يومٍ مضى نقصٌ من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً ... فإنما الربح والخسران في العمل
توفي الفضيل بن عياض سنة ست وثمانين ومئة. وقيل سبع وثمانين بمكة.
قال بعض المكيين: رأيت سعيد بن سالم القداح في النوم فقلت: من أفضل من في هذه المقبرة؟ فقال: صاحب هذا القبر، قلت: بم فضلكم؟ قال: إنه ابتلى فصبر، قلت: ما فعل فضيل بن عياض؟ قال: هيهات! كسي حلة لا تقوم لها الدنيا بحواشيها.