يزيد بن عمر بن هبيرة بن معية
ابن سكين بن خديج بن بغيض بن مالك ويقال: حممة بدل مالك - بن عد بن عدي بن فزارة، أبو خالد الفزاري أصله من الشام.
قال ابن هبيرة: لا ينبغي للقاضي إلا أن يكون عالماً، فهماً، صارماً.
ولي ابن هبيرة العراق كلها زمن بني أمية.
وولد سنة سبع وثمانين، واستعمل على العراق سنة ثمان وعشرين ومئة وجمع له المصران. وكان يزيد بن عمر بن هبيرة سخياً خلاف أبيه، فإن أباه كان بخيلاً، فحضر مهرجاناً فجلس يزيد في قصر الحجاج، وأمر بطعام يتخذ له، يطعمه أصحابه، وجلس على سرير في وسط الدار، وأذن لأصحابه، فدخل فيمن دخل خلف بن خليفة الأقطع، فجلس حيال وجهه يذكر بنفسه، وجاء الدهاقين بوظائف المهرجان من المال وآنية الذهب والفضة واللباس، فملؤوا بها الدار، فأقبل ابن هبيرة يقول لأصحابه:
يا فلان خذ، يا فلان خذ، ويومى لهم إلى الأشياء ويعطيهم المال، ويفعل ذلك بمن إلى جنب خلف بن خليفة، ويتعدى خلفاً، فأقبل خلف يرفع رأسه إليه، يريه نفسه. فلما كثر ذلك، ونر إلى ما في الدار ينفد قام فقال:
ظللنا نسبح في المهرجان ... في الدار من حسن جاماتها
فسبحت ألفاً فلما انقضت ... عجبت لنفسي وإخباتها
وأشرعت رأسي فوق الرؤوس ... لأرفعه فوق هاماتها
لأكسب صاحبتي صحفةً ... تغيظ بها بعض جاراتها
وأبدلها بصحاف الأمير ... قوارير كانت لجداتها
قال: فضحك ابن هبيرة وقال: خذ ذلك الجام، فأعطاه جام ذهب، كثير الورق، فأخذه في يده وقام وقال:
أصبحت صحفة بيتي من ذهب ... وصحاف الناس حولي من خشب
شفني الجام فلما نلته ... زين الشيطان لي ما في الجرب
إن ما أنفقت باق كله ... يذهب الباقي ويبقى ما ذهب
فضحك ابن هبيرة وقال: خذ، وخذ، وأعطاه حتى أرضاه.
كان يزيد بن عمر شديد الأكل، كان إذا أصبح أتوه بعس لبن حلب على عسل، وأحياناً على سكر فيشربه، فإذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تحل الصلاة فيصلي، ثم يدخل، فيدعو بالغداء، فيأكل دجاجتين، وناهضين ونصف جدي وألواناً من اللحم، ثم يخرج، فينظر في حوائج الناس إلى نصف النهار، ثم يدخل فيدعو بالحكم وبشر ابني عبد الملك بن بشر بن مروان، وخالد بن سلمة المخزومي، وعتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن عبد الرحمن بن عنبسة في أشباههم فيتغذى، فيضع منديلاً على صدره، فيكثر الأكل، ويعظم اللقم، فإذا فرغ تفرقوا، ودخل إلى
نسائه، حتى يخرج إلى الظهر، فينظر في أمور الناس، فإذا صلى العصر وضعت الكراسي للناس، ووضع له سرير، فإذا أخذ الناس مجالسهم أتوهم بعساس اللبن والعسل وألوان الأشربة. ثم يؤتى بالطعام، فيأكل إلى المغرب.
وكان يزيد جسيماً، طويلاً، سميناً، أكولاً، شجاعاً خطيباً، وكان فيه حسد.
وقال في آخر: فإذا أخذ الناس مجالسهم أتوهم بعساس اللبن والعسل، وألوان الأشربة، ثم توضع السفر والطعام للعامة، ويوضع له ولأصحابه خوان مرتفع، فيأكل معه الوجوه إلى المغرب، ثم يتفرقون للصلاة، ثم يأتيه سماره فيحضرون مجلساً يجلسون فيه، حتى يدعوهم، فيسامرونه حتى يذهب عامة الليل. وكان يسأل كل ليلة عشر حوائج، فإذا أصبحوا قضيت، وكان رزقه ست مئة ألف، فكان يقسمه كل شهر في أصحابه، من قومه ومن الفقهاء، ومن الوجوه، وأهل البيوت، فقال ابن شبرمة وكان من سماره:
إذا نحن أعتمنا ومال بنا الكرى ... أتانا بإحدى الراحتين عياض
وعياض بوابه، كان تحت يد أبي عثمان الحاجب، وإحدى الراحتين الدخول أو الإذن بالانصراف، ولم يكن لهم مناديل. كان ابن هبيرة إذا دعا بالمنديل قام الناس.
بصرت جارية لابن هبيرة بابن هبيرة وهو أمير العراق، وعليه قميص مرقوع، فضحكت، فأنشأ ابن هبيرة يقول أبيات ابن هرمة:
هزئت أمامة أن رأتني مخلقاً ... ثكلتك أمك أي ذاك يروع
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
ولرب لذة ليلة قد نلتها ... وحرامها بحلالها مدفوع
قال بيهس بن حبيب: لما جاءنا أبو جعفر نهضوا إلينا بجماعتهم، فجعلنا نقاتلهم، فكنا في القتال شعبان ورمضان وشوال، فجاءنا الحسن بن قحطبة في آخر شوال فقال: إلى متى تمدون أعينكم؟ ما بقي أحد إلا وقد دخل في طاعة أمير المؤمنين، لكم عهد الله وميثاقه إنكم آمنون على كل شيء، فقبلنا ذلك، وأتانا خازم بن خزيمة في الغد، فقال مثل ذلك، وجاءنا الحارث بن نوفل الهاشمي، وجاءنا إسحاق بن مسلم العقيلي، فقال: اليوم يعطونكم ما تريدون، فاكتتبنا بيننا وبينهم صلحاً في أول ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومئة، على ما شئنا، على أن ابن هبيرة على رأس أمره، مع خمس مئة من أصحابه، ينزل خمسين يوماً مدينة الشرقية، لا يبايع، فإذا تمت فإن شاء لحق بمأمنه، وإن شاء دخل فيما دخل فيه الناس، وما كان في أيدينا فهو لنا، ففتحنا الأبواب، فدخلوا المدينة، وجولوا فيها، ثم خرجوا، ففعلوا مثل ذلك في الغد، وفي ثالث يوم دخل علج من علوجهم، في خيل فتتبع كل دابة، عليها سمة " له " فأخذها، وقال: هذه للإمارة.
فبلغ ابن هبيرة، فقال: غدر القوم ورب الكعبة، وقال لأبي عثمان: انطلق إلى أبي جعفر، فأقرئه السلام، وقل له: إن رأيت أن تأذن لنا في إتيانك، فأذن له، فركب إليه وركبنا معه نحو مئتين، حتى انتهينا إلى الرواق، فنزل ابن هبيرة وأبو عثمان وسعد فجئنا نمشي معه حتى إذا بلغنا باب الحجرة دفع الباب فإذا أبو جعفر قاعد، فقال له ابن هبيرة: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، ثم أرخى الباب،
فسمعنا أبا جعفر يقول: يا يزيد، إنا بنو هاشم نتجاوز عن المسيء ونأخذ بالفضل، لست عندنا كغيرك، إن لك وفاء، وأمير المؤمنين يرغب في الصنيعة إلى مثلك، فأبشر بما يسرك، فقال له ابن هبيرة: إن إمارتكم محدثة فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها، تجلبوا قلوبهم، وما زلت منتظراً لهذه الدعوة ثم قام، فقال أبو جعفر: عجباً لرجل يأمرني بقتل هذا.
قال بيهس: فلما كان يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومئة، بعث أبو جعفر خازم بن خزيمة، فقتل ابن هبيرة، وكان الذي تولى قتله عبد الله بن البختري الخزاعي، وقتل رباح بن أبي عمارة مولى لبني أمية، وعبيد الله بن الحبحاب الكاتب، وقتلوا داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة، وأخرج أبا عثمان كاتب ابن هبيرة خازم بن خزيمة فقتله، وأخذ بشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان، وأبان بن عبد الملك بن بشر بن مروان، وابنين لأبان بن عبد الملك بن بشر، والحوثرة بن سهيل ومحمد بن نباتة، وقعد الحسن بن قحطبة في مسجد حسان النبطي على الدجلة مما يلي المدائن، فحملوا إليه فضرب أعناقهم، وأتى بحارث بن قطن الهلالي فأمر به إلى السجن، وطلب خالد بن سلمة المخزومي، فلم يقدر عليه فنادى مناديهم أن خالد بن سلمة آمن، فخرج بعدما قتل القوم، فقتلوه أيضاً.
وقيل إن كتاب الأمان الذي كتب مكث يتشاور فيه العلماء أربعين يوماً، حتى رضيه ابن هبيرة، ثم أنفذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس فأمره بإمضائه، وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان أبو العباس لا يقطع أمراً دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عيناً لأبي مسلم على أبي العباس، يكتب إليه بأخباره كلها،
فكتب أبو مسلم إلى أبي العباس: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، ولا والله لا صلح طريق فيه ابن هبيرة.
وألح أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتل ابن هبيرة، وهو يراجعه حتى كتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك، ثم يتولى قتله، فأزمع على قتله، وطلب من معه فجمعهم وانطلق خازم، والهيثم بن شعبة والأغلب بن سالم في نحو مئة، فأرسلوا إلى ابن هبيرة إنا نريد حمل المال، فقال ابن هبيرة لحاجبه: يا أبا عثمان دلهم عليه، فأقاموا عند كل بيت نفراً، ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدار ومع ابن هبيرة، ابنه داود، وكاتبه عمرو بن أيوب، وحاجبه، وعدة من مواليه، وبني له صغير في حجره، فجعل ينر نرهم فقال: أقسم بالله إن في وجوه القوم لشراً، فأقبلوا نحوه، فقام حاجبه في وجوههم فقال: وراءكم، فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود، فقتل، وقتل مواليه، ونحى الصبي من حجره، وقال: دونكم هذا الصبي، وخر ساجداً، فقتل وهو ساجد، ومضوا برؤوسهم إلى أبي جعفر. وقال أبو عطاء السندي:
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشية قام النائحات وصفقت ... خدود بأيدي مأتم وخدود
فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
وإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد
ابن سكين بن خديج بن بغيض بن مالك ويقال: حممة بدل مالك - بن عد بن عدي بن فزارة، أبو خالد الفزاري أصله من الشام.
قال ابن هبيرة: لا ينبغي للقاضي إلا أن يكون عالماً، فهماً، صارماً.
ولي ابن هبيرة العراق كلها زمن بني أمية.
وولد سنة سبع وثمانين، واستعمل على العراق سنة ثمان وعشرين ومئة وجمع له المصران. وكان يزيد بن عمر بن هبيرة سخياً خلاف أبيه، فإن أباه كان بخيلاً، فحضر مهرجاناً فجلس يزيد في قصر الحجاج، وأمر بطعام يتخذ له، يطعمه أصحابه، وجلس على سرير في وسط الدار، وأذن لأصحابه، فدخل فيمن دخل خلف بن خليفة الأقطع، فجلس حيال وجهه يذكر بنفسه، وجاء الدهاقين بوظائف المهرجان من المال وآنية الذهب والفضة واللباس، فملؤوا بها الدار، فأقبل ابن هبيرة يقول لأصحابه:
يا فلان خذ، يا فلان خذ، ويومى لهم إلى الأشياء ويعطيهم المال، ويفعل ذلك بمن إلى جنب خلف بن خليفة، ويتعدى خلفاً، فأقبل خلف يرفع رأسه إليه، يريه نفسه. فلما كثر ذلك، ونر إلى ما في الدار ينفد قام فقال:
ظللنا نسبح في المهرجان ... في الدار من حسن جاماتها
فسبحت ألفاً فلما انقضت ... عجبت لنفسي وإخباتها
وأشرعت رأسي فوق الرؤوس ... لأرفعه فوق هاماتها
لأكسب صاحبتي صحفةً ... تغيظ بها بعض جاراتها
وأبدلها بصحاف الأمير ... قوارير كانت لجداتها
قال: فضحك ابن هبيرة وقال: خذ ذلك الجام، فأعطاه جام ذهب، كثير الورق، فأخذه في يده وقام وقال:
أصبحت صحفة بيتي من ذهب ... وصحاف الناس حولي من خشب
شفني الجام فلما نلته ... زين الشيطان لي ما في الجرب
إن ما أنفقت باق كله ... يذهب الباقي ويبقى ما ذهب
فضحك ابن هبيرة وقال: خذ، وخذ، وأعطاه حتى أرضاه.
كان يزيد بن عمر شديد الأكل، كان إذا أصبح أتوه بعس لبن حلب على عسل، وأحياناً على سكر فيشربه، فإذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تحل الصلاة فيصلي، ثم يدخل، فيدعو بالغداء، فيأكل دجاجتين، وناهضين ونصف جدي وألواناً من اللحم، ثم يخرج، فينظر في حوائج الناس إلى نصف النهار، ثم يدخل فيدعو بالحكم وبشر ابني عبد الملك بن بشر بن مروان، وخالد بن سلمة المخزومي، وعتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن عبد الرحمن بن عنبسة في أشباههم فيتغذى، فيضع منديلاً على صدره، فيكثر الأكل، ويعظم اللقم، فإذا فرغ تفرقوا، ودخل إلى
نسائه، حتى يخرج إلى الظهر، فينظر في أمور الناس، فإذا صلى العصر وضعت الكراسي للناس، ووضع له سرير، فإذا أخذ الناس مجالسهم أتوهم بعساس اللبن والعسل وألوان الأشربة. ثم يؤتى بالطعام، فيأكل إلى المغرب.
وكان يزيد جسيماً، طويلاً، سميناً، أكولاً، شجاعاً خطيباً، وكان فيه حسد.
وقال في آخر: فإذا أخذ الناس مجالسهم أتوهم بعساس اللبن والعسل، وألوان الأشربة، ثم توضع السفر والطعام للعامة، ويوضع له ولأصحابه خوان مرتفع، فيأكل معه الوجوه إلى المغرب، ثم يتفرقون للصلاة، ثم يأتيه سماره فيحضرون مجلساً يجلسون فيه، حتى يدعوهم، فيسامرونه حتى يذهب عامة الليل. وكان يسأل كل ليلة عشر حوائج، فإذا أصبحوا قضيت، وكان رزقه ست مئة ألف، فكان يقسمه كل شهر في أصحابه، من قومه ومن الفقهاء، ومن الوجوه، وأهل البيوت، فقال ابن شبرمة وكان من سماره:
إذا نحن أعتمنا ومال بنا الكرى ... أتانا بإحدى الراحتين عياض
وعياض بوابه، كان تحت يد أبي عثمان الحاجب، وإحدى الراحتين الدخول أو الإذن بالانصراف، ولم يكن لهم مناديل. كان ابن هبيرة إذا دعا بالمنديل قام الناس.
بصرت جارية لابن هبيرة بابن هبيرة وهو أمير العراق، وعليه قميص مرقوع، فضحكت، فأنشأ ابن هبيرة يقول أبيات ابن هرمة:
هزئت أمامة أن رأتني مخلقاً ... ثكلتك أمك أي ذاك يروع
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
ولرب لذة ليلة قد نلتها ... وحرامها بحلالها مدفوع
قال بيهس بن حبيب: لما جاءنا أبو جعفر نهضوا إلينا بجماعتهم، فجعلنا نقاتلهم، فكنا في القتال شعبان ورمضان وشوال، فجاءنا الحسن بن قحطبة في آخر شوال فقال: إلى متى تمدون أعينكم؟ ما بقي أحد إلا وقد دخل في طاعة أمير المؤمنين، لكم عهد الله وميثاقه إنكم آمنون على كل شيء، فقبلنا ذلك، وأتانا خازم بن خزيمة في الغد، فقال مثل ذلك، وجاءنا الحارث بن نوفل الهاشمي، وجاءنا إسحاق بن مسلم العقيلي، فقال: اليوم يعطونكم ما تريدون، فاكتتبنا بيننا وبينهم صلحاً في أول ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومئة، على ما شئنا، على أن ابن هبيرة على رأس أمره، مع خمس مئة من أصحابه، ينزل خمسين يوماً مدينة الشرقية، لا يبايع، فإذا تمت فإن شاء لحق بمأمنه، وإن شاء دخل فيما دخل فيه الناس، وما كان في أيدينا فهو لنا، ففتحنا الأبواب، فدخلوا المدينة، وجولوا فيها، ثم خرجوا، ففعلوا مثل ذلك في الغد، وفي ثالث يوم دخل علج من علوجهم، في خيل فتتبع كل دابة، عليها سمة " له " فأخذها، وقال: هذه للإمارة.
فبلغ ابن هبيرة، فقال: غدر القوم ورب الكعبة، وقال لأبي عثمان: انطلق إلى أبي جعفر، فأقرئه السلام، وقل له: إن رأيت أن تأذن لنا في إتيانك، فأذن له، فركب إليه وركبنا معه نحو مئتين، حتى انتهينا إلى الرواق، فنزل ابن هبيرة وأبو عثمان وسعد فجئنا نمشي معه حتى إذا بلغنا باب الحجرة دفع الباب فإذا أبو جعفر قاعد، فقال له ابن هبيرة: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، ثم أرخى الباب،
فسمعنا أبا جعفر يقول: يا يزيد، إنا بنو هاشم نتجاوز عن المسيء ونأخذ بالفضل، لست عندنا كغيرك، إن لك وفاء، وأمير المؤمنين يرغب في الصنيعة إلى مثلك، فأبشر بما يسرك، فقال له ابن هبيرة: إن إمارتكم محدثة فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها، تجلبوا قلوبهم، وما زلت منتظراً لهذه الدعوة ثم قام، فقال أبو جعفر: عجباً لرجل يأمرني بقتل هذا.
قال بيهس: فلما كان يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومئة، بعث أبو جعفر خازم بن خزيمة، فقتل ابن هبيرة، وكان الذي تولى قتله عبد الله بن البختري الخزاعي، وقتل رباح بن أبي عمارة مولى لبني أمية، وعبيد الله بن الحبحاب الكاتب، وقتلوا داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة، وأخرج أبا عثمان كاتب ابن هبيرة خازم بن خزيمة فقتله، وأخذ بشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان، وأبان بن عبد الملك بن بشر بن مروان، وابنين لأبان بن عبد الملك بن بشر، والحوثرة بن سهيل ومحمد بن نباتة، وقعد الحسن بن قحطبة في مسجد حسان النبطي على الدجلة مما يلي المدائن، فحملوا إليه فضرب أعناقهم، وأتى بحارث بن قطن الهلالي فأمر به إلى السجن، وطلب خالد بن سلمة المخزومي، فلم يقدر عليه فنادى مناديهم أن خالد بن سلمة آمن، فخرج بعدما قتل القوم، فقتلوه أيضاً.
وقيل إن كتاب الأمان الذي كتب مكث يتشاور فيه العلماء أربعين يوماً، حتى رضيه ابن هبيرة، ثم أنفذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس فأمره بإمضائه، وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان أبو العباس لا يقطع أمراً دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عيناً لأبي مسلم على أبي العباس، يكتب إليه بأخباره كلها،
فكتب أبو مسلم إلى أبي العباس: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، ولا والله لا صلح طريق فيه ابن هبيرة.
وألح أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتل ابن هبيرة، وهو يراجعه حتى كتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك، ثم يتولى قتله، فأزمع على قتله، وطلب من معه فجمعهم وانطلق خازم، والهيثم بن شعبة والأغلب بن سالم في نحو مئة، فأرسلوا إلى ابن هبيرة إنا نريد حمل المال، فقال ابن هبيرة لحاجبه: يا أبا عثمان دلهم عليه، فأقاموا عند كل بيت نفراً، ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدار ومع ابن هبيرة، ابنه داود، وكاتبه عمرو بن أيوب، وحاجبه، وعدة من مواليه، وبني له صغير في حجره، فجعل ينر نرهم فقال: أقسم بالله إن في وجوه القوم لشراً، فأقبلوا نحوه، فقام حاجبه في وجوههم فقال: وراءكم، فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود، فقتل، وقتل مواليه، ونحى الصبي من حجره، وقال: دونكم هذا الصبي، وخر ساجداً، فقتل وهو ساجد، ومضوا برؤوسهم إلى أبي جعفر. وقال أبو عطاء السندي:
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشية قام النائحات وصفقت ... خدود بأيدي مأتم وخدود
فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
وإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد