محمود بن زنكي بن آق سنقر.
أبو القاسم بن أبي سعيد قسيم الدولة، التركي، الملك العادل نور الدين وناصر أمير المؤمنين كان جده آق سنقر قد ولاه السلطان أبو الفتح ملكشاه بن ألب أرسلان حلب، وولى غيرها من بلاد الشام، ونشأ أبوه قسيم الدولة بعده بالعراق، وندبه السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان برأي الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين لولاية ديار الموصل والبلاد الشامية بعد قتل آق سنقر البرسقي وموت ابنه مسعود، فظهرت شهامته في مقاتلة العدو - خذله الله - وثبوته عند ظهور متملك الروم ونزوله على شيزر حتى رجع إلى بلاده خائباً.
وحاصر أبوه قسيم الدولة بدمشق مرتين فلم يتيسر له فتحها، وفتح الرها والمعرة وكفر طاب وغيرها من الحصون الشامية، واستنفذها من أيدي الكفار، فلما انقضى أجله - رحمه الله - قام ابنه نور الدين - أعزه الله - مقامه في ولاية الإسلام.
ومولده على ما ذكر كاتبه أبو اليسر شاكر بن عبد الله التنوخي المعري وقت طلوع الشمس من يوم الأحد سابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمئة؛ ولما راهق لزم خدمة والده إلى أن انتهت مدته ليلة الأحد السادس من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمئة على قلعة جعبر، وكان محاصراً لها، ونقل تابوته إلى مشهد الرقة فدفن بها.
وسير صبيحة الأحد الملك ألب ارسلان بن السلطان محمود بن محمد إلى الموصل مع جماعة من أكابر دولة أبيه، وقال لهم: إن وصل أخي سيف الدين غازي إلى الموصل فهي له، وأنتم في خدمته؛ وإن تأخر فأنا أقرر أمور الشام، وأتوجه إليكم.
ثم قصد حلب ودخل قلعتها المحروسة على أسعد طائر وأيمن بركة، يوم الاثنين سابع ربيع الآخر، ورتب في القلعة والمدينة النواب، وأنعم على الأمراء وخلع عليهم، وكان أبن جوسلين قد عمل على أخذ الرها، وحصل في البلد، فوجه إليه الأمراء دولته حتى استنقذها منه وخرج هارباً.
ولما استتبت له الأمر ظهر منه بذل الاجتهاد في القيام بأمر الجهاد. والقمع لأهل الكفر والعناد، والقيام بمصالح العباد، وخرج غازياً في أعمال تل باشر، فافتتح حصوناً كثيرة، وافتتح قلعة أفامية، وحصن البارة، وقلعة الراوندان، وقلعة تل خالد، وحصن كفر لاثا، وحصن يسرفوث بجبل بني عليم، وقلعة عزار، وتل باشر، ودلوك، ومرعش، وقلعة عين تاب، ونهر الحوز، وغير ذلك.
وغزا حصن إنب فقصده الإبرنس متملك أنطاكية، وكان من أبطال العدو
وشياطينهم، فرحل عنها، ولقيه دونها فكسره وقتله وثلاثة آلاف فرنجي كانوا معه، وبقي ابنه صغيراً مع أمه بأنطاكية، وتزوجت بإبرنس آخر، فخرج نور الدين في بعض غزواته فأسر الإبرنس الثاني، وتملك أنطاكية ابن الإبرنس الأول وهو بيمنت ووقع في أسره في نوبة حارم، وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد.
وأظهر بحلب السنة حتى أقام شعار الدين، وغير البدعة التي كانت لهم في التأذين، وقمع بها الرافضة المبتدعة، ونشر فيها مذاهب أهل السنة الأربعة. وأسقط عنهم جميع المؤن، ومنعهم من التوثب في الفتن، وبنى بها المدارس ووقف الأوقاف، وأظهر فيها العدل والإنصاف.
وقد كان صالح المعين الذي كان بدمشق وصاهره، واجتمعت كلمتهما على العدو لما وازره، وحاصر دمشق مرتين فلم يتيسر له فتحها، ثم قصدها الثالثة فتم له صلحها، وسلم أهلها إليه البلد لغلاء الأسعار، والخوف من استعلاء كلمة الكفار؛ فضبط أمورها، وحصن سورها؛ وبنى بها المدارس والمساجد، وأفاض على أهلها الفوائد، وأصلح طرقها، ووسع أسواقها، وأدر الله على رعيته ببركته أرزاقها، وبطل منها الأنزال، ورفع عن أهلها الأثقال، ومنع ما كان يؤخذ منهم من المغارم كدار بطيخ وسوق البقل، وضمان النهر والكيالة، ونهى عن شربه، وعاقب عليه بإقامة الحد والحبس، واستنقذ من العدو - خذلهم الله - ثغر بانياس، وغيره من المعاقل المنيعة كالمنيطرة وغيرها بعد الإياس.
وبلغني أنه في الحرب رابط الجأش ثابت القدم، شديد الانكماش، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدم أصحابه عند الكرة، ويحمي منهزمهم عند الفرة، ويتعرض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة.
ولقد حكى عنه بعض من خدمه مدة، ووازره على فعل الخير، أنه سمعه يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير، فالله يقي مهجته في الأسواء، ويحسن له
الظفر بجميع الأعداء؛ فلقد أحسن إلى العلماء وأكرمهم، وقرب المتدينين واحترمهم، وتوخى العدل في الأحكام والقضايا، وألان كنفه وأظهر رأفته بالرعايا، وبنى في أكثر مملكته آدر العدل، وأحضرها القضاة والفقهاء للفصل، وحضرها بنفسه في أكثر الأوقات، واستمع من المتظلمين الدعاوى والبينات، طلباً للإنصاف والفصل، وحرصاً على إقامة العدل.
وأدر على الضعفاء والأيتام الصدقات، وتعهد ذوي الحاجة من أولي التعفف بالصلات، حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة العميان، ومعلمي الخط والقرآن، وعلى ساكني الحرمين، ومجاوري المسجدين، وأكرم أمير المدينة الحسين وأحسن إليه، وأجرى عليه الضيافة لما قدم عليه، وجهز معه عسكراً لحفظ المدينة، وقام لهم بما يحتاجون إليه من المؤونة، وأقطع أمير مكة إقطاعاً سنياً، وأعطى كلاً منهما ما يأكله هنياً مرياً.
ورفع عن الحجاج ما كان يؤخذ منهم من المكس، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحجاج بالنحس، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول، واستخرج العين التي بأحد وكانت قد دفنتها السيول، ودعي له بالحرمين، واشتهر صيته في الخافقين.
وعمر الربط والخانقاهات والبيمارستانات، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم، وعليهم بقدر ما يكفيهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماة وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلا وله فيها حسن أثر، وما من أهلها أحد إلا نظر له أحسن نظر.
وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلابها، وأقام عليها الحفظة من نقلتها وطلابها وأربابها، وجدد كثيراً من ذي السبيل، وهدى بجهده إلى سواء السبيل.
وأجهد نفسه في جهاد أعداء الله، وبالغ في حربهم، وتحصل في أسره جماعة من أمراء الفرنج - خذلهم الله - كجلوسلين وابنه، وابن ألفونش، وقومص أطرابلس، وجماعة من ضربهم.
وكان متملك الروم قد خرج من قسطنطينية وتوجه إلى الشام طامعاً في تسلم أنطاكية، فشغله عن مرامه الذي رامه بالمراسلة، إلى أن وصل أخوه قطب الدين في جنده من المواصلة، وجمع له الجيوش والعساكر، وأنفق فيهم الأموال والذخائر، فأيس الرومي من بلوغ ما كان يرجو، وتمنى منه المصالحة لعساه ينجو، فاستقر رجوعه إلى بلاده ذاهباً، فرجع من حيث جاء خائباً، ولم يقتل بالشام مع كثرة عسكره مقتلة، ولم يرع من زرع حارم ولا غيرها سنبلة، وحمل إلى بيت مال المسلمين من التحف ما حمل، ولم يبلغ أمله وضل ما عمل.
وغزا معه أخوه قطب الدين في عسكر الموصل وغيرهم من المجاهدين، فكسر الفرنج والروم والأرمن على حارم، وأذاقهم كؤوس المنية بالأسنة والصوارم، فأبادهم حتى لم يفلت منهم غير الشديد الذاهل، وكانت عدتهم ثلاثين ألفاً بين فارس وراجل، ثم نزل على قلعة حارم، فافتتحها وحواها، وأخذ أكبر قرى عمل أنطاكية وسباها، وكان قبل ذلك قد كسرهم بقرب بانياس، وقتل جماعة من أبطالهم، وأسر كثيراً من فرسانهم ورجالهم.
وقد كان شاور السعدي أمير جيوش مصر، وصل إلى جنابه مستجيراً لما عاين الذعر، فأحس جواره وأكرمه، وأظهر بره واحترمه، وبعث معه جيشاً كثيفاً يرده إلى درجته، فقتلوا خصمه ولم يقع منه الوفاء بما قرر من جهته، واستجاش بجيش العدو، طلباً للبقاء في السمو، ثم وجه إليه بعد ذلك جيشاً آخر، فأصر على المسامقة له وكابر، واستنجد بالعدو - خذله الله - فأنجدوه، وضمن لهم الأموال الخطيرة حتى عاضدوه، وانكفأ جيش المسلمين إلى الشام راجعاً، وحدث متملك الفرنج نفسه بملك مصر طامعاً، فتوجه إليها بعد عامين راغباً في انتهاز الفرصة، فأخذ بلبيس وخيم من مصر بالعرصة، فلما بلغه ذلك تدخل جهده في توجيه الجيش إليها وخاف من تسلط عدو الدين عليها، فلما سمع العدو - خذلهم الله - بتوجه جيشه رجعوا خائبين، وأصبح أصحابه بمصر لمن عاندهم غالبين، وأمل أهل أعمالها بحصول جيشه عندهم وانتعشوا، وزال عنهم ما كانوا قد خشوا، واطلع من شاور على المخامرة، وأنه راسل العدو طمعاً منه المظافرة، وأرسل إليهم ليردهم، ليدفع جيش المسلمين بجندهم، فلما خيف من شره ومكره، لما عرف من غدره
وختره، وانفتح الأمر في ذلك واستبان، تمارض الأسد ليقتنص الثعلبان، فجاءه قاصداً لعيادته، جارياً في خدمته على عادته، فوثب جورديك وبزغش موليا نور الدين فقتلا شاور، وأراحا العباد والبلاد من شره، وأما شاور فإنه أول من تولى القبض عليه، ومد يده الكريمة إليه بالمكروه، وصفا الأمر لأسد الدين وملك، وخلعت عليه الخلع، وحل واستولى أصحابه على البلاد، وجرت أموره على السداد، وظهر منه حميد السيرة وحسن الآثار، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار.
وظهرت كلمة أهل السنة بالديار المصرية، وخطب فيها للدولة العباسية بعد اليأس، وأراح الله من بها من الفتنة ورفع عنهم المحنة، فالحمد لله على ما منح، وله الشكر على ما فتح.
ومع ما ذكرت من هذه المناقب كلها، وشرحت من دقها وجلها، فهو حسن الخط والبنان، متأت لمعرفة العلوم بالفهم والبيان، كثير لمطالعتها، مائل إلى نقلها، مواظب حريص على تحصيل كتب الصحاح والسنن، مقتن لها بأوفر الأعواض والثمن، كثير المطالعة للعلوم الدينية، متبع للآثار النبوية، مواظب على الصلوات في الجماعات، مراع لأدائها في الأوقات، مؤد لفروضها ومسنوناتها، معظم لفقدها في جميع حالاتها، عاكف على تلاوة القرآن على ممر الأيام، حريص على فعل الخير من الصدقة والصيام، كثير الدعاء والتسبيح، راغب في صلاة التراويح، عفيف البطن والفرج، مقتصد في الإنفاق والخرج، متحري في المطاعم والمشارب والملابس، متبري من التباهي والتماري والتنافس، عري عن التجبر والتكبر، بريء من التنجم والتطير، مع ما جمع الله له من العقل المتين، والرأي الصويب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبه بالعلماء والصالحين، والاقتفاء لسيرة من سلف منهم في حسن سمعتهم، والتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم.
حتى روى حديث المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسمعه، وكان قد استجيز له ممن سمعه وجمعه، حرصاً منه على الخير في نشر السنة والتحديث، ورجا أن يكون ممن حفظ على الأمة أربعين حديثاً كما جاء في الحديث، فمن رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره.
ولقد حكى عنه من صحبه في حضره وسفره، أنه لم يكن يسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها، أو إرشاد إلى سنة يتبعها.
يحب الصالحين ويؤاخيهم، ويزور مساكنهم لحسن ظنه بهم، فإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم.
ومتى تكررت الشكاية إليه من أحد ولاته، أمر بالكف عن أذى من تكلم بشكاته، فمن لم يرجع منهم إلى العدل، قابله بإسقاط المرتبة والعزل، فلما جمع الله له من شريف الخصال، تيسر له ما يقصده من جميع الأعمال، وسهل على يديه فتح الحصون والقلاع، ومكن له في البلدان والبقاع، حتى ملك حصن شيزر وقلعه دوسر، وهما من أحصن المعاقل والحصون، واحتوى على ما فيها من الذخر المصون، من غير سفك محجمة من دم في طلبهما، ولا قتل أحد من المسلمين بسببهما، وأكثر ما أخذه من البلدان، بتسلمه من أهله بالأمان، ووفى لهم بالعهود والأيمان، فأوصلهم إلى مأمنهم من المكان.
وإذا استشهد أحد من أجناده، حفظه في أهله وأولاده، وأجرى عليهم الجرايات، وولى من كان أهلاً منهم للولايات، وكلما فتح الله عليه فتحاً وزاده ولاية، أسقط عن رعيته قسطاً وزادهم رعاية، حتى ارتفعت عنهم الظلامات والمكوس، واتضعن في جميع ولايته الغرامات والنحوس، ودرت على رعاياه الأرزاق، ونفقت عندهم الأسواق، وحصل بينهم بيمنه الاتفاق، وزال ببركته العناد والشقاق، فإن فتكت شرذمة من الملاعين، فلما علمت منه من الرأفة واللين، ولو خلط لهم شدته بلينه، لخاف سطوته الأسد في عرينه.
فالله يحقن الدماء، ويسكن به الدهماء، ويديم له النعماء، ويبلغ مجده السماء، ويجري الصالحات على يديه، ويجعل منه واقية عليه، فقد ألقى أزمتنا إليه، وأحصى علم حاجتنا إليه.
ومناقبه خطيرة، وممادحه كثيرة، ذكرت منها غيضاً من فيض، وقليلاً من كثير، وقد مدحه جماعة من الشعراء، فأكثروا، ولم يبلغوا وصف آلائه بل قصروا، وهو قليل الابتهاج بالشعر، زيادة في تواضعه لعلو القدر.
فالله يديم على الرعية ظله، وينشر فيهم رأفته وعدله، ويبلغه في دينه ودنياه مأموله، ويتم بالسعادة والتوفيق أعماله، فهو بالإجابة جدير، وعلى ما يشاء قدير. واللع أعلم.
أبو القاسم بن أبي سعيد قسيم الدولة، التركي، الملك العادل نور الدين وناصر أمير المؤمنين كان جده آق سنقر قد ولاه السلطان أبو الفتح ملكشاه بن ألب أرسلان حلب، وولى غيرها من بلاد الشام، ونشأ أبوه قسيم الدولة بعده بالعراق، وندبه السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان برأي الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين لولاية ديار الموصل والبلاد الشامية بعد قتل آق سنقر البرسقي وموت ابنه مسعود، فظهرت شهامته في مقاتلة العدو - خذله الله - وثبوته عند ظهور متملك الروم ونزوله على شيزر حتى رجع إلى بلاده خائباً.
وحاصر أبوه قسيم الدولة بدمشق مرتين فلم يتيسر له فتحها، وفتح الرها والمعرة وكفر طاب وغيرها من الحصون الشامية، واستنفذها من أيدي الكفار، فلما انقضى أجله - رحمه الله - قام ابنه نور الدين - أعزه الله - مقامه في ولاية الإسلام.
ومولده على ما ذكر كاتبه أبو اليسر شاكر بن عبد الله التنوخي المعري وقت طلوع الشمس من يوم الأحد سابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمئة؛ ولما راهق لزم خدمة والده إلى أن انتهت مدته ليلة الأحد السادس من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمئة على قلعة جعبر، وكان محاصراً لها، ونقل تابوته إلى مشهد الرقة فدفن بها.
وسير صبيحة الأحد الملك ألب ارسلان بن السلطان محمود بن محمد إلى الموصل مع جماعة من أكابر دولة أبيه، وقال لهم: إن وصل أخي سيف الدين غازي إلى الموصل فهي له، وأنتم في خدمته؛ وإن تأخر فأنا أقرر أمور الشام، وأتوجه إليكم.
ثم قصد حلب ودخل قلعتها المحروسة على أسعد طائر وأيمن بركة، يوم الاثنين سابع ربيع الآخر، ورتب في القلعة والمدينة النواب، وأنعم على الأمراء وخلع عليهم، وكان أبن جوسلين قد عمل على أخذ الرها، وحصل في البلد، فوجه إليه الأمراء دولته حتى استنقذها منه وخرج هارباً.
ولما استتبت له الأمر ظهر منه بذل الاجتهاد في القيام بأمر الجهاد. والقمع لأهل الكفر والعناد، والقيام بمصالح العباد، وخرج غازياً في أعمال تل باشر، فافتتح حصوناً كثيرة، وافتتح قلعة أفامية، وحصن البارة، وقلعة الراوندان، وقلعة تل خالد، وحصن كفر لاثا، وحصن يسرفوث بجبل بني عليم، وقلعة عزار، وتل باشر، ودلوك، ومرعش، وقلعة عين تاب، ونهر الحوز، وغير ذلك.
وغزا حصن إنب فقصده الإبرنس متملك أنطاكية، وكان من أبطال العدو
وشياطينهم، فرحل عنها، ولقيه دونها فكسره وقتله وثلاثة آلاف فرنجي كانوا معه، وبقي ابنه صغيراً مع أمه بأنطاكية، وتزوجت بإبرنس آخر، فخرج نور الدين في بعض غزواته فأسر الإبرنس الثاني، وتملك أنطاكية ابن الإبرنس الأول وهو بيمنت ووقع في أسره في نوبة حارم، وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد.
وأظهر بحلب السنة حتى أقام شعار الدين، وغير البدعة التي كانت لهم في التأذين، وقمع بها الرافضة المبتدعة، ونشر فيها مذاهب أهل السنة الأربعة. وأسقط عنهم جميع المؤن، ومنعهم من التوثب في الفتن، وبنى بها المدارس ووقف الأوقاف، وأظهر فيها العدل والإنصاف.
وقد كان صالح المعين الذي كان بدمشق وصاهره، واجتمعت كلمتهما على العدو لما وازره، وحاصر دمشق مرتين فلم يتيسر له فتحها، ثم قصدها الثالثة فتم له صلحها، وسلم أهلها إليه البلد لغلاء الأسعار، والخوف من استعلاء كلمة الكفار؛ فضبط أمورها، وحصن سورها؛ وبنى بها المدارس والمساجد، وأفاض على أهلها الفوائد، وأصلح طرقها، ووسع أسواقها، وأدر الله على رعيته ببركته أرزاقها، وبطل منها الأنزال، ورفع عن أهلها الأثقال، ومنع ما كان يؤخذ منهم من المغارم كدار بطيخ وسوق البقل، وضمان النهر والكيالة، ونهى عن شربه، وعاقب عليه بإقامة الحد والحبس، واستنقذ من العدو - خذلهم الله - ثغر بانياس، وغيره من المعاقل المنيعة كالمنيطرة وغيرها بعد الإياس.
وبلغني أنه في الحرب رابط الجأش ثابت القدم، شديد الانكماش، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدم أصحابه عند الكرة، ويحمي منهزمهم عند الفرة، ويتعرض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة.
ولقد حكى عنه بعض من خدمه مدة، ووازره على فعل الخير، أنه سمعه يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير، فالله يقي مهجته في الأسواء، ويحسن له
الظفر بجميع الأعداء؛ فلقد أحسن إلى العلماء وأكرمهم، وقرب المتدينين واحترمهم، وتوخى العدل في الأحكام والقضايا، وألان كنفه وأظهر رأفته بالرعايا، وبنى في أكثر مملكته آدر العدل، وأحضرها القضاة والفقهاء للفصل، وحضرها بنفسه في أكثر الأوقات، واستمع من المتظلمين الدعاوى والبينات، طلباً للإنصاف والفصل، وحرصاً على إقامة العدل.
وأدر على الضعفاء والأيتام الصدقات، وتعهد ذوي الحاجة من أولي التعفف بالصلات، حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة العميان، ومعلمي الخط والقرآن، وعلى ساكني الحرمين، ومجاوري المسجدين، وأكرم أمير المدينة الحسين وأحسن إليه، وأجرى عليه الضيافة لما قدم عليه، وجهز معه عسكراً لحفظ المدينة، وقام لهم بما يحتاجون إليه من المؤونة، وأقطع أمير مكة إقطاعاً سنياً، وأعطى كلاً منهما ما يأكله هنياً مرياً.
ورفع عن الحجاج ما كان يؤخذ منهم من المكس، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحجاج بالنحس، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول، واستخرج العين التي بأحد وكانت قد دفنتها السيول، ودعي له بالحرمين، واشتهر صيته في الخافقين.
وعمر الربط والخانقاهات والبيمارستانات، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم، وعليهم بقدر ما يكفيهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماة وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلا وله فيها حسن أثر، وما من أهلها أحد إلا نظر له أحسن نظر.
وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلابها، وأقام عليها الحفظة من نقلتها وطلابها وأربابها، وجدد كثيراً من ذي السبيل، وهدى بجهده إلى سواء السبيل.
وأجهد نفسه في جهاد أعداء الله، وبالغ في حربهم، وتحصل في أسره جماعة من أمراء الفرنج - خذلهم الله - كجلوسلين وابنه، وابن ألفونش، وقومص أطرابلس، وجماعة من ضربهم.
وكان متملك الروم قد خرج من قسطنطينية وتوجه إلى الشام طامعاً في تسلم أنطاكية، فشغله عن مرامه الذي رامه بالمراسلة، إلى أن وصل أخوه قطب الدين في جنده من المواصلة، وجمع له الجيوش والعساكر، وأنفق فيهم الأموال والذخائر، فأيس الرومي من بلوغ ما كان يرجو، وتمنى منه المصالحة لعساه ينجو، فاستقر رجوعه إلى بلاده ذاهباً، فرجع من حيث جاء خائباً، ولم يقتل بالشام مع كثرة عسكره مقتلة، ولم يرع من زرع حارم ولا غيرها سنبلة، وحمل إلى بيت مال المسلمين من التحف ما حمل، ولم يبلغ أمله وضل ما عمل.
وغزا معه أخوه قطب الدين في عسكر الموصل وغيرهم من المجاهدين، فكسر الفرنج والروم والأرمن على حارم، وأذاقهم كؤوس المنية بالأسنة والصوارم، فأبادهم حتى لم يفلت منهم غير الشديد الذاهل، وكانت عدتهم ثلاثين ألفاً بين فارس وراجل، ثم نزل على قلعة حارم، فافتتحها وحواها، وأخذ أكبر قرى عمل أنطاكية وسباها، وكان قبل ذلك قد كسرهم بقرب بانياس، وقتل جماعة من أبطالهم، وأسر كثيراً من فرسانهم ورجالهم.
وقد كان شاور السعدي أمير جيوش مصر، وصل إلى جنابه مستجيراً لما عاين الذعر، فأحس جواره وأكرمه، وأظهر بره واحترمه، وبعث معه جيشاً كثيفاً يرده إلى درجته، فقتلوا خصمه ولم يقع منه الوفاء بما قرر من جهته، واستجاش بجيش العدو، طلباً للبقاء في السمو، ثم وجه إليه بعد ذلك جيشاً آخر، فأصر على المسامقة له وكابر، واستنجد بالعدو - خذله الله - فأنجدوه، وضمن لهم الأموال الخطيرة حتى عاضدوه، وانكفأ جيش المسلمين إلى الشام راجعاً، وحدث متملك الفرنج نفسه بملك مصر طامعاً، فتوجه إليها بعد عامين راغباً في انتهاز الفرصة، فأخذ بلبيس وخيم من مصر بالعرصة، فلما بلغه ذلك تدخل جهده في توجيه الجيش إليها وخاف من تسلط عدو الدين عليها، فلما سمع العدو - خذلهم الله - بتوجه جيشه رجعوا خائبين، وأصبح أصحابه بمصر لمن عاندهم غالبين، وأمل أهل أعمالها بحصول جيشه عندهم وانتعشوا، وزال عنهم ما كانوا قد خشوا، واطلع من شاور على المخامرة، وأنه راسل العدو طمعاً منه المظافرة، وأرسل إليهم ليردهم، ليدفع جيش المسلمين بجندهم، فلما خيف من شره ومكره، لما عرف من غدره
وختره، وانفتح الأمر في ذلك واستبان، تمارض الأسد ليقتنص الثعلبان، فجاءه قاصداً لعيادته، جارياً في خدمته على عادته، فوثب جورديك وبزغش موليا نور الدين فقتلا شاور، وأراحا العباد والبلاد من شره، وأما شاور فإنه أول من تولى القبض عليه، ومد يده الكريمة إليه بالمكروه، وصفا الأمر لأسد الدين وملك، وخلعت عليه الخلع، وحل واستولى أصحابه على البلاد، وجرت أموره على السداد، وظهر منه حميد السيرة وحسن الآثار، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار.
وظهرت كلمة أهل السنة بالديار المصرية، وخطب فيها للدولة العباسية بعد اليأس، وأراح الله من بها من الفتنة ورفع عنهم المحنة، فالحمد لله على ما منح، وله الشكر على ما فتح.
ومع ما ذكرت من هذه المناقب كلها، وشرحت من دقها وجلها، فهو حسن الخط والبنان، متأت لمعرفة العلوم بالفهم والبيان، كثير لمطالعتها، مائل إلى نقلها، مواظب حريص على تحصيل كتب الصحاح والسنن، مقتن لها بأوفر الأعواض والثمن، كثير المطالعة للعلوم الدينية، متبع للآثار النبوية، مواظب على الصلوات في الجماعات، مراع لأدائها في الأوقات، مؤد لفروضها ومسنوناتها، معظم لفقدها في جميع حالاتها، عاكف على تلاوة القرآن على ممر الأيام، حريص على فعل الخير من الصدقة والصيام، كثير الدعاء والتسبيح، راغب في صلاة التراويح، عفيف البطن والفرج، مقتصد في الإنفاق والخرج، متحري في المطاعم والمشارب والملابس، متبري من التباهي والتماري والتنافس، عري عن التجبر والتكبر، بريء من التنجم والتطير، مع ما جمع الله له من العقل المتين، والرأي الصويب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبه بالعلماء والصالحين، والاقتفاء لسيرة من سلف منهم في حسن سمعتهم، والتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم.
حتى روى حديث المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسمعه، وكان قد استجيز له ممن سمعه وجمعه، حرصاً منه على الخير في نشر السنة والتحديث، ورجا أن يكون ممن حفظ على الأمة أربعين حديثاً كما جاء في الحديث، فمن رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره.
ولقد حكى عنه من صحبه في حضره وسفره، أنه لم يكن يسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها، أو إرشاد إلى سنة يتبعها.
يحب الصالحين ويؤاخيهم، ويزور مساكنهم لحسن ظنه بهم، فإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم.
ومتى تكررت الشكاية إليه من أحد ولاته، أمر بالكف عن أذى من تكلم بشكاته، فمن لم يرجع منهم إلى العدل، قابله بإسقاط المرتبة والعزل، فلما جمع الله له من شريف الخصال، تيسر له ما يقصده من جميع الأعمال، وسهل على يديه فتح الحصون والقلاع، ومكن له في البلدان والبقاع، حتى ملك حصن شيزر وقلعه دوسر، وهما من أحصن المعاقل والحصون، واحتوى على ما فيها من الذخر المصون، من غير سفك محجمة من دم في طلبهما، ولا قتل أحد من المسلمين بسببهما، وأكثر ما أخذه من البلدان، بتسلمه من أهله بالأمان، ووفى لهم بالعهود والأيمان، فأوصلهم إلى مأمنهم من المكان.
وإذا استشهد أحد من أجناده، حفظه في أهله وأولاده، وأجرى عليهم الجرايات، وولى من كان أهلاً منهم للولايات، وكلما فتح الله عليه فتحاً وزاده ولاية، أسقط عن رعيته قسطاً وزادهم رعاية، حتى ارتفعت عنهم الظلامات والمكوس، واتضعن في جميع ولايته الغرامات والنحوس، ودرت على رعاياه الأرزاق، ونفقت عندهم الأسواق، وحصل بينهم بيمنه الاتفاق، وزال ببركته العناد والشقاق، فإن فتكت شرذمة من الملاعين، فلما علمت منه من الرأفة واللين، ولو خلط لهم شدته بلينه، لخاف سطوته الأسد في عرينه.
فالله يحقن الدماء، ويسكن به الدهماء، ويديم له النعماء، ويبلغ مجده السماء، ويجري الصالحات على يديه، ويجعل منه واقية عليه، فقد ألقى أزمتنا إليه، وأحصى علم حاجتنا إليه.
ومناقبه خطيرة، وممادحه كثيرة، ذكرت منها غيضاً من فيض، وقليلاً من كثير، وقد مدحه جماعة من الشعراء، فأكثروا، ولم يبلغوا وصف آلائه بل قصروا، وهو قليل الابتهاج بالشعر، زيادة في تواضعه لعلو القدر.
فالله يديم على الرعية ظله، وينشر فيهم رأفته وعدله، ويبلغه في دينه ودنياه مأموله، ويتم بالسعادة والتوفيق أعماله، فهو بالإجابة جدير، وعلى ما يشاء قدير. واللع أعلم.