عبد الرحمن بن أحمد بن عطية
ويقال: عبد الرحمن بن عطية - ويقال: عبد الرحمن بن عسكر أبو سليمان العنسي الداراني الزاهد من صليبة العرب. وقيل: إن أصله من واسط.
قال أبو سليمان الداراني: سمعت علي بن الحسن بن أبي الربيع الزاهد يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: سمعت ابن عجلان يذكر عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلى قبل الظهر أربعاً غفر له ذنوبه يومه ذلك قال أبو سليمان الداراني: اقام داود الطائي أربعاً وستين عزباً، فقيل له: كيف صبرت عن النساء؟! قال: قاسيت شهوتهن عند إدراكي سنة، ثم ذهبت شهوتهن من قلبي.
كان أبو سليمان أستاذ أحمد بن أبي الحواري، له الكلام المتين، والأحوال السنيات، والرياضات والسياحات، شهرته تغني عن الإكثار فيه.
وكان من أهل داريا، وهي ضيعة إلى جنب دمشق. كان أحد عباد الله الصالحين، ومن الزهاد المتعبدين. قدم إلى بغداد وأقام بها مدة، وعاد إلى الشام، فأقام بداريا حتى توفي. وهو العنسي بالنون.
حكي عن أبي سليمان قال: اختلفت إلى مجلس قاص، فاثر كلامه في قلبي. فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت ثانياً فسمعت كلامه فبقي في قلبي كلامه في الطريق، ثم زال، ثم عدت ثالثاً فبقي أثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، وكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق فحكى هذه الحكاية ليحيى بن معاذ فقال: عصفور اصطاد كركياً: أراد بالعصفور القاص وبالكركي أبا سليمان الداراني.
قال أبو جعفر محمد بن أحمد بن أبي المثنى الموصلي: رأيت أبا سليمان الداراني ببغداد سنة ثنتين ومئتين مخضوب اللحية، له شعيرة، في مسجد عبد الوهاب الخفاف، فقيل له: إن عبد الوهاب الخفاف يقول بشيء من القدر، فترك الصلاة في مسجده، وذهب إلى مسجد آخر. قال أبو جعفر: وإني لأرجو برؤيته خيراً.
وقال أبو سليمان: صل خلف كل صاحب بدعة إلا القدري، لا تصل خلفه وإن كان سلطاناً. قال أحمد: وبه نأخذ.
قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: صليت وخلفي قدري. قال: فلما سلمت إذا هو خلفي رافع يديه يدعو. قال: فضربت بيدي إلى يديه أمسكتهما، فقلت له: إيش تسأل أنت؟ دعني أنا أسأل الذي أزعم أني لا أقدر على شيء، واذهب أنت اعمل الذي تزعم أنك تعمل ما تريد.
قال
أبو محمد عباس العكي في قول الله عز وجل " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله إلى ما لا يعلمون، فحدثت به أبا سليمان، فأعجبه وقال: ليس ينبغي لمن ألهم شيئاً من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الآثر، فإذا سمع به في للآثر عمل به، وحمد الله حين وافق ما في قلبه.
قال أبو سليمان: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.
وقال أبو سليمان: أفضل الأعمال خلاف هوى النفس.
وقال: لكل شيء علم، وعلم الخذلان ترك البكاء.
وقال: لكل شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبع البطن.
وقال: كل ما شغلك عن الله من أهل، أو مال، أو ولد فهو عليك مشؤوم.
وقال أبو سليمان: كنت ليلة باردة في المحراب، فأقلقني البرد، فخبأت إحدى يدي من البرد، وبقيت الأخرى ممدودة، فغلبتني عيني، فهتف بي هاتف: يا أبا سليمان، قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها، فآليت على نفسي أن لا أدعو إلا ويداي خارجتان حراً كان حراً أو برداً.
وقال: نمت ليلة عن وردي، فإذا أنا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربى لك في الخدور منذ خمس مئة عام؟.
قال: ربما أقمت في الآية الواحدة خمس ليال، ولولا أني بعد أدع الفكر فيها ما جزتها أبداً. ولربما جاءت الآية من القرآن تطير العقل فسبحان الذي رده إليهم بعد.
وقال: خير ما أكون أبداً إذا لزق بطني بظهري، فلربما شبعت شبعة فأخرج. فإنما عيناي تطمحان، وربما جعت الجوعة فترحمني المرأة فما ألتفت إليها.
قال أبو سليمان: لأن أترك من عشائي لقمة أحب إلي من أن أقوم الليل إلى آخره.
قال أبو سليمان: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع. وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، وإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، وإن الجوع عنده في خزائن مدخرة، فلا يعطي إلا لمن أحب خاصة.
وقال أبو سليمان في قول الله عز وجل " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " قال: أزال عنهم الشهوات.
قال أبو سليمان: إذا جاع القلب وعطش صفا ورق، وإذا شبع وروي عمي.
حدث أحمد بن أبي الحواري قال: قال أبو سليمان: يا أحمد، جوع قليل، وذل قليل، وعري قليل، وفقر قليل، وضر قليل، وقد انقضت عنك أيام الدنيا.
قال: وقال: يا أحمد، ما أنجب من أنجب إلا بالقبول من مشايخهم، كم أقول لك: لا تفتح أصابعك في القصعة، فأنت لا تقبل مني، يا أحمد عهدت قوماً من القراء، وشهدت طوائف من الصوفية يعدون الجوع فيهم غنيمة كما تعد أنت وأصحابك الشبع غنيمة.
قال: وقال: أي شيء يزيد الفاسقون عليكم؟ إذا كان كلما اشتهيتم شيئاً أكلتموه وأولئك كلما أرادوا شيئاً فعلوه؟.
قال أحمد:
اشتهى أبو سليمان رغيفاً حاراً بملح، فجئت به إليه، فعض منه عضة، ثم طرحه، وأقبل يبكي ويقول: يا رب، عجلت لي شهوتي، لقد أطلت جهدي وشقوتي، وأنا تائب، فاقبل توبتي. قال أحمد: ولم يذق أبو سليمان الملح حتى لحق بالله عز وجل.
قال أحمد: سمعت أبا سليمان يقول: قدم أهلي إلي مرة خبزاً وملحاً، فكان في الملح سمسمة، فأكلتها، فوجدت رانها على قلبي بعد سنة.
قال أبو سليمان: ما رضيت عن نفسي طرفة عين، ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يضعوني كاتضاعي عن نفسي ما أحسنوا.
وقال: من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.
وقال: إذا تكلف المتعبدون أن لا يتكلموا إلا بالإعراب ذهب الخشوع من قلوبهم.
وقال أبو سليمان: ليس شيء أحب إلي من أن أكفى المؤونة يتحدث رجل، وأسمع أنا، ولربما حدثني الرجل بالحديث أنا أعلم به منه فأنصت إليه كأني ما سمعته قط، ولربما مشيت إلى الرجل هو أولى بالمشي إلي مني إليه.
وقال: من حسن ظنه بالله ثم لا يخاف فهو مخدوع.
قال أحمد بن أبي الحواري: قال لي أبو سليمان: يا أحمد، أيكون شيء أعظم ثواباً من الصبر؟ قال: قلت: نعم، الرضى عن الله عز وجل. قال: ويحك إذا كان الله تعالى يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب، فانظر إلى ما يفعل بالراضي عنه.
وقال أبو سليمان: أرجو أن أكون عرفت طرفاً من الرضى لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضياً.
قال أبو سليمان: ربما مثل لي أني على قنطرة من قناطير جهنم بين حجرين، فكيف يكون عيش من هو هكذا؟.
قال أبو سليمان: لولا الذنوب لسألناه أن يقيم القيامة، ولكن إذا ذكرت الخطيئة قلت: أبقى لعلي أتوب.
قال أبو سليمان: ما يسرني أن لي من أول الدنيا إلى آخرها أنفقه في وجوه البر وأني أغفل عن الله طرفة عين.
قال رجل لأبي سليمان: أوصني، فقال أبو سليمان: قال زاهد لزاهد: أوصني، قال: لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، قال: زدني، قال: ما عندي زيادة.
قال أبو سليمان: وقعت أمي من فوق وتكسرت، فأهمني أمرها، فقلت: يا رب، من يخدمها؟ فجعلت أبكي في سجودي، فإذا بهاتف يهتف: يا أبا سليمان، قم إلى الحائط فخذ ما فيه وادع به، فقمت، فإذا بقرطاس ما رأيت على نقائه وبياضه، بخط ما رأيت مثله حسناً، تفوح منه رائحة المسك، وإذا فيه مكتوب: يا مدرك الفوت بعد الفوت، ويا من يسمع في ظلم
الليل الصوت، ويا من يحيى العظام وهي رميم بعد الموت، فدعوت بها وأنا ساجد، فإذا أمي تقول: يا أبا سليمان، ما فعلت الغلة؟ قال: قلت لها: قد قمت؟ قالت: نعم.
قال أحمد بن أبي الحواري: بات أبو سليمان ذات ليلة. فلما انتصف الليل قام ليتهيأ. فلما أدخل يده في الإناء بقي على حالته حتى انفجر الصبح وحان وقت الإقامة، فخشيت أن تفوت صلاته فقلت: الصلاة يرحمك الله، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: يا أحمد، أدخلت يدي في الإناء فعارضني عارض من سري: هب أنك غسلت بالماء ما ظهر منك، فبماذا تغسل قلبك؟ فبقيت متفكراً، فألهمت حتى قلت: بالغموم والأحزان فيما يفوتني من الأنس بالله.
قال ابن أبي الحواري: كنت مع أبي سليمان حين أراد الإحرام، فلم يلب حتى سرنا ميلاً، وأخذه كالغشية في المحمل ثم افاق فقال: يا أحمد، إن الله تبارك وتعالى أوصى إلى موسى: مر ظلمة بني إسرائيل أن يقلوا من ذكري، فإني أذكر من ذكرني منهم باللعنة حتى يسكت، ويحك يا أحمد! بلغني أنه من حج من غير حله، ثم لبى قال الله له: لا لبيك ولا سعد يك حتى ترد ما في يديك، فما يؤمننا أن يقال لنا ذلك؟.
قال أبو سليمان: ينبغي للخوف أن يكون أغلب على الرجاء، فإذا غلب الرجاء على الخوف فسد القلب.
قال أبو سليمان: من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن صدق في ترك شهوة ذهب الله بها من قلبه، والله تعالى أكرم من أن يعذي قلباً لشهوة تركت له.
قال أبو سليمان: إذا سكنت الدنيا القلب ترحلت منه الآخرة.
قال: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزحمها الاخرة. إن الآخرة كريمة، والدنيا لئيمة.
قال أبو سليمان:
إن في الجنة أنهاراً، وعلى شاطئها خيام، فيهن الحور ينشئ الله خلق إحداهن إنشاء، فإذا تكامل خلقها ضربت الملائكة عليهن الخيام، جالسة على كرسي، ميل في ميل، قد خرجت عجيزتها من جوانب الكرسي. قال: فيجيء أهل الجنة من قصورهم يتنزهون ما شاؤوا، يخلو كل رجل منهم بواحدة منهن. قال أبو سليمان: كيف يكون في الدنيا حال من يريد يفتض الأبكار على شاطئ الأنهار في الجنة؟.
قال أحمد بن أبي الحواري: دخلت على ابي سليمان يوماً وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟! فقال: يا أحمد ولم لا أبكي؟ إذا جن الليل، ونامت العيون، وخلا كل حبيب بحبيبه افترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم، وتقطرت في محاريبهم أشرف الجليل سبحانه فنادى: يا جبريل بعيني من تلذذ بكلامي، واستراح إلى ذكري، وإني لمطلع عليهم في خلواتهم أسمع أنينهم، وأرى بكاءهم، فلم لا تنادي فيهم يا جبريل: ما هذا البكاء؟ هل رايتم حبيباً يعذب أحباءه؟! أم كيف يجمل بي أن آخذ قوماً إذا جنهم الليل تملقوا في، حلفت إذا وردوا علي القيامة لأكشفن لهم عن وجهي الكريم حتى ينظروا إلي، وأنظر إليهم.
قال أحمد بن أبي الحواري: بت عند أبي سليمان الداراني، فسمعته يقول: وعزتك وجلالتك لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن أمرت بي إلى النار لأخبرنهم أني كنت أحبك.
قال أبو سليمان: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي. قال أحمد بن أبي الحواري: كان قلبه في هذا مثل قلب أبي بكر الصديق يوم الردة.
قال أبو سليمان: كنت نائماً في بيت فوقه علية فجاءني حين رقدت فحركني، فقال: يا عبد الرحمن، قم، وتوضأ، وصل، قلت: بكلامك يا لعين أصلي أنا؟ فرقدت وتركته، قال: فجاءني بعد فحركني، فقال: يا عبد الرحمن، افتح عينيك، قال: ففتحتهما، فإذا بحيطان البيت والجدر والسقف وشي محبرة قال: فرقدت، وتركته. قال: ثم جاءني بعد فحركني، فقال: يا عبد الرحمن، افتح عينيك، فإذا سقف البيت وسقف العلية قد انفرج. قال: فجعلت أنظر إلى النجوم، وأنا في الفراش.
قال: وقال أبو سليمان: رأيت لصاً قط يجيء إلى خربة، ينقبها، وهو يدخل من أي أبوابها شاء؟ إنما يجيء إلى بيت، قد جعل فيه رزم بر، وأقفل، فينقب حائطاً يستخرج رزمة، كذلك إبليس ليس يجيء إلا إلى كل قلب عامرٍ ليستنزله عن شيء.
قال أبو سليمان: ما خلق الله خلقاً أهون علي من إبليس، ولولا أني أمرت أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبداً، ولو بدا لي ما لطمت إلا صفحة وجهه.
قال أبو سليمان: إذا أخلص العبد انقطع عنه الوسواس والرؤيا. قال: وربما أقمت سنين فما ارى في النوم شيئاً.
قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: أقمت عشرين سنة لم أحتلم، فدخلت مكة، فأحدثت فيها حدثاً، فما أصبحت حتى احتلمت، فقلت له: وأي شيء كان الحدث؟ قال: فاتتني صلاة العشاء في جماعة.
قال أبو سليمان: الزاهد حقاً لا يذم الدنيا ولا يمدحها، ولا ينظر إليها، ولا يفرح بها إذا أقبلت، ولا يخزن عليها إذا ولت.
قال الجنيد: شيء يروى عن أبي سليمان الداراني أنا أستحسنه كثيراً: قوله: من اشتغل بنفسه شغل عن الناس، ومن اشتغل بربه شغل عن نفسه وعن الناس.
قال أبو سليمان الداراني: إذا أحب العبد الدنيا فآثرها يقول الله عز وجل: لأنسينه معرفتي حتى يلقاني وهو لا يعرفني.
قال أبو سليمان: خير السخاء ما وافق الحاجة.
قال أبو سليمان: إن في خلق الله خلقاً، ما تشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه، فكيف يشتغلون بالدينا؟ قال أبو سليمان: الدنيا عند الله أقل من جناح بعوضة، فما قيمة جناح بعوضة حتى يزهد فيها؟ وإنما الزهد في الجنة والحور العين، وكل نعيم خلقه الله ويخلقه، حتى لا يرى الله في قلبك غير الله.
قال أبو سليمان: من طلب الدنيا حلالاً واستعفافاً عن المسألة واستغناء عن الناس لقي الله يوم يلقاه ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً مرائياً لقي الله وهو عليه غضبان.
قال أبو سليمان: ليس الزاهد من ألقى غم الدنيا واستراح منها إنما تلك راحة، وإنما الزاهد من ألقى غمها، وتعب فيها لآخرته. قال أبو سعيد: يقول: كما يزهد فيها يزهد في الراحة، فإن الراحة في الدنيا من الدينا ومن نعيمها.
قال أبو سليمان:
إن قوماً طلبوا الغنى فحسبوا أنه في جمع المال ألا وإنما الغنى في القناعة، وطلبوا الراحة في الكثرة، وإنما الراحة في القلة، وطلبوا الكرامة من الخلق ألا وهي في التقوى، وطلبوا النعمة في اللباس الرقيق اللين، وفي طعام طيب، والنعمة في الإسلام والستر والعافية.
قال أبو سليمان: في قول الله عز وجل " وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً " قال: عن الشهوات.
قال أبو سليمان: نظروا إلى آخر غاية فجعلوها أول غاية: لباس الصوف. ينبغي إذا لم يبق في القلب شهوة من الدنيا تدرع العباء، لأنها علم الزهد، أما يستحي أحدكم أن يلبس عباء بثلاثة دراهم وفي قلبه شهوة بخمسة؟! قال أبو سليمان: لأهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولربما رأيت القلب يضحك ضحكاً.
زاد في حديث آخر: ولولا الليل ما أحببت البقاء.
قال أبو سليمان: إنما الأخ الذي يعظك برؤيته قبل أن يعظك بكلامه، لقد كنت أنظر إلى الأخ من إخواني بالعراق فأعمل على رؤيته شهراً.
قال أبو سليمان: لا يكون العبد تائباً حتى يندم بالقلب، ويستغفر باللسان، ويرد المظالم فيما بينه وبين الناس، ويجتهد في العبادة.
قال أحمد بن أبي الحواري: ذكرات أبا سليمان الصبر، فقال: والله، ما نصبر على ما نحب فكيف نصبر على ما نكره؟ قال أحمد بن أبي الحواري: تنهدت يوماً عند أبي سليمان الداراني فقال لي: إنك عنها مسؤول يوم القيامة، فإن كان على ذنب سلف فطوباك، وإن كان على الدنيا فويل لك.
قال أبو سليمان: إنما رجع القوم من الطريق قبل الوصول، ولو وصلوا إلى الله ما رجعوا.
قال ابن المبارك: لا تقل: ما أجرأ فلاناً على الله! فإن الله تعالى أكرم من أن يجترأ عليه، ولكن قل: ما أعز فلاناً بالله قال أبو سليمان: صدق ابن المبارك، هو أكرم من أن يجترأ عليه، ولكنهم هانوا عليه فتركهم ومعاصيهم، ولو كرموا عليه لمنعهم منها.
قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان: أريد أن أدع السوق وأتعبد، فقال: الزم السوق وتعبد. قال: قلت: فليس في السوق ما يكفيني، قال: فتحتاج إلى درهم؟ قلت: نعم، قال: فتكسب في السوق دانقاً؟ قلت: نعم. قال: فتحتال خمسة دوانيق خير من أن تحتال الدرهم كما هو.
قال: وقلت لأبي سليمان: تخالف العلماء؟ فغضب، وقال: رأيت عالماً قط بعينك؟ رأيت عالماً يأتي أبواب السلطان فيأخذ دراهمهم؟ قال أبو سليمان: إذا دخلت الدنيا من باب البيت خرجت الآخرة من الكوة.
قال أبو سليمان: من صارع الدنيا صارعته.
قال احمد بن أبي الحواري: حججت أنا وأبو سليمان، فبينا نحن نسير إذ سقطت السطحية مني، فقلت لأبي سليمان: فقدت السطحية وبقينا بلا ماء، وكان برد شديد، فقال أبو سليمان: يا راد الضالة، ويا هادي من الضلالة، اردد علينا الضالة، فإذا واحد ينادي: من ذهبت له سطحية؟ قال: فقلت: أنا، فأخذتها. فبينا نسير وقد تدرعنا بالفراء لشدة البرد، فإذا نحن بإنسان عليه طمران، وهو يترشح عرقاً، فقال أبو سليمان: تعال ندفع إليك شيئاً مما علينا من الثياب، فقال: يا أبا سليمان، أتشير إلى الزهد وتجد البرد؟ أنا أسيح في هذه البرية منذ ثلاثين سنة، ما انتفضت، ولا ارتعدت، يلبسني في البرد فيحاً من محبته، ويلبسني في الصيف مذاق برد محبته، ومر.
قال ابن أبي الحواري: قلت لأبي صفوان: ما رأيت مثل أبي عبد الله النباجي، فقال لي: ما رأيت أنت أحداً قط مثل أبي سليمان، ولكن أخبرك بقصتك حين فضلت أبا عبد الله: إن أبا سليمان زرع في قلبك حبيبة أصابها عطش، فسقاها النباجي فأنبتت، فالأصل بركة أبي سليمان.
مات أبو سليمان سنة أربع ومئتين. وقيل: سنة خمس ومئتين. وقيل: سنة خمس عشرة ومئتين. وقيل: سنة خمس وثلاثين ومئتين.
قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لمروان حين مات أبو سليمان: لقد أصيب به أهل دمشق، قال: أهل دمشق؟! لقد أصيب به أهل الإسلام.
قال أحمد بن أبي الحواري: تمنيت أن أرى أبا سليمان الداراني في المنام، فرأيته بعد سنة، فقلت له: يا معلم، ما فعل الله بك؟ قال: يا أحمد، دخلت من باب الصغير فرايت وسق شيح، فأخذت منه عوداً، فلا أدري تخللت به ام رميت به؟ فأنا في حسابه من سنة إلى هذه الغاية.
ويقال: عبد الرحمن بن عطية - ويقال: عبد الرحمن بن عسكر أبو سليمان العنسي الداراني الزاهد من صليبة العرب. وقيل: إن أصله من واسط.
قال أبو سليمان الداراني: سمعت علي بن الحسن بن أبي الربيع الزاهد يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: سمعت ابن عجلان يذكر عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلى قبل الظهر أربعاً غفر له ذنوبه يومه ذلك قال أبو سليمان الداراني: اقام داود الطائي أربعاً وستين عزباً، فقيل له: كيف صبرت عن النساء؟! قال: قاسيت شهوتهن عند إدراكي سنة، ثم ذهبت شهوتهن من قلبي.
كان أبو سليمان أستاذ أحمد بن أبي الحواري، له الكلام المتين، والأحوال السنيات، والرياضات والسياحات، شهرته تغني عن الإكثار فيه.
وكان من أهل داريا، وهي ضيعة إلى جنب دمشق. كان أحد عباد الله الصالحين، ومن الزهاد المتعبدين. قدم إلى بغداد وأقام بها مدة، وعاد إلى الشام، فأقام بداريا حتى توفي. وهو العنسي بالنون.
حكي عن أبي سليمان قال: اختلفت إلى مجلس قاص، فاثر كلامه في قلبي. فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت ثانياً فسمعت كلامه فبقي في قلبي كلامه في الطريق، ثم زال، ثم عدت ثالثاً فبقي أثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، وكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق فحكى هذه الحكاية ليحيى بن معاذ فقال: عصفور اصطاد كركياً: أراد بالعصفور القاص وبالكركي أبا سليمان الداراني.
قال أبو جعفر محمد بن أحمد بن أبي المثنى الموصلي: رأيت أبا سليمان الداراني ببغداد سنة ثنتين ومئتين مخضوب اللحية، له شعيرة، في مسجد عبد الوهاب الخفاف، فقيل له: إن عبد الوهاب الخفاف يقول بشيء من القدر، فترك الصلاة في مسجده، وذهب إلى مسجد آخر. قال أبو جعفر: وإني لأرجو برؤيته خيراً.
وقال أبو سليمان: صل خلف كل صاحب بدعة إلا القدري، لا تصل خلفه وإن كان سلطاناً. قال أحمد: وبه نأخذ.
قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: صليت وخلفي قدري. قال: فلما سلمت إذا هو خلفي رافع يديه يدعو. قال: فضربت بيدي إلى يديه أمسكتهما، فقلت له: إيش تسأل أنت؟ دعني أنا أسأل الذي أزعم أني لا أقدر على شيء، واذهب أنت اعمل الذي تزعم أنك تعمل ما تريد.
قال
أبو محمد عباس العكي في قول الله عز وجل " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله إلى ما لا يعلمون، فحدثت به أبا سليمان، فأعجبه وقال: ليس ينبغي لمن ألهم شيئاً من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الآثر، فإذا سمع به في للآثر عمل به، وحمد الله حين وافق ما في قلبه.
قال أبو سليمان: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.
وقال أبو سليمان: أفضل الأعمال خلاف هوى النفس.
وقال: لكل شيء علم، وعلم الخذلان ترك البكاء.
وقال: لكل شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبع البطن.
وقال: كل ما شغلك عن الله من أهل، أو مال، أو ولد فهو عليك مشؤوم.
وقال أبو سليمان: كنت ليلة باردة في المحراب، فأقلقني البرد، فخبأت إحدى يدي من البرد، وبقيت الأخرى ممدودة، فغلبتني عيني، فهتف بي هاتف: يا أبا سليمان، قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها، فآليت على نفسي أن لا أدعو إلا ويداي خارجتان حراً كان حراً أو برداً.
وقال: نمت ليلة عن وردي، فإذا أنا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربى لك في الخدور منذ خمس مئة عام؟.
قال: ربما أقمت في الآية الواحدة خمس ليال، ولولا أني بعد أدع الفكر فيها ما جزتها أبداً. ولربما جاءت الآية من القرآن تطير العقل فسبحان الذي رده إليهم بعد.
وقال: خير ما أكون أبداً إذا لزق بطني بظهري، فلربما شبعت شبعة فأخرج. فإنما عيناي تطمحان، وربما جعت الجوعة فترحمني المرأة فما ألتفت إليها.
قال أبو سليمان: لأن أترك من عشائي لقمة أحب إلي من أن أقوم الليل إلى آخره.
قال أبو سليمان: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع. وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، وإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، وإن الجوع عنده في خزائن مدخرة، فلا يعطي إلا لمن أحب خاصة.
وقال أبو سليمان في قول الله عز وجل " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " قال: أزال عنهم الشهوات.
قال أبو سليمان: إذا جاع القلب وعطش صفا ورق، وإذا شبع وروي عمي.
حدث أحمد بن أبي الحواري قال: قال أبو سليمان: يا أحمد، جوع قليل، وذل قليل، وعري قليل، وفقر قليل، وضر قليل، وقد انقضت عنك أيام الدنيا.
قال: وقال: يا أحمد، ما أنجب من أنجب إلا بالقبول من مشايخهم، كم أقول لك: لا تفتح أصابعك في القصعة، فأنت لا تقبل مني، يا أحمد عهدت قوماً من القراء، وشهدت طوائف من الصوفية يعدون الجوع فيهم غنيمة كما تعد أنت وأصحابك الشبع غنيمة.
قال: وقال: أي شيء يزيد الفاسقون عليكم؟ إذا كان كلما اشتهيتم شيئاً أكلتموه وأولئك كلما أرادوا شيئاً فعلوه؟.
قال أحمد:
اشتهى أبو سليمان رغيفاً حاراً بملح، فجئت به إليه، فعض منه عضة، ثم طرحه، وأقبل يبكي ويقول: يا رب، عجلت لي شهوتي، لقد أطلت جهدي وشقوتي، وأنا تائب، فاقبل توبتي. قال أحمد: ولم يذق أبو سليمان الملح حتى لحق بالله عز وجل.
قال أحمد: سمعت أبا سليمان يقول: قدم أهلي إلي مرة خبزاً وملحاً، فكان في الملح سمسمة، فأكلتها، فوجدت رانها على قلبي بعد سنة.
قال أبو سليمان: ما رضيت عن نفسي طرفة عين، ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يضعوني كاتضاعي عن نفسي ما أحسنوا.
وقال: من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.
وقال: إذا تكلف المتعبدون أن لا يتكلموا إلا بالإعراب ذهب الخشوع من قلوبهم.
وقال أبو سليمان: ليس شيء أحب إلي من أن أكفى المؤونة يتحدث رجل، وأسمع أنا، ولربما حدثني الرجل بالحديث أنا أعلم به منه فأنصت إليه كأني ما سمعته قط، ولربما مشيت إلى الرجل هو أولى بالمشي إلي مني إليه.
وقال: من حسن ظنه بالله ثم لا يخاف فهو مخدوع.
قال أحمد بن أبي الحواري: قال لي أبو سليمان: يا أحمد، أيكون شيء أعظم ثواباً من الصبر؟ قال: قلت: نعم، الرضى عن الله عز وجل. قال: ويحك إذا كان الله تعالى يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب، فانظر إلى ما يفعل بالراضي عنه.
وقال أبو سليمان: أرجو أن أكون عرفت طرفاً من الرضى لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضياً.
قال أبو سليمان: ربما مثل لي أني على قنطرة من قناطير جهنم بين حجرين، فكيف يكون عيش من هو هكذا؟.
قال أبو سليمان: لولا الذنوب لسألناه أن يقيم القيامة، ولكن إذا ذكرت الخطيئة قلت: أبقى لعلي أتوب.
قال أبو سليمان: ما يسرني أن لي من أول الدنيا إلى آخرها أنفقه في وجوه البر وأني أغفل عن الله طرفة عين.
قال رجل لأبي سليمان: أوصني، فقال أبو سليمان: قال زاهد لزاهد: أوصني، قال: لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، قال: زدني، قال: ما عندي زيادة.
قال أبو سليمان: وقعت أمي من فوق وتكسرت، فأهمني أمرها، فقلت: يا رب، من يخدمها؟ فجعلت أبكي في سجودي، فإذا بهاتف يهتف: يا أبا سليمان، قم إلى الحائط فخذ ما فيه وادع به، فقمت، فإذا بقرطاس ما رأيت على نقائه وبياضه، بخط ما رأيت مثله حسناً، تفوح منه رائحة المسك، وإذا فيه مكتوب: يا مدرك الفوت بعد الفوت، ويا من يسمع في ظلم
الليل الصوت، ويا من يحيى العظام وهي رميم بعد الموت، فدعوت بها وأنا ساجد، فإذا أمي تقول: يا أبا سليمان، ما فعلت الغلة؟ قال: قلت لها: قد قمت؟ قالت: نعم.
قال أحمد بن أبي الحواري: بات أبو سليمان ذات ليلة. فلما انتصف الليل قام ليتهيأ. فلما أدخل يده في الإناء بقي على حالته حتى انفجر الصبح وحان وقت الإقامة، فخشيت أن تفوت صلاته فقلت: الصلاة يرحمك الله، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: يا أحمد، أدخلت يدي في الإناء فعارضني عارض من سري: هب أنك غسلت بالماء ما ظهر منك، فبماذا تغسل قلبك؟ فبقيت متفكراً، فألهمت حتى قلت: بالغموم والأحزان فيما يفوتني من الأنس بالله.
قال ابن أبي الحواري: كنت مع أبي سليمان حين أراد الإحرام، فلم يلب حتى سرنا ميلاً، وأخذه كالغشية في المحمل ثم افاق فقال: يا أحمد، إن الله تبارك وتعالى أوصى إلى موسى: مر ظلمة بني إسرائيل أن يقلوا من ذكري، فإني أذكر من ذكرني منهم باللعنة حتى يسكت، ويحك يا أحمد! بلغني أنه من حج من غير حله، ثم لبى قال الله له: لا لبيك ولا سعد يك حتى ترد ما في يديك، فما يؤمننا أن يقال لنا ذلك؟.
قال أبو سليمان: ينبغي للخوف أن يكون أغلب على الرجاء، فإذا غلب الرجاء على الخوف فسد القلب.
قال أبو سليمان: من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن صدق في ترك شهوة ذهب الله بها من قلبه، والله تعالى أكرم من أن يعذي قلباً لشهوة تركت له.
قال أبو سليمان: إذا سكنت الدنيا القلب ترحلت منه الآخرة.
قال: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزحمها الاخرة. إن الآخرة كريمة، والدنيا لئيمة.
قال أبو سليمان:
إن في الجنة أنهاراً، وعلى شاطئها خيام، فيهن الحور ينشئ الله خلق إحداهن إنشاء، فإذا تكامل خلقها ضربت الملائكة عليهن الخيام، جالسة على كرسي، ميل في ميل، قد خرجت عجيزتها من جوانب الكرسي. قال: فيجيء أهل الجنة من قصورهم يتنزهون ما شاؤوا، يخلو كل رجل منهم بواحدة منهن. قال أبو سليمان: كيف يكون في الدنيا حال من يريد يفتض الأبكار على شاطئ الأنهار في الجنة؟.
قال أحمد بن أبي الحواري: دخلت على ابي سليمان يوماً وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟! فقال: يا أحمد ولم لا أبكي؟ إذا جن الليل، ونامت العيون، وخلا كل حبيب بحبيبه افترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم، وتقطرت في محاريبهم أشرف الجليل سبحانه فنادى: يا جبريل بعيني من تلذذ بكلامي، واستراح إلى ذكري، وإني لمطلع عليهم في خلواتهم أسمع أنينهم، وأرى بكاءهم، فلم لا تنادي فيهم يا جبريل: ما هذا البكاء؟ هل رايتم حبيباً يعذب أحباءه؟! أم كيف يجمل بي أن آخذ قوماً إذا جنهم الليل تملقوا في، حلفت إذا وردوا علي القيامة لأكشفن لهم عن وجهي الكريم حتى ينظروا إلي، وأنظر إليهم.
قال أحمد بن أبي الحواري: بت عند أبي سليمان الداراني، فسمعته يقول: وعزتك وجلالتك لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن أمرت بي إلى النار لأخبرنهم أني كنت أحبك.
قال أبو سليمان: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي. قال أحمد بن أبي الحواري: كان قلبه في هذا مثل قلب أبي بكر الصديق يوم الردة.
قال أبو سليمان: كنت نائماً في بيت فوقه علية فجاءني حين رقدت فحركني، فقال: يا عبد الرحمن، قم، وتوضأ، وصل، قلت: بكلامك يا لعين أصلي أنا؟ فرقدت وتركته، قال: فجاءني بعد فحركني، فقال: يا عبد الرحمن، افتح عينيك، قال: ففتحتهما، فإذا بحيطان البيت والجدر والسقف وشي محبرة قال: فرقدت، وتركته. قال: ثم جاءني بعد فحركني، فقال: يا عبد الرحمن، افتح عينيك، فإذا سقف البيت وسقف العلية قد انفرج. قال: فجعلت أنظر إلى النجوم، وأنا في الفراش.
قال: وقال أبو سليمان: رأيت لصاً قط يجيء إلى خربة، ينقبها، وهو يدخل من أي أبوابها شاء؟ إنما يجيء إلى بيت، قد جعل فيه رزم بر، وأقفل، فينقب حائطاً يستخرج رزمة، كذلك إبليس ليس يجيء إلا إلى كل قلب عامرٍ ليستنزله عن شيء.
قال أبو سليمان: ما خلق الله خلقاً أهون علي من إبليس، ولولا أني أمرت أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبداً، ولو بدا لي ما لطمت إلا صفحة وجهه.
قال أبو سليمان: إذا أخلص العبد انقطع عنه الوسواس والرؤيا. قال: وربما أقمت سنين فما ارى في النوم شيئاً.
قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: أقمت عشرين سنة لم أحتلم، فدخلت مكة، فأحدثت فيها حدثاً، فما أصبحت حتى احتلمت، فقلت له: وأي شيء كان الحدث؟ قال: فاتتني صلاة العشاء في جماعة.
قال أبو سليمان: الزاهد حقاً لا يذم الدنيا ولا يمدحها، ولا ينظر إليها، ولا يفرح بها إذا أقبلت، ولا يخزن عليها إذا ولت.
قال الجنيد: شيء يروى عن أبي سليمان الداراني أنا أستحسنه كثيراً: قوله: من اشتغل بنفسه شغل عن الناس، ومن اشتغل بربه شغل عن نفسه وعن الناس.
قال أبو سليمان الداراني: إذا أحب العبد الدنيا فآثرها يقول الله عز وجل: لأنسينه معرفتي حتى يلقاني وهو لا يعرفني.
قال أبو سليمان: خير السخاء ما وافق الحاجة.
قال أبو سليمان: إن في خلق الله خلقاً، ما تشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه، فكيف يشتغلون بالدينا؟ قال أبو سليمان: الدنيا عند الله أقل من جناح بعوضة، فما قيمة جناح بعوضة حتى يزهد فيها؟ وإنما الزهد في الجنة والحور العين، وكل نعيم خلقه الله ويخلقه، حتى لا يرى الله في قلبك غير الله.
قال أبو سليمان: من طلب الدنيا حلالاً واستعفافاً عن المسألة واستغناء عن الناس لقي الله يوم يلقاه ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً مرائياً لقي الله وهو عليه غضبان.
قال أبو سليمان: ليس الزاهد من ألقى غم الدنيا واستراح منها إنما تلك راحة، وإنما الزاهد من ألقى غمها، وتعب فيها لآخرته. قال أبو سعيد: يقول: كما يزهد فيها يزهد في الراحة، فإن الراحة في الدنيا من الدينا ومن نعيمها.
قال أبو سليمان:
إن قوماً طلبوا الغنى فحسبوا أنه في جمع المال ألا وإنما الغنى في القناعة، وطلبوا الراحة في الكثرة، وإنما الراحة في القلة، وطلبوا الكرامة من الخلق ألا وهي في التقوى، وطلبوا النعمة في اللباس الرقيق اللين، وفي طعام طيب، والنعمة في الإسلام والستر والعافية.
قال أبو سليمان: في قول الله عز وجل " وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً " قال: عن الشهوات.
قال أبو سليمان: نظروا إلى آخر غاية فجعلوها أول غاية: لباس الصوف. ينبغي إذا لم يبق في القلب شهوة من الدنيا تدرع العباء، لأنها علم الزهد، أما يستحي أحدكم أن يلبس عباء بثلاثة دراهم وفي قلبه شهوة بخمسة؟! قال أبو سليمان: لأهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولربما رأيت القلب يضحك ضحكاً.
زاد في حديث آخر: ولولا الليل ما أحببت البقاء.
قال أبو سليمان: إنما الأخ الذي يعظك برؤيته قبل أن يعظك بكلامه، لقد كنت أنظر إلى الأخ من إخواني بالعراق فأعمل على رؤيته شهراً.
قال أبو سليمان: لا يكون العبد تائباً حتى يندم بالقلب، ويستغفر باللسان، ويرد المظالم فيما بينه وبين الناس، ويجتهد في العبادة.
قال أحمد بن أبي الحواري: ذكرات أبا سليمان الصبر، فقال: والله، ما نصبر على ما نحب فكيف نصبر على ما نكره؟ قال أحمد بن أبي الحواري: تنهدت يوماً عند أبي سليمان الداراني فقال لي: إنك عنها مسؤول يوم القيامة، فإن كان على ذنب سلف فطوباك، وإن كان على الدنيا فويل لك.
قال أبو سليمان: إنما رجع القوم من الطريق قبل الوصول، ولو وصلوا إلى الله ما رجعوا.
قال ابن المبارك: لا تقل: ما أجرأ فلاناً على الله! فإن الله تعالى أكرم من أن يجترأ عليه، ولكن قل: ما أعز فلاناً بالله قال أبو سليمان: صدق ابن المبارك، هو أكرم من أن يجترأ عليه، ولكنهم هانوا عليه فتركهم ومعاصيهم، ولو كرموا عليه لمنعهم منها.
قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان: أريد أن أدع السوق وأتعبد، فقال: الزم السوق وتعبد. قال: قلت: فليس في السوق ما يكفيني، قال: فتحتاج إلى درهم؟ قلت: نعم، قال: فتكسب في السوق دانقاً؟ قلت: نعم. قال: فتحتال خمسة دوانيق خير من أن تحتال الدرهم كما هو.
قال: وقلت لأبي سليمان: تخالف العلماء؟ فغضب، وقال: رأيت عالماً قط بعينك؟ رأيت عالماً يأتي أبواب السلطان فيأخذ دراهمهم؟ قال أبو سليمان: إذا دخلت الدنيا من باب البيت خرجت الآخرة من الكوة.
قال أبو سليمان: من صارع الدنيا صارعته.
قال احمد بن أبي الحواري: حججت أنا وأبو سليمان، فبينا نحن نسير إذ سقطت السطحية مني، فقلت لأبي سليمان: فقدت السطحية وبقينا بلا ماء، وكان برد شديد، فقال أبو سليمان: يا راد الضالة، ويا هادي من الضلالة، اردد علينا الضالة، فإذا واحد ينادي: من ذهبت له سطحية؟ قال: فقلت: أنا، فأخذتها. فبينا نسير وقد تدرعنا بالفراء لشدة البرد، فإذا نحن بإنسان عليه طمران، وهو يترشح عرقاً، فقال أبو سليمان: تعال ندفع إليك شيئاً مما علينا من الثياب، فقال: يا أبا سليمان، أتشير إلى الزهد وتجد البرد؟ أنا أسيح في هذه البرية منذ ثلاثين سنة، ما انتفضت، ولا ارتعدت، يلبسني في البرد فيحاً من محبته، ويلبسني في الصيف مذاق برد محبته، ومر.
قال ابن أبي الحواري: قلت لأبي صفوان: ما رأيت مثل أبي عبد الله النباجي، فقال لي: ما رأيت أنت أحداً قط مثل أبي سليمان، ولكن أخبرك بقصتك حين فضلت أبا عبد الله: إن أبا سليمان زرع في قلبك حبيبة أصابها عطش، فسقاها النباجي فأنبتت، فالأصل بركة أبي سليمان.
مات أبو سليمان سنة أربع ومئتين. وقيل: سنة خمس ومئتين. وقيل: سنة خمس عشرة ومئتين. وقيل: سنة خمس وثلاثين ومئتين.
قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لمروان حين مات أبو سليمان: لقد أصيب به أهل دمشق، قال: أهل دمشق؟! لقد أصيب به أهل الإسلام.
قال أحمد بن أبي الحواري: تمنيت أن أرى أبا سليمان الداراني في المنام، فرأيته بعد سنة، فقلت له: يا معلم، ما فعل الله بك؟ قال: يا أحمد، دخلت من باب الصغير فرايت وسق شيح، فأخذت منه عوداً، فلا أدري تخللت به ام رميت به؟ فأنا في حسابه من سنة إلى هذه الغاية.