موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي
أخو جعفر والفضل ابني يحيى ولاه الرشيد هارون دمشق والشام بأسره أيام عصبية أبي الهيذام، فقدم دمشق وأصلح بين المضرية واليمانية.
قال موسى بن يحيى: كان يحيى بن خالد البرمكي يقول: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الكتاي يدل على مقدار عقل كاتبه، والرسوم على مقدار عقل مرسله، والهدية على مقدار عقل مهديها.
وفي سنة ست وسبعين ومئة هاجت العصبية بالشام، وعامل السلطان بها موسى بن
عيسى، فقتل منهم خلق، فولى الرشيد موسى بن يحيى، وضم إليه من القواد والأجناد، ومشايخ الكتاب جماعة.
قال موسى بن يحيى: قال المأمون يوماً لمحمد بن داود: إني أرى إقبال هذه السنة يدل على كثرة الغلات وانحطاط الأسعار، فاكتب إلى العمال في المبادرة ببيع الغلات.
فجلس محمد يومه كله يعمل كتاباً في ذلك، طوله وبالغ فيه، فلما كان من غد عرضه عليه، وقرأه حتى انتهى إلى آخره، فأخذ المأمون قلماً، واستمد من دواة بين يديه، وخط على أول سطر والثاني والثالث إلى آخره، وكتب في حاشيته: أما بعد: فإن للأمور أوائل يستدل بها على أواخرها، وأشياء يعرف بها ما تؤول إليه الحال منها، وربما أخطأت المخيلة، وكذبت الدليلة، ولا يعلم الغيب إلا الله، وإن أمير المؤمنين لما دل عليه إقبال هذه السنة أن سعر الطعام سينزع، فتقدم في بيع ما استباع لك من الغلات بالسعر الذي تراه صالحاً، ولا تنفق نفقة صغيرة ولا كبيرة إلا ما أتاك به كتاب أمير المؤمنين والسلام.
أصبح موسى بن يحيى يوماً مغموماً مفكراً؛ وكان سبب ذلك أن الرشيد دفع إليه جوهراً عظيماً خطره، وأمره بحفظه فحفظه يحيى في مجلسه تحت تكأته إلى أن يحرزه حيث يرى، فغلب على قلبه الشغل فنهض ونسيه مكانه، فذهب وذكره يحيى فطلبه في الموضع فلم يجده، فأبلغ ذلك منه، وذكر له أمر أبي يعقوب الزاجر، فأمر بإحضاره.
وقال يحيى لمن حضره: لا ينطق أحد بكلمة فيسمعها فتفسد عليه زجره، فدخل، فقال له: مسألة حضرت أنا سائلك عنها، فانظر ما هي؟ قال: نعم وأطرق طويلاً، ثم قال: تسألني عن ضالة؟ قال: نعم، فانظر ما هي؟ فجعل يتلفت يميناً وشمالاً، ثم لمس البساط بيده، وقال: هو شيء أحمر وأخضر وأبيض، هو سموط، هو في وعاء جراب أو كيس، هو جوهر.
قال: أصبت، فمن أخذه؟ قال: أحد الفراشين، ولم يقف كما وقف في المرتين الأوليين، قال: فأين هو؟ قال: في بلاعة، ولم يقف أيضاً، فقال يحيى: انظروا كل بلاعة في الدار فاطلبوه، فنظروا فإذا في واحدة أثر قلع وإصلاح، فكشف رأسها واستخرج منها جراب فيه ذلك الجوهر.
فكثر تعجب يحيى، وذهب الغم عنه وقال: يدفع إليه في وقتنا هذا خمسة آلاف درهم ويبتاع له منزل في جوارنا بخمسة آلاف درهم.
فقال أبو يعقوب: أما الخمسة آلاف فإن آخذها، وأما المنزل فلن يبتاع أبداً، قال: فازداد عجباً، ثم سأله عن زجره فقال: دخلت عليك وأنت تعلم أنه لا بصر لي، وإنما يزجر الزاجر على حواسه، وأقوى حواسه بصره، ولكن زجري على سمعي، فلم أسمع شيئاً، وسألتني فأصغيت إلى كلمة أزجر عليها، فلم أجد فاشتققت الزجر من الحال التي كنت فيها فقلت: ضالة، لأنه قد ضل عني كل شيء، يمكن التعلق به، فقلت: ضالة؟ فقلت: نعم، فعلمت أني قد أصبت، ثم قلت: ما هو؟ فجاءت مسألة أخرى، فجهدت أن أسمع شيئاً أزجر عليه فلم أسمعه، فلمست بيدي البساط، فوجدت قمع تمرة مما لعله كان في أسفل خفض بعض من دخل، فقلت: هذا من النخلة، وهو يكون أخضر وأحمر وأبيض، وهو كالسموط، إذا كان في طلعه، وهذه صفة الجوهر، فقلت: جوهر في وعاء، فقلت: أصبت، ثم قلت: من أخذه؟ فسمعت نهيق حمار فزجرت عليه، والحمار علج ولا يصل إلى مجلس المولى من العلوج غير الفراشين، فقلت: فراش، فقلت: فأين هو؟ فسمعت غلاماً يخاطب آخر ويقول: صبه في البلاعة، فزجرت على قوله، فقلت: هو في البلاعة فأصبت.
فقال له يحيى: فكيف قلت فيما أمرنا لك به؟ قال: أمرت بدفع الخمسة آلاف العاجلة فقال غلام في الصحن: نعم، فقلت: يصل، ثم قلت: يبتاع له منزل في جوارنا بخمسة آلاف درهم، فقال آخر في الصحن: لا، فقلت: إنها لا تصل.
فانصرف أبو يعقوب بالخمسة آلاف، وشرع الوكلاء في طلب المنزل.
فبعد خمسة أيام حدث في أمر البرامكة ما حدث وبطل أمر المنزل.
قال يحيى بن أكثم: سمعت المأمون يقول: لم يكن ليحيى بن خالد وولده " نظير " في الكفاية والبلاغة والجود والشجاعة، ولقد صدق القائل: " من الرجز "
أولاد يحيى أربع ... كالأربع الطبائع
فهم إذا خيرتهم ... طبائع الصنائع
فقلت: يا أمير المؤمنين، أما الكفاية والبلاغة والسماحة فتعرفها، ففيمن الشجاعة؟ فقال: في موسى بن يحيى، وقد رأيت أن أوليه ثغر السند.
قال علي بن أبي النجم: قال لي يحيى بن خالد: صف لي ولدي، فإنك خليطهم، قال: نعم، أما الفضل: فيرضيك بفعله، وأما جعفر: فيرضيك بقوله، وأما محمد: فيفعل بحسب ما يجد، وأما موسى: فيفعل ما لا يجد.
أخو جعفر والفضل ابني يحيى ولاه الرشيد هارون دمشق والشام بأسره أيام عصبية أبي الهيذام، فقدم دمشق وأصلح بين المضرية واليمانية.
قال موسى بن يحيى: كان يحيى بن خالد البرمكي يقول: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الكتاي يدل على مقدار عقل كاتبه، والرسوم على مقدار عقل مرسله، والهدية على مقدار عقل مهديها.
وفي سنة ست وسبعين ومئة هاجت العصبية بالشام، وعامل السلطان بها موسى بن
عيسى، فقتل منهم خلق، فولى الرشيد موسى بن يحيى، وضم إليه من القواد والأجناد، ومشايخ الكتاب جماعة.
قال موسى بن يحيى: قال المأمون يوماً لمحمد بن داود: إني أرى إقبال هذه السنة يدل على كثرة الغلات وانحطاط الأسعار، فاكتب إلى العمال في المبادرة ببيع الغلات.
فجلس محمد يومه كله يعمل كتاباً في ذلك، طوله وبالغ فيه، فلما كان من غد عرضه عليه، وقرأه حتى انتهى إلى آخره، فأخذ المأمون قلماً، واستمد من دواة بين يديه، وخط على أول سطر والثاني والثالث إلى آخره، وكتب في حاشيته: أما بعد: فإن للأمور أوائل يستدل بها على أواخرها، وأشياء يعرف بها ما تؤول إليه الحال منها، وربما أخطأت المخيلة، وكذبت الدليلة، ولا يعلم الغيب إلا الله، وإن أمير المؤمنين لما دل عليه إقبال هذه السنة أن سعر الطعام سينزع، فتقدم في بيع ما استباع لك من الغلات بالسعر الذي تراه صالحاً، ولا تنفق نفقة صغيرة ولا كبيرة إلا ما أتاك به كتاب أمير المؤمنين والسلام.
أصبح موسى بن يحيى يوماً مغموماً مفكراً؛ وكان سبب ذلك أن الرشيد دفع إليه جوهراً عظيماً خطره، وأمره بحفظه فحفظه يحيى في مجلسه تحت تكأته إلى أن يحرزه حيث يرى، فغلب على قلبه الشغل فنهض ونسيه مكانه، فذهب وذكره يحيى فطلبه في الموضع فلم يجده، فأبلغ ذلك منه، وذكر له أمر أبي يعقوب الزاجر، فأمر بإحضاره.
وقال يحيى لمن حضره: لا ينطق أحد بكلمة فيسمعها فتفسد عليه زجره، فدخل، فقال له: مسألة حضرت أنا سائلك عنها، فانظر ما هي؟ قال: نعم وأطرق طويلاً، ثم قال: تسألني عن ضالة؟ قال: نعم، فانظر ما هي؟ فجعل يتلفت يميناً وشمالاً، ثم لمس البساط بيده، وقال: هو شيء أحمر وأخضر وأبيض، هو سموط، هو في وعاء جراب أو كيس، هو جوهر.
قال: أصبت، فمن أخذه؟ قال: أحد الفراشين، ولم يقف كما وقف في المرتين الأوليين، قال: فأين هو؟ قال: في بلاعة، ولم يقف أيضاً، فقال يحيى: انظروا كل بلاعة في الدار فاطلبوه، فنظروا فإذا في واحدة أثر قلع وإصلاح، فكشف رأسها واستخرج منها جراب فيه ذلك الجوهر.
فكثر تعجب يحيى، وذهب الغم عنه وقال: يدفع إليه في وقتنا هذا خمسة آلاف درهم ويبتاع له منزل في جوارنا بخمسة آلاف درهم.
فقال أبو يعقوب: أما الخمسة آلاف فإن آخذها، وأما المنزل فلن يبتاع أبداً، قال: فازداد عجباً، ثم سأله عن زجره فقال: دخلت عليك وأنت تعلم أنه لا بصر لي، وإنما يزجر الزاجر على حواسه، وأقوى حواسه بصره، ولكن زجري على سمعي، فلم أسمع شيئاً، وسألتني فأصغيت إلى كلمة أزجر عليها، فلم أجد فاشتققت الزجر من الحال التي كنت فيها فقلت: ضالة، لأنه قد ضل عني كل شيء، يمكن التعلق به، فقلت: ضالة؟ فقلت: نعم، فعلمت أني قد أصبت، ثم قلت: ما هو؟ فجاءت مسألة أخرى، فجهدت أن أسمع شيئاً أزجر عليه فلم أسمعه، فلمست بيدي البساط، فوجدت قمع تمرة مما لعله كان في أسفل خفض بعض من دخل، فقلت: هذا من النخلة، وهو يكون أخضر وأحمر وأبيض، وهو كالسموط، إذا كان في طلعه، وهذه صفة الجوهر، فقلت: جوهر في وعاء، فقلت: أصبت، ثم قلت: من أخذه؟ فسمعت نهيق حمار فزجرت عليه، والحمار علج ولا يصل إلى مجلس المولى من العلوج غير الفراشين، فقلت: فراش، فقلت: فأين هو؟ فسمعت غلاماً يخاطب آخر ويقول: صبه في البلاعة، فزجرت على قوله، فقلت: هو في البلاعة فأصبت.
فقال له يحيى: فكيف قلت فيما أمرنا لك به؟ قال: أمرت بدفع الخمسة آلاف العاجلة فقال غلام في الصحن: نعم، فقلت: يصل، ثم قلت: يبتاع له منزل في جوارنا بخمسة آلاف درهم، فقال آخر في الصحن: لا، فقلت: إنها لا تصل.
فانصرف أبو يعقوب بالخمسة آلاف، وشرع الوكلاء في طلب المنزل.
فبعد خمسة أيام حدث في أمر البرامكة ما حدث وبطل أمر المنزل.
قال يحيى بن أكثم: سمعت المأمون يقول: لم يكن ليحيى بن خالد وولده " نظير " في الكفاية والبلاغة والجود والشجاعة، ولقد صدق القائل: " من الرجز "
أولاد يحيى أربع ... كالأربع الطبائع
فهم إذا خيرتهم ... طبائع الصنائع
فقلت: يا أمير المؤمنين، أما الكفاية والبلاغة والسماحة فتعرفها، ففيمن الشجاعة؟ فقال: في موسى بن يحيى، وقد رأيت أن أوليه ثغر السند.
قال علي بن أبي النجم: قال لي يحيى بن خالد: صف لي ولدي، فإنك خليطهم، قال: نعم، أما الفضل: فيرضيك بفعله، وأما جعفر: فيرضيك بقوله، وأما محمد: فيفعل بحسب ما يجد، وأما موسى: فيفعل ما لا يجد.