Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=154321#e6d0ca
موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث
ويقال: عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل كليم الرحمن صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم روي أن قبره بين عليه وعويله وهما محلتان كانتا بقرب مسجد القدم.
ويقال إنه رئي في النوم قبره فيه، والصح أن قبره بيته بني إسرائيل وسأتي الاختلاف فيه.
والأطوار التي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليها أربعة أطوار: طور سيناء وهو في البية بالقرب من بحر قلزم، والطور الذي ببيت المقدس، والطور الذي في طبرية عند أكسال، والطور الذي بدمشق، وهو جبل كوكب موضع الكنيسة الخربة، وقد بني في هذه المواضع كنائس باقية إلى الساعة إلا كنيسة كوكباً فإنها خراب.
روي أنه أول نبي بعث: إدريس، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم إسماعيل وإسحاق ويعقوب بن إسحاق، ثم يوسف بن يعقوب، ثم لوط، ثم هود، ثم صالح، ثم شعيب، ثم موسى وهارون.
وكان حاز حزا لفرعون فقال: إنه يولد في هذا العام غلام يذهب بملككم، وكان فرعون يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم حذراً لقول الحازي، وذلك قول اله عز وجل: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ومجعلهم الوارثين " إلى قوله: " يحذون " قوله: " ونجلعهم الوارثين " أي يرثوا الأرض بعد فرعون. قال: " وأوحينا إلى أم موسى " قال: قرر في نفسها " أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم " إلى قوله: " وهم لا يشعرون " قال: لا يشعرون أن هلالاكهم على
يديه. وقوله: " لولا أن ربطنا على قلبها " قال: ربط الله على قلبها بالإيمان. وقوله: " وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً "، قال: من كل شيء إلا من ذكر موسى، و" إن كادت لتبدي به " فتقول: وابنياه.
ولما أكثر فرعون القتل في بني إسرائيل، ورأى عظماء قومه ما يصنع اجتمع نفر من عظمائهم وأشرافهم وذوي السن منهم، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون إلى الملك يذبح الصغير من بني إسرائيل، وأن الكبار يموتون بآجالهم، وقد أسرع القوابل في نساء بنس إسرائيل وأمرهن أن لا يسقط على ايديهن وليد من بني إسرائيل إلا ذبحوه، وقد ترون ما يصنع بالحبالى، وكيف يعذبهن حتى يطرحهن حتى ما في بطونهن، فيوشك أن يفني بني إسرائيل ويستأصلهم، فنصير نحن بغير خدم، وتصير الأعمال التي كانوا يكفوناها في أعناقنا، وإنما بنو إسرائيل خدمنا وخولنا؛ فانطلقوا بنا إلى الملك حتى نشير عليه برأينا. فانطلقوا حتى دخلوا على فرعون فقالوا: أيها الملك! قد أفنيت بني إسرائيل، وقطعت النسل، وإنما هم خدمك، وهم لك خول طائعون، فاستبقهم لذلك ومر أن يرفع عنهم الذبح عاماً أو عامين حتى يشب الصغار.
فأمر فرعون أن يذبحوا عاماً ويستحيوا عاماً فحملت أم موسى بهارون في السنة التي لا يذبح فيها الغلمان، فولدت هارون علانية آمنة من الذبح حتى إذا كان العام القابل الذي يذبح فيه الغلمان حملت بموسى، فوقع في قلب أم موسى الهم والحزن من أجل موسى، تخشى عليه كيد فرعون، وكان هارون أكبر من موسى عليهما السلام، ولما تقارب ولاد أم موسى كانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لام موسى، فلما ضربها الطلق أرسلت إليها فقالت: قد ترين ما نزل بي، ولينفعني حبك إياي اليوم، فعالجت قبالها، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نور بين عينيه، فارتعش كل مفصل منها، ودخل حب مسوى في قلبها ثم قالت لها: يا هذه! ما جئت إليك إلا ومن رآني أقتل مولودك وأخبر فرعون، ولكن قد وجدت لابنك هذا حباً ما وجدت مثله، واحفظي ابنك، فإني أراه هو عدونا.
فلما خرجت من عندها وحراس فرعون وعيونه على القوابل ينظرون أين يدخلن وأين يخرجن؛ فإن وجدوا قابلة تداهن أو تكتم، واطلعوا على ذلك منها قتلوها والمولود، فلما خرجت القابلة من عند أم موسى أبصرها بعض العيون، فجاء غل بابها ليدخلوا على أم موسى، وكانت أخت موسى قد سجرت تنورها لتخبز، فسمعت الجلبة بالباب فقالت: يا أمتاه! هذا الحرس بالباب. فلقت موسى في خرقة، ثم سولت لها نفسها، فوضعته في التنور وهو مسجور، وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع خوفاً على موسى، وكان ذلك إلهاماً من الله عز وجل لما أراد بعبده موسى، فدخلوا فإذا التنور مسجور، وإذا أم موسى لم يتغير لها لون، ولم يظهر لها لين. فقالوا لها: ما أدخل عليك القابلة؟ قالت: هي مصافية لي. فدخلت علي زائرة، فخرجوا من عندها، فرجع إليها عقلها، فقالت لأخت موسى: فأين الصبي؟ قالت: لا أدري، فسمع صوت بكاه من التنور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله عليه النار برداً وسلاماً، فاحتملت الصبي فأرضعته، وذلك قول الله عز وجل: " وأوحينا إلى أم موسى " بعد ذلك، وإنما كان هذا الوحي إلهاماً من الله " أن أرضعيه " فأرضعته ولا تخاف شيئاً، فذلك قوله: " فإذا خفت عليه " فاجعليه في التابوت ثم اقذفيه في اليم " ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ".
وكانت أم موسى لما حملت به كتمت أمرها جميع الناس، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله، وذلك شيء ستره الله لم أراد أن يمن به على بني إسرائيل.
فلما كانت السنة التي يولد فيها بموسى بعث فرعون القوابل وأمرهن يفتشهن النساء تفتيشاً لم يفتشنه قبل ذلك، ولم ينب بطن أم موسى ولم يتغير لونها، ولم يظهر لبنها، وكانت القوابل لا يعرضن لها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها موسى ولدته أمه ولا رقيب عليها ولا قابلة، ولم يطلع أحد إلا أخته مريم، وأوحي الله إليها " أن أرضعيه فإذا خفت عليه " الآية، فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها لا يبكي ولا يتحرك؛ فلما خافت عليه عملت له تابوتاً مطبقاً ومهدت له فيه، ثم ألقته في البحر ليلاً كما أمرها الله، فلما
أصبح فرعون جلس في مجلسه على شاطئ النيل، فبصر بالتابوت فقال لمن حوله من خدمه: ائتوني بهذا التابوت، فوضع بين يديه وفتحه، فوجد فيه موسى، فلما نظر إليه فرعون قال: عبارني من الأعداء. فغاظه ذلك وقال: كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟! وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم، وكانت من خيار النساء، ومن بنات الأنبياء، وكانت أماً للمسلمين، ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم، ويدخلون عليها، فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه: هذا الولد أكبر من ابن سنة، وإنما أمرت أن يذبح الولدان لهذه السنة، فدعه يكن قرة " عين لي ولك، لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وهم لا يشعرون " بأن هلاكهم على يده، فاستحياه فرعون وومقه، القي الله عليه محبته ورأفته، وقال لمرأته: عسى أن ينفعك فأما أنا فلا أريد نفعه. ولو أن عدو الله قال في موسى كما قالت أسية: عسى أن ينفعنا، لنفعه الله به، ولكنه أبى، للشقاء الذيس كتبه الله عليه.
وحرم الله المراضع على موسى ثمانية أيان ولياليهن، كلما أتي بمرضعة لم يقبل ثديها، فرق فرعون إليه ورحمه، وطلب له المراضع، وحزنت أم موسى وبكت عليه، حتى كانت أن تبدي به، ثم تداركها الله برحمته، وربط على قلبها، وقالت لأخته: تنكري واذهبي مع الناس فانظري ماذا يفعلون به. فدخلت أخته مع القوابل على أسية نبت مزاحم، فلما رأت وجدتهم بموسى وحبهم له ورأفتهم عليه قالت: " هل أذلكم على أهل بيت يكفلونه لكن وهم له ناصحون "؟ فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، وما عاينت وما سمعت منهم، فانطلقت أم موسى حتى انتهيت إليهم متنكرة فقالت لهم: هل تريدون ظئراً؟ قالوا: نعم. فناولوها موسى، فوضعته في حجرها، فلما شم ريح أمه عرفها فوثب إلى ثدي أمه فمصه حتى روي، فلما رده الله إلى أمه وقبل ثديها استبشرت آسية وقالت لأم موسى: إن شئت امكثي عندي ترضعين ابني هذا، فإني لم أحب حبه شيئاً قط. فقالت لها أم موسى: لا أستطيع أن أترك بيتي وولدي وزوجي وأقيم عندك، ولكن إن طابت نفسك أن تدفعيه إلي، فأذهب به إلى بيتي، فيكون عندي لا ألوه خيراً.
وذكرت أم موسى ما كان الله صنع لها في موسى فتعاسرت عليهم وعلمت أن الله مبلغ موسى ومنجز وعده. قال: فدفعت إليها ابنها، فرجعت به إلى بيتها، فبلغ من لطف الله لها ولموسى أن الله رد عليها ابنها، وعطف عليها فرعون وأهل بيته بالمنفعة حتى كأنهم كانوا من أهل بيت فرعون، من المان والسعة، فلم يزل موسى في كرامة الله عز وجل، وهو في منزل والدته، فلما ترعرع وشب وتكلم، وكانت امرأة فرعون إذا أرداته بعثت إليه، فيحمل إليها في الفرسان والخدم حتى يدخل عليها، ولما فطمته أمه ردته، فنشأ في حجر فرعون وامرأته يربيانه بأيديهما، واتخذاه ولداً، فبينا هو يلعب يوماً بين يدي فرعون، وبيده قضيب يلعب به إذ رفع القضيب فضرببه رأس فرعون، فغضب فرعون وتطير من ضربه حتى هم بقتله، فقالت آسية: أيها الملك! لا تغضب، ولا يشقق عليك، فإنه صبي صغير لا يعقل، جربه إن شئت، اجعل في هذا الطست جراً وذهباً، فانظر على أيهما يقبض، فأمر فرعون بذلك، فلما مد موسى يده ليقبض على الذهب قبض الملك الموكل به على يده فردها إلى الجمرة، فقبض عليها مويى، فألقاها في فيه، ثم قذفها حين وجد حرارتها، فقالت آسية لفرعون: أن أفل لك إنه لا يعقل شيئاً؟ فكف عنه فرعون وصدقها، وكان أمر بقتله.
ويقال: إن العقدة التي كانت في لسان موسى أثر تلك الجمرة التي التقمها.
ولما أرادت أم موسى أن تجل ولدها في التابوت انطلقت إلى نجار من مصر من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتاً صغيراً، فقال لها النجار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ قالت: ابن لي أخبؤة في التابوت - وكرهت أن تكذب - قال: ولم؟ قالت: أخشى عليه كيد فرعون. فلما اشترت منه التابوت وحملته انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى، فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه، فلم يطق الكلام، وجعل يشير بيده، فلم يدر الأمناء ما يقول، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم: اضربوا هذا المصاب، فضربوه حى أخرجوه، فلما انتهى إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم، فانطلق أيضاً يريد الأمناء، فأتاهم ليخربهم، فأخذ الله لسانه وبصره، فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئاً، فضربوه
وأخرجوه من عندهم لا يبصر شيئاً، فوقع في وادي يهودي فيه حيران، فجعل لله إن رد عليه لسانه وبصره أن لا يدل عليه، وأن يكون من تبعه، يحفظه حيث ما كان، فعرف الله منه الصدق، فرد عليه بصره ولسانه، فخر لله ساجداً وقال: يا رب! دلني على هذا العبد الصالح. فدله الله عليه، فخرج من الوادي فآمن به وصدق به، وعلم أن ذلك من الله.
وانطلقت أم موسى بالتابوت إلى منزلها فمهدت فيه لموسى ثم لفته في الخرق، ثم أدخلته التابوت، فأطلقت عليه، فنظرت ألسحرة والكهنة إلى نجم موسى، فإذا مجمه ورزقه قد غاص في الأرض، وخفي عليهم نجمه، وذلك حين أدخلته أمه في التابوت، فخفي على الكهنة، فلما أبصروا ذلك فرحوا فرحاً شديداً، ورفعوا أصواتهم بالغناء، وأسرعوا البشارة إلى فرعون وهم يظنون أن قد ظفروا بحاجتهم، وأن موسى قد قتل فيمن قتل من ولدان بني إسرائيل فقالوا: أيها الملك! إن نجم المولود الذي تحذر مه غاص في الأرض وذهب رزقه. ففرح فرعون وذهب عنه الغم، وظن أنها ستراح منه، فأمر للكهنة والسحرة بجوائز وكسوة، وأمر بالجهاز والخروج من الإسكندرية، وكان لفرعون يومئذ ابنة، لم يكن له ولد غيرها، وكانت من أكرم الناس عليه، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون، وكان بها برص شديد مسلخة برصاً، وكان فرعون جمع لها أطباء مصر والسحرة، فنظروا في أمرها وقالوا: إنها لا تبرأ إلا من قبل البحر، يؤخذ منه شيء شبه الإنسان، فيؤخذ منه ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا وكذا حين تشرق الشمس، فلما كان يوم الإثنين غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل، ومعه امرأته آسية، وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل، فبينا هي كذلك مع جواريها تنضح الماء على وجوههن وتلاعبهن، وعمدت أم موسى إلى التابوت فقذفته في النيل، فانطلق الماء بالتابوت حتى توارى عنها، فجاء الشيطان فندمها وأنساها ما كان الله عز وجل ألهمها إذ جعلته في التنور، فجعل الله عليه النار برداً وسلاماً؛ وندمت حين جعلته ي التابوت وقالت: لو ذبح ابني بين يدي كنت
أكفنه وأدفنه في التراب، وكان أحب إلي وأسلي لهمي من أن ألقيه في البحر، فيأكله دواب البحر وحيتانه، ثم ذكرها الله ما أنساها الشيطان فقالت: إن الذي خلصه من النار سيحفظه في اليم، فاحتمل النيل التابوت حتى تعلق بشجرة مما يلي فرعون، فبينا فرعون في مجلسه إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج، فقال فرعون: إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجرة، ترفعه الأمواج وتضعه، ائتوني به. فابتدروه بالسفن من كل جانب، حتى وضعوه بين يده، فعالجوا فتح التابوت فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه فدنت آسية فرأن في جوف التابوت نرواً لم يره غيرها، للذي أراد الله أن يكرمها، فعالجته ففتحت التابوت، فإذا هي بصبي صغير فيمهده، فإذا نور بين عينيه، وقد جعل الله رزقه في البحر في إبهامه، وإذا إبهامه في فيه، يمصه لبناً، وألقي الله لموسى المحبة في قلب آسية، فلم يبق منها عضو ولا شعر ولا بشر إلا وقع فيه الاستبشار، فذلك قوله: " وألقيت عليك محبة مني "، وأحبه فرعون وعطف لعيه.
وأقبلت ابنة فرعون، فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت ابنة فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه ولعابه فلطخت به برصها وقبلته وضمته إلى صدرها، وجعل فرعون يفعل كفعلها لما يرى من سرورهم به، فأخذته آسية فضمته إلى نفسها، فقالت الغواة من قوم فرعون: إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل، هو هذا رمي به في البحر فرقاً منك، فاقتله مه من قتلت منهم. فهم به فمنعه الله منه، فلما هم بقتله قالت إمراته آسية: لا تقتله " قرة عين لي ولك " لا تقتله " عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً " وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها، وقال فرعون: أما أنا فلا حاجة لي فيه. فقالت لآسية: سميه. قالت سميته موشى. قيل: ولم سميته موشى؟ قالت لأنا وجدنا في الماء والشجر ف مه هو الماء وشى هو الشجر فسموه موشى، ماء وشجر.
قال قتادة في قوله: " وألقيت عليك محبة مني "، قال: كانت ملاحة في عيني موسى لم يرهما أحد قط إلا أحبه.
وقال سلمة بن كهيل: " وألقيت عليك محبة مني "، قال: حببتك إلى عبادي.
وقال ابن المبارك: أوحى الله تعالى إلى موسى: تدري لم ألقيت عليك محبتي؟ قال: لا يا رب. قال: لأنك اتبعت مسرتي.
وقال أبو عمران الجوني: " ولتصنع على عيني " قال: تربى بعين الله عز وجل.
وقال ابن عباس: في قوله: " وحرمنا عليه المراضع من قل " قال: ليس يعني النساء، ولكن يعني حلم الثدي، وكان لا يقبل ثدي امرأة، فجعل لا يقبل حلمة امرأة، فكبر ذلك على امرأة فرعون، فقالوا لها: أرسلي إلى نساء بني إسرائيل التي قتل أولادهن، لعلك تجدين من يقبل هذا الصبي ثديها منهن، فأرسلت، فجعلت تعرضهن على موسى مرضعاً بعد مرضع، فلم يقبل منهن شيئاً حتى أشفقت آسية أن يمتنع من الرضاع فيهلك، حتى جاءت أمه، فلما أن شم ريح أمه عرفها فوثب إلى ثدي أمه فمصه حتى روي.
وعن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليلة أسري بي مررت بموسى بن عمران فنعته النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رجل - حسبته قال: مضطرب - رجل الرأس، كأنه من رجال شنوءة.
وفي حديث جابر مثله، ورأيت عيسى، فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود، ورأيت إبراهيم إليه السلام، فإذا أقرب من رأيت به شبهاً صاحبكم - يعني نفسه - ورأيت جبريل عليه السلام، فأقرب من رأيت به شبهاً دحية.
وعن ابن عباس: أن بني إسرائيل لما شب موسى نظروا إلى المبعث الذي كانوا يجدون في كتبهم، أن الله عز وجل مخلص بني إسرائيل على يديه.
وقال وهب بن منبه: إنهم قالوا لموسى: إن آباءءنا أخبرونا أن الله عز وجل يفرج عنا على يدي رجل أنت شبه، فتكون لنا الأرض كما كانت أول مرة في زمن يعقوب، وإنما سخط الله علينا وملك فرعون علينا لأنا لم نطعربنا، لم نصدق رسلنا فجعل موسى يقول لهم: أبشورا يا بني إسرائيل ثم أبشروا، فإني أرجو أن يكون قد تقارب ذلك، فاتقوا الله وأطيعوه، ولا تسخطوه كما أسخطمتوه أول مرة، فلا يرضى عنكم أبداً. قالوا: يا موسى! أما تقدر أن تشفع لنا إلى فرعون بمنزلتك عنده أن يرفه عنا شهراً من العمل، فقد قرحت أيدينا ومناكبنا من نقل الحجارة وبناء المدائن، فنستريح شهراً فقد كسرت ظهورنا وذهبت قوتنا. فقال لهم موسى: فهل تعلمون يا بني إسرائيل أن الذين أنتم فيه من البلاء عقوبة من الله للذين سلف من ذنوبكم. قالوا: يا موسى! ما منا صغير ولا كبير إلا وهو يعرف ذلك، مقر على نفسه بخطيئته. قال لهم موسى! ما منا صغير ولا كبير إلا وهو يعرف ذلك، مقر على نفسه بخطيئته. قال لهم موسى: فما عليكم من الشكر إن هلك عدوكم وفرج عنكم وردوكم إلى ملككم؟ قالوا: يا موسى! وهل يكون ذلك أبداً؟ قال عسى الله أن يفعل بكم ذلك، فينظر كيف شكركم وحمدكم عند الرخاء، وصبركم عند البلاء.
قال وهب: وكذلك الأنبياء يجري الله الحكمة على ألسنتهم من قبل الوحي، فقالوا: يا موسى! إذاً والله نكثر صلاتنا وصيامنا ونواسي المساكين في اموالنا ونظع الجائع، ونكسو العاري، ونطيع ربنا ورسلنا. قال موسى: يا بني إسرائيل! زعموا أن عبداً من عبيد الله غضباً عضباً في الله على قومه أنهم عبدوا الأوثان من دون الله، فعمد إلى تلك الأوثان فكسرها غضباً لله عز وجل؛ فأخذه قومه فالقوة في النار، فأمر الله النار أن تكون برداً وسلاماً، فأنجاه الله من تلك النار، لما علم من صدق نيته، قالوا:
يا موسى! هذا هو إبراهيم الخليل بن تارح هو أبو إسحاق، وهو جد يعقوب، وهو إسرائيل أبونا.
فلما فرغوا من حديثهم خلابة فتى من قومه فقال لموسى: لولا أني أخاف لأخبرتك خبراً صادقاً إنك أنت الذي نرجوه، ولكنك من فرعون بمنزلة، وهو يحبك حباً شديداً. فقال له موسى: وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إلهاً واحداً، لا أحلف بعزة فرعون المخلوق الضعيف إلا ما أخبرتني الخبر كله. فقال له الفتى: يا موسى! أشهد بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط أنك الذي نرجو وننتظر أن يهلك الله عدونا على يده ويفرج عنا به. قال له موسى: وإله بني إسرائيل إني لأحبكم حب الوالدة لودها وحب الأخ لأخيه؛ ولا يغرنكم حب فرعون إياي، فإن أكمن أنا ذاك أو غيري. قال: فلم يزل موسى يتآلفهم ويتآلف بهم ويتحدث معهم حتى صار موسى أحب إليهم من أبائهم وأمهاتهم، وصاروا إذا قعدوا ساعة كالغنم لا راعي لها. ثم إن موسى وأخاه ذلك الرجل في الله، وجرت بينهما المودة، ثم ثم إنه خلابه موسى لما أراد الله بذلك الفتى من السعادة، فأفشى إليه موسى سره وما هو عليه من يدنه، وأخذ عليه عهد الله وميثاقه ألا يخبر به أحداً حتى يظهر الله ذلك الأمر، فحلف الفتى بإله بني إسرائيل ليجتهدن في الأمر، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولو أحرقت بالنار.
فأنبت اله موسى نباتاً حسناً حتى بلغ أشده، فآتاه الله حكماً وعلماً - يعني فهماً في دينه ودين آبائه وشرائعهم - وصار لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه، يقتدون برأيه ويجتمعون إليه، فلما عرف ما هو عليه من الحق، وبان له أم ر فرعون وما هو عليه من الباطل، وعرف عداوته له ولبني إسرائيل علم أن فراق فرعون خير له في دينه ودنياه وأخرته. فتكلم موسى بالحق وعاب المنكر، ولم يرض بالباطل والظلم والإشراك بالله، حتى ذكر ذلك منه في مدينة مصر، وما صنع بأهلها، وحتى علموا أن دينه ورأيه مخالف لهم؛ فلما اشتد عليهم أمر موسى رفعوا أمره إلى فرعون، فأمرهم فرعون أن لا يعرضوا له إلا
بخير، ونهاهم عنه حتى صار من أمر أهل مصر أنهم خافوا موسى خوفاً شديداً، وكن لا يلقى موسى أحداً منهم إلا هربوا منه حتى لا يستطيع أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل، ولا يصل إلى ظلمه ولا يسخره، وامتنعت بنو إسرائيل في كنف موسى كل الامنتاع، فلما اشتد عليهم أمر موسى نصبوا له العداوة في كل نواحي المدينة ليقتلوه، فصار من أمر موسى لا يدخل المدينة إلا خائفاً مستخفياً، فبينا موسى ذات يوم وهو داخل " المدينة على حين غفلة من أهلها " يعني عند الظهيرة وهم قائلون " فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته " يعني من شيعة موسى، والآخر " من عدوه " يعني من آل فرعون كافراً " فاسغائه الذي من شعته " وهو الإسرائيلي " على الذين من عدوه " يعني بع القطبي، وكان موسى أوتي بسطه في الخلق، وشدة في القوة، فدنا موسى منهما، فإذا هو بالفتى المؤمن الذي كان عاهده موسى وأفشى إليه سره، وقد تعلق به عظيم من عظماء الفراعنة، يريد أن يدخله على فرعون، فقال له موسى: ويحك، خل سبيله، قال له الفرعوني: هل تعلم يا موسى أن هذا الفتى سب سيدنا فرعون؟ فقال له موسة: كذبت يا خبيث؟ بل السيد الله، ولعنة الله على فرعون، فنازعه موسى فلم يخل عنه " فوكزه موسى " وكزة على قلبه " فقضى عليه " ولم يكن يريد قتله، وليس يراهما إلا الله والفتى الإسرائيلي الذي كان من شيعه موسى. فقال موسى حين قتل الرجل: " هذا من عمل الشيطان " يعني من تزيين الشيطان " إنه عدو مضل مبين، قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ".
وقيل: إن موسى نبي الله قال: يا رب؟ لا ترني النفس التي قتلت يوم القيامة. قال الرب: ألم أغفره لك يا موسى؟ قال: بلى، ولكن أخشى مما أرى من عذلك أن يكون لقلبي روعة يوم القيامة. قال: فجنبه ألا تراه.
وعن ابن عباس قال: إن موسى كان قد جعل الله له نوراً في قلبه قبل نبوته، فلما قتل الرجل خمد ذلك
النور، فلم يحس به، فقال عند ذلك: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي. فعرف الله منه الندامة، فرد عليه النور في قلبه وغفر له، إنه هو الغفور الرحيم.
وكان موسى بعد ذلك خائفاً وجلاً، حتى جاءته النبوة، فأوحى الله إليه: لو أن النسمة التي قتلتها أقرت لي ساعة من نهار أني خالقها ورازقها لأذقتك طعم العذاب، ولكنها لم تقر لي ساعة من نهار أني خالقها ورازقها، فقد غفرت لك. فاطمأن بعد ذلك.
وعن ابن عباس:
في قوله عز وجل: " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى " قال: جاء خربيل بن نوحابيل خازن فرعون، وكان مؤمناً يكتم إيمانه مئة سنة، وكان هو حاضر فرعون حين ائتمروا في قتل موسى. قال: فخرج فأخذ طريقاً آخر، فأخبر موسى بما ائتمروا من قتله، وأمره بالخروج وقال: " إني لك من الناصحين " فخرج موسى على وجهه، فمر براعي، فألقى كسوته واخذ منه جبة من صوف بغير حذاء ولا رداء، فمضى " خائفاً يترقب " يخاف فرعون، وهو يتحسس الأخبار ولا يدري أين يتوجه، ولا يعرف الطريق إلا حسن ظنه بربه، فذلك قوله: " عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " فهيأ الله تعالى له قصد السبيل - يعني الطريق إلى المدينة الذي قضى عليه، وما هو كائن من أمره. فخرج نحو مدين بغير زاد ولا ظهر، قال: " رب نجني من القوم الظالمين " فتعسف الطريق يأخذ يميمناً وشمالاً، يأكل النبت من الأرض وورق الشجر حتى تشقق شدقاه، وكان يرى خضرة النبت بين جلده وأمعائه، فأصابه
الجهد والجوع حتى وقع إلى مدين، فذلك قوله عز وجل: " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون " أنعامهم، وكانوا أصحاب نعم وشاء " ووجد من " دون القوم " امرأتين تذوادان " غنمها عن الماء وهما ابنتا يثروب - وهو بالعربية شعيب - فقال موسى لهما: " ما خطبكما " يقول: ما شأنكما معتزلتين بغنمكما دون القوم لا تسقيان مع الناس؟. " قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء " ونحن بعد كما ترى إمراتين ضعيفتين لا نستطيع أن نزاحم الرجال " وأبونا شيخ كبير " لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، وليس أحد يقوم بشأنه ولا يعنيه في رعاية غنمه وسقيها، فنحن نرعاها ونتكلف سقيها، وكان شعيب صاحب غنم، وكذلك الأنبياء كانوا يقتنون الغنم.
قال ابن عباس: ما من بيت يكون تكون فيه شاة إلا نادى ملك من السماء: يا أهل البيت قدستم قدستم.
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أعيته المكاسب فعليه بتجارة الأنبياء. يعني الغنم، إنها إذا أقبلت أقبلت وإذا أدبرت أقبلت.
قال ابن عباس: لما ورد موسى ماء مدسن كان يتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال.
وعن مجاهد: في قوله عز وجل حكاية عن موسى " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير: قال: ما سأل الله إلا طعاماً يأكله وقال: كان يومئذ فقيراً إلى شق تمرة، ولزق بطنه بظهره من شدة الجوع. وقيل: ما كان معه رغيف ولا درهم وقيل: سأل الله تعالى فلقاً من الخبز يشد بها صلبه من الجوع، ولقد قال ذلك وهو من
أكرم خلق الله عليه، ولقد أصابه م الجوع حتى لصق ظهره ببطنه، حتى تبين خضرة البقل من أعلى الجلد، حتى أتته الجارية.
سأل رجل ابن عيينة فقال: يا أبا محمد؟ أرأيت الرجل يعمل العمل لله يؤذن أو يؤم، أو يعين أخاه، أو يعمل شيئاً من الأعمال فيعطى الشيء؟ قال: يقبله، ألا ترى موسى لم يعمل للعمالة، إنما عمل لله، فعرض له رزق من الله فقبله وقرأ: " إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " فذهب معها، وإنما كان أول الأمر لله.
ولما أبصر موسى ما بالجارية من العري وما يبدو من ساقيها قال لها موسى: امشي خلفي رحمك الله وانعتي لي الطريق بكلامك، فإنا قوم لا ننظر إلى أدبار النساء. ففعلت ما أمرها موسى، فكلما عدا موسى يميمناً أو شمالاً تقول له: على يمينك دع شمالك؛ حتى دخل على شعيب، فلما دخل عليه دعا شعيب بطعام، فوضعه بين يديه، ثم قام من عنده شعيب، وأقسم لعيه إلا ما أكلت حتى أرجع إليك. وإنما صنع ذلك شعيب حين خرج من عند موسى كراهية أن يستحي من شعيب، فلا يشبع من الطعام، فلما فرغ موسى من الطعام دعا له بلين فسقاه، ثم سأله بعد ذلك عن أمره كله وما أخرجه من بلاده، فقص عليه موسى القصص، وأخبره بالذي أخرجه من بلاده، وأخبره بنسبه وممن هو، فعلم شعيب أن موسى من أهل بيت النبوة، فقال: " لا تخف نجوت من القوم الظالمين "، المسالة. فقالت إحدى ابنتي شعيب: " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ".
وقيل: إن الذي قال له: " لا تخف نجوت من القوم الظالمين " ليس بشعيب، ولكنه سيد الماء يومئذ.
وعن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن سئت أي الأجلين قضى
موسى؟ فقل: خيرهما وأوفرهما؛ ون سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل الصغرى منهما، وهي التي جاءت وقالت: يا أبت استأجره.
قالوا: وقال لها أبوها: ما علمك بقوته وأمانته؟ فقالت: أما قوته فإنه رفع الحجر وحده ولا يطيق رفعه إلا عشرة، وأما أمانته فقوله: امشي خلفي وصفي لي الطريق، لا تصف الريح لي حسدك. فزاده ذلك فيه رغبة " قال: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك، وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين "، أي من حسن الصحبة والوفاء بما قلت. قال موسى: " ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي " قال: نعم. قال: " والله على ما نقول وكيل ". فزوجه وأقام معه يكفيه ويعلم له في رغاية غنمه.
وعن أبي سعيد الخدري: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن جبريل، عن ميكائيل، عن الرفيع، عن إسرافيل، عن ذي العزة تبارك وتعالى أن موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى أتم الأجلين وأظنه عشر سنين.
قال عكرمة: لقيت الحسن بن علي فصافحته، قال: التقابل مصافحة المؤمن. قال: قلت أخبرني " وأما بنعمة ربك فحدث " قال: الرجل المؤمن يعمل عملاً صالحاً فيخبر به أهل بيته، قال: قلت أي الأجلين قضى موسى، الأول أو الآخر؟ قال: الآخر.
ولما رعى موسى عليه السلام على صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما قال له صاحبه: كل شاة ولدت على غير لونها فلك ولدها. قال: فعمد فوضع حبالاً على الماء، فلما رأت الحبال فزعت فجالت جولة، فولدن كلهن برقاء إلا شاة واحدة، فذهب بأولادهن ذلك العام.
وعن عتبة قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً فقرأ سورة طسم، حتى إذا بلغ قصة موسى قال: إن موسى أجر نفسه ثمان سنين - أو قال عشر سنين - بعفة فرجه وطعام بطنه.
وعن عتبة بن الندر - وكان من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال من حدث: وإن نبي الله موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد فراق شعيب عليه السلام قال لامراته: سلي أباك من نتاج غنمه ما يعيشون به، فأعطاها - وفي رواية فأعطاه - ما وضعت غنمه من قالب لون ذلك العام، فوقف موسى بإزاء الحوض، فلما وردت الغدير لم تصدر شاة إلا طعن جنبها بعصاة فوضعت قوالب ألوان، فوضعت اثنتين وثلاثين ليس فيهن فشوش ولاضبوب، ولامشة تفوت الكف، ولا ثغول؛ فإن فتحتم الشام وجدتم بقايا منها وهي السامرية.
الثغول: الواسعة ثقب الضرع، فلا يستمسك فيه اللبن، فيقطر من غير حلب وتنفش.
والضبوب: من الضب، وهو الحلب بالإبهام؛ والضرع - وأحسب ذلك يفعل بالشاة إذا كانت ضيقة مخرج اللبن. الكمشة: القصيرة الضرع، التي يفوت ضرعها كف الحالب، فلا يتمكن من حلبها. والثغول: التي لها حلمة زائدة، يقال لها الثغل.
وفي حديث عن وهب، أن شعيباً زوجة ابنته الكبرى أسفورياً، وقيل صفورياً وهي التي كان أرسلها أبوها لتعو له موسى، فأقام موسى معه يكفيه رعاية غنمه وما يحتاج إليه منه، حتى توفي بشرطه، فلما قضي موسى الأجل قال لشعيب: أريد أن أنصرف بأهلي فانظر إلى أمي وأخي وأهل بيني. قال له شعيب: يا موسى؟؟! ضع يدك على ما شئت من مالي، فإنما هو من مال الله، ثم من بكرتك؛ قال: وذلك أن الله ثمر لشعيب ماله وكثره له، ورأى شعيب البركة في منزله بدخول موسى، فقال موسى:
حبي متاع قليل أعيش به أيام حياتي، ودابة أحمل عليها ابنتك وحمار أحمل عليه زادنا ومتاعنا. قال له شعيب: وما تريد غير هذا؟ موسى: وهذا كثير.
ولما أراد موسى الخروج قال له شعيب: ادخل المخدع الذي فيه العصي، فخذ منها عصا وأتني بها. فدخل، فمد يده إلى العصي، فوقعت في يده منها عصا فأخرجها، فلما أبصرها شعيب ضحك قال: ردها. فردها مكانها وخرج إلى شعيب فقال له: اذهب فأتني بعصاً أخرى، فدخل فمد يده، فوقعت تلك العصا في ديه، فأخرجها إلى شعيب فإذا هي هية.
فزعم وهب أنه رده سبع مرات، كل ذلك تقع العصا في يده، فقال شعيب: يا موسى! أنت صاحبها فاتوص بعصاك خيراً واحتفظ بها، فإنك سترى منها أمراً عجيباً من أمر الله وسلطانه. فزعم وهب أنها هي التي أخرجها آدم من الجنة.
قال ابن عباس: كان عصا موسى من عوسج، وكان يستظل بها من الشمس، ويستضيء بها في ظلمة الليل، ويضرب بها الحجر فيخرج الماء، ويضرب بها الأرض فتنبت له البقل، وكانت من عوسج، وما جعلت بعها عصا من عوسج.
وفي رواية: ولم يسخر العوسج لأحد بعده.
وعن ابن عباس:
في قوله تعالى: " لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ". قال ابن عباس: أضلوا الطريق وكانوا شاتين، فلما رأى النار قال: " لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى " أهتدي به إلى الطريق، فإن لم أجد أحداً يهديني أتيتكم بنار تستدفئون بها.
وعن وهب بن منبه قال: خرج موسى ومعه أهله يؤم الشام، وأكبر همه طلب أخيه هارون وأخته مريم، وهما
بأرض مصر في مملكة فرعون، وهم موسى الاجتماع لهما والرخوج من أرض مصر فسار في البرية غير عارف بطرقها ولا معالمها، غير أنه يؤم الغرب ويجع الشرق، ويرى أنه الوجه إلى أرض مصر، فلم يزل كذلك حتى ألجأه المسير إلى جانب الطور الأيمن في البقينة المباركة، في عشية شاتيه شديدة البرد والظلمة، فعمد إلى زنده فقحها فلم تنور شيئاً ولم تزدد إلا نداوة، وكان عهده أن زنده لا يقدح بها إلا مرة حتى تنور فيها النار، فلما آيس مه تركه.
ولما عند موسى عليه الصلاة والسلام - وعلى نبينا - نحو النار التي رأى وانتهى إليها، رأى ناراً عظيمة تتوقد من فرع شجرة خضراء، سديدة الخضرة، يقال لها العليق، لا تزداد النار فيما يرى إلا عظماً وتضرماً، ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسناً، فأعجبته ولا يدري على ما يضع أمرها، إلا أنه ظن أهها شجرة تحترق، أوقد إليها موقد قبالها، وأنه ظن أنها تمنع النار أن تحرقا شدة خضرتها وكثرة مائها، فوقف وهو يرجو أن يسقط منها شيء يقتبسه، فلما طال ذلك عليه ارتم إليها ضغثاً من رقاق الحطب والشيح، ثم أهوى به ليقتبس من لهبها، فلما فعل ذلك مالت إليه كأنها تريده، فاخر عنها وهابها، ثم عاد فطاف بها، فلم تزل تطعمه ويطمع بها، ويطوف حولها، ثم لم يك شيء بأوشك من طرفة عين من خمودها حتى كأن لم تكن، فعند ذلك أعجبه شأنها، ونظر في أمرها وتدبر فقال: نار توق في جوف شجرة لا تحرقها! وتمنعه فلا يقتبس منها، ثم خمدوها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين! إن لهذه لشأنا! فوضع أمرها على أنها مأمورة، أو مصنوعة لا تدري لما أمرت ولا من أمرها، ولا لمن
صنعت ولا من صنعها؟ فوقف متحيراً لا يدري، أيرجع أم يقيم؟ ثم رمى بطرفه نحو فرعها، فإذا هي أشد ما كانت خضرة، وإذا خضرتها ساطعة في السماء، ينظر إليها تشتق الظلام وتجلوه، ثم لم تزل الخضرة تنور وتسفر وتبيض، حتى عاد نوراً ساطعاً ما بين السماء والأرض، فيها شعاع الشمس، تكل دونه الأبصار، فلما نظر إليها تكاد تخطف بصره، خمر عينيه بثوبه ولصق بالأرض، فعند ذلك اشتد رعبه، وهمه وأحزنه شأنها، وجعل يسمع الحس والوجس، إلا أنه يسمع شيئاً لم يسمع السامعون مثله عظماً لا يدري ما هو، فلما اشتد به الخول وبلغه الكرب، وكاد أن يخالط في عقله نودي من السجرة أن يا موسى! فأسرع الإجابة - وما ذلك منه حينئذ إلا للاستئناس بالصوت حين سمعه، لما قد بلغه من الوحشة والخوف - فقال: لبيك لبيك - مراراً - إني أسمع الصوت ولا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك، ومحيط بك، وأقرب إليك منك من نفسك. فلما سمع هذا علم موسى أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله عز وجل، قال: كذلك أنت يا إلهي، أكلامك أسمع أم رسولك؟ فقال: بل الكلام كلامي والنور نوري، وأنا رب العالمين، يا موسى! أنا الذي أكلمك فأذن مني. فجمع يديه في العصا، ثم تحامل حتى استقل قائماً وما كاد، فأرعدت فرائصه، وانكسر قلبه ولسانه، وطاش عقله، ولم يبق منه عظم يحمل آخر، وصار بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجري فيه، فبعث الله إليه ملكاً كأحسن شيء خلقه الله، فشد له عضده وظهره، ورجاه وبشره، فرجف وهو مرعوب، فلما انتهى إلى الشجرة قال له: اخلع " نعليك إنك بالواد المقدس " فخلعهما، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت فطير - يعني غير مدبوغ - فخلعهما ثم قال: " وما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي " قال: ما تصنع بها؟ - ولا أحد أعلم بذلك منه جل وعز - قال: " أوتكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى " قال: قد علمتها وكانت مآرب موسى أنها كانت
عصا له شعبتان ومحجن تحت الشعبتين، وزج في طرفها، فكان يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، وإذا طالت شجرة حناها بالمحجن، وإذا أراد أن يقوس شجرة تطول لها لواها بالشعبتين، وكان إذا مشى ألقاها على عاتقه، فيعلق بها قوسه وكنانته ومرجمته وحلابه وإرادته، وزاداً إن كان مع، وإذا ارتعى في البرية التي ليس فيها ظل ركزها في الأرض، ثم أعرض زنده بين شعبتيها ثم ألقي عليها كساءه، فاستظل ما كان مرتاعاً، وكان إذا ورد ماء يقصر عنه رشاؤه وصل الرشاء بالمحجن؛ وكان يقاتل بها السباغ عن غنمه.
فكانت هذه من مآربه التي أراد أن يقص، ولكن منعه من ذلك الخوف، فأجمع القصة بقوله: " ولي فيها مآرب أخرة، قال ألقها يا موسى " فظن موسى أنه يقول ارفضها ولا تقبض بها " فألقاها موسى على وجه الرفض، ثم حانت منه نظرة، فإذا هو بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون! في مثل بدن البختي العظيم، إلا أنه أطول منه، مسرعة تدب على قوائم قصار غلاظ شداد، قد جعلت الشعبتان له فم مثل القليب الواسع، فيها أضراس وأنياب وقد جعل له عرفاً نابتاً له شعر مثل شعر البازل، قد جعل له عينان يتوقدان ناراً، وجعل يدب كأنه يبتغي شيئاً ليأخذه، إلا أنه ليمر بالشجرة العظيمة فيطعن بناب من أنيابه في أصلها، فيجدلها، ثم يبتلعها، ويمر بالصخرة العظيمة مثل الحلقة فيبتلعها حتى أنه ليسمع تقعقع الصخرة في جوفها، فلما عاين موسى ذلك " ولى مدبراً ولم يعقب " فذهب على وجهه حتى أمعن، وظن أنه قد أعجز الحية، ثم ذكر أنه هو فاستحيا، ثم نودي يا موسى! ارجع حيث كنت. فرجع وهو شديد الخوف فقال: " خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى "، فأدركه وعليه
جبة من صوف، فلف كم جبته على يده، فقال له الملك: يا موسى! أرأيت لو أذن لها في الذي تحاذر، أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً؟ قال موسى: لا، ولكني ضعيف، خلقت من ضعف، قال له: أخرج يدك، فكشف عن يده فقال: أدخلها في فيه. فوضهعا في في الحية حتى حبس الأضراس والأنياب، ووجد ذلك بيده في موضعها الذي كان يضعها بين الشعبتين، فقبض عليها فإذا هي هصا كما كانت، قال: فال له: ادن منس سا موسى، فدنا منه فقال: أخرج يدك من جيبك فأخرجها فإذا الشعاع مثل شعاع الشمس " بيضاء من غير سوء " يعني من غير برص؛ فقال له: العصا آية، ويدك " آية أخرى، لنريك " بعدهما " من آياتنا الكبرى ". ادن مني، فإني موقفك اليوم مكاناً لا ينبغي لبش من بعدك أن يقوم مقامك أدنيتك وقربتك حتى سمعت كلامي وكنت بأقرب المنازل والأمكنة منين فاسمع قولي واحفظ وصيتي وارع عهدي، وانطلق برسالتي فإنك تسمعني وتعيني، وأنا معك أيدي ونصري، وسألبسك جبة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمري، وأنت جند من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي وأمن مكري، وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وعبد دوني وتمثل بي، وزعم أنه لا يعرفني، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة العذر اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار، تغضب لغضبه السماوات والرض والجبال، إن آذن للسماء حصبته، وإن آذن للأرض ابتلعته وإن آذن للجبال درمته، وإن آذن للبحار غرقته، ولكنه هان علي وسقط من عيني، ووسعه حلمي واستغنت بما عندي وحق ي، إني أنا الغني، غنى غيري، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي، وإخلاص اسمي، وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وذكره أيامي، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أن يهشى، ولا يغرنك ما ألبسته من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، ليس يطرف ولا ينظر ولا يتنفس إلا يإذني، وقل له أجب ربك، فإنه واسع المغفرة، قد أمهلك منذ أرعبمئة سنة في كلها أنت تبارزه بالمحاربة، وتتسمى به وتتمثل به، وتصد عباده عن سبيله، وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، ويلبسك العافية، لم تسقم ولم تهرم، ولم تفتقر، ولم تغلب، ولو شاء أن يعجل لك ويبتليك ويسلبك ذلك فعل، يعني بالفقر والهرم، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم. " قال
رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري ".
وعن ابن مسعود، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يوم كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف وكساء صوف، وسراويل صوف، وكمة صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي.
وعن أبي قلابة قال: تدرون لم قال الله تعالى: اخلع " نعليك إنك بالواد المقدس طوى "؟ قال: كانت نعلاه من جلد حمار ميت، فأحب أن يباشر القدس بقدميه.
قال وهل بن منبه: لما كلم الله تعالى موسى صلى الله على نبينا وعليه يوم الطور، كان على موسى جبة من صوف مخللة بالعيدان، مخروم وسطه بشريط ليف، وهو قائم على جبل قد أسند ظهره إلى صخرة من الجبل، فقال الله: يا موسى! إني قد أقيمك مقاماً لم يقمع أحد قلبك ولا يقومه أحد بعك، وقرتبك مني نجياً. قال موسى: إلهي! ولم أقمتني هذا المقام؟ قال: لتواضعك يا موسى. فلما سمع لذاذة الكلام من ربه نادى: إلهي! أقريب فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟ قال: يا موسى! أنا جليس من ذكرني.
وعن ميسرة
في قوله: " وقربناه نجياً " قال: أدني حتى سمع صريف الأقلام في الألواح.
وعن الحسن " تخرج بيضاء من غير سوء " قال: أخرجها كأنها والله المصباح، فعلم موسى أ، قد لقي ربه. وقيل: أخرجها كأنها الثلج.
وقال ابن عباس: كانت عليه جبة صوف، كمها إلى مرفقه، ولم يكن لها أزرار، فأدخل يده في جيبه فإذا هي بيضاء تبرق مثل النور، فخروا على وجوههم.
قال الحسن: لما كلم الله موسى ضرب على قلبه بصفائح النور، ولولا ذاك أطاق كلام الله عز وجل.
وعن أبي الحويرث قال: إنما كلم الله موسى بما يطيق من كلامه، لو تكلم بكلامه لم يطقه شيء.
قال وهب: قرأت في بعض الكتب التي أنزل الله من السماء: إن الله قال لموسى: أتدري لأي شيء كلمتك؟ قال: لأي شيء؟ قال: لأني اطلعت في قلوب العباد فلم أر قلباً أشد حباً لي من قلبك.
وقال وهب: اطلع الله على قلوب الآدميين فلم يجد قلباً أشد تواضعاً له من قلب موسى، فخصه بالكلام لتواضعه.
قالوا: وأوحى الله تعالى إلى الجبال إني ملكم عليك عبداً من عبيدي، فتطاولت الجبال لتكلمه عليها، وتواضع الطور، قال: إن قدر شيء كان. قال: فكلمه عليه لتواضعه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما كلم الله عز وجل موسى عليه السلام كان يبصر حثيث النمل على الصفا في الليلة المظلمة من مسيرة عشرة فراسخ.
وعن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية قال: مكث موسى أربعين ليلة بعدما كلمه الله لا يراه أحد إلا مات من نور رب العالمين.
وفي رواية أخرى: لا ينظر أحد إلى وجهه إلا هرب من نور رب العالمين تبارك وتعالى.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كن لما لم ترج أرجى منك لما ترجو، فإن موسى بن عمران خرج يقتبس ناراً فرجع بالنبوة.
وعن أنسقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن موسى بن عمران ما كلم في الأرض، إنما كان يبعث إليه جبريل يجلس من الجنة، ويضع تحته كرسياً مكللاً بالجوهر، فيكلمه حيث يشاء.
ومما أنشد وهب بن ناجية المري: من الخفيف
كن لما لا ترجو من الأمر أرجى ... منك يوماً لما له أنت راجي
إن موسى مضى ليقبس ناراً ... من ضياء رآه والليل داجي
فأتى أهله وقد كلم الله ... هـ وناجاه وهو خير مناجي
وكذا الأمر ربما ضاق بالمر ... ء فتتلوه سرعة الإنفراج
روي أن موسى قام في بني إسرائيل بخطبة أحسن فيها فأعجب بها! فقال به بنو إسرائيل أفي الناس أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله غليه: إن في الناس من هو أعلم منك. قال: يا رب! ومن أعلم مني وقد آتيتني التوراة، فيها علم كل شيء. فأوحى الله إليه: أعلم منك عبد من عبادي، حملته الرسالة، ثم بعته إلى ملك جبار عنيد، فقطع يديه ورجليه، وجدع أنفه، فأعدت إليه ما قطع منه ثم أعدته إليه رسولاً يأتيه فولى وهو يقول: رضيت لنفسي ما رضيت لي، ولم يقل كما قلت أنت عند أول: إني أخاف أن يقتلون.
وعن عائشة أنها خرجت في بعض ما كانت تعتمر، فنزلت ببعض الأعراب، فسمعت رجلاً يقول: أي أخ كان أنفع لأخيه؟ قالوا: لا ندري. قال: أنا والله أدري، قالت عائشة: فلمته في
نفسي حين لا يستثني أنه يعلم أي أخ كان أنفع لأخيه حتى قال: موسى ين سأل لأخيه النبوة. فقلت: صدقت.
وعن ابن عباس في قوله:
" إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " قال: هذه مقالة موسى عليه السلام. وكان هارون بمصر فقال موسى: رب إن أخي هارون رجل ضعيف وأنا أقوى منه، وقد تخوفت وهو أضعف مني فيتخوف أيضاً أو أن يطغى فيقتلنا " قال: لا تخافا إنني معكما " شاهد لكما عند فرعون، أسمع قولكما وقوله، فأرى وأنظر إليكما " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم " وفي البنيان ونقل الحجارة، وقتل الأنبياء، واستخدام النساء وأشباه ذلك " قد جئناك بآية من ربك " يعني بعبرة، إن لم تصدقنا قلنا: " والسلام على من اتبع الهدى " يعني والسلام من ربنا على من اتبع دينه ومنهاجه " إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب " بأنا لسنا رسله " وتولى " عما جئناه، وقولا له فيما بين ذلك: يا فرعون، " هل لك إلى أن تزكى " يعني أن تصلح " وأهديك إلى ربك فتخشى " يعني فتخاف، وأره يا موسى آياتي الكبرى، وأخبر أني أنا الغفور الرحيم، وأني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى العقوبة والغضب، ولا يروعنك يا موسى ما ترى من عظمة فرعون، وشدة سلطانه، فإن ذلك بعيني، ولو شئت أن أسلط عليه أوهن خلقي وأضعفه لقتله، ولكن قد أمهلته منذ أربع مئة سنة لكتون لي الحجة عليه.
وعن ابن عباس في قوله: " اذهب أنت وأخوك بآياتي " يعني باليد والعصا. قال:
ففصل برسالة ربه، وشيعته الملائكة يصافحونه، ويدعون له بالنصر والظفر على عدوه.
قال وهب: أوحى الله عز وجل إلى هارون عليه السلام يبشره بنبوة موسى وأنه قادم عليه، وأنه قد جعله وزيراً ورسولاً مع موسى إلى فرعون وملئه، فإذا كان يوم الجمعة لغرة ذي الحجة، قبل طلوع الشمس، ينظر إلى شاطئ النيل، فإنها السعة التي تلتقي أنت وأخوك موسى. قال: فأقبل موسى في ذلك الوقت، وخرج هارون من عسكر بني إسرائيل، حتى التقي هو وموسى على شاطئ النيل، فلقيه فقال له موسى: انطلق بنا إلى فرعون، فانطلقا على وجوههما حتى انتهيا إلى فرعون، وهو في مدينة لها سبعة وسبعون مدينة، في كل مدينة سبعون ألف مقاتل، بين كل مدينتين الزراع والأنهار، تأتي عليهم الحقب، لا يموت منهم ميت وهو في مجلس له، يرقى فيه سبعة آلاف درجة، إذا رقي على دابته رفع لها كفلها حتى يحاذي منسجها، وإذا هبط رفع له منسجها حتى يحاذى بكفلها، لا يسعل ولا يبول ولا يمتخط ولا يتغوط إلا في كل عشرة أيام مرة. قد أنبت حول مدائنة الغياض، وألقيت فيها الأسد، وجعل ساستها يشلونها على من يشاء، ويكفونها عمن يشاء، وطرق فيما بينهما إلى أبواب مدائنه، من أخطأها ووقع في تلك الأسد مزقته، وقد جعل فرعون بني إسرائيل عساكر من وراء مدينة يعملون له، فذو القوة منهم قد قرحت عواتقهم من نقل الحجارة والطين، ومن دون ذلك قد قرحت أيديهم من العمل ومن دونهم يؤدي الخراج؛ فمن غابت له الشمس قبل أن يؤدي الذي عليه غلت يده إلى عنقه شهراً وعمل بشماله، والنساء ينسجن ثياب الكتان، فكانوا على ذلك حتى بعث الله موسى، فسبحان الله ما أعظم سلطانه وأعلى شأنه وعن ابن عباس قال: لما قال الله لموسى: " اذهب إلى فرعون إنه طغى " قال: يا رب أذهب إلى
فرعون وقد أعطيته من زينة الدينا وسلطانها فأذهب إليه في رساستي هذه؟ قال: نعم يا موسى إني معك " أسمع وأرى " فقال له موسى: فنعم يا رب. فلما قال له هامان: أما وجد ربك رسولاً غيرك في جودياك هذه، ذكر موسى قول ربه عز وجل إني معك " أسمع وأرى " قال له موسى: نعم إني رسول الله إليكم على رغم أنفك. فقال له هامان: أيها الساحر لا يغرنك طاعة الأبواب لك، وما تبصبصت لك الأسد إنما كان ذلك من كيد سحرك، سوف تعلم أنه ليس لك إله غير فرعون.
قال وهب:
أوحى الله إلى موسى: يا موسى؟ لو شئت أن أزينكما بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليه أن قدرته تعجز عما أوتيتما فعلت، ولكن أرغب بكما عن ذلك، وأزويه عنكما، وهكذا أفعل بأوليائي، إني لأذودهم عن نعيمها ورجائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مواقع الهلكة، وإني لأحميهم عيشها وسلوتها كما يجنب الراعي الشفيق أبله مبارك العرة، وما ذاك لهوانهم علي، ولكنهم استكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً لم يكلمه الطمع، ولا يطعنه الهوى؛ واعلم أنه لن يتزين لي العباد بزينة أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا، إنما هي زينة الأبرار عندي، وآنق ما يزين به العباد في عيني منها، لباس يعرفون به السكينة والخشوع، سيماهم النحول والسجود، أولئك أوليائي حقاً، فإذا
لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل لهم قلبك ولسانك، واعلم أن من أهان لي ولياً وأخافه فقد بادرني بالمحاربة وبادأني، وعرضني بنفسه، ودعاني إليها، وأنا أسرع إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني فيهم أنه يقوم لي؟ أم يظن الذي يعاديني فيهم أنه يعجزني، أم يظن الذي يبادرني إليهم أنه يسبقني أو يفوتني؟ كيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة؟ ولاأكل نصرتهم إلى غيري؛ يا موسى أنا إلهك الديان، لا تستذل الفقير ولا تغبط الغني بشيء، وكن عند ذكري خاشعاً، وعند تلاوة وحيي طامعاً، أسمعني لذاذة التوارة بصوت حزين.
وعن الضحاك قال: دعا موسى حين وجه إلى فرعون، ودعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين، ودعا كل مكروب: كنت وتكون، كنت حياً، لا تموت، تنام العيون وتنكدر النجوم، وأنت حي قيوم، لا تأخذك سنة ولا نوم.
وعن وهب: أن موسى لما دخل على فرعون كان أمامه سلطان الله عز وجل، وعن يمينه ملائكة الله، وعن يساره ملائكة الله تبارك وتعالى، فلما رأى ذلك سرير فرعون اهتز حتى رجف عليه فرعون وتغير لونه، وجعل يقطر منه البول، ولم يستطع النظر إلى موسى، وذلك من قدرة الله أن اهتز سريره، والله يفعل ما يشاء.
وعنه قال: إن موسى حين " قال رب المشرق والمغرب وما بينهما " عباد له " إن كنتم تعقلون " قال فرعون: يا موسى؟ ما عقلت هذا وما عقل أحد أن له إلهاً غيري ف " لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين " يقول: لأجلدنك في السجن أبداً. فقال له موسى: " أولو جئتك بشيء مبين " يعني باني قد جئتك بشيء مبين، يعني برهاناً بيناً يحول بينك وبين ما تريد، وتعلم صدقي وكذبك، وأينا على الحق، قال له فرعون: " فأت به إن كنت من الصادقين " قال: فهز موسى عصاه ثم
ألقاها " فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا بيضاء للناظرين " لها شعاع كشعاع الشمس، قال له فرعون: هذه يدك! فلما قالها فرعون أدخلها موسى جيبه، ثم أخرجها الثانية لها نور تكل منه الأبصار، لها نور ساطع في السماء قد أضاءت ما حولها، فدخل نورها في البيوت، وتنور منها المدينة، ويرى من الكوة، ومن وراء الحجب، فلم يستطع فرعون النظر إليها، ثم ردها موسى في جيبه ثم أخرجها فإذا هي على لونها الأول.
وعن ابن عباس: كانت السحرة بضعاً وثلاثين ألفاً.
وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفاً.
وقال الكلبي: كانوا اثنين وسبعين ساحراً، اثنان من آل فرعون وسبعون من بني إسرائيل.
قال وهب بن منبه:
إن موسى لما ألقى عصاه فصارت العصا ثعباناً أعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، أسود مدلهم، يدب على قوائم غلاظ، فصار في مثل بدن البختي العظيم، إلا أنه أطول منه بدناً وعنقاً ومشفراً، وإن له ذنباً يقوم عليه، يشرف على حيطان المدينة رأسه وعنقه، ثم يقع على أرض، فلا يلوي على شيء إلا حطمه، ويحش بقوائمه الصخر والرخام والحيطان والبيوت حتى يرمي بعضها على بعض، فما مر بشيء إلا حطمه بكلكله، يتنفس في البيوت فيشتعل كل شيء فيه ناراً، وله عينان تتوقدان ناراً، ومنخران يخرج منهما الدخان، وقد صار له المحجن عرفاً علو ظهره، وشعره أسود
غلاظ مثل الرماح الطوال، لا يصيب منه شيء إلا قطعه، وقد جعلت الشعبتان له فم مثل القليب الواسع، يخرج منه رياح السموم، لا يصيب أحداً منهم نفحة إلا صار أسود مثل الليل الدامس، في فيه أضراس وأنياب، وفي أعلى شدقه اثنتان وسبعون ضرساً، وفي أسفله مثل ذلك، له صرير يصم من سمعه، ما يسمع الرجل كلام جليسه إذا صرت أضراسه بعضها على بعض، فإنه ليهدر مثل البعير، يتزبد شدقاه زبداً أبيض، يتطاير لعابه فلا تقع منه قطرة على أحد إلا اشتعل برصاً، فأدخل الثعبان أحد شدقيه تحت سرير فرعون، والآخر فوقه، وفرعون على سريره فسلح في ثيابه، فلما عاين الناس ذلك من أمر الثعبان، وكان قد اجتمع أهل المدينة بأسرها، فلما انهزموا ولوا ذاهبين، تزاحموا في الأبواب وتضاعفوا وضاق عليهم، فوطئ بعضهم بعضاً، فمات يومئذ خمسة وعشرون ألفاً، وقام فرعون فوقع عن سريره، وكان الله قد أملاه حتى صار آية، كان يمكث أربعين يوماً لا يخرج من بطنه شيء، ولا يحدث إلا في كل أربعين يوماً مرة، فلما كان يومئذ أحدث في ثيابه، حتى علم بذلك جلساؤه، وكان يأكل ويشرب جاهداً، لا يبصق ولا يتمخط ولا يتنخع ولايسعل، ولا تذرف عيناه، ولا يمرض ولا يصدع ولا يسقم ولا يهرم ولا يفتقر، شاب السن، والله عز وجل يملي له أربع مئة سنة، فلما كان يوم الثعبان، وعاين ما عاين أحدث وامتخط وبصق، وأخذه الصداع والمرض، واختلف بطنه أربعين مرة، فلم يزل بعد ذلك يختلف حتى مات؛ فلما عاين من أمر موسى والثعبان خاف أن يدخل قومه من ذلك الرعب مثل الذي دخله فيؤمنوا به.
قال الحسن: لما عاين فرعون من أمر موسى والثعبان قال له فرعون: يا موسى! ارجع يومك هذا وكف ثعبانك هذا - يقول سراً دون أصحابه - وقال لأصحابه: " إن هذا لساحر عليم " فدعا موسى فقال له: يا موسى! ألا رفقت بالأمر، قتلت خمسى وعشرين ألفاً أبهذا أمرك ربك الذي بعثك؟ قال: يا فرعون! أنت فعلت هذا. يا فرعون! أسألك واحدة وأعطيتك أربعاً. قال: وما الذي تسألني؟ قال: أسألك أن تعبد الله ولا تشرك به
شيئاً، وأعطيتك الشباب لا تهرم، والملك لا ينازعك فيه أحد، والصحة لا تسقم، والجنة خالداً. قال فرعون، ورفع وخضع، حتى استأمر آسية بنت مزاحم فدخل عليها فقال: يا آسية! ألا ترين إلى موسى إلى ما يدعوني وما أعطاني؟ قالت: وما هو؟ قال: يدعوني إلى أن أعبد الله ولا أشرك به شيئاً، وأن لي الشباب فلا أهرم، والملك لا ينازعني فيه أحد، والصحة لا أسقم، والجنة خالداً. قالت يا فرعون! وهل رأيت أحداً يصيب هذا فيدعه؟ فخرج فدعا هامان لا يعرف له نسب، وكان إبليس يتارءى لفرعون في صورة الإنس يغويه، فقال له: أنا أذرك شاباً، قال فخضبه بالسواد، وهو أول من خضب بالسواد، فدخل على آسية فقال: يا آسية! ألا ترين، صرت شاباً. فقال: من فعل هذا بك؟ قال: هامان. قالت: ذاك إن لم ينصل.
قال ابن عباس:
لما قال فرعون للملأ من قومه: " إن هذا لساحر عليم " قالوا له: ابعث إلي السحرة. فقال فرعون لموسى: يا موسى! اجعل " بيننا وبينك موعداً لا نخلفه " فتجتمع أنت وهارون ويجتمع السحرة. فقال موسى: " وموعدكم يوم الزينة " ووافق ذلك يوم السبت أول يوم من السنة، وهو يوم النيروز " وأن يحشر الناس ضحى " يعني وأن يحشرهم ويجمعهم ضحى - وقيل كان يوم عاشوراء - فاجتمعت السحرة " لميقات يوم معلوم "، وقيل: " هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين " فاجتمع خمسة عشر ألف ساحر، ليس فيهم ساحر إلا وهو يحسن من السحر مالا يحسن صاحبه، وكان كبراؤهم ألف ساحر، وهم الذين عملوا بالعصي والحبال، فقالوا
لفرعون: أيها الملك! ما هذا الذي يعمل به هذا الساحر فنعمل مثله؟ قال: يعمل بالعصا. قالوا: نحن نعمل. قال: اعرضوا علي سحركم، فقام الذين يعلمون بالعصي والحبال فألقوها بين يدي فرعون، وسحروا أعين الناس، فإذا حبالهم عصيهم صارت حيات وأفاعي، ففرح بذلك فرعون واستبشر، وطمع أن يظفر بموسى، وظن عصيهم وحباهلم صارت حيات، فقال لهم اجهدوا على أن تغلبوه فإنه ساحر لم ير مثله. فقالوا: " إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين "؟ يعني إن غلبنا إن لنا لمنزلة وفضيلة؟ قال فرعون: " نعم وإنكم إذاً لمن المقربين " في المجالس والدرجة عندي. فقالوا: أيها الملك واعد الرجل، فقال: قد واعدته يوم الزينة، وهو عيدكم الأكبر، ووافق ذلك يوم السبت، فخرج الناس لذلك اليوم. فقال فرعون أجمعوا " كيدكم ثم أءتوا صفاً " كل ألف ساحر صف، فكانوا خمسة وعشرين صفاً، وقيل: خمسة عشر صفاً، مع كل ساحر عمل ليس مع صاحبه، وخرج موسى وهارون، وبيد موسى عصاه في جودياءة وعباءة، حتى انتهوا إلى الصفوف، وخرج فرعون في عظماء قومه، فجلس على سريره، عليه خيمة ديباج ميل في ميل، ومعه هامان وزيره وقارون بين يديه، قد استكف له الناس، واجتمعا في صعيد واحد، وخرج الناس يقول بعضهم لبعض: ننظر من الغالب فنكون معه. فوقف موسى وهارون قبل السحرة، ف " قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً " يعني لا تقولوا على الله إلا الحق " فيسحتكم " يعني فيبعثكم " بعذاب، وقد خاب " يعني قد خسر " من افترى " قال " فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى " فصارت السحرة يناجي كل واحد صاحبه
سراً يقول: ما هذا بقول ساحر، ولكن هذا كلام من الرب الأعلى فعرفوا الحق ثم نظروا إلى فرعون وسلطانه وبهائه، ونظروا إلى موسى في كشائه وعصاه، فنكسوا على رؤوسهم و" قالوا إن هذان لساحران " ألآية. ثم قال كبيرهم: " يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى " فهم موسى أن يلقي، فأمسك الله يده، وألقى على لسانه أن ابدؤوا فألقوا. فألقى كل رجل منهم ما كان في يده من حبل أو عصاً. قيل: إنهم أخرجوا ثلاثمائة وستين وسقاً ما بين عصا وحبل، فلما ألقوا قالوا " بعزة فرعون " يعني بإلهية فرعون " إنا لنحن الغالبون " يعني القاهرون " فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم " ملؤوا الدنيا في أعينهم حيات وأفاعي، فكان أول ما خطفوا بسحرهم بصر موسى وهارون، ثم فرعون والناس، وألقى كل رجل منهم ما كان في يده، فأقبلت الحيات والأفاعي فامتلأ الوادي يركب بعضها بعضاً وهرب الناس منهم " فأوجس " موسى " في نفسه خيفة " فقال: لقد كانت هذه عصاً في أيديهم وإنها صارت حيات، فظن موسى وخاف أن تكون صارت حيات كما صارت عصاه ثعباناً، فأوحى الله إليه أني بمكان أسمع وأرى، وجاء جبريل حتى وقف عن يمينه، بين موسى وهارون، قال: " لا تخف إنك أنت الأعلى، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " فذهب عن موسى ما كان يجد.
وعن ابن عباس قال: مكث موسى في آل فرعون بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات الجراد والقمل والضفادع فأبوا.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطوفان: الموت.
وقال ابن عباس: قوله: " تسع آيات " قال: اليد والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين، ونقص من الثمرات.
وقال لغيره: بدل " ونقص من الثمرات " والبحر.
قال ابن شهاب:
دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال لي: يا بن شهاب! أخبرني عن قول الله عز وجل " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " ما هن؟ قال: قلت: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ويده، والبحر، والطمسة، وعصاه. فقال عمر بن عبد العزيز: هكذا يكون العلم يابن شهاب. ثم قال: يا غلام! ائتني بالخريطة. فأتي بخريطة مختومة، ففكها ثم نثر ما فيها، فإذا فيها دراهم ودنانير وتمر وجوز وعدس وفول، فقال: كل يابن شهاب. فأهويت إليه، فإذا هو حجارة! فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا مما أصاب عبد العزيز بن مروان في مصر، إذ كان عليها والياً، وهو مما طمس الله عليه من أموالهم.
وحدث من رأى بمصر النخلة مصروعة، وإنها لحجر. قال: ولقد رأيت ناساً كثيراً قياماً وقعوداً في أعمالهم، لو رأيتهم ما شككت فيهم قبل أن تدنو منهم أنهم أناس، وإنهم لحجارة. ولقد رأيت الرجل من رقيقهم، وإنه لحارث على ثورين وإنه وثوريه لحجارة.
وعن محمد بن كعب " قال قد: أجيبت دعوتكما " قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمن.
وعن مجاهد قال: الطوفان: طاف عليهم الموت.
وقال ابن عباس: الطوفان الغرق.
قال وهب بن منبه: أرسل الله عليهم الطوفان وهو الماء، فمطرت عليهم السماء ثمانية أيام ولياليهن، لا يرون فيها شمساً ولا قمراً، وفاض الماء حتى ارتفع، وامتلأت الأنهار والآبار والبيوت، فخافوا الغرق، فصرخ أهل مصر إلى فرعون بصيحة واحدة، إنا نخاف الغرق، وإنا قد هلكنا جوعاً، فأرسل فرعون إلى موسى يدعوه إليه، فأتاه، فقال له فرعون: أيها الساحر! " ادع لنا ربك بما عهد عندك " يعني عهد إليك بزعمك أنك رسوله إننا لمهتدون إنا لمبايعوك " لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل " قال موسى: لست أدعو لكم أبداً ما سميتموني ساحراً. فعند ذلك " قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك " فدعا موسى ربه، فكشف الله عنهم الطوفان، فأقلعت السماء، وابتلعت الأرض، فنبتت زروعهم وكلؤهم وخصبوا خصباً لم يروا مثله قط في أرض مصر، فلما أبصروا الخصب نكثوا العهد وكذبوا موسى وقالوا: لقد كان ماكنا نحذر من هذا الماء رحمة وخصباً، جادت زروعنا وأخصبت بلادنا، فنقضوا العهد وقالوا: يا موسى لن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل، فإنا كنا جزعنا من شيء كان خيراً لنا. فأوحى الله إلى موسى أن صل ركعتين، ثم أشر بعصاك نحو المشرق والمغرب. ففعل موسى، فأرسل الله عليهم الجراد من الأفقين أمثال الغمام المظلم الأسود، حتى امتلت أرضهم، وحال الجراد بينهم وبين السماء، حتى صارت الشمس كأنها في سحاب، فلحس الجراد ما أنبت الله من الزرع والكلأ، حتى لم يذر منه شيئاً، ثم توجهت نحو النخل والشجر، فجلعت تستقبل النخلة العظيمة فتأكلها، حتى تحفرها عن عروقها، ويستقبل بعضها الشجرة العظيمة المثمرة، فيقع بعضها في أعلاها وبعضها في أسفلها. فيأكلها حتى ما يرى فيها عود ولا ورقة، ويسمع لها قضم ثم تبتلعه كما يبتلع الجمل اللقمة،
فما ينكشف الجراد عن شيء وقع عليه إلا صار ذلك المكان كأنما حرث بالبقر.
قال ابن عباس:
كان الجراد يأكل الأبواب والخشب، ومسامير الأبواب، ويقع في دورهم ومساكنهم، فلا يستطيع أحد منهم الخروج من بيته إلا أكله الجراد وثيابهم وشعورهم، وثبت الجراد عليهم ثمانية أيام ولياليها، لا يرون الأرض حتى ركب الجراد بعضه بعضاً ذراعاً من الأرض، فصرخ أهل مصر إلى فرعون فقالوا: يا سيدنا! إن هذا لا تقوم له حيلتنا، وكل مصيبة أهون علينا من الجوع، وإنه متى أصابنا الجوع ظهر علينا عدونا، وصار بعضنا خدماً لبعض، وإنا لم نر ساحراً قط مثله! إن سحره لم يزل يعظم حتى بلغ ما ترى، فادعه وعجل قبل الهلاك.
فأرسل فرعون إلى موسى، فأتاه فقال له: " يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون " نحلف لك يا موسى " لئن كشفت عنا " هذا " لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل " فدعا موسى ربه فأرسل الله ريحاً شديدة فاحتملت الجراد فألقته في البحر، وانكشفت لهم الأرض، فلما نظر أهل مصر إلى الأرض فإذا هم قد بقي من زروعهم وكلئهم ما يكفيهم عامهم ذلك، وذلك في أرض لم تصل إليه الجراد، فأتوا موسى ونكثوا العهد وقالوا: بقي لنا ما نكتفي به سنتنا هذه، فلن نؤمن لك ولن نرسل معك بني إسرائيل. فلما علم الله ذلك من كفرهم أمر الله موسى أن امش إلى كثيب في ناحية كذا وكذا من أرض مصر، فاضربه بعصاك ثم انكته من نواحيه. فانطلق موسى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاه، فخرج عليهم مثل القمل - وقال بعضهم: البراغيث - والقمل هو هذا الدبى من الجراد، حتى خرج شيء لا يحصي عدده إلا الله، حتى امتلأت البيوت والأطعمة، ومنعتهم من النوم والقرار، فكان الرجل منهم لا يقر ليله ولا نهاره، ويصيح كهيئة المجنون قد اعترتهم الحكة، وأقبلت على بقية الزرع فأكلته حتى أخرجته من عروقه، فصرخ أهل مصر إلى فرعون: إنا قد هلكنا جوعاً إن لم ترسل إلى هذا الساحر يدعو لنا ربه أن يكشف عنا هذا العذاب. فأرسل فرعون إلى موسى، فأتاه فقال له: " يا أيها الساحر ادع لنا ربك " يكشف عنا، وإن فعل آمنا بك وأرسلنا معك بني إسرائيل. قال موسى: قد كنت حلفت لي واعطيتني عهداً إن كشف الله عنكم لتؤمنن بي، ولترسلن معي بني إسرائيل. قال: قد كان ذلك فيما مضى، ولكن المرة ادع لنا. قال موسى: لا أدعو لكم ما سميتموني ساحراً. فقال: يا موسى! ادع لنا ربك. فدعا موسى ربه، فأمات القمل، فلم يبق منه بأرض مصر شيء، فلما أن علم القوم أنه لم يبق لهم ما يعيشون به أتوا فرعون، فجعلوا يتوامرون ماذا يصنعون بموسى؟ قال: فاتفق أمرهم على أنه ساحر، وإنما غلبهم بسحره، فدعا فرعون موسى فقال: يا موسى! إن لم نؤمن لك هل يستطيع ربك أن يفعل بنا شراً مما فعل، فلن نؤمن لك ولن نرسل معك بني إسرائيل. فلما علم الله نكثهم أوحى إلى موسى أن يأتي البحر ثم يشير بعصاه، ففعل موسى فأرسل الله عليهم الضفادع، فتداعى بعضها بعضاً حتى أسمع أدناها أقصاها وما فوق الماء منها وما تحته، فخرج كل ضفدع خلقه الله في البحر، فلم يشعر الناس إلا والأرض مملوءة ضفادع، ثم توجهت نحو المدينة فدبت في أرضهم وبيوتهم، ومجالسهم وأجاجيرهم وفرشهم وأقبيتهم، وامتلأت الأطعمة والآنية، وكانوا لا يمشون ولا يقعدون إلا على الضفادع، وكان الرجل منهم لا يكشف عن ثوب ولا عن قدر ولا عن آنية إلا وجد فيه ضفادع ميتة، حتى إن الرجل كان ينام على فراشه مع أهله، فإذا انتبه من نومه وجد عليه من الضفادع ما لا يحصى، وقد ركب بعضها بعضاً، وجعل أهل المدينة لا يستطيعون أن، يأكلوا طعاماً من بين الضفادع.
قال مجاهد: كانت الضفادع تسكن الحجرة، فلما أرسلها الله عذاباً على فرعون وقومه كانت تجيء حتى تقذف أنفسها في التنور المسجور والقدور، وهي تغلي غضباً لله، فشكر الله لها فأسكنها الماء، وجعل نقيقها النشيج.
قال وهب:
فلما آذى آل فرعون القذر والنتن، وأجهدهم البلاء الذي أصابهم من الضفادع صرخوا إلى فرعون، فأرسل إلى موسى فأتاه فقال: " يا أيها الساحر ادع لنا ربك " يدفع عنا هذا الرجز فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل. قال موسى: لولا الحجة والعذر الذي وضعه الله بيني وبينك ما فعلت. قال: فدعا ربه فماتت الضفادع، فجعلوا يكنسونها من بيوتهم ودورهم وأقبيتهم، ثم ينتقلونها إلى باب المدينة، حتى جعلت ركاماً، ثم أرسل الله عليهم مطراً وابلاً، فسال بالضفادع فأكفاها في البحر، فلما كشف الله عنهم الضفادع قالوا: ما فعل هذا إلا سحره، فلو صبرنا كانت تموت الضفادع، فنكثوا وقالوا: لن نؤمن لك ولن نرسل معك بني إسرائيل. فلما نكثوا أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك النيل - وهو النهر الذي يشرب به أهل مصر - ففعل موسى فتحول النيل دماً عبيطاً، يرده بنو إسرائيل فيشربون ماء عذباً صافياً، ويرده قوم فرعون فتختضب بها أيديهم دماً، فجرت أنهارهم دماً وصارت ركاياهم دماً، فلم يقدر أحد منهم على ماء يشربه، وكانوا لا يستقون من بئر ولا نهر، ولا يغرفون من إناء إلا صار دماً، حتى قيل إن المرأة من آل فرعون كانت تخرج إلى المرأة من بني إسرائيل حين أجهدها العطش فتقول لها: اسقيني من مائك، فإني قد هلكت عطشاً. فترحمها فتغرف لها من جرتها أو قربتها فيعود الماء بإذن الله في إنائها دماً، وفي إناء الإسرائيلية ماء صافياً، حتى إن كانت المرأة من آل فرعون لتقول للمرأة من بني إسرائيل: اجعلي الماء في فيك ثم مجيه في في، فإذا مجته في فيها صار دماً. فمكثوا بذلك سبعة أيام ولياليهن، لا يقدرون على ماء حتى بلغهم الجهد.
وقيل: إن آبارهم كانت قبل الدم دوداً أحمر، فاتخذ لها فرعون أكوازاً على فيها كهيئة الغرابيل يقال له البرقال، فعند ذلك صارت أنهارهم دماً، فصرخوا إلى فرعون: إنا قد هلكنا عطشاً، وإنه لا صبر لنا، وقد هلكت مواشينا وأنعامنا عطشاً. فأرسل فرعون إلى موسى فقال: بحق ربك الذي أرسلك إلينا لما دعوته أن يكشف عنا إننا لمهتدون.
وهي مدتك هذه نعطيك عهداً أن لا ننكث، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل. قال موسى: يا فرعون! أليس تزعم أني ساحر وأني أصنع هذا بسحري؟ فكيف تأمرني أن أدعو ربي؟ قال: يا موسى! لا تؤاخذنا بما قد مضى، ولكن ادع لنا ربك مرتك هذه. فدعا موسى ربه، فكشف الله الرجز وشربوا من بعد الدم ماء عذباً صافياً، وما كان دعوة موسى في كل مرة إلا للحجة والعذر، والقدر الذي قدره الله، ورجاء أن يرجعوا ويوفوا بعهده، ويؤمنوا ويرسلوا معه بني إسرائيل، فلم يفوا، وعادوا إلى أمرهم، قال الله عز وجل: فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ".
قالوا: وكان الطوفان ثمانية أيام حتى خافوا الغرق، وكان بين الطوفان وبين الجراد أربعون يوماً، وكان الجراد ثمانية أيام، وكان بين الجراد وبين القمل أربعون يوماً، وكان القمل ثمانية أيام، وكان بين القمل والضفادع أربعون يوماً، وكان الضفادع ثمانية أيام، وكان بين الضفادع والدم أربعون يوماً، وكان الدم ثمانية أيام. فقال الله عز وجل لموسى: " أسر بعبادي " ليلاً " إنكم متبعون ".
وعن ابن عباس أن الله أمهل لفرعون بين القولين حين قال " أنا ربكم الأعلى "، وقال: " ما علمت لكم من إله غيري " فأمهله أربعين سنة فيما بين القولين، فلذلك حكم ربنا تبارك وتقدس، ثم أخذه بنكال الآخرة والأولى؛ فأما الأولى فقال: " ما علمت لكم من إله غيري "، والآخرة حين حشر الناس في أمر فرعون فقال: " أنا ربكم الأعلى ".
وعن محمد بن كعب قال:
لقد ذكر لي أن فرعون خرج في طلب موسى على ستمائة ألف من الخيل دهم، كلها
زرق حصان، سوى ما كان في جنده وسائر الخيل، فخرجوا في طلب موسى كما قال الله عز وجل: " فأتبعوهم مشرقين " عند طلوع الشمس ولما انتهى موسى إلى بحر القلزم، لم يكن له عنه مصرف، واطلع عليهم فرعون في جنوده من خلفهم والبحر أمامهم، فظن بنو إسرائيل الظنون، وجعلوا يلومون موسى بقول الله عز وجل: " فلما تراءى الجمعان " يعني الفريقان جند فرعون وأصحاب موسى " قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين " يقول: وعدني وسينجز وعدي ولا خلف لموعد الله. فقال بنو إسرائيل لموسى: لم يدعنا بأرض مصر، أرض طيبة نعيش فيها، ونخدم فرعون وقومه، ولم نر هذا البلاء، هذا البحر أمامنا، وفرعون وجنوده من خلفنا، إن ظفر بنا قتلنا، وإن اقتحمنا في البحر غرقنا، لقد لقينا في سبيلك بلاء وشدة.
ولما رأى موسى قومه وما يتضرعون ويستغفرون من ذنوبهم، ويقولون: يا موسى! سل لنا ربك يضرب لنا " طريقاً في البحر يبساَ "، فقد وعدنا بذلك بمصر، فاتبعناك وصدقناك وهذا فرعون وجنوده قد دنا منك. فانطلق موسى نحو البحر فقال: إن الله أمرني أن أسلك فيك طريقاً. وضرب بعصاه البحر من قبل أن يوحى إليه، فأنطلق الله البحر فقال له: يا موسى! أنا أعظم منك سلطاناً، وأشد منك قوة، وأنا أول منك خلقاً، وعلي كان عرش ربنا، وأنا لا يدرك قعري، ولا أترك أحداً يمر بي إلا بإذن ربي، وأنا عبد مأمور لم يوح الله إلي قبل شيئاً. ودنا فرعون وجنوده. فجاء موسى إلى
قومه راجعاً، فأيس القوم، فأتاه جبريل بن يوحائيل المؤمن فقال له: يا موسى! يا نبي الله! أليس وعدك الله البحر؟ قال: نعم. قال: فلن يخلفك، فناج ربك. فبينا هو كذلك إذ جاءه خازن البحر فسلم عليه، فقال له: يا موسى! أتعرفني؟ قال: لا. قال: أنا خازن البحر. قال: فما أوحى الله إليك في أمر فرعون شيئاً؟ قال: يا موسى! والله إني لخامس خمسة من خزان الله، والله ما أدري ما الله صانع بعد بفرعون، ولقد خفي علي أمره، فإن الله وعدك وهو منجز ذلك، فتضرع إلى ربك. فتضرع موسى إلى الله وقال: يا رب! قد ترى ما يقول بنو إسرائيل وما قد كربهم، وما نزل بهم من سوء الظن، فأسألك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف، فرج عنا هذا الكرب، ونجنا من فرعون، وأبدل لنا مكان الخوف أمناً، كي نسبحك كثيراً ونعبدك حق عبادتك.
واختلط خيل فرعون بخيل موسى، وخرج فرعون معلماً على فرس، له حصان وكانت لحيته تغطي قربوس سرجه، ولمته من خلفه تغطي مؤخر سرجه، وعليه درع من ذهب، قد علاه بالأرجوان، فلما رأى ذلك الله عز وجل مما دخل في قلب موسى وقلوب بني إسرائيل أوحى الله إلى موسى أني قد أدبت البحر أن يطيعك، فاضرب " بعصاك البحر " فضرب موسى البحر " فانفلق " اثنا عشر طريقاً، ودعا موسى أصحابه فقال لهم: هلموا فثم ثم. قال: اللهم أجعل هذا البحر غضباً ورجزاً ونقمة على فرعون وقومه، ونجنا جميعاً، فإنا جندك ونحن أهل الذنوب والخطايا. قال: فصار البحر كما قال الله اثني عشر طريقاً يابساً وهو قوله: " واترك البحر رهواً " يعني سهلاً دمثاً، لا تخاف دركاً من فرعون وجنوده، ولا تخشى البحر يغرقك ومن معك.
قال: فلما كان البحر " كالطود العظيم " كل فرقة منه يعني كالجبل العظيم.
وتفرق الماء يميناً وشمالاً، وبدت الأرض يابساً، فقالت بنو إسرائيل: إنا نخاف أن يغرق بعضنا ولا يراه إخوانه، غير أنا نحب أن يكون البحر أبواباً، ليرى بعضنا بعضا، فصار لهم أبواباً ينظر بعضهم إلى بعض. وكان طول الطريق فرسخين، وعرضه فرسخاً، فأتبعه فرعون بجنوده.
ولما جاز بنو إسرائيل البحر ولم يبق منهم أحد، بقي البحر على حاله، وأقبل فرعون عدو الله وهو على حصان من دهم الخيل، ووقف على شفير البحر، والبحر رهواً ساكناً على حاله، فأراد موسى أن يضرب بعصاه البحر فتركه كما كان، فأوحى الله إليه أن أترك " البحر رهواً إنهم جند مغرقون " فتركه على حاله خامداً، فلما أبصر فرعون البحر خامداً اثني عشر طريقاً يقول لجنوده: ألا ترون البحر كيف أطاعني، وإنما فعل هذا لتعظيمي وما ينشق إلا فرقاً مني لأنه علم أني سأتبع بني إسرائيل فأقتلهم، ولم يعلم عدو الله أن الله مكر به من حيث لا يشعر، فانطلق ليقتحم في البحر، وجالت الخيل فعاينت العذاب، فنفر الحصان الذي هو عليه، وجالت الخيل فأقحموها، فعاينت العذاب فلم تقتحم، وهابت أن تدخل البحر، فعرض له جبريل على فرس له أنثى ودق، فقربها من حصان فرعون، فشمها الفحل فتقدم جبريل أمام الحصان، فاتبعها الحصان وعليه فرعون، فلما أبصر جند فرعون أن فرعون دخل نادت أصحاب الخيل: يا صاحب الرمكة! على رسلك لتتبعك الخيل. فوقف جبريل حتى وافت الخيل ودخلوا البحر، وما يظن فرعون إلا أن جبريل فارس من أصحابه، فجعلوا يقولون له: أسرع الآن فقد دخلت الخيل، أسرع يسرع الخيل في إثرك. فجعل جبريل يخب إخباباً وهم في إثره لا يدركونه، حتى توسط بهم في أعمق مكان في البحر، وبعث الله عز وجل ميكائيل على فرس آخر من خلفهم يسوقهم ويقول لهم: التحقوا بصاحبكم. حتى
إذا فصل جبريل من البحر، ليس أمامه أحد من آل فرعون، وقف ميكائيل من الجانب الآخر ليس خلفه أحد، قالوا: وكان مع موسى ستمئة ألف، وأتبعهم فرعون على ألف ألف حصان سوى الإناث؛ وقيل: ألف ألف ومئتي ألف حصان؛ وقيل: إن مقاتلة بني إسرائيل يومئذ ستمئة ألف، وإن مقدمة فرعون كانوا ستمئة ألف، على خيل دهم سود غر محجلين، ليس فيها شية مخالفة لذلك، إلا أدهم أغر محجل؛ قال: فلما تتاموافيه أطبقت عليهم، فلذلك قال: " وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ".
وعن أبي السبيل قال: لما انتهى موسى إلى البحر قال له: هن أبا خالد. فأخذه أفكل. يعني رعدة.
وعن ابن عباس قال: قال موسى: يا رب! أمهلت فرعون أربع مئة سنة وهو يقول: " أنا ربكم الأعلى " ويكذب بآياتك ويجحد رسلك. فأوحى الله إليه: إنه كان حسن الخلق، سهل الحجاب، فأحببت أن أكافئه.
قال سعيد بن جبير: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل " وفتناك فتوناً " ما هو الفتون: استأنف النهار يا بن جبير! فإن له حديثاً طويلاً. فلما أصبحت غدوت عليه فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم من أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل لينظرون ذلك ما يشكون فيه، وقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما ملك قالوا: ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم. قال فرعون: كيف ترون؟ فذكر حديث قتل الأبناء، وما جرى على موسى، وذلك من الفتون.
ثم ذكر رميه في اليم وأن الماء انتهى به إلى فرضة مستقى جواري امرأة فرعون
وأنهن أخذنه وهممن بفتح التابوت، فقال بعضهن: إن في هذا مالاً، وإن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه. فحملنه فيه. فحملنه إليها فلما فتحته رأت غلاماً، فألقى الله عليها منه محبة، فسمع الذباحون بأمره، فأقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون.
ثم ذكر أنها استوهبته من فرعون، وطلبت له ظئراً لترضعه، فلم يأخذ ثدي أحد منهن، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، وأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئراً، " فبصرت به " أخته " عن جنب " والجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد، وهو إلى جنبه لا يشعر به، فقالت من الفرح: أنا " أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون " فأخذوها وقالوا: ما يدريك ما نصحهم له؟ هل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك. وذلك من الفتون يا بن جبير.
ثم ذكر أن أمه لما وضعته في حجرها أخذ ثديها ومصه حتى امتلأ جنباه رياً، وبشرت امرأة فرعون بذلك، وأتيت بها. فقالت لها امرأة فرعون امكثي عندي ترضعين ابني هذا. فقالت أم موسى: لا أستطيع أن أضيع بيني وولدي، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فيكون معي لا آلوه خيراً فعلت. وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه فتعاسرت على امراة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده. فرجعت إلى بيتها بابنها في يومها، فأنبته الله نباتاً حسناً، وحفظه لما قد مضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية مجتمعين، يمتنعون به من السخرة والظم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أريني ابني. فوعدتها يوماً تريها. فقالت امرأة فرعون لخزانها وقها رمتها: لا يبقي أحد منكم اليوم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أميناً يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم. فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين
خرج من بيت أمه إلى أن دخل بين امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به ونحلت أمه وقالت: لآتين به فرعون فلينحلنه، وليكرمنه، فدخلت به عليه، فجعلته في حجره، فتناول لحية فرعون فمدها إلى الأرض، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه؟ إنه يذلك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذابحين ليذبحوه. وذلك من الفتون يا بن جبير.
ثم ذكر حديث الجمرتين واللؤلؤتين، وأن موسى تناول الجمرتين.
ثم ذكر حديث الرجلين اللذين يقتتلان والوكز، وإرسال فرعون الذباحين لتقل موسى " وجاء رجل من أقصى المدينة " من شيعة موسى فاخبره الخبر. وذلك من الفتون.
وذكر باقية الحديث إلى أن اجتمع السحرة وغلبوا " وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين ". قال: وامرأة فرعون بارزة متبذلة، تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أن ابتذالها شفقة على فرعون وأشياعه.
ثم ذكر حديث الآيات، ودخول موسى البحر وأصحابه، والتقاء البحر على فرعون وقومه. ولما جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه. فدعا ربه فأخرجه لهم ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه. ثم مروا بعد ذلك على " قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعلمون " قد رأيتم من العبر وسمعتم بما يكفيكم ومضى، فأنزلهم موسى منزلاً ثم قال لهم: أطيعوا هارون، فإني قد استخلفته عليكم، وإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه، فأراد أن يكلمه في ثلاثين يوماً، وقد صامهن ليلهن ونهارهن، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم، فتناول من نبات الأرض شيئاً فمضغه، فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت؟ - وهو أعلم بالذي كان - قال: يا رب! إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي
طيب الريح. قال: أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، ارجع حتى تصوم عشراً ثم ائتني، ففعل موسى ما أمر به، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم للأجل ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم فقال: إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عوار وودائع ولكم فيهم مثل ذلك، وإني أرى أن تخمسوا مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادي إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيراً، وأمر كل من عنده شيء من ذلك من متاع أو حلية أن يدفنوه في تلك الحفرة ثم أوقد عليه النار فأحرقه، فقال: لا يكون لنا ولا لهم. وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جار لهم، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضي له أن رأى أثر الرسول، فاخذ منه قبضة، فمر بهارون فقال له هارون: يا سامري! ألا تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك. فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر فلا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها ما أريد أن يكون. فألقاها، ودعا له هارون فقال: أريد أن تكون عجلاً. فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلاً أجوف، ليس فيه روح، له خوار.
قال ابن عباس: لا والله ما كان له صوت قط، إنما كان الريح يدخل من دبره ويخرج من فيه، وكان ذلك الصوت من ذلك. فتفرق بنو إسرائيل فرقاً، فقالت فرقة: يا سامري! ما هذا؟ فأنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم، ولكن موسى ضل الطريق. فقالت فرقة: لا نكذب بهذا " حتى يرجع إلينا موسى " فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه، ولا عجزنا عنه حين رأيناه؛ وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقه: هذا عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق به. وأشرب قومه في قلوبهم
التصديق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا أن لا يكذب به، فقال " لهم هارون " " يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم " عز وجل ليس هكذا. قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين ليلة ثم أخلفنا، فهذه أربعون قد مضت، وقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه.
فلما كلم الله موسى وقال له ما قال، وأخبر بما لقي قومه " رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً " فقال لهم: ما سمعتم في القرآن " وأخذ برأس أخيه يجره إليه " " وألقى الألواح " من الغضب، ثم أنه عذر أخاه واستغفر له، وانصرف إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قبضت " قبضة من أثر الرسول " وفطنت لها وعميت عليكم، فقذفتها " وكذلك سولت لي نفسي، قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس إن لك موعداً لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً " ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه. فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، اغتبط الذي كان رأيهم فيه رأي هارون وقالوا بجماعتهم لموسى: سل بنا ربك أن يفتح باب توبة نصنعها وتكفر عنا ما عملنا، فاختار " موسى قومه سبعين رجلاً " لذلك لا يألو الخير خيار بني إسرائيل، ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم ليسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قومه ووفده حين فعل بهم ما فعل، و" قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " وفيهم من كان الله قد اطلع على ما أشرب في قلبه من حب العجل وإيماناً به فلذلك رجفت بهم الأرض فقال " ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي
الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ".
فقال: يا رب! سألتك التوبة لقومي، فقلت إن رحمتك كتبتها لقوم غير قومي، فليتك أخبرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة. فقال الله له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من ولد أو والد، فيقتله بالسيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن. وثاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون ما اطلع الله عليهم من ذنوبهم، واعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به، فغفر الله للقاتل والمقتول.
وسار موسى بهم متوجهاً نحو الأرض المقدسة، و" اخذ الألواح " بعد ما سكت عنه الغضب، وأمرهم بالذي أمرهم أن يبلغهم من الوظائف. فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها، فشق الله عليهم الجبل " كأنه ظلة " ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بإيمانهم وهم مصغون برؤوسهم ينظرون إلى الجبل وإلى الأرض، والكتاب بأيديهم، وهم ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون خلقهم خلقاً منكرة، ذكر من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها، فقالوا " يا موسى إن فيها قوماً جبارين " لا طاقة لنا بهم ولا " ندخلها أبداً ما داموا فيها " " فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون " من الجبارين: آمنا بموسى - قال يزيد: هكذا قرأ ابن عباس: " من الجبارين آمنا بموسى " - وخرجا إليه فقالا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم، فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا " عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ".
ويقول أناس: إنهم من قوم موسى. وزعم سعيد بن جبير أنهما من الجبارين آمنا بموسى يقول: " من الذين يخافون " إنما أعني بذلك من الذين يخافهم بنو إسرائيل. " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " فأغضبوا موسى فدعا عليهم، فسماهم قوماً فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذ، فاستجاب الله له، وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، فحرمها " عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " يصبحون كل يوم فيسيرون، ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً وأمر موسى بضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتي عشرة عيناً، في كل ناحية ثلاثة أعين وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر منهم بالمكان الذي كان منه بالأمس.
روي أن الله عز وجل أهدى إلى موسى خمس دعوات، جاء بهن جبريل عليه السلام في أيام العسر وقال: يا موسى! ادع بهذه الخمس دعوات، فإنه ليس عبادة أحب إلى الله من عبادة أيام العسر، أولاهن: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. والثانية: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إلهاً أحداً صمداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً. والثالثة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحداً صمداً. والرابعة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. والخامسة: حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله منتهى.
فقال الحواريون - يعني لعيسى بن مريم -: ما ثواب من قال هؤلاء الكلمات؟ فقال: أما من قال الأولى مئة مرة فإنه لا يكون أحد من أهل الأرض عمل مثل ذلك ذلك اليوم، وكان أكثر العباد حسنات يوم القيامة. ومن قال الثانية مئة مرة كتبت له بها عشرة آلاف ألف حسنة، ومحي عنه بها عشرة آلاف ألف سيئة، ويفتح له بها عشرة آلاف ألف درجة، ونزل سبعون ألف ملك من سماء الدنيا رافعي أيديهم يصلون على من قالها. من قال الرابعة مئة مرة تلقاها ملك حتى يضعها بين يدي الرحمن تبارك وتعالى، وينظر الله إلى من قالها، ومن ينظر الله إليه لا يشقى، قال عيسى: أخبرني ما ثواب الخامسة؟ قال جبريل: هي دعوتي، ولم يؤذن لي أن أفسرها.
وعن ابن عباس في قوله: " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم " يعني كان ابن عم موسى، وكان قارون بن يصهر بن لاوي. قالوا: وكان قارون قد خرج مع موسى منافقاً، فلم يزل على نفاقه على موسى وقومه، فأهلكه الله، وكان من بغيه أن امرأة بغية كانت تسمى بشيراً، دعاها قارون فقال لها: أعطيك مئة دينار، فانطلقي إلى محلة بني إسرائيل فقولي إن موسى أرسل إلي بهذه المئة دينار يدعوني إلى نفسه، فإذا فعلت فهذه المئة لك، وأعطيك مثلها، فانطلقت إلى محله بني إسرائيل، فهمت أن تقول ما قال لها قارون فحول الله عز وجل كلامها فقالت: إن قارون أرسل إلي بهذه الدنانير وأمرني أن أعلم الناس أن موسى أرسل إلي بها وأنه راودني عن نفسي ويعطيني مثلها أيضاً. فغضب موسى غضباً شديداً ودخل بيته، فجاء بنو إسرائيل إلى قارون - وكان أغنى أهل زمانه - قالوا: ويحك يا قارون! ما حملك على ما صنعت!؟ هذا موسى نبي الله وهو
ابن عمك وقد أهلك الله عدونا وبسط الله لك من الدينا ما لم يعطه أحداً من بني إسرائيل، فلا تفرح. يعني لا يحملنك على ما تصنع البطر، ولا تبطر إن الله لا يحب البطرين " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا " يقول: لا تدع حظ آخرتك لدنياك وخذ لآخرتك من دنياك وقدم لها. قال قارون عند ذلك: " إنما أوتيته " يعني هذا المال " على علم عندي " موسى يمن علي أن الله رزقني.
وكان يعلم علم الكيمياء، وهو صنعة الذهب، فخرجوا من عنده وأراد الله هلاكه، وأن يلحقه بصاحبه فرعون " فخرج على قومه في زينته " قال: خرج راكباً على برذون أشهب، عليه الأرجوان، على سرج مقدمه ذهب ومؤخره ذهب، مكلل بالدر والياقوت، وأخرج معه أربع مئة جارية، عليهن الأرجوان، في عنق كل واحدة منهن طوق من ذهب، عليهن الخفاف البيض، على بغال شهب، عليها سروج الذهب والفضة ومياثر الأرجوان، وأخرج أربع مئة غلام على أربع مئة دابة دهم وكمت، عليها سروج الذهب والفضة، عليهم ثياب الأرجون والخفاف، ثم أظهر ابن له، فحملته الرجال أمامه، وأظهر كنوزه من الدنانير والدراهم، وكانت عامة كنوزه الدنانير، فوضعها على عواتق الرجال يسير في محلة بني إسرائيل.
قال قوم من بني إسرائيل وهم الذين وصفهم الله في كتابه: " قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون " من الأموال " إنه لذو حظ عظيم " يعني لذو حظ واف من الدنيا. " قال الذين أوتوا العلم " من بني إسرائيل للذين تمنوا مثل ما أعطي قارون " ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون " يعني طاعة الله والصبر عليه خير مما أعطي قارون يتباهى بأمواله. فأقبل موسى وهو شديد الغضب عليه، حنقاً حين انصرف إليه بنو إسرائيل الذين وعظوه،
وأخبروه بما هو له حظ إن فعل من الإحسان فيما أعطاه الله. قالوا: إنهم قالوا لقارون: انظر إلى ما أعطاك الله فاقسمه في فقراء قومك وأهل بيتك. قال قارون: يعينون بذلك موسى وهارون، وهما أقرب بني إسرائيل إلى مال جمعته على علم عندي من صنعه الذهب؟ والله لا أفعل. فلما سمع ذلك موسى كبر عليه وظن موسى أنما ظن قارون أني طمعت في ماله؟ فخرج موسى حين قيل له: هذا قارون قد أقبل. فقال موسى: اللهم إني أسألك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن تأمر الأرض أن تطيعين. فأوحى الله عز وجل إلى الأرض أن أطيعي عبدي موسى. فقالت الأرض - وأنطقها الله -: يا موسى! مرني فأطيعك، قال: خذي قارون وما معه. قال: فأخذت قارون ومن معه من الغلمان والجواري، وتركت أموالهم ودوابهم، فقيل لقارون: هذا موسى قد دعا عليك - وهو يسيخ في الأرض - فنادى قارون: يا موسى! أنا ابن عمك قارون فارحمني. قال موسى: خذيه. فأخذتهم الأرض إلى ركبهم، فنادى: يا موسى! إن ربك رحيم فارحمني. قال موسى: خذيهم. فأخذتهم إلى أوساطهم. قال قارون: يا موسى! أتوب وأرجع. قال: خذيهم. فأخذتهم. فلم يزل قارون يدعو موسى حتى دعاهم سبعين مرة، كل ذلك يقول للأرض: خذيهم، حتى ابتلعتهم وبقيت الأموال.
فتحدث بنو إسرائيل فقالوا: إنما دعا عليه وترك الأموال لما يريدها لنفسه. فقال موسى: يا رب! وأمواله. فخسف الله بها الأرض، فهم يتجلجلون فيها إلى الأرض السابعة إلى يوم القيامة، تسيخ كل يوم على قدر قامته، فلما رأى ذلك بنو إسرائيل قال الذين " تمنوا مكانه بالأمس " فإنهم تمنوا غدوة، وخسف بقارون عشية، فلما أصبحوا قال: " ويكاد الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده " " ويكأنه " يعني: ألم تر أنه " لا يفلح الكافرون ".
فلما عاينوا بعد ما صنع الله بقارون خافوا على أنفسهم، قالوا " لولا أن من الله علينا لخسف بنا " فأوحى الله إلى موسى فقال: يا موسى! عبدي قارون وهو
ابن عمك، دعاك سبعين مرة فلم ترحمه! وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني، لو دعاني من ذلك سبع مرات لنجيته ولاستجبت به. فقال موسى: أنت الرحيم يا رب! ومنك الرحمة، وإنما اشتد غضبي لله، إنه اختار دعاء المخلوق على الخالق.
قال علي بن زيد بن جدعان: سمعت عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي وهو مستند إلى المقصورة، فذكر سليمان بن داود وما آتاه الله من الملك، ثم قرأ هذه الآية: " أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " حتى بلغ " فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر " ولم يقل هذا من كرامتي، ثم قال إن " ربي غني كريم " ثم ذكر قارون وما أوتي من الكنوز فقال " إنما أوتيته على علم عندي " قال: بلغنا أنه أوتي الكنوز والمال حتى جعل باب داره من ذهب، وجعل داره كلها من صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون، يطعمهم الطعام ويتحدثون عنده. وساق الحديث.
وقيل: إن موسى لما أتى قومه وأمرهم بالزكاة جمعهم قارون فقال: هذا جاءكم بالصوم والصلاة وأشياء تحتملونها، أفتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: ما نحتمل أن نعطيه أموالنا، فما ترى؟ قال: أرى أن ترسلوا إليه بغي بني إسرائيل فتأمرونها أن ترميه بأنه أرادها على نفسها. وساق الحديث.
وروي عن وهب بن منبه: أن موسى لم يدخل أرض مصر، إنما بعث جندين، كل جند اثنا عشر ألفاً، فالله أعلم أي ذلك كان؛ وأما ما فسره المفسرون أنه قد رجع إلى أرض مصر لقول الله عز وجل: " كذلك وأورثناها بني إسرائيل " الجنان والعيون والزروع والكنوز والمقام الكريم التي كانت لآل فرعون.
وعن أبي يوسف - وكان يهودياً فأسلم - أن موسى لما عبر ببني إسرائيل البحر أقام بأرض الشام سنة لا يكلم ولا ينزل عليه وحي، فشق ذلك عليه، وزعم أنه كان إذا كلمه الله يمكث أربعين ليلة مبرقعاً، من رآه غشي عليه مما يغشي وجهه من النور فقام على جبل بريحاء بفلسطين، فنادى الرحمن وهو عليه فقال: إلهي! ذهب روحي، وانقطع ظهري ولم ينزل علي وحي ولا كلمة منذ سنة - وبكى بكاء شديداً - فإن كان ذلك لذنوب رأيتها من بني إسرائيل فعفوك اللهم، وإن كان لأمر رأيته مني فهذه يدي وهذه ناصيتي، خذ اليوم رضاك من نفسي. قال له: يا موسى! أتدري لم كلمتك؟ قال: إلهي أنت أعلم. قال: لم يتواضع لي عبد من ولد آدم تواضعك، فلذلك كلمتك، فبعزة وجهي لأنزلن على جبال العرب نوراً أملأ به ما بين المشرق والمغرب، ولأخرجن من ولد قادر بن إسماعيل نبياً أمياً عربياً، ولتسبحن عظيمة قريتي عروباً بتسبيح ذلك النبي وتقديسه وليحملن ذلك النور من عظيمة قريتي عروباً إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولا يبقى من ولد آدم جنس إلا جاءني منه بشر كثير، عدد نجوم السماء وتراب الأرض على جبال كوثى، وكوثى: مكة بالعبرانية كلهم يؤمن بي رباً وبه رسولاً، يكفرون بملك آبائهم ويبرؤون
منها. قال موسى: سبحانك يا رب! تقدست، لقد كرمت هذا النبي وشرفته. فقال الله له: يا موسى! إني أنتقم من عدوه في الدنيا والآخرة، وأظهر دعوته على كل دعوة وأسلطه ومن اتبعه على البر والبحر، وأخرج لهم من كنوز الأرض، وأذل من خالف شريعته في هذا العالم؛ يا موسى! العدل رتبته، والقسط زينته، بعزة وجهي لأستنقذن به فئاماً من الناس عظيماً، حتمت يوم خلقت السموات والأرض أني مسبب ذلك الأمر على يدي محمد، وقضيت أني جاعل العز في الأرض والنبوة في الأجراء والرعاء. فقال له موسى لقد كرمت هذا النبي وشرفته! أي رب! أخبرني بعلامتهم من ولد بني آدم. قال: الأرز على أنصافهم ويغسلون أطرافهم، وهم رعاة الشمس، يخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي، يقاتلون صفاً في سبيلي، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، طوبى لتلك القلوب والأرواح التي أخلصت لي لم يسيروا بأرواحهم إلى غيري قط، يصفون لي في مساجدهم كما تصف الملائكة حول عرشي، فهم أوليائي وأنصاري، أنتقم بهم من عبدة الأوثان، وهم الذين ينصروني. قال له موسى: أي رب! ما بعثت في الأنبياء مثلي، ولم تكلم منهم غيري. قال له: أما في بني إسرائيل فلا أقيم مثلك، ولكني باعث في بلعم نبياً هو مثلك. قال: أي رب، هل أنت معطيه قرباناً مثل قرباننا؟ قال: قربانهم أفضل من قربانكم، تأكل قربانكم النار، فتنطلق به، ولهم في قربانهم أجران اثنان، يذبحون لي في غداة واحدة، يذكر اسمي ويهريقون الدماء لي فآجرهم، ويطعمون اللحم إخوانهم فآجرهم. فتحت الدنيا بإبراهيم، وختمتها بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل كتابه الذي يجيء به - فاعرفوه يا بني إسرائيل - مثل السقاء المملوء لبناً يخاض فيخرج زبده، فهو كذلك كتاب الله، يقرأ عليكم لم تسمعوا بمثله قط، فيه خبر الكتب كلها، قضاء إلهي أنه يختم بكتابه الكتب، وبشريعته الشرائع، فمن أدركه فلم يؤمن به ويدخل في شريعته فهو من إلهي ومني بريء؛ وإنهم يبنون الصوامع في مشارق الأرض ومغاربها، إذا ذكروا اسم إلهي ذكروا اسم ذلك النبي معه، لا يزول ذكره من الدنيا حتى تزول.
وإن داود النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم، لما بنى بيت المقدس صلى ركعتين ثم قال أي رب! بنيت لك بيتاً أتعبد لك فيه. فنزل عليه الوحي، قال الله: ويحك
عبدي داود! أي بيت يسعني وأي سماء تسعني وأي أرض تسعني؟ أنا أعظم من ذلك كله، وسأضرب لك مثلاً فاعقله: السموات السبع وما فيهن من الملائكة والأرض جميعاً، وما فيهن من البحار والجبال تحت عرشي بمنزلة القنديل المعلق، قال له داود: سبحانك! تقدست أنت كما شئت أن يكون! وكما قلت لنفسك وفوق ما تقول إلى خلائقك. قال الله: أجل فسبحني وقدسني، واصنع كما تصنع الأمة التي أخرتها على هذا العالم. قال له: رب! وأي أمة هي؟ قال: هي أمة أحمد. قال: أي رب! أخبرني بعلامتهم. قال: إذا فرغوا كبروني، وإذا غضبوا هللوني، وإذا تنازعوا سبحوني.
وقيل: إنهم تاهوا في اثني عشر فرسخاً أربعين عاماً، وجعل لهم حجر مثل رأس الثور، يحمل على ثور، فإذا نزلوا منزلاً وضعوه، فضربه موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعصاه " فانفجرت منه اثنتا عشر عيناً " وإذا ساروا حملوه على ثور واستمسك الماء.
وعن ابن وهب: أن الله عز وجل لما حرم عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض، شكوا إلى موسى فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن الله سيأتيكم بما تأكلون. قالوا: من أين لنا إلا أن تمطر علينا خبزاً. قال: إن الله سينزل عليكم خبزاً مخبوزاً. فكان ينزل عليهم المن، فسئل وهب: ما المن؟ قال الخبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي. قالوا: وما نأتدم؟ وهل بدلنا من اللحم؟ قال: فإن الله يأتيكم به. قالوا: من أين إلا أن تأتينا به الريح. قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم بالسلوى. فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم منه، فيأخذون منه من سبت إلى سبت. قالوا فما نلبس؟ قال: لا يخلق لأحد ثوب أربعين سنة، قالوا: فما نحتدي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة. قالوا: فإنه يولد فينا أولاد فما نلبسهم؟ قال: الثوب الصغير على الكبير يشب معه. قالوا: فمن أين لنا الماء؟ قال: يأتيكم به الله. قالوا: من أين إلا أن يخرج لنا من الحجر. فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فيما نبصر؟ فإنها تغشانا الظلمة. فضرب له عمود من نور في وسط عسكرهم،
أضاء عسكرهم كله. قالوا: فيما نستظل؟ فإن الشمس علينا شديدة؟ قال يظلكم الله بالغمام.
قال وهب بن منبه:
إن الله أوحى إلى موسى أن سر ببني إسرائيل حتى تدخل الأرض المقدسة، فقد كتبتها لكم، فاخرج إليها فجاهد من فيها بمن معك من بني إسرائيل، فإني ناصركم. قال: فانطلق موسى بمن معه من بني إسرائيل فقالوا: يا موسى! إنا لا نعرف الطريق، ولا علم لنا بالأرض ومدخلها ومخرجها، ورجالها وحصونها. قال: فبعث موسى هؤلاء الاثنا عشر النقباء إلى الأرض، ليتحسسوا لهم الأرض، وأقام موسى مكانه وجعل عليهم يوشع بن نون. وكالب بن يوفنا، وكان فيما بين الشام وبينهم مفاوز ليس بها ماء ودعا لهم موسى بالرزق، فأنزل الله عليهم في مسيرهم المن والسلوى، وفجر لهن الحجارة عيوناً ماء من موضع موسى إلى أرض أريحا، وأقام موسى بمكانه، فقالت بنو إسرائيل: كيف لنا بهذا المسير البعيد الذي لا تقوى فيه على حمل الماء وصنعة الطعام؟ يعول الرجل منا أربع مئة عيل، فأي ماء يسعهم وأي طباخ يوسعهم، وأي دار تكنهم حتى تبلغهم؟ وأي خباء يسعهم؟ وإنما معناه الثياب والذهب والفضة، وليس بيننا وبين الأرض المقدسة مدائن الأسواق؛ فادع لنا ربك يكفينا مؤنة هذا السعي. فأوحى الله إلى موسى أني قد سمعت الذين قالوا، فاعلمهم أني قد أعلمتك وأعطيتك ما سألوا، فقل لهم: أما ما سألتم من الطعام، فإن الله يمطر لكم السماء بالمن - خبزاً مخبوزاً، طعمه كطعم الخبز المأدوم بالسمن والعسل - ومسخر لكم الريح فتنسف لكم طير السلوى، فتوسعكم لحماً ما أكلتم. وأما ما تحتاجون إليه من الماء فيفجر لكم من الحجر ماء رواءاً حيث نزلتم، فيوسعكم لشربكم وطهوركم؛ وأما ما أردتم من الكن والظل، فيسخر لكم الغمام فيظلكم من فوقكم ويكنكم من البرد والحر والريح. قالوا: يا موسى! نقيم حتى يرجع إلينا النقباء، فيخرجونا، فنرى
رأينا، فأمر موسى النقباء أن يسيروا، فأتوا الأرض المقدسة، وارتحل موسى ومعه بنو إسرائيل، فكان إذا نزلوا ضرب بعصاه " الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً " فكانت تجري إلى كل سبط عين تدخل عسكرهم، وكانت السماء تمطر عليهم خبز المن، مثل خبز الماء، طعمه طعم الخبز المأدوم بالسمن والعسل، وتنسف عليهم الريح طير السلوى، وتذري رأسه عنه فيصير مصفى ليس فيه ريش فيصبح في العسكر ركامان عظيمان من خبز وطير، فيأكلون ويحملون.
وعن وهب: أن بني إسرائيل لما أيقنوا أن لا يرجعوا إلى مصر، ولا يدخلوا الأرض المقدسة قالوا لموسى: لابد لنا من كتاب نقرؤه، وشرائع أحكام. فسأل ربه فقال: نعم يا موسى. فواعده أن يخرج إل طور سيناء، وواعده ثلاثين يوماً؛ قال: واستخلف موسى على قومه هارون وقال: إني منصرف إليكم بعد أربعين يوماً، وآتيكم بأحكام وشرائع. قال: فانطلق موسى معه جبريل، حتى انتهى إلى طور سيناء، وطهر ثوبيه، وكلمه ربه، فلما سمع كلام ربه طمع في رؤيته فقال موسى " رب أرني أنظر إليك قال " يا موسى! " لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " يقول: أي لا تستطيع أن تنظر إلي، وسأجعل بيني وبينك علماً إن استطاع ذلك العلم النظر إلي فسوف تراني.
قال ابن عباس: في قوله: " وكلم الله موسى تكليماً " قال: يعني بالتكلم مشافهة. وقال: إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام واصطفى محمداً بالرؤية.
وقال كعب الأحبار: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرآه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلمه موسى مرتين.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما ذهب أخي موسى إلى مناجاة ربه قال: يا موسى! ما هذا الذي في يدك؟ قال: يا رب! خاتم حديد.
وفي رواية قال: شيء من حلي الرجال. قال: اجعله ورقاً، واجعل فصه من عقيق، وانقش عليه " لكل أجل كتاب ".
وفي رواية قال: فيه شيء من اسمي أو من كلامي؟ قال: لا. قال ما كتب فيه " لكل أجل كتاب ".
وعن كعب قال:
أن الله عز وجل أعطى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به أربع آيات، ما أعطاها أحد قبله. قول الله عز وجل: " لله ما في السماوات وما في الأرض " إلى آخر السورة، وهي ثلث الكتاب، وآية الكرسي، وأعطى الله موسى غيرها حين قربه نجياً، وأمره أن يدعو بهن، فدعا فاطمأن وقوي على احتمال النبوة وحفظ ما ناجاه ربه. قال: قل يا موسى: اللهم لا تولج الشيطان في قلوبنا، وخلصنا منه ومن كل شر من أجل أن لك الملكوت والأيد والسلطان والملك والحمد والأرض والسماء، والبقاء دهر الداهرين أبد الآبدين أبداً آمين آمين. فدعا بهن، فاطمأن، ثم ناجاه ربه عز وجل.
وقيل: إن الله عز وجل، حين ناجى موسى قال: يا موسى بن عمران! يا صاحب جبل لبنان، قم بين يدي مقام العبد الذليل المعترف بذنبه. وكان فيما علمه أن قال له: اقرأ في دبر كل صلاه آية الكرسي، فمن قرأها في دبر كل صلاة أعطيته قلوب الشاكرين، وأعمال الصديقين، وثواب النبيين، وبسطت عليه يميني بالرحمة، ولم يحجبه عن الجنة شيء إلا ملك الموت، فيقبض روحه فيدخل الجنة.
زاد في رواية: فقال موسى: يا رب! من يدوام على ذلك؟ قال: يا موسى! يداوم
على ذلك نبي أو صديق أو عبد قد رضيت عنه، أو عبد أريد أن أقبله.
وعن أبي هريرة قال: عرض رجل من اليهود سلعة، فأعطي بها شيئاً فأبى، ثم قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعها رجل من الأنصار فلطمه، فقال: نقول والذي اصطفى موسى على البشر، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا! فانطلق اليهودي إلى رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: با أبا القاسم! إن لي ذمة وعهداً. فقال: وما ذاك؟ قال: ما بال فلان لطمني؟! فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الأنصاري فقال: ما يقول هذا؟ قال: يا رسول الله! يقول والذي اصطفى موسى على البشر وأنت بين أظهرنا! فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه وسلم حتى رئي ذلك في وجهه، ثم قال لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، أو في أول منبعث، فإذا بموسى عليه السلام آخذ بالعرش، فما أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أو بعث قبلي، ولا يقولن أحد إني أفضل من يونس بن متى.
وفي رواية: فلا أدري، أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله عز وجل.
وعن عوف بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الأنبياء ليكاثرون بأممهم، وقد كثرتهم إلا موسى بن عمران، وإني لأرجو أن أكثره ولقد أوتي موسى بن عمران خصلات لم يعطهن نبي: أنه مكث يناجي ربه أربعين يوماً، لا ينبغي لمناجيين أن يتناجيا أطول من نجواهما. وأن ربك تحود بدفنه وقبره فلم يطلع عليه أحد، وهو يوم يصعق الناس قائم عند العرش، لا يصعق معهم.
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن موسى قال: يا رب! أرنا آدم الذي أخرجنا من الجنة. فأراه الله آدم، فقال: أنت أبونا آدم، نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر الملائكة فسجدوا
لك؟ قال: نعم. قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال له آدم: ومن أنت؟ قال: أنا موسى. قال أنت نبي بني إسرائيل؟ أنت الذي كلمك الله من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه؟ قال: نعم. قال: فيم تلومني في شيء سبق من الله فيه القضاء قبل؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك: فحج آدم موسى فحج أدم موسى.
وفي رواية بمعناه: تلومني على أمر قدره الله علي أن أعمله قبل أن يخلق السموات والأرض! وفي رواية: بكم تجد الذي عملت كتب علي قبل أن أخلق؟ قال: بأربعين سنة. قال فلم تلومني يا موسى؟! وعن الشعبي: في قول الله تبارك وتعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله " قال: موسى عليه السلام والصلاة " ورفع بعضهم درجات " قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " وآتينا عيسى ابن مريم البينات " فكان الشعبي يقول: هؤلاء أشراف الرسل يوم القيامة.
وعن أنس:
أن الناس ذكروا يوم القيامة عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: والذي نفسي بيده، إني لسيد الناس يوم القيامة ولا فخر، وإن بيدي لواء الحمد، وإن تحته آدم ومن دونه ولا فخر. قال: ينادي الله يومئذ آدم فيقول: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: اخرج من ذريتك بعث النار. فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين. فيخرج مالا يعلم عدده إلا الله. قال: فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أكرمك الله، وخلقك بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لذريتك، تحرق اليوم بالنار. فيقول آدم: ليس ذلك إلي اليوم، ولكن سأرشدكم، عليكم بنوح. فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح! اشفع
لذرية آدم. فيقول: ليس ذلك إلي، ولكن عليكم بعبد اصطفاه الله بكلامه ورسالته، وصنع على عينه، وألقي عليه محبة منه، موسى، وأنا معكم. فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى! أنت عبد اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وصنعت على عينه، وألقي عليك محبة منه، اشفع لذرية آدم لا تحرق اليوم بالنار فيقول ليس ذلك إلي اليوم، عليكم بروح الله وكلمته، وعيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى! أنت روح الله وكلمته، اشفع لذرية آدم لاتحرق اليوم بالنار. فيقول: ليس ذلك إلي اليوم، ولكن سأرشدكم، عليكم بعبد جعله الله رحمة للعالمين، أحمد، وأنا معكم فيأتون أحمد، فيقول: يا أحمد! جعلك الله رحمة للعالمين، أحمد، وأنا معكم فيأتون أحمد، فيقول: يا أحمد! جعلك الله رحمة للعالمين، اشفع لذرية آدم لاتحرق اليوم بالنار. فأقول: نعم، أنا صاحبها. قال: فآتى حتى آخذ بحلقه الجنة، فيقال: من هذا؟ فأقول: أحمد. قال: فتفتح لي، فإذا نظرت إلى الجبار لا إله إلا هو خررت ساجداً، ثم يفتح لي من التحميد والثناء على الرب شيئاً لا يفتح لأحد من الحق، ثم يقال: ارفع، سل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب! ذرية آدم لا تحرق اليوم بالنار. فيقول الرب جل جلاله: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال قدر قيراط من إيمان فأخرجوه، ثم يعودون إلي يقولون: ذرية آدم لا يحرقون اليوم بالنار. قال: فأتى حتى آخذ بحلقة الجنة، فيقال: من هذا؟ فأقول: أحمد. فيفتح لي، فإذا نظرت إلى الجبار لا إله إلا هو خررت ساجدا، فأسجد مثل سجودي أول مرة ومثله معه، فيفتح لي من الثناء على الله والتحميد مثلما فتح لي أول مرة. فيقال: ارفع رأسك، سل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب! ذرية آدم لا تحرق اليوم بالنار. فيقول الرب: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فاخرجوه قال: ثم أتي حتى أصنع ما صنعت أول مرة، فإذا نظرت إلى الجبار عز جلاله خررت ساجداً، فأسجد كسجودي أول مرة ومثله معه، ويفتح لي من الثناء والتحميد مثل ذلك. ثم يقال: ارفع رأسك سل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب! ذرية آدم لا تحرق اليوم بالنار. فيقول الرب: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه. فيخرجون مالا يعلم عدده إلا الله، ويبقى أكثر، ثم يؤذن لآدم
بالشفاعة، فيشفع لعشرة آلاف ألف، ثم يؤذن للملائكة والنبيين فيشفعون، ثم يؤذن للمؤمنين فيشفعون، وإن المؤمن يشفع يومئذ لأكثر من ربيعة ومضر.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ليس أحد من أهل الجنة إلا يدعى باسمه إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد، وليس أحد من أهل الجنة إلا وهم جرد مرد إلا ما كان من موسى بن عمران، فإنه له لحية تبلغ سرته.
قال موسى لربه يوم الطور: أي رب! إن كلمتني فمن قبلك، وإن صليت فمن قبلك، وإن صمت فمن قبلك، وإن أرسلتني فمن قبلك، وإن بلغت رسالتك فمن قبلك، فكيف أشكرك؟ قال: يا موسى! الآن علمت أنك قد شكرتني، حيث علمت أنه من قبلي.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما كلم الله موسى في الأرض كان جبريل يأتيه من حلل الجنة وبكرسي مرصع بالدر والجوهر، فيجلس عليه ويرفعه الكرسي، فيرفعه حيث شاء ويكلمه حيث شاء.
قال عطاء بن السائب: كان لموسى قبة طولها ست مئة ذراع يناجي فيها ربه.
وعن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
إن الله ناجى موسى بمئة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة، في ثلاثة أيام وصايا كلها، فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب، فكان فيما ناجاه: يا موسى! إنه لم يتصنع لي المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا، ولم يتقرب إلي المتقربون بمثل الورع، عما حرمت عليهم، ولم يتعبد العابدون بمثل البكاء من خيفتي. قال موسى: يا إله البرية كلها! ويا مالك يوم الدين، ويا ذا الجلال والإكرام، وما أعددت لهم وماذا جزيتهم؟ قال: يا موسى! أما الزاهدون في الدنيا فإني أبحتهم الجنة يتبوؤون منها
حيث يشاؤون، وأما الورعون عما حرمت عليهم فإنه ليس من عبد يلقاني يوم القيامة إلا ناقشته الحساب لنفسه مما في يديه، إلا ما كان من الورعين فإني أستحييهم وأجلهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب، أما البكاؤون من خيفتي فلهم الرفيق الأعلى، لا يشاركون فيه.
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم قال: أي رب! عبدك المؤمن تقتر عليه في الدنيا! قال: فيفتح له باب إلى الجنة فينظر إليها، وقال: يا موسى! هذا ما أعددت له. قال موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم: أي رب! وعزتك وجلالك، لو كان أقطع اليدين والرجلين يسحب على وجهه منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة، وكان هذا مصيره لم ير بؤساً قط. قال: ثم قال موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم: أي رب! عبدك الكافر يوسع عليه في الدنيا! قال: يفتح له باب من النار، فيقال: يا موسى! هذا ما أعددت له. فقال موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم: أي رب! وعزتك وجلالك، لو كانت له الدنيا منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة، وكان هذا مصيره كأن لم ير خيراً قط.
قال أبو أيوب المقرئ: كلم الله موسى مئة ألف كلمة وأربعة وعشرين ألف كلمة، ذكر كلمة كلمة، قال له: يابن عمران! كل خدن لا يؤازرك على طاعتي فاتخذه عدواً كائناً من كان.
قال وهب بن منبه: إن الله كلم موسى في ألف مقام، وكان إذا كلمه رئي النور على وجهه ثلاثة أيام، ولم يمس موسى عليه السلام امرأة منذ كلمه ربه.
وعن كعب قال: قال موسى: أقريب فأناجيك أم بعيد فاناديك؟ قال: يا موسى! أنا جليس من ذكرني. قال: يا رب! فإنا نكون من الحال على حال نعظمك ونجلك أن نذكرك عليها.
قال: وما هي؟ قال: الجنابة والغائط. قال: يا موسى! اذكرني على كل حال.
وفي رواية: إني أكون على الحال التي أجلك عن أن أذكرك عليها: الخلاء والرجل من أهله. قال: يا موسى، اذكرني على كل حال.
وفي رواية: الغائط، وإهراقه الماء، والجنابة، وعلى غير وضوء.
وفيه قال: يا رب! كيف أقول؟ قال: تقول سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت تحميني الأذى، سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت تقيني الأذى.
وعن مكحول قال: أغار الضحاك بن معد - يعني ابن عدنان - على نبي إسرائيل في أربعين رجلاً من بني معد، عليهم دراريع الصوف، خاطمي خيلهم بحبال الليف، فقتلوا وسبوا وظفروا، فقالت بنو إسرائيل: يا موسى! إن بني معد أغاروا علينا، وهم قليل، فكيف لو كانوا كثيراً، وأغاروا علينا وأنت نبينا، فادع الله عليهم. فتوضأ موسى وصلى، وكان إذا أراد من الله حاجة صلى ثم قال: يا رب! إن بني معد أغاروا على بني إسرائيل فقتلوا وسبوا وظفروا، فسألوني أن أدعوك عليهم. فقال الله عز وجل: لا تدع عليهم فإنهم عبادي، وإنهم ينتهون عند أول أمري، وإن فيهم نبياً أحبه وأحب أمته. قال: يا رب! ما بلغ من محبتك له؟ قال: أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: يا رب! ما بلغ من محبتك لأمته؟ قال: يستغفرني مستغفرهم فأغفر له، ويدعوني داعيهم فأستجب له. قال: يا رب! فاجعلهم من أمتي. قال: نبيهم منهم. قال: يا رب! فاجعلني منهم. قال: تقدمت واستأخروا.
وعن كعب قال:
قال موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ناجاه ربه: أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ قال الله عز وجل: يا موسى! أنا جليس من ذكرني. ثم قال: يا موسى! أتريد أن أقرب من مجلسك يوم القيامة؟ فلا تنهر السائل، ولا تقهر اليتيم، وجالس
الضعفاء، وارحم المساكين، وأحب الفقراء، ولا تفرح بكثرة المال، فإن كثرة المال تفسد القلب وتقسيه؛ يا موسى! استمع وأنصت واحفظ، وأمر بني إسرائيل أن يتبعوا راكب الحمار، ابن العذارء البتول، يبعث من جبل صهيون يصنع بالآيات والعجائب، ويحيي الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير بإذني، ويبشر بالنبي العربي الأمي من ولد قيدار بن إسماعيل، يبعث من بين جبلي قدس، صاحب الجمل، صاحب الهراوة - وهي العصا - والتاج - وهي العمامة - والنعلين، يبعث في آخر الزمان على فترة من الرسل، اسمه محمد في القرآن، وفي الإنجيل أحمد، وفي التوارة أحيد، افتح به وأختم، لم تلد النساء قبله ولا بعده، الأكحل العينين، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين البادي النفقة الرجل الشعر، الشثن البنان، الحسن الثغر، المفلج الثنايا، الكث اللحية، النكاح للنساء، ذو النسل القليل، نسله من صديقة، لها في الجنة قصر من ذهب، ليس فيه صدع ولا وصل، ولا نصب ولا صخب، له منها ابنة لها فرخان مستشهدان، أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يرضون مني باليسير أعطيه إياهم، وأرضى منهم باليسير من العلم، أدخل أحدهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله، يقاتل بقضيب الحديد وتقاتل أمته بقضيب الشجر، صفهم في قتالهم كصفهم في صلاتهم، يأتزرون على أنصافهم، ويطهرون أطرافهم، جعلت لهم الأرض مسجداً وطهوراً، يصلون حيث أدركتهم صلاتهم ولو كانوا على كناسة، لمناديهم في الصلاة ذوي في جو السماء، تفتح لهم أبواب السماء، أنزل عليهم رحمتي، أشداء على الكفار، متوادون بينهم، إذا رأيتهم عرفتهم أنهم أهل ركوع وسجود، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، يقاتلون في صفوفاً وزحوفاً، ويصلون لي ركوعاً وسجوداً، وقياماً وقعوداً، أناجيلهم في صدورهم، وقربانهم في بطونهم، نساؤهم أيامى لطول غيبة أزواجهم وما هم بأيامى، وأولادهم يتامى لطول غيبة آبائهم، يطلبون الجهاد بكل أفق، رهبان الليل أسود النهار، أعطيهم من قبل أن يسألوني، وأستجب لهم من قبل أن يدعوني؛ ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم، أظهره على الدين كله ولو كره
المشركون فأفتح لهم فتحاً يسيراً، وأنصره نصراً عزيزاً، أجعله أول شافع، أول مشفع، أختم به الأنبياء، وأفتح به الشفاعة؛ يا موسى! مر بني إسرائيل أن لا يغيروا نعته، ولا يكتموا صفته، وإنهم لفاعلون. قال: فخر موسى ساجداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إلهي! لقد أكرمت هذا العبد وهذه الأمة. فقال الله: يا موسى! " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من االشاكرين ".
قالوا: ولما قرب الله موسى نجياً بطور سيناء قال: يا موسى! إذا جعلت لك قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً وزوجة تعين على الخير فلم أخزن عنك من الخير شيئاً، ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئاً.
وعن وهب قال: أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم: يا موسى بن عمران! إن الذي لك عندي، على قدر ما لي عندك.
وعن الحسن قال: أوحى الله إلى موسى عليه السلام: اتخذ طاعتي تجارة يأتك الربح من غير بضاعة.
ولما كلم الله موسى اعتزل النساء وترك اللحم، فبلغ ذلك أخاه، فاعتزل النساء وترك اللحم، ثم لم يلبث أن تزوج وأكل اللحم، فقيل لموسى: إن أخاك هارون قد أكل اللحم وتزوج. قال: لكني لا أرجع في شيء تركته لله.
وفي مناجاة موسى قال: رب! هذه الأمة التي أجدها في كتابي مرحومة؟ قال: تلك أمة أحمد، أعطيهم القليل فيرضون به، وأرضى منهم من العمل بالقليل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إن موسى لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة، قال:
يا رب! إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة هم الشافعون المشفوع لهم فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون المستجاب لهم، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة أنا جيلهم في صدورهم، يقرؤونه ظاهراً، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. يا رب! إني أجد في الألواح أمة يأكلون الفيء، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم، يؤجرون عليها، فاجعلها أمتي، قال تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر حسنات، فاجعلها أمتي، قال تلك أمة أحمد. قال: يارب! إني أجد الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم يعلمها لم تكتب، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والآخر فيقتلون فيروز الضلالة المسيح الدجال، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب! فاجعلني من أمة أحمد. فأعطى عند ذلك خصلتين. فقال: يا موسى " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ". قال قد رضيت يا رب.
وعن نوف قال: لما انطلق موسى بوفد بني إسرائيل ناجاه ربه عز وجل فقال: إني أبسط لكم الأرض مسجداً ووضوءاً، تصلون حيث أدركتم الصلاة، إلا في حمام أو مرباض - وفي رواية: أو مرحاض - أو عند قبر، وأجعلكم تقرؤون التوراة على ظهر ألسنتكم، ذكركم وأنثاكم، وصبيانكم. فقالوا: لا نصلي إلا في كنيسة، ولا نستطيع أن نحمل السكينة في قلوبنا،
فاجعل لنا تابوتاً تحمل فيه، ولا تقرأ التوراة إلا نظراً. قال: " فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة " حتى أتم الآية. قال: يا رب! اجعلني نبيهم. قال: إن نبيهم منهم. قال: رب فأخرني حتى أكون منهم. قال: إنك لن تدركهم. قال: رب جئت بوفادة قومي، فجعلت الوفادة لغيرهم. قال: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " فكان نوف يقول: احمدوا ربكم شهد غيبتكم وأخذ بسهمكم، وجعل وفادة بني إسرائيل لكم.
زاد في رواية أخرى، في ذكر صدقاتهم يأكلون في بطونهم، قال: وكان من قبلنا يقربون صدقاتهم فإن تقبلت منهم جاءت النار فأكلتها وإن لم تقبل منهم تركت، فجاءت السباع فأكلتها.
قال الأعمش: قال الله تعالى: " وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك " نودي: يا أمة محمد! قد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني.
وعن المقدام بن معدي كرب أن موسى لم يزل مغطياً وجهه منذ كلمه ربه.
جاء إبليس إلى موسى وهو يناجي ربه فقال له الملك: ويحك، وما ترجو منه وهو على هذه الحال يناجي ربه؟ قال: أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم وهو في الجنة.
ولما كلم الله تعالى موسى عرض إبليس على الجبل، فإذا جبريل قد وافاه فقال: اخز يا لعين، أيش تعمل ها هنا؟ قال: جئت أتوقع من موسى ما توقعت من أبيه. فقال له جبريل: اخز يا لعين. ثم قعد جبريل يبكي حيال موسى، فأنطق الله الجبة - أو
الزرمانقة - فقالت: يا جبريل، أيش هذا البكاء؟ قال: إني في القرب من الله، وإني لأشتهي أن أسمع كلام الله كما سمعه موسى. فقالت الجبة: يا جبريل! أنا جبة موسى، وأنا على جلد موسى، أنا أقرب إلى موسى أو أنت؟! والكلام هو ألطف اللغات، وهو مثل الرعد القاصف، يا جبريل، أنا لا أسمعه تسمعه أنت!
بينا موسى جالس في بعض مجالسه إذ جاءه إبليس وهو في برنس يتلون عليه ألواناً، فلما دنا منه خلع البرنس ثم أقبل إلى موسى فقال: من أنت؟ قال: أنا إبليس. قال: أنت فلا مرحباً بك، وما جاء بك؟ قال: جئت لأسلم عليك لمكانك من الله ومنزلتك منه. قال: فما هذا البرنس؟ قال: به أختطف قلوب بني آدم. قال: فأخبرني ما الذنب الذي إذا أذنب ابن آدم استحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه، واستكبر عمله، ونسي ذنبه استحوذت عليه، وأوصيتك بثلاثة أشياء. قال: وما هي؟ قال: لا تخل بامرأة لا تحل لك، فإنه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت أنا صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها، ولا تعاهد لله عهداً إلا كنت صاحبه دون أصحابي، حتى أحول بينه وبين الوفاء به، ولا تهمن بصدقة إلا أمضيتها، فوالله ما هم أحد بصدقة إلا كنت أنا صاحبه دون أصحابي، حتى أحول بينه وبين الوفاء بها. ثم ولى وهو يقول: ياويله! - ثلاث مرات - علم موسى ما يحذره ابن آدم.
لقي إبليس موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالته، وكلمك تكليماً، وأنا من خلق الله، أذنبت وأنا أريد أن أتوب فاشفع لي إلي ربي أن يتوب علي. قال موسى: نعم. فدعا موسى ربه فقال: يا موسى! قد قضيت حاجتك. فلقي موسى إبليس فقال: قد أمرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك فاستكبر
وغضب فقال: لم أسجد له حياً أسجد له ميتاً! ثم قال إبليس: يا موسى! إن لك علي حقاً بما شفعت لي إلى ربك، فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن: اذكرني حين تغضب، فإن روحي في قلبك وعيني في عينك، وأجري منك مجرى الدم؛ واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف، فأذكره ولده وزوجته وأهله حتى يولي، وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها إليك ورسولك إليها.
وعن مجاهد: في قوله ولقد " آتينا موسى الكتاب والفرقان " قال: الكتاب: هو الفرقان، سمي فرقاناً لأنه فرق بين الحق والباطل.
وعن ابن عباس قال: لما انتهى موسى إلى ربه عز وجل لميقاته قال له: أأكتب - أو أنا أكتب - لك الألواح، وإن قومك يسجدون لغيري. قال: فما ألقى الألواح لقول ربه عز وجل حتى نظرهم بعينيه يسجدون للعجل، فلما رآهم ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه.
وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: فيما أعطى الله موسى في الألواح في أول ما كتب عشرة أبواب: يا موسى! لا تشرك بي شيئاً فقد حق القول مني: لتلفحن وجوه المشركين النار، واشكر لي ولوالديك أقك المتألف، وأنسى لك في عمرك، وأحييك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها؛ ولا تقتل النفس التي حرمت إلا بالحق، فتضيق عليك الأرض برحبها، والسماء بأقطارها، وتبوء بسخطي في النار؛ ولا تحلف باسمي كاذباً ولا آثماً، فإني لا أظهر ولا أزكي من لم ينزهني ولم يعظم أسمائي؛ ولا تحسد الناس على ما أعطيتهم من فضلي، ولا تنفس عليهم نعمتي ورزقي، فإن الحاسد عدو لنعمتي، راد لقضائي، ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي، ومن يكن كذلك فلست منه وليس مني، ولا تشهد بما لم يع سمعك، ويحفظ عقلك،
ويعقد عليه قلبك، فإني واقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة، ثم سائلهم عنها سؤالاً حثيثاً؛ ولا تسرق ولا تزن بحليلة جارك، فأحجب عنك وجهي وتغلق عنك أبواب السماء، وأحب للناس ما تحب لنفسك، ولا تذبح لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما ذكر عليه اسمي، وكان خالصاً لوجهي؛ وتفرغ لي يوم السبت وفرغ لي آنيك وجميع أهل بيتك. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله جعل السبت لهم عيداً، واختار لنا الجمعة فجعلها لنا عيداً.
قال الضحاك: لما حرق موسى العجل وذراه في البحر، وأتاهم بكتاب الله فيه الحلال الحرام، فإذا فيه الرجم للزاني المحصن والقطع على السارق، والقصاص، قالوا: يا موسى! لا نقبل ما جئتنا به، كان العجل أحب إلينا، لا تقطعنا ولا تقتلنا ولا ترجمنا. فقال موسى: رب! إن عبادك بني إسرائيل ردوا كتابك، وكذبوا بآياتك. فأمر الله الملائكة فنتقلوا الجبل على بني إسرائيل حتى ظل به على عسكر بني إسرائيل، وحال بينهم وبين السماء، ثم قال لهم موسى: إما أن تأخذوا هذا الكتاب بما فيه، وإما أن يلقي عليكم. فقالوا " سمعنا وعصينا " يقولون سمعنا الذي تخوفنا وعصينا الذي أتينا به.
وعن ابن عباس قال:
ما أعلمني من أين تسجد اليهود على حواجبهم. قيل: ومن أين ذاك؟ قال: إنهم لما أبوا أن يقبلوا التوراة أرسل الله عليهم الطور من فوق رؤوسهم، فكان الرجل منهم إذا سجد يسجد على أحد حاجبيه وهو يلحظ بإحدى عينيه إلى الجبل متى يرمى به عليه. فمن ثم تسجد اليهود على حواجبها. قال: فرفع موسى الألواح فوضعها في بيت الهيكل، وكان يخرجها إليهم كل سبت فيقرؤها ولد هارون عليهم، ويدرسونها بينهم، وكان من شأن بيت الهيكل أن الله عز وجل أمر موسى حين جاوز البحر، وأمره بالمسير إلى الأرض المقدسة، ومن قبل أن يتيه الله عز وجل بني إسرائيل، أمر الله موسى أن يبني مسجداً لجماعتهم وبيتاً لقدسهم وبيتاً لقربانهم.
وعن عبد الله بن مسعود قال: لما تعجل موسى إلى ربه قال: " وما أعجلك عن قومك يا موسى، قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى " قال: فرأى رجلاً بمكان من العرش غبطه لمكانه ذلك قال: يا رب! من هذا؟ فقال: سأخبرك من عمله بثلاث: هذا رجل كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وهذا رجل كان لا يمشي بين الناس بالنميمة، وهذا رجل كان لا يعق والديه. قال موسى: يا رب! وهل يعق أحد والديه؟ قال: نعم، يعرضهما للشتم فيشتمان.
قال وهب بن منبه: إن في الألواح التي كتب الله عز وجل لموسى: يا موسى! وقر والديك، فإن من وقر والديه مددت في عمره، ووهبت له ولداً يبره، ومن عق والديه قصرت عمره، ووهبت له ولداً يعقه.
وعن موسى بن سعيد قال: لما قرب الله موسى نجياً رأى عبداً تحت العرش فقال: يا رب! من هذا العبد؟ لعلي أعمل بمثل عمله. فقيل: يا موسى! هذا عبد كان براً بوالديه، وكان لا يحسد الناس، ولا يمشي بالنميمة.
ومن حديث قال: يا موسى! ما جئت تبغي؟ قال: الهدى. قال: قد وجدت. قال: يا رب! اغفر لي ذنوبي ما خلا وما غبر وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني. قال: كفيت. قال: يا رب! أي عبادك أحب إليك لو أني أعمل عمله؟ قال: الذي لا يكذب لسانه، ولا يزني فرجه، ولا يفجر قلبه. قال: سبحانك! وأي عبادك لا يغنم أولا يكذب؟ قال: يا رب! أي عبادك أحب إليك بعد هذا؟ قال: مؤمن في خلق حسن. قال: يا رب! فأي عبادك أبغض إليك؟ قال: قلب كافر في خلق شيء. قال: يا رب! فأي عبادك أبغض إليك بعد هذا؟ قال: جيفة ليل، بطال بالنهار.
أوحى الله تعالى إلى موسى: إني أعلمك خمس كلمات، وهن عماد الدين: ما لم تعلم أن قد زال ملكي فلا تترك طاعتي، وما لم تعلم أن خيراتي قد نفذت فلا تهتم لرزقك، وما لم تعلم أن عدوك قد مات - يعني إبليس - فلا تأمن ناحيته، لا تدع محاربته، وما لم تعلم أني قد غفرت لك فلا تعب المذنبين، وما لم تدخل جنتي فلا تأمن مكري.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سأل موسى ربه هو عن ست خصال قال: رب! أي عبادك أتقى؟ قال: الذي يذكر ولا ينسى. قال: فأي عبادك أهدى؟ قال: الذي يتبع الهدى. قال: فأي عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه. قال: أي عبادك أعلم؟ قال: عالم لا يشبع من العلم، يجمع علم الناس إلى علمه. قال: فأي عبادك أعز؟ قال: الذي إذا قدر غفر. قال: أي عبادك أعبد؟ قال: الذي يرضى بما أوتي. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس الغنى عن ظهر مال إنما الغنى عن النفس، وإذا أراد الله بعبد خيراً جعل غناه في نفسه وتقاه في قلبه، وإذا أراد الله بعبد شراً جعل فقره بين عينيه.
وفي حديث آخر قال: فأي عبادك أفقر؟ قال: صاحب سقر.
وعن أبي سعيد، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن موسى سأل ربه تعالى حين أعطاه التوراة أن يعلمه دعوة يدعو بها، فأمره أن يدعو بلا إله إلا الله. فقال موسى: يا رب! كل عبادك يدعو، وأنا أريد أن تخصني بدعوة أدعوك بها. فقال تعالى وتقدس: يا موسى! لو أن السماوات وساكنها، والأرض وساكنها، والبحار وما فيها وضعوا في كفة، ووضعت له إله إلا الله في كفة لوزنت لا إله إلا الله.
وفي رواية: علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به. قال: قل: لا إله إلا الله.
وزاد في رواية: فكان موسى أحب عملاً أنهك لبدنه من ذلك، فأوحى الله عز وجل إليه: أغرك أني ذللت بها لسانك، لو جعلت لا إله إلا الله والسماوات والأرضون في كفة
لرجحت بهن، ولو كانت السماوات والأرضون حلقة لقصمتهن لا إله إلا الله حتى تجاورن.
سأل موسى ربه عز وجل فقال: رب أي عبادك أعدل؟ قال: من أنصف من نفسه.
سأل موسى ربه فقال: اللهم اجمع لي خصال الخير في كلمة واحدة. فقال: صاحب الناس بالذي تحب أن يصاحبوك به.
ومن حديث: قال: يا رب! أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم بي.
وعن عطاء بن يسار قال: قال موسى: يا رب! من أهلك الذين هم أهلك، الذين تؤوي في ظل عرشك يوم القيامة؟ قال: هم البريئة أبدانهم، الظاهرة قلوبهم، الذين يتحابون بجلالي، الذين إذا ذكرت ذكروني ذكرتهم، يسبغون الوضوء عند المكاره، وينيبون إلى ذكري ما تنيب النسور إلى أوكارها، يكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحسب الناس، يغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حرب.
زاد في آخر بمعناه: فإن النمر إذا غضب لم يبال أقل الناس أم كثروا.
وفي رواية: أخبرني عن أهلك الذين هم أهلك. قال: هم المتحابون في الدين، يعمرون مساحدي ويستغفروني بالأسحار. الحديث.
وعن زيد بن أسلم: أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه: من الذين يرثون دار قدسك؟ قال: يا موسى! هم النقية أبدانهم. الحديث.
وفي حديث عروة قال: يا رب! أخبرني بأكرم خلقك عليك؟ قال: الذي يسارع إلى هواي كما يسرع النسر إلى هواه، والذي يكلف بعبادي الصالحين كما يكلف الصبي بالناس. الحديث.
وعن بديل بن مسيرة - وكان قد قرأ الكتب - قال: إن الله تعالى أوحى إلى موسى فيما يوحي إليه أن أحب عبادي إلي الذين يمشون في الأرض بالنصيحات، والذين يمشون على أقدامهم إلى الجمعة، المستغفرين بالأسحار، أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقاباً ثم رأيتهم كففت عنهم عقابي، وإن أبغض عبادي إلي الذي يقتدي بسيئة المؤمن ولا يقتدي بحسنته.
وقال موسى: يا رب! أي عبادك أحب إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكراً. قال: رب، أي عبادك أعلم؟ قال: غلام يلتمس العلم. قال: رب: أي عبادك أحلم؟ قال: أملكهم لنفسه عند الغضب. قال: رب! أي عبادك أصبر؟ قال: أكظمهم للغيظ.
وعن أبي الدرداء قال: قال موسى: يا رب! من يسكن غداً في حظيرة القدس ويستظل بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك؟ قال: يا موسى! أولئك الذين لا تنظر أعينهم في الزنا، ولا يبتغون في أموالهم الربا، ولا يأخذون على أحكامهم الرشا، طوبى لهم وحسن مآب.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: قال موسى: يا رب! أي خلقك أكرم عليك؟ قال: الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري. قال: يا رب! فأي خلقك أعلم؟ قال: الذي يلتمس إلى علمه علم غيره. قال: يا رب! فأي خلقك أعدل؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس. قال: يا رب! فأي خلقك أعظم ذنباً؟ قال: الذي يتهمني. قال: يا رب! وهل يتهمك أحد؟! قال: الذي يستخيرني فلا يرضى بقضائي.
قال ابن عباس: لما بعث الله موسى وكلمه، وأنزل عليه التوراة فقال: إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله تعالى إليه أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. فانتهى موسى.
خرج عمار بن ياسر إلى أصحاب له وهم ينتظرونه فقالوا: أبطأت علينا أيها الأمير. قال: أما إني سأحدثكم حديثاً، كان أخ لكم ممن كان قبلكم، وهو موسى قال: يا رب! أخبرني بأحب خلقك إليك. قال: لم؟ قال: لأحبه لك. قال: سأحدثك، رجل في طرف من الأرض يعبدني، فيسمع به أخ في طرف الأرض الأخرى لا يعرفه، فإن أصابته مصيبة فكأنما أصابته، وإن شاكته شوكة فكأنما شاكته، لا يحبه إلا لي. فذاك أحب خلقي إلي ثم قال موسى: يا رب! خلقت خلقاً فجعلتهم في النار، فأوحي الله إليه أن يا موسى ازرع زرعاً. فزرعه وسقاه، وقام عليه حتى حصده وداسه، فقال له: ما فعل زرعك يا موسى؟ قال: قد رفعته. قال: فما تركت منه؟ قال: ما لا خير فيه. قال: فإني لا أدخل النار إلا من لا خير فيه.
وعن أبي بكر بن عياش قال: قال موسى: يا رب، أرني أهل صفوتك فقيل لها: انطلق إلى خربة كذا وكذا. فانطلق فإذا هو برجل ميت قد بليت أكفانه، وبدت عظامه، فقال موسى: يا رب! سألتك أن تريني أهل صفوتك فأرتني رجلاً ميتاً قد بليت أكفانه وبدت عظامه! قال: نعم يا موسى! ومع هذا فإني أخرجته من الدنيا وهو جائع.
وعن جابر قال:
أوحى الله إلى موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: أن ارحم عبادي المعافى مهم والمبتلى. فقال: يا رب! هذا المبتلى أرحمه لبلائه فما بال المعافى!؟ قال: لقلة شكره إياي على عافيتي إياه.
وعن قتادة قال: قال موسى: يا رب! أنت في السماء ونحن في الأرض، فما علامة غضبك من رضاك؟ قال: إذا استعملت عليكم خياركم فهو علامة رضائي وإذا استعملت عليكم شراري فهو علامة سخطي عليكم.
وعن وهب قال: قال موسى بن عمران: أي رب، أخبرني بآية رضاك عن عبدك. فأوحى الله إليه: يا موسى، إذا رأيتني أهيئ له طاعتي وأصرفه عن معصيتي فذلك آية رضاي عنه.
قال: وفي بعض الكتب، أو فيما أنزل الله تعالى وتقدس: ابن آدم! إذا غضبت فاذكرني، أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك مع من أمحق، فإذا ظلمت فارض بنصري لك فإن نصري لك خير من نصرتك لنفسك.
وعن كعب قال: قال الله عز وجل: يا موسى! أتريد أن أملأ مسامعك يوم القيامة مما يسرك؟ ارحم الصغير كما ترحم ولدك، وارحم الكبير كما ترحم الصغير، وارحم الغني كما ترحم الفقير، وارحم المعافى كما ترمم المبتلى، وارحم القوي كما ترحم الضعيف، وارحم الجاهل ما ترحم الحليم.
وعن كعب قال: إن الرب عز وجل قال لموسى عليه السلام: إذا رأيت الغنى مقبلاً فقلت: ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحباً بشعار الصالحين؛ يا موسى، إنك لن تقرب إلي بعمل من أعمال البر خير لك من الرضا بقضائي، ولن تأتي بعمل أحبط لحسناتك من البطر، وإياك والتضرع لأبناء الدنيا إذا أعرض عنك، وإياك أن تجود بدينك لدنياهم، إذاً أمر أبواب رحمتي أن تغلق دونك؛ أذن الفقراء وقرب مجالسهم منك، ولا تركن إلى حب الدنيا فإنك لن تلقاني بكبيرة من الكبائر أضر عليك من الركون إلى الدنيا. يا موسى، قل للمذنبين النادمين أبشروا، وقل للغافلين المعجبين اخسؤوا.
وعن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال موسى: يا رب! وددت أني أعلم من يحبك من عبادك فأحبه. قال: إذا رأيت عبدي يكثر ذكري فأنا أذنت له في ذلك فأنا أحبه، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني فأنا حجبته عن ذلك وأنا أبغضه.
وعن أبي عمران الجوني قال: أوحى الله تعالى إلى موسى: يا موسى! اذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك من ذكري،
وكن عند ذكري خاشعاً مطيعاً - زاد في آخر: وإذا دعوتني فاجعل لسانك من وراء قلبك - وإذا كنت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذم نفسك فهي أولى بالذم، وناجني حين تناجيني بقلب وجل، ولسان صادق.
وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كان فيما أعطى الله موسى في الألواح اشكر لي ولوالديك أقك المتالف، وأنسئ لك في عمرك، وأحييك حياة طيبة، وأقلبك إلى خير منها.
وعن أبي الجلد قال: قرأت في مسألة موسى أنه قال: كيف لي أن أشكرك؟ وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله. فأتاه الوحي أن يا موسى الآن شكرتني.
وفي رواية قال: يا رب! كيف أشكرك وكل ما بي فهو منك!؟ قال الله له: يا موسى! إن شكري أن تعلم انه مني.
وعن عبد الله بن سلام قال: قال موسى: يا رب! ما الشكر الذي ينبغي لك؟ قال: فأوحى الله عز وجل إليه أن لا يزال لسانك رطباً من ذكري. قال: يا رب! إني أكون على حال أجلك أن أذكرك فيها: يا رب! فما أقول؟ قال: تقول سبحانك وبحمدك جنبني الأذى، سبحانك وبحمدك قني الأذى.
وعن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام قال: يا رب! قد أنعمت علي كثيراً فدلني أن أشكرك كثيراً، قال: اذكرني كثيراً، فإذا ذكرتني فقد شكرتني كثيراً، وإذا نسيتني فقد كفرتني.
وعن عطاء قال: قال موسى: يا رب! أوصني. قال: أوصيك بي. قال: يا رب! أوصني قال:
أوصيك بي. قال: يا رب! أوصني. قال: أوصيك بأبيك. قال: يا رب! أوصيني قال: أوصيك بأمك. قال: يا رب! أوصني، قال: أوصيك بابنك.
قال عطاء: فجعلت ثلثي بره لأمه وثلثاً لأبيه.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
قال موسى: رب! أرني متى تحبني ومتى تبغضني؟ واجعل لي في ذلك علماً أعرفه. قال: يا موسى! إن آية ما أحبك أنك إذا أردت الخير يسرتك له ويسرته لك، وإذا أردت الشر حلت بينك وبينه، وآية ما أبغضك أنك إذا أردت الخير صرفتك عنه وصرفته عنك، وإذا أردت الشر خليت بينك وبينه. قال: رب! فمتى تحبنا عامة، ومتى تبغضنا عامة؟ قال: آية ما أحبكم عامة أن أنزل عليكم المطر لحينه، وأولي عليكم خياركم؛ وآية ما أبغضكم عامة أن أنزل عليكم المطر لغير حينه، وأولي عليكم شراركم. قال: رب! أي الأعمال أحب إليك أن أعمل لك به؟ قال: تعبدني ولا تشرك بي شيئاً. قال: رب! ثم مه؟ فأعادها عليه مرة أخرى قال: ثم مه؟ قال: ثم عليك بأمك - ثلاثاً - ثم بأبيك. قال: رب! فأي الدعاء أحب إليك أن أدعوك به؟ قال: تحمدني على كل حال، وتشكر نعمتي وحسن ملئي إياك، وتسألني من الخير كله، وتستعذ بي من الشر كله، فإني على كل شيء قدير وليكن مما تستعيذني منه الجار المؤذي وصاحب الغفلة الذي إذا نسيت لم يذكرك، وإذا ذكرت لم يعنك.
وعن مكحول قال: أوحى الله إلى موسى: اغسل قلبك. قال: يا رب! بأي شيء أغسله؟ قال: اغسله بالهم والحزن.
وعن الحسن أن موسى سأل ربه جماعاً من الخير فقال: اصحب الناس بما تحب أن تصحب به.
وعن عبد الله بن أبي عوف قال: قال موسى: كيف يحبني خلقك كلهم؟ قال: خالق الناس بأخلاقهم، وأحسن فيما بيني وبينك.
وعن سفيان قال: سأل موسى ربه فقال: يا رب! ما أعددت أوليائك؟ قال: يا موسى! غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، ففيها ما لا عين رأت، ولا خطر على قلب بشر. قال سفيان: ونحن ترى أنها جنة عدن، لأنه لم يخلق بيده من الجنان شيئاً غيرها.
وعن كعب الأحبار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى في بعض ما أوحى إليه: يا موسى! لولا من يحمدني ما أنزلت من السماء قطرة، ولا أنبت من الأرض ورقة؛ لولا من يعبدني ما أهملت من يعصيني طرفة عين؛ يا موسى! إذا لقيت المساكين فسائلهم كما تسائل الأغنياء، فإن لم تفعل ذلك فاجعل كل شيء علمت - أو قال عملت - تحت التراب؛ يا موسى! أتحب أن لا ينالك من عطش يوم القيامة؟ قال: إليه! نعم. قال: فأكثر الصلاة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن المنهال بن خليفة قال: قال موسى: يا رب! إن نزلت بي حاجة فإلى من؟ قال: إلى النجباء من خلقي.
وعن سفيان الثوري قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى بن عمران: يابن عمران! لأن تجعل يدك في فم تنين إلى المرفق خير لك من أن تسأل غنياً - كان فقيراً - حاجة.
قال كعب الأحبار: في كتاب الله الذي أنزل على موسى: احفظ ود أبيك، لا تجفه فيطفئ الله نورك.
وعن عبد الله بن عمرو قال: أوحى الله إلى موسى: أنا قاتل القتالين ومفقر الزناة.
وكان رجل يخدم موسى ويتعلم منه فاستأذنه أن يرجع إلى قريته ثم يعود إليه فأذن له، فانطلق، فجعل يقول: حدثني موسى نجي الله بكذا، حدثني موسى كليم الله بكذا. حتى كثر ماله، وجعل موسى يسأل عنه فلا يخبر عنه بشيء، فبينما موسى قاعد إذ مر به رجل يقود خرزاً، في عنقه حبل - والخرز: الأرنب الذكر - فقال: يا عبد الله! من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من قرية كذا وكذا، من قرية الرجل. قال: فتعرف فلاناً؟ قال: نعم، هو هذا الذي في يدي. قال موسى يا رب! رده إلى حاله حتى أسأله فيما صنعت به هذا؟ فأوحى الله إلي: لو سألني الذي سألتني آدم فمن دونه من البشر حتى تبلغ محمداً لم أرده إلى حاله، وإنما صنعت هذا لأنه كان يطلب الدنيا بالدين.
وعن محمد بن مهاجر القاري قال: مر موسى برجل رافع يديه يدعو، فقال موسى: يا رب! عبدك يدعوك، فاستجب له، افعل به. قال: فأوحى الله إليه: يا موسى! لو رفع يديه حتى تنقطعا من آباطهما ما استجبت له حتى يرد غربالي التبن اللذين غصبهما.
أوحى الله تعالى إلى موسى: كن يقظاناً مرتاداً لنفسك أخذاناً، وكل خدن لا يواتيك على مسرتي فلا تصحبنه، فإنه عدوي وأكثر من ذكري حتى تستكمل الشكر فستوجب المزيد.
أوحى الله إلى موسى بن عمران: إن أول من مات إبليس، وذلك أنه أول من عصاني، وإنما أعد من عصاني من الموتى.
وعن وهب قال: أوحى الله إلى موسى: إني رزقت الأحمق ليعلم العاقل أن الرزق ليس باحتيال.
وعن محمد بن كعب
في قول الله تعالى " واختار موسى قومه سبعين رجلاً " قال: اختار صالحيهم
سبعين رجلاً، ثم خرج بهم فقالوا: أين تذهب بنا؟ قال: أذهب بكم إلى ربي، وعدني أن ينزل علي التوراة. قالوا: فلا نؤمن بها حتى ننظر إليه. فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، فبقي موسى قائماً بين أظهرهم ليس معه منهم أحد " قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ماذا أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وليس معي رجل ممن خرج معي؟ ثم قرأ: " ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون " فقالوا: " هدنا إليك ". قال: فبهذا تعلقت اليهود، فتهودت بهذه الكملة.
وقوله تعالى: " فاقتلوا أنفسكم " قال: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر، فقتل بعضهم بعضاً، لا يحمي الرجل على قريب ولا بعيد، حتى لوى موسى عليه السلام بثوبه، فألقوا ما بأيدهم فكشفوا عن سبعين ألف قتيل، وإن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى أن حسبي فقد اكتفيت.
زاد في حديث آخر: فكانت شهادة للمقتول وتوبة للحي.
وفي حديث: فأحزن موسى وبني إسرائيل الذي كان من القتل، فاوحى الله إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل منهم فحي عندي يرزق، وأما من بقي فقد قبلت توبته. فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان أول شأن موسى نسياناً، والثانية عذراً، والثالثة فراق ما بينهما؛ ولو صبر موسى لقص الله علينا من شأنهما أكثر مما قص.
وعن محمد بن كعب أن موسى ثقل عليه أمر بني إسرائيل، واشتد عليه بعض المؤنة منهم فقال له رجل:
يا نبي الله! ألا أدلك على شيء يخفف عنك أمر بني إسرائيل؟ فقال: بلى. قال: إن نبي إسرائيل اثنا عشر سبطاً، فاختر من كل سبط رجلاً فاجعله عليهم، ثم ميز من كل سبط ألفاً، فاختر من كل ألف رجلاً فاجعله عليهم فما كان بين المئة من خصومه نظر فيه صاحبهم، فإذا أشكل عليه، رفعه إلى صاحب الألف، فإن اشكل عليه رفعه إلى صاحب السبط، فإن أشكل على صاحب السبط رفعه إليك، فإنه قليل ما يأتيك من ذلك. ففعل موسى، فخف عليه شأن الناس، فقال موسى: رب! كلمني وناجني واصطفني لنفسك مثل ثم كان من خلقك من هو أعلم مني. فبعث الله طيراً إلى بحر، فشرب منه ثم قال: يا موسى! ما تقول هذا الطير نقص من هذا النهر؟ قال: لا ينقص، وماذا ينقص يا رب؟ طير وضعت خراطيمها في نهر منه! قال الله: فكما لم ينقص هذا الطير من هذا النهر شيئاً فكذلك لا ينقص ما علمتك من علمي شيئاً. قال موسى: فدلني يا رب على عبد لك أعلم مني حتى أتبعه، فألتمس من علمه. فقال الله له: خذ هذا الحوت، اذهب حيث فارقك هذا الحوت فستجد من هو أعلم منك، فخرج موسى لفتاه: " آتنا غذاءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " قال: فزع الفتى حين لم يجد الحوت وكان يتعاهده " قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره فاتخذ سبيله في البحر عجبا "، قال له موسى: " ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً " فلقي رجلاً قال له موسى: السلام عليك. فقال له الرجل أنى السلام بهذه الأرض؟ من أنت؟ قال: أنا موسى. قال فابتدأه الرجل بعلم من علم الغيب قال: نبي بني إسرائيل؟ قال له موسى: نعم. قال له الرجل: إن كنت
لأتوجع لك مما كنت تلقى من فرعون " قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً، قال إنك لن تستطيع معي صبراً، وكيف نصبر على ما لم تحط به خبراً " ثم تلا الآية حتى فرغ. قال عمر بن الخطاب - ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدثهم بهذا الحديث حتى فزع من القصة -: يرحم الله موسى، وددت لو أنه صبر حتى يقص علينا أيضاً من حديثهما.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: هل يصلي ربك؟ فتكابد - أو تكابر - موسى عليه السلام فقال الله عز وجل له: ما قالوا لك يا موسى؟ قال: قالوا الذي سمعت. قال: فأخبرهم أني أصلي، وأن صلاتي تطفئ غضبي.
وفي حديث آخر: إن صلاتي على عبادي أن تسبق رحمتي غضبي، لولا ذلك لأهلكتهم.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكي موسى على المنبر قال:
وقع في نفس موسى هل ينام الله تعالى وتقدس؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً، ثم أعطاه قارورتين، في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بها فجعل ينام، وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقط فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة، فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان. قال: ضرب له مثلاً أن الله تبارك وتعالى لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض.
وعن راشد بن سعد قال: إن موسى لما قدم على قومه ووعد قومه أربعين ليلة قال الله: يا موسى! إن قومك قد افتتنوا من بعدك. قال: يا رب، كيف يفتتنون وقد نجيتهم من فرعون، ونجيتهم من البحر، وأنعمت عليهم وفعلت بهم! قال: يا موسى! اتخذوا بعدك عجلاً له خوار.
قال: يا رب! فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا. قال: فأنت أضللتهم. قال: يا موسى! يا رأس النبيين يا أبا الأحكام! إني رأيت ذلك في قلوبهم، فيسرته لهم.
وعن وهب أنه كان يذكر من كرامة موسى على الله أن بني إسرائيل لما كثروا عليه أوحى الله إلى ألف - أو قال: سبعين نبي - يكونون أعواناً له، فلما مال إليهم الناس ورجعوا عن موسى كأنه وجد في نفسه غيرة، فأماتهم الله في يوم واحد.
وعن نوف أن طول سرير عوج الذي قتله موسى ثمان مئة ذراع، وعرضه أربع مئة ذراع، وكان موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثبته حين وثب ثمانية - وقيل عشرة - أذرع، فضربه فأصاب كعبه فخر على نيل مصر فجسره للناس عاماً يمرون على صلبه وأضلاعه.
وعن زيد بن أسلم قال: كان موسى بن عمران إذا غضب اشتعلت النار في قلنسوته.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: " إنا لن ندخلها أبداً ما داموا " إلى قوله " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " قال: لا تأس على من سميت أنه فاسق. قال ابن عباس: كانت طيرة من موسى حين قال " الفاسقين " وقال لهم: يا حمير! فقال الله عز وجل: مه عن عبادي.
وعن ابن عباس قال: غضب موسى على قومه في بعض ما كانوا يسألونه، فلما نزل الحجر قال: اشربوا يا حمير! فأوحى الله إليه: أتعمد إلى عبيد من عبادي فتقول لهم يا حمير!؟ قال: فما برح موسى حتى أصابته عقوبة.
كان شاب في بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام باراً بأمه عابداً يصلي ثلث
الليل، وينام الليل، ويجلس ثلث الليل عند رأس أمه، يلقنها التسبيح والتهليل، فإذا أصبح خرج إلى البرية فيحتطب ثم يدخله محلة بني إسرائيل فيبيعه ويتصدق بثلثه، ويشتري بثلثه طعاماً يكفيه وأمه يومهما، ثم يأتي بالثلث الثالث إلى أمه فتصدق به، فغبر بذلك ما شاء الله، ثم قالت له أمه ذات يوم: أي بني! إن لي بقرة ورثتها عن أبي، وإني أرسلها في البرية ترعى، ويحفظها علي إله بني إسرائيل، فاذهب في طلبها. فذهب الفتى في طلبها، ووصفتها له، وأوعزت إليه أن لا يركبها ولا يحدث فيها أمراً.
وقيل: إن تلك البقرة، كانت لغلام يتيم وهي التي وصفها الله في كتابه. ولما أن أصاب الفتى البقرة ناداها فقال: أيتها البقرة! أسألك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب لما ابتعتني. فاتبعه، فتكلمت البقرة بإذن الله فقالت: يا فتى! لو سألت الله ربك أن يسير معك الجبال لفعل، لبرك بأمك ولطواعيتك لها. فمضى بالبقرة، فتعرض له إبليس لعنه الله ليركبها ويعصي أمه، فأبى، فلما عصمه الله من معصية أمه عرض له إبليس ليخدعه عنها فيشتريها منه، فسأله أن يبيعها منه يعطيه ما سأل، فأبى، فجاء بها إلى أمه، فقالت: يا بني! اذهب بها فبعها. قال: بكم؟ قالت: بستة دنانير على رضاي. فقبض الله له ملكاً أعطاه بها اثني عشر ديناراً على أن لا يستأمر أمه، فأبى، فردها إلى أمه فأخبرها الخبر، فقالت: اذهب فبعها باثني عشر ديناراً على أن تستأمرني فيها، فانطلق بها إلى السوق، فجاءه الملك فأعطاه أربعة وعشرين ديناراً على أن لا يسامر أمه، فأبى فقال: لو أعطيتني ملء مسكها ذهباً ما بعناكها إلا برضا أمي. فقال له الملك: إنك لا تبيعها حتى تعطي ملء مسكها ذهباً لبرك بأمك وطواعيتك لها - ونظر الملك خير للفتى - فقال: حتى قتل رجل في بني إسرائيل؛ وذلك أنه كان رجلاً فيهم كثير المال، لم يكن له ولد، عمد أخوان من بني إسرائيل وهما ابنا أخيه فقتلاه كي يرثانه، فألقياه إلى جانب قرية أهلها براء منه، فأصبح القتبل بين أظهرهم، فأخذوا به فعمي عليهم شأنه ومن قتله؛ قال أهل القرية الذين وجد القتيل عندهم لموسى: ادع
الله يا رسول الله لنا أن يطلعك على قاتل هذا. قال: أفعل. ففعل. قالوا له: ماذا أجابك ربك؟ قال: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " فتضربوه ببعضها فيعيش فيخبركم من قتله إن شاء الله. فظنوا أن موسى استهزأ بهم " قالوا " يا موسى " أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال " فدعا ربه فقال " إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان " يعني لا هرمة ولا بكر عوان " بين ذلك " يعني نصف بين البكر والهرمة " فافعلوا ما تؤمرون " ثم " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين " يعني أنها صفراء الظلف والقرنين " لا شية فيها " يقول: لا وضح فيها " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقرة تشابه علينا ".
قال ابن عباس: فلو أنهم عمدوا إلى بقرة لا صغيرة ولا كبيرة فذبحوها لأجزت عنهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
قال ابن عباس: كانت مدينتان في بني إسرائيل، إحداهما حصينة ولها أبواب، والأخرى خربة، فكان أهل المدينة الحصينة إذا أمسوا أغلقوا أبوابها، وإذا أصبحوا قاموا على سور المدينة فنظروا أهل حدث فيما حولها حدث؟ فأصبحوا يوماً، فإذا شيخ قتيل مطروح بأصل مدينتهم، فأقبل أهل المدينة الخربة فقالوا: قتلتم صاحبنا، وابن أخ له شاب يبكي عنده ويقول: قتلتم عمي. قالوا والله ما فتحنا مدينتنا منذ أغلقناها، وما ندينا من دم صاحبكم هذا بشيء. فأتوا موسى، فأوحى الله إلى موسى " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " إلى قوله " فذبحوها وما كادوا يفعلون ".
وكان في بني إسرائيل غلام شاب يبيع في حانوت له، وكان له أب شيخ كبير، فأقبل رجل من بلد آخر يطلب سلعة له عنده، فأعطاه بها ثمناً، فانطلق معه ليفتح حانوته، فيعطيه الذي طلب، والمفتاح مع أبيه، فإذا أبوه نائم في ظل الحائط فقال: أيقظه. فقال: إني أكره أن أروعه من نومه، فانصرفا، فأعطاه ضعف ما أعطاه، فعطف على أبيه، فإذا هو أشد ما كان نوماً. فقال: أيقظه. قال: لا والله لا أوقظه أبداً ولا أروعه من نومته. قال: فلما انصرف وذهب طالب السلعة استيقظ الشيخ فقال له ابنه: يا أبتاه! لقد جاء ها هنا رجل يطلب سلعة كذا وكذا فكرهت أن أروعك من نومك. فلامه الشيخ، فعوضه الله من بره بوالده إذ نتجت بقرة من بقرة تلك البقرة التي يطلبها بنو إسرائيل، فأتوه فقالوا: بعناها. فقال: لا أبيعكموها. قالوا: نأخذها منك. قال: إن غصبتموني سلعتي فأنتم أعلم. فأتوا موسى فقال: اذهبوا فأرضوه من سلعته. فقالوا: فقالوا: حكمك. قال: حكمي أن تضعوا البقرة في كفة الميزان وتضعوا ذهباً صامتاً في الكفة الأخرى، فإذا مال الذهب أخذته. ففعلوا، أقبلوا بالبقرة إلى قبر الشيخ وهو بين المدينتين، واجتمع أهل المدينتين، وابن أخيه عند قبره يبكي، فذبحوها فضرب ببضعة من لحمها القبر فقام الشيخ ينفض رأسه يقول: قتلني ابن أخي، طال عليه عمري فأراد أخذ مالي. ومات.
وقيل: إنهم اشتروا البقرة بملء جلدها إذا سلخت ذهباً قباعها إياهم، فذبحوها ثم قالوا: قد ذبحناها يا موسى! قال: فخذوا عضواً منها فاضربوه به. قال الحسن: أخذوا عضد البقرة فضربوه فقام وأوداجه تشخب دماً، فسألوه: من قتلك؟ فقال: فلان وفلان ابنا أخيه فمات.
وقيل: إنهم أعطوه ملء مسكها ذهباً من مال القتيل، فاستغلق المال كله، فحرمهم الله ميراثه فجرت السنة بهن لا يرث وارث إن قتل. فقال ابنا أخيه: ما قال إنا قتلناه. فأنزل الله على نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخير ما قالوا وما كان من أمرهم. فقال " وإذ قتلتم نفساً " إلى قوله " لعلكم تعقلون "، ونزلت فيما قالا: ما قال إنا قتلناه " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة " يعني من بعد ما رأيتم العبرة فهي " أشد قسوة " من الحجارة.
وعن أبي موسى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لقد مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبياً، منهم موسى نبي الله، حفاة عليهم العباء، يؤمون بيت الله العتيق.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً، منهم موسى - أو فيهم موسى - فكأني أنظر إليه وعليه عباءتان قطوانيتان وهو محرم على بعير من إبل شنوءة، مخطوم الخطام من ليف، وله ضفران.
وعن ابن عباس قال: حج موسى على ثور أحمر، عليه قطوانية.
وعن انس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكثروا من الصلاة على موسى، ما رأيت أحداً من الأنبياء أحوط على أمتي منه.
وعن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: في قوله " فلا تكن في مرية من لقائه "، قال: لقاء موسى ربه " وجعلناه هدى لنبي إسرائيل " قال موسى: هدى لبني إسرائيل.
وعن زيد بن أسلم في قوله: " رسول كريم " قال موسى عليه السلام.
وعن أبي هريرة وغيره في هذه الآية: " لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبراه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ".
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يكاد يرى من جلده شيء استحياء، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا: ما يستر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة. وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا. وإن موسى خلا يوماً وحده فوضع ثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر وجعل يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! إلى أن انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً كأحسن الرجال خلقاً فبرؤوه مما قالوا، وإن الحجر قام، فأخذ بثوبه فلبسه، فطفق بالحجر ضرباً. قال: فوالله إن في الحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً، أو أربعاً، أو خمساً.
وفي رواية: أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة فينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى يغتسل وحده. الحديث. وفيه حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس.
وفي حديث آخر: فنظروا إلى أحسن الناس خلقاً، وأعدل صورة. قال الملأ: قاتل الله أفاكي بني إسرائيل، فكانت براءته التي برأه الله بها.
وروي عن علي رضي الله عنه في هذه الآية، قال: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، وقال بنو إسرائيل: أنت قتلته، كان أشد حباً لنا منك، وألين منك. فآذوه بذلك، فأمر الله الملائكة فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة بموته، حتى عرفت بنو إسرائيل أنه قد مات. فبرأه الله من ذلك، فانطلقوا به ودفنوه. فلم يطلع على قبره أحد من خلق الله إلا الرخم فجعله الله أصم أبكم.
وعن الحسن: أن موسى لما حضرته الوفاة، كان جالساً يقضي بين بني إسرائيل إذ نظر إلى رجل بينهم أنكره، فاشرأب مكانه، فلما رآه قام ودخل على أمه حبوراً، فقالت له: يا بني! إن هذه الساعة ما كنت تقومها فما الذي أعجلك؟ وكان نبي الله موسى إذا رأى شيئاً من بني إسرائيل يكرهه دخل على أمه فأخبرها، فقالت: هل رأيت شيئاً من بني إسرائيل تكرهه؟ قال: لا، ولكن رأيت رجلاً أنكرته، فجعلت أنظر إليه فأراه على حاله فقمت، فقالت: وما الذي ظننت؟ قال: ملك الموت جاء يقبضني. فقالت: يا بني! أفلا حققت ذلك؟ أفلا حققت ذلك؟ قال: ما فعلت. قال: فخرج موسى، فوجده على بابه. فقال: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا ملك الموت بعثت إليك لأقبض روحك، وأمرت بطاعتك في نفسك. قال: فهل تراجع الله في؟ قال: نعم إن شئت. قال: ثم مه؟ قال: ثم الموت.
وقال مكحول: إن ملك الموت راجع ربه في موسى، فقال الله عز وجل: قل لموسى إن شئت أمهلتك عدد النجوم في السماء، وإن شئت فاضرب بيديك على مسك ثور، فما وارتا من شعره عددتها فأحييت بعددها سنين. قال: فجاءه ملك الموت فأبلغه، فقال له موسى: ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال: ما منه بد؟ قال: لا. قال: فامض لما أمرت به، ولكن دعني فأدخل إلى أمي فأسلم عليها، وعلى زوجتي وولدي فأودعهم، قال: نعم. فدخل على أمه فأكب عليها يقبلها ويقول: يا أمتاه! قد كبرت السن، ودنا الأجل، وقد أحببت لقاء ربي، فبكت وبكى وأوصاها وعزاها، وأكب على زوجته اصفورا، فسلم عليها ثم قال: نعمة الشريكة كنت! فأوصاها، وودعها، وودع ولده وأوصاهم، فقالت زوجته: ادعو الله أن يجعلني زوجتك في الجنة. فقال: على أن لا تصغي ثوباً
حتى ترقعيه، وتدخري طعاماً لشهر. قالت: أفعل. وكانت بعد موسى تلتقط السنبل من وراء الحاصدين، وكانوا يطرحون لها الحبوب، ويحبون أن تأخذ شيئاً صالحاً، وإذا رأت ذلك وعرفت أنهم قد عرفوها تركتهم، ولحقت بمكان آخر حتى ماتت رحمها الله.
ولما احتضر موسى قالت له امرأته: إني معك منذ أربعين سنة فمتعني من وجهك بنظرة، قال: وكان على وجه موسى البرقع لما غشي وجهه من نور العرش يوم تجلى ربه للجبل، فكان إذا كشف عن وجهه عشيت الأبصار، فكشف لها عن وجهه فعشي بصرها فقالت: سل الله أن يزوجنيك في الجنة. قال: إن أحببت ذلك فلا تزوجي بعدي، ولا تأكلي إلا من رشح جبينك. قال: فكانت تبرقع بعده، تتبع اللقاط. الحديث.
وقالت الصفراء امرأة موسى لموسى: بأبي أنت وأمي أنا أيم منك منذ كلمك ربك. وكان موسى لم يأت الناس منذ كلمه ربه، وكان قد ألبس على وجهه حريرة أو برقع وكان أحد لا ينظر إليه إلا مات فكشف لها عن وجهه، فأخذها من غشيه مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها على وجهها وخرت لله تعالى ساجدة، فقالت: ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة قال: ذاك إن لم تزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها. قالت: فأوصني، قال: لا تسألي الناس شيئاً.
ولما نزل بموسى الموت جزع، ثم قال: إني لست أجزع للموت، ولكني أجزع أن ييبس لساني عن ذكر الله عند الموت. قال: وكان لموسى ثلاث بنات فقال: يا بناتي! إن بني إسرائيل سيعرضون عليكن الدنيا فلا تقبلن، والقطن هذا السنبل فافركنه وكلنه وتبلغن به إلى الجنة.
ولما ودع موسى أمه وولده وأهله أرسل إلى يوشع فاستخلفه على الناس وخرج إلى ملك الموت، فقال له ملك الموت: يا موسى! ما بد من الموت قال له موسى: فأمض أمر الله في. قال: فخرجا من القرية فإذا هما بجبريل وميكائيل وإسرافيل قيام ينتظرونهما،
فمشوا جميعاً حتى مروا بقبر عنده قوم، عليهم العمائم البيض، فلما كانوا منهم قريباً نفحت عليهم رائحة المسك فقال موسى: لمن تحفرون هذا القبر؟ قالوا: لعبد يحبه الله ويحب الله. فقال: هل أنتم تاركي أنزل هذا القبر فأنظر إليه؟ قالوا: نعم. فلما نزل فرجت له من القبر فرجة إلى الجنة، فجاءه من روحها وريحانها، فاضطجع موسى في القبر ثم قال: اللهم اجعلني ذلك العبد الذي تحبه ويحبك. فقبض ملك الموت روحه ثم تقدم جبريل فصلى عليه ثم أهالوا عليه ما أخرج من القبر.
وعن ابن عباس أن موسى كان يستظل في عريش ويأكل ويشرب في نقير حجر، وإذا أراد أن يشرب كرع كما تكرع الدابة تواضعاً لله، وكان يلبس الصوف، فخرج ذات يوم من عريشه ليقضي حاجته لا يعلم به أحد من خلق الله، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبراً، فأقبل إليهم حتى وقف عليهم، فإذا هم يحفرون قبراً لم ير قط شيء أحسن منه، ورأى فيه خضرة وحسناً فقال لهم: يا ملائكة الله! لمن هذا القبر؟ قالوا: لعبد كريم على الله. قال: ما رأيت مضجعاً أحسن منه. قالت له الملائكة: يا صفي الله! تحب أن يكون لك هذا القبر؟ قال: وددت ذلك. قالوا: فنزل فاضجع وتوجه إلى ربك ثم تنفس أسهل نفس تنفسته قط. فنزل فاضجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس، فقبض الله روحه فسوت عليه الملائكة.
علقه عبد الله محمد بن المكرم بن أبي الحسن الأنصاري الكاتب عفا الله عنه وفرغ منه في نصف ذي القعدة المبارك سنة أربع وتسعين وست مئة الحمد لله رب العالمين كما هو أهله وصلواته على سيدنا محمد وآله صحبهوسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل
تتمة أخبار موسى عليه السلام قال وهب بن منبه: قام موسى فلما رأته بنو إسرائيل قامت إليه، فأما إليهم أن اجلسوا، فجلسوا، فذهب حتى جاء الطور، فإذا هو بنهر أبيض فيه مثل رؤوس الكباش، كافور محفوف بالرياحين، فلما أعجبه ذلك وثب فيه فاغتسل وغسل ثوبه، ثم خرج وجفف ثيابه، ثم رجع إلى الماء فاستنقع فيه حتى جفت ثيابه، فلبسها؛ ثم أخذ نحو الكثيب الأحمر الذي هو فوق الطور، فإذا هو برجلين يحفران قبراً، فقام عليهما فقال: ألا أعينكما؟ قالا: بلى. فنزل يحفره فقال: لتحدثاني مثل من الرجل؟ فقالا: على طولك، فاضطجع فيه، فالتأمت عليه الأرض، فلم ينظر إلى قبر ينظر إلى قبر موسى إلا الرحمة فإن الله أصمها وأبكمها.
وعن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكه، ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: فرد الله عليه عينه، فقال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله ما غطت يده، بكل شعرة سنة. فقال: أي رب! ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. قال: فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق بجنب الكثيب الأحمر.
وفي حديث آخر: أن موسى عرف ملك الموت، فلطمه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه مغاضباً، فقال: يا رب! أما ترى ما صنع بي موسى؟ ولولا منزلته منك لقبضته قبضاً عنيفاً. فقيل له: إنه ليس كذلك، ولكن ادخل إليه فخيره بين أن يضع يده على متن ثور أسود فله بكل شعرة تحت يده مدة سنة. الحديث.
قال أبو سليمان الخطابي: هذا حديث يطعن فيه الملحدون وأهل البدع ويغمزون به في رواته، ويقولون: كيف يجوز أن يفعل نبي الله موسى هذا الصنيع بملك من ملائكة الله، جاءه بأمر من أمره فيستعصي عليه ولا يأتمر له؟ وكيف تصل يده إلى الملك، ويخلص إليه صكه ولطمه؟ وكيف ينهنهه الملك المأمور بقبض روحه فلا يمضي أمر الله فيه؟ هذه الأمور خارجة عن المعقول مستحيلة من كل وجه.
والجواب: أن من اعتبر هذه الأمور بما جرى به عرف البشر، واستمرت عليه عادات طباعهم، فإنه يسرع إلى استنكارها والارتياب بها لخروجها عن سوم طباع البشر، وعن سنن عاداتهم إلا أنه أمر مصدره عن قدرة الله سبحانه الذي لا يعجزه شيء، ولا يتعذر عليه أمر، وإنما هو محاولة بين ملك كريم ونبي كليم، وكل واحد منهما مخصوص بصفة خرج بها عن حكم عوام البشر ومجاري عاداتهم في المعنى الذي خص به من أثرة الله، واختصاصه إياه، فالمطالبة بالتسوية بينهما وبينهم فيما تنازعاه من هذا الشأن حتى يكون ذلك على أحكام طباع الآدميين وقياس أحوالهم غير واجب في حق النظر، ولله عز وجل لطائف وخصائص يخص بها من يشاء من أنبيائه وأوليائه، ويفردهم بحكمها دون سائر خلقه.
وقد أعطى موسى - صلوات الله عليه - النبوة، واصطفاه بمناجاته وكلامه، وأمده حين أرسله إلى فرعون بالمعجزات الباهرة، كالعصا واليد البيضاء، وسخر له البحر فصار طريقاً يبساً جاز عليه قومه وأولياؤه، وغرق فيه خصمه وأعداؤه. وهذه أمور أكرمه الله بها وأفرده بالاختصاص بها أيام حياته، ومدة بقائه في دار الدنيا، ثم إنه لما دنا حين وفاته، وهو بشر يكره الموت طبعاً، ويجد ألمه حساً، لطف به بأن لم يفاجئه به بغتة، ولم يأمر الملك الموكل به أن يأخذه قهراً وقسراً، لكن أرسله إليه منذراً بالموت،
وأمره بالتعرض له على سبيل الامتحان في صورة بشر، فلما رآه موسى استنكر شأنه، فاحتجز منه دفعاً عن نفسه بما كان من صكه إياه، فأتى ذلك على عينه المركبة في الصورة البشرية التي جاء فيها، دون الصورة الملكية التي هو مجبول الخلقة عليها، ومثل هذه الأمور مما تعلل به طباع البشر، وتطيب به نفوسهم في المكروه الذي هو واقع بهم، فإنه لا شيء أشفى للنفس من الانتقام ممن يكيدها ويريدها بسوء.
وقد كان من طبع موسى فيما دل عليه القرآن حمأ وحدة، وقص القرآن من وكزه القبطي الذي قضى عليه، وما كان من غضبه وإلقائه الألواح، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، وقد روي أنه كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته ناراً. وقد جرت سنة الدين بحفظ النفس دفع الضرر عنها. ومن شريعة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سنه فيمن اطلع على محرم قوم، من عقوبته في عينه فقال: من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه.
ولما نظر نبي الله موسى - صلى الله على نبينا وعليه - إلى صورة بشرية هجمت عليه من غير إذن، تريد نفسه وتقصد هلاكه، وهو لا يثبته معرفة، ولا يستيقن أنه ملك الموت ورسول رب العالمين فيما يراوده منه، عمد إلى دفعه عن نفسه بيده وبطشه، فكان في ذلك ذهاب عينه. فقد امتحن غير واحد من الأنبياء - صلوات الله على نبينا وعليهم - بدخول الملائكة عليهم في صورة البشر، كدخول الملكين على داود عله السلام في صورة الخصمين، لما أراد الله من تقريعه إياه بذنبه، وكدخولهم على إبراهيم عليه السلام حين أراوا إهلاك قوم لوط، فقال: " قوم منكرون " وقال: " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خفية ".
وكان نبينا صولات الله عليه وسلامه أول ما بدئ بالوحي يأتيه الملك فيلتبس عليه أمره. ولما جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام في صورة رجل فسأله عن الإيمان لم يتبينه، فلما انصرف عنه تبين أمره فقال: هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر يدنكم. وكذلك
كان أمر موسى فيما جرى من مناوشة ملك الموت، وهو يراه بشراً، فلما عاد الملك إلى ربه مستثبتاً أمره فيما جرى عليه رد الله عليه عينه، وأعاده رسولاً إليه ليعلم نبي الله صوات الله عليه إذا رأى صحة عينه المفقوءة وعود بصره الذاهب أنه رسول الله، بعثه لقبض روحه، فاستسلم حينئذ لأمره، وطاب نفساً بقضائه، وكل ذلك رفق من الله به، ولطف منه في تسهيل ما لم يكن بد من لقائه والانقياد لقضائه.
قال: وما أشبه معنى قوله: ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، بترديده رسوله، ملك الموت، إلى نبيه موسى عليه السلام فيما كرهه من نزول الموت به لطفاً منه بصفيه وعطفاً عليه، والتردد على الله تعالى وتقدس غير جائز، من رسول أو شيء غيره كما شاء سبحانه، تنزه عن صفات المخلوقين، وتعالى عن نعوت المربوبين الذين يعتريهم في أمورهم الندم والبداء، وتختلف بهم العزائم والآراء " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ".
قال الحسن:
مات موسى عليه السلام، فلم يدر أحد من بني إسرائيل أين قبره، وأين توجه، فماج الناس في أمره فقالوا: ما نرى رسول الله رجع، ورأوه حين خرج، فلبثوا بذلك ثلاثة أيام لا ينامون الليل، يموج بعضهم في بعض، فلما كان بعد ثالثة غشيتهم سحابة على قدر محلة بني إسرائيل، وسمعوا فيها منادياً ينادي، يقول بأعلى صوته: مات موسى وأي نفس لا تموت، يكرر ذلك القول حتى فهمه الناس، فعلموا أنه قد مات، فلم يعرف أحد من الخلائق أين قبره.
قالوا: وما اطلع أحد على قبر موسى إلا الرخمة، فنزع الله عقلها لكيلا تدل عليه.
قال الحسن: لو علم بنو إسرائيل قبر موسى وهارون لاتخذوهما إلهين من دون الله.
قال: ومات موسى وهو ابن مئة وعشرين سنة، ومات هارون وهو ابن مئة وثمان عشرة سنة، لأنه كان أكبر من موسى بسنة، ومات قبل موسى بثلاث سنين.
قال: وفي التوراة مكتوب: مات موسى كليم الله، فمن ذا الذي لا يموت؟ قال كعب: قبر موسى بدمشق.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مررت بموسى ليلة أسري بي، وهو قائم يصلي في قبره بين عالية وعويلة.
قال: هما اللتان عند مسجد القدم.
وقيل: إن عالية المعرفة، وعويلة عند كنيسة توما.
وفي رواية: بين عالية وجرهم.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحاً.
وعن أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أتيت على موسى ليلة أسري بي عن الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره.
وفي رواية: مررت بأخي موسى وهو قائم يصلي في قبره.
وقيل: مات موسى وهو ابن مئة وسبع عشرة سنة، ومات في سبعة أيام من آذار، ودفن في الوادي بأرض مآب.
وعن أبي إسحاق قال: قيل لموسى: كيف وجدت طعم الموت؟ قال: وجدته كسفود أدخل في جزة صوف فامتلخ، قال: يا موسى لقد هونا عليك.
/
موسى بن عمران أبو عمران السلمي الكفرطابي حدث عن أبيه بسنده إلى شداد بن أوس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، وإن العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ".