عيسى بن موسى بن محمد
ابن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو موسى الهاشمي جعله السفاح ولي عهده بعد المنصور، فلما ولي المنصور أخره وجعله ولي عهده بعد ابنه المهدي. وكان جليلاً في أهل بيته. ولد سنة ثلاثٍ ومئة - وقيل سنة أربع - وشهد حرب محمد وإبراهيم وهو ابن ثلاثٍ وأربعين سنة، وكان قتلهما على يديه؛ ولما قتلا شرع المنصور في تأخير عيسى وتقديم ابنه المهدي عليه في ولاية العهد في سنة سبعٍ وأربعين ومئة.
وجرى بين المنصور وبين عيسى بن موسى في ذلك خطوب ومكاتبات وامتناع من عيسى، ثم أجابه إلى ذلك، فقدم المهدي في ولاية العهد عليه، وأقر عيسى بذلك وأشهد على نفسه به، فبايع الناس على ذلك، وخطب المنصور الناس وأعلمهم ما جرى في امر عيسى من تقديم المهدي عليه ورضاه بذلك، وتكلم عيسى وسلم الأمر للمهدي فبايع الناس على ذلك بيعة مجددة للمهدي، ثم لعيسى من بعده. وقال المنصور يومئذ: " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " فلما أفضى الأمر إلى المهدي طلب عيسى بن موسى بخلع نفسه من ولاية العهد البتة، وتسليمه لموسى بن المهدي، وألح عليه في ذلك إلحاحاً شديداً، وبذل له مالاً عظيماً وخطراً جسيماً، وجرت في ذلك خطوب إلى أن أحضره من الكوفة إلى بغداد، وتقرر الأمر أن يخلع نفسه ويسلم الأمر لموسى بن المهدي ويدفع إليه عشرة آلاف ألف درهم، ويقال عشرين ألف ألف درهم، ويقطعه مع ذلك قطائع كثيرة وقد كان عيسى ذكر أن عليه أيماناً في أهله وماله، فأحضر له المهدي من القضاة والفقهاء من أفتاه في ذلك وعوضه المهدي من ذلك وأرضاه فيما يلزمه من الحنث في ماله ورقيقه وسائر أملاكه، فقبل ذلك ورضي به وخلع نفسه في هشية الأربعاء لأربعٍ بقين من المحرم سنة ستين ومئة في قصر الرصافة، وبايع للمهدي ولموسى بن المهدي، وحضر الخواص، فبايعوا في القصر للمهدي.
ثم خرج المهدي إلى جامع الرصافة، واجتمع الناس في المسجد فصعد المهدي المنبر وصعد بعده موسى ابنه، فكان دونه، ثم صعد عيسى بن موسى فكان على أول مرقاةٍ من المنبر، فقام المهدي فحمد الله وأثنى عليه وأخبر بما اجتمع عليه أهل بيته وشيعته في ذلك، وأن موسى عاملٌ فيهم بكتبا الله وأحسن السيرة وأعفاها ... في كلامٍ تكلم به، وجلس موسى دونه في جانب المنبر لكي لا يستر وجهه ولا يحول بينه وبين من يصعد إليه ليبايعه ويمسح على يده، وقام عيسى مكانه على أول مرقاة، فقرئ كتاب الخلع، وخروج عيسى مما كان إليه من ولاية العهد، وتحليل الناس جميعاً مما كان له من البيعة في رقابهم، وأن ذلك كان منه وهو طائع غير مكره، فأقر عيسى بذلك كله، وأشهد به على نفسه وصعد إلى المهدي فبايعه ومسح على يده ثم بايع موسى ومسح على يده ثم انصرف؛ ووفى المهدي
لعيسى بن موسى بما ضمن له من الأموال والقطائع وأرضاه، وكتب بذلك كتاباً، وشهد فيه خلقٌ من الأشراف والوجوه والكبراء وغيرهم، عدتهم أربع مئة وخمسة وعشرون رجلاً. ورجع عيسى بعد ذلك إلى الكوفة، فلم يزل مقيماً بها في غير ولاية حتى توفي بها سنة سبعٍ وستين ومئة وهو ابن خمسٍ وستين سنة وكانت مدة عيسى في ولاية العهد من أوله إلى آخره ثلاثاً وعشرين سنة. وقيل إن عيسى كان لقب في ولاية العهد بالمرتضى.
لما هم أبو جعفر المنصور بالبيعة للمهدي دخل عليه الحسن بن قحطبة فقال: يا أمير المؤمنين! ما تنتظر بالفتى المقتبل المبارك؟ جدد له البيعة فما أحدٌ يمتنع ممن وراء هذا الباب، ومن أبى لهذا سيفي. وبلغ الخبر عيسى بن موسى فقال: والله لئن ظفرت به لاشرب البارد. وبلغ الحسن بن قحطبة الخبر والمنصور، فدخل الحسن بن قحطبة على المنصور وعنده عيسى بن موسى فتمثل المنصور قول جرير: من الكامل
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامةٍ ما مربع
فتمثل الحسن بن قحطبة بقول جرير: من الوافر
إذا اجتمعوا علي فخل عنهم ... وعن بازٍ يصك حبا ريات
ومربع: رجلٌ من بني جعفر بن كلاب، كان يروي شعر جرير فنذر الفرزدق دمه، فقال جرير هذا الشعر فيه.
قدم هارون الكوفة فعزل شريكاً عن القضاء. وكان موسى بن عيسى والياً على الكوفة، فقال موسى لشريك: ما صنع أمير المؤمنين بأحدٍ ما صنع بك، عزلك عن القضاء، فقال له شريك: هم أمراء المؤمنين يعزلون القضاة، ويخلعون ولاة العهد ولا يعاب ذلك عليهم. قال موسى: ما ظننت أنه مجنون هكذا لا يبالي ما تكلم به. وكان أبوه عيسى بن موسى ولي العهد بعد أبي جعفر فخلعه بمالٍ أعطاه إياه.
قال أبو بكر بن عياش:
رأيت الخطابية مروا بنا بالكناسة في أزر وأردية، محرمين بالحج وهم يقولون: لبيك جعفر، فخرج إليهم عيسى فانهزموا إلى موضع دار رزق فقتلهم، فقيل: يا أبا الخطاب! ألا ترى السلاح قد عمل فينا! قال: بدا لله أن يستشهدكم، وقد كان أبو الخطاب قال لهم: إن السلاح لا يعمل فيكم.
جاءت ارمأة يوماً إلى شريك من ولد جرير بن عبد الله البجلي، صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مجلس الحكم فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي، امرأة من ولد جرير بن عبد الله، فزادت في الكلام فقال: إيهاً عنك الآن، من ظلمك؟ قالت: الأمير عيسى بن موسى، كان لي بستان على شاطئ الفرات لي فيه نخلٌ ورثته عن آبائي، وقاسمت إخوتي وبنيت بيني وبينه حائطاً وجعلت فيه رجلاً فارسياً في بيت يحفظ لي النخل ويقوم بشأني، فاشترى الأمير عيسى بن موسى من إخوتي جميعاً وساومني وأرغبني فلم أبعه، فلما كان في هذه الليلة بعث بخمس مئة فاعل فاقتلعوا الحائط، فأصبحت لا أعرف من نخلى شيئاً، واختلط بنخل إخوتي. ثم قال: يا غلام، طينة فختم لها خاتماً ثم قال امضي به إلى بابه حتى يحضر معك. فجاءت المرأة بالطينة فأخذها الحاجب ودخل على عيسى فقال له: أعدي شريك عليك. قال: ادع لي صاحب الشرطة، فدعا به فقال: امض إلى شريك فقل له: يا سبحان الله! ما رأيت أعجب من أمرك! امرأة ادعت دعوى لم تصح أعديتها علي! فقال: إن رأى الأمير أن يعفيني فليفعل، فقال: امض ويلك! فخرج فأمر غلمانه أن يتقدموا إلى الحبس بفراش وغير ذلك من آلة الحبس، فلما جاء وقف بين يدي شريك فأدى الرسالة، فقال لحاجبه؛ خذ بيده فضعه في الحبس، قال: قد عرفت أنك تفعل بي هذا فقدمت ما يصلحني إلى الحبس.
وبلغ عيسى بن موسى ذلك فوجه بحاجبه إليه فقال: هذا من ذاك رسول، أي شيءٍ عليه؟ فلما أدى الرسالة ألحقه بصاحبه فحبس؛ فلما صلى الأمير العصر بعث إلى إسحاق بن
الصباح الأشعثي، وإلى حماعةٍ من وجوه الكوفة من أصدقاء شريك فقال: امضوا إليه فأبلغوه السلام وأعلموه أنه قد استخف بي وأني لست كالعامة. فمضوا وهو جالس في مسجده بعد العصر، فدخلوا إليه فأبلغوه الرسالة، فلما انقضى كلامهم قال لهم: مالي لا أراكم جئتم في غيره من الناس؛ من ها هنا من فتيان الحي!؟ فابتدروه، فقال: ليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من هؤلاء فيذهب به إلى الحبس لا ينام والله إلا فيه. قالوا: أجاد أنت؟! قال: حقاً، حتى لا تعودوا تحملون رسالة ظالم. فحبسهم، فركب عيسى بن موسى في الليل إلى باب الحبس، ففتح الباب وأخذهم جميعاً، فلما كان الغد جلس شريك للقضاء فجاء السجان فأخبره، فدعا بالقمطر فختمها ووجه بها إلى منزله وقال لغلامه: الحقني بثقلي إلى بغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر منهم ولكن أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه إذا تقلدنا لهم.
ومضى نحو قنطرة الكوفة يريد بغداد، وبلغ عيسى بن موسى الخبر، فركب في موكبه فلحقه وجعل يناشده الله ويقول: يا أبا عبد الله! تثبت انظر، إخوانك تحبسهم! دع أعواني، قال: نعم لأنهم مشوا لك في أمرٍ لم يجب عليهم فيه، ولست ببارحٍ أو يردوا جميعاً إلى الحبس وإلا مضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فاستعفيته مما قلدني. فأمر بردهم جميعاً إلى الحبس وهو واقفٌ مكانه حتى جاءه السجان فقال: قد رجعوا إلى الحبس، فقال لأعوانه: خذوا بلجامه فردوه بين يدي إلى مجلس الحكم. فمروا به بين يديه حتى أدخل المسجد، وجلس مجلس القضاء ثم قال: الجريرية المتظلمة من هذا. فجاءت فقال: هذا خصمك قد حضر، فلما جلس معها بين يديه قال: يخرج أولئك من الحبس قبل كل شيء. ثم قال: ما تقول فيما تدعيه هذه؟ قال: صدقت. قال: ترد جميع ما أخذ منها إليها وتبني حائطها في أسرع وقت كما هدم. قال: أفعل. قال: بقي لك
شيء؟ قال: تقول المرأة: نعم وبيت الفارسي ومتاعه. قال: وبيت الفارسي ومتاعه. فقال شريك: أبقي لك شيء تدعينه؟ قالت: لا، وجزاك الله خيراً. قال: قومي، وزيرها، ثم وثب من مجلسه، فأخذ بيد
ابن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو موسى الهاشمي جعله السفاح ولي عهده بعد المنصور، فلما ولي المنصور أخره وجعله ولي عهده بعد ابنه المهدي. وكان جليلاً في أهل بيته. ولد سنة ثلاثٍ ومئة - وقيل سنة أربع - وشهد حرب محمد وإبراهيم وهو ابن ثلاثٍ وأربعين سنة، وكان قتلهما على يديه؛ ولما قتلا شرع المنصور في تأخير عيسى وتقديم ابنه المهدي عليه في ولاية العهد في سنة سبعٍ وأربعين ومئة.
وجرى بين المنصور وبين عيسى بن موسى في ذلك خطوب ومكاتبات وامتناع من عيسى، ثم أجابه إلى ذلك، فقدم المهدي في ولاية العهد عليه، وأقر عيسى بذلك وأشهد على نفسه به، فبايع الناس على ذلك، وخطب المنصور الناس وأعلمهم ما جرى في امر عيسى من تقديم المهدي عليه ورضاه بذلك، وتكلم عيسى وسلم الأمر للمهدي فبايع الناس على ذلك بيعة مجددة للمهدي، ثم لعيسى من بعده. وقال المنصور يومئذ: " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " فلما أفضى الأمر إلى المهدي طلب عيسى بن موسى بخلع نفسه من ولاية العهد البتة، وتسليمه لموسى بن المهدي، وألح عليه في ذلك إلحاحاً شديداً، وبذل له مالاً عظيماً وخطراً جسيماً، وجرت في ذلك خطوب إلى أن أحضره من الكوفة إلى بغداد، وتقرر الأمر أن يخلع نفسه ويسلم الأمر لموسى بن المهدي ويدفع إليه عشرة آلاف ألف درهم، ويقال عشرين ألف ألف درهم، ويقطعه مع ذلك قطائع كثيرة وقد كان عيسى ذكر أن عليه أيماناً في أهله وماله، فأحضر له المهدي من القضاة والفقهاء من أفتاه في ذلك وعوضه المهدي من ذلك وأرضاه فيما يلزمه من الحنث في ماله ورقيقه وسائر أملاكه، فقبل ذلك ورضي به وخلع نفسه في هشية الأربعاء لأربعٍ بقين من المحرم سنة ستين ومئة في قصر الرصافة، وبايع للمهدي ولموسى بن المهدي، وحضر الخواص، فبايعوا في القصر للمهدي.
ثم خرج المهدي إلى جامع الرصافة، واجتمع الناس في المسجد فصعد المهدي المنبر وصعد بعده موسى ابنه، فكان دونه، ثم صعد عيسى بن موسى فكان على أول مرقاةٍ من المنبر، فقام المهدي فحمد الله وأثنى عليه وأخبر بما اجتمع عليه أهل بيته وشيعته في ذلك، وأن موسى عاملٌ فيهم بكتبا الله وأحسن السيرة وأعفاها ... في كلامٍ تكلم به، وجلس موسى دونه في جانب المنبر لكي لا يستر وجهه ولا يحول بينه وبين من يصعد إليه ليبايعه ويمسح على يده، وقام عيسى مكانه على أول مرقاة، فقرئ كتاب الخلع، وخروج عيسى مما كان إليه من ولاية العهد، وتحليل الناس جميعاً مما كان له من البيعة في رقابهم، وأن ذلك كان منه وهو طائع غير مكره، فأقر عيسى بذلك كله، وأشهد به على نفسه وصعد إلى المهدي فبايعه ومسح على يده ثم بايع موسى ومسح على يده ثم انصرف؛ ووفى المهدي
لعيسى بن موسى بما ضمن له من الأموال والقطائع وأرضاه، وكتب بذلك كتاباً، وشهد فيه خلقٌ من الأشراف والوجوه والكبراء وغيرهم، عدتهم أربع مئة وخمسة وعشرون رجلاً. ورجع عيسى بعد ذلك إلى الكوفة، فلم يزل مقيماً بها في غير ولاية حتى توفي بها سنة سبعٍ وستين ومئة وهو ابن خمسٍ وستين سنة وكانت مدة عيسى في ولاية العهد من أوله إلى آخره ثلاثاً وعشرين سنة. وقيل إن عيسى كان لقب في ولاية العهد بالمرتضى.
لما هم أبو جعفر المنصور بالبيعة للمهدي دخل عليه الحسن بن قحطبة فقال: يا أمير المؤمنين! ما تنتظر بالفتى المقتبل المبارك؟ جدد له البيعة فما أحدٌ يمتنع ممن وراء هذا الباب، ومن أبى لهذا سيفي. وبلغ الخبر عيسى بن موسى فقال: والله لئن ظفرت به لاشرب البارد. وبلغ الحسن بن قحطبة الخبر والمنصور، فدخل الحسن بن قحطبة على المنصور وعنده عيسى بن موسى فتمثل المنصور قول جرير: من الكامل
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامةٍ ما مربع
فتمثل الحسن بن قحطبة بقول جرير: من الوافر
إذا اجتمعوا علي فخل عنهم ... وعن بازٍ يصك حبا ريات
ومربع: رجلٌ من بني جعفر بن كلاب، كان يروي شعر جرير فنذر الفرزدق دمه، فقال جرير هذا الشعر فيه.
قدم هارون الكوفة فعزل شريكاً عن القضاء. وكان موسى بن عيسى والياً على الكوفة، فقال موسى لشريك: ما صنع أمير المؤمنين بأحدٍ ما صنع بك، عزلك عن القضاء، فقال له شريك: هم أمراء المؤمنين يعزلون القضاة، ويخلعون ولاة العهد ولا يعاب ذلك عليهم. قال موسى: ما ظننت أنه مجنون هكذا لا يبالي ما تكلم به. وكان أبوه عيسى بن موسى ولي العهد بعد أبي جعفر فخلعه بمالٍ أعطاه إياه.
قال أبو بكر بن عياش:
رأيت الخطابية مروا بنا بالكناسة في أزر وأردية، محرمين بالحج وهم يقولون: لبيك جعفر، فخرج إليهم عيسى فانهزموا إلى موضع دار رزق فقتلهم، فقيل: يا أبا الخطاب! ألا ترى السلاح قد عمل فينا! قال: بدا لله أن يستشهدكم، وقد كان أبو الخطاب قال لهم: إن السلاح لا يعمل فيكم.
جاءت ارمأة يوماً إلى شريك من ولد جرير بن عبد الله البجلي، صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مجلس الحكم فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي، امرأة من ولد جرير بن عبد الله، فزادت في الكلام فقال: إيهاً عنك الآن، من ظلمك؟ قالت: الأمير عيسى بن موسى، كان لي بستان على شاطئ الفرات لي فيه نخلٌ ورثته عن آبائي، وقاسمت إخوتي وبنيت بيني وبينه حائطاً وجعلت فيه رجلاً فارسياً في بيت يحفظ لي النخل ويقوم بشأني، فاشترى الأمير عيسى بن موسى من إخوتي جميعاً وساومني وأرغبني فلم أبعه، فلما كان في هذه الليلة بعث بخمس مئة فاعل فاقتلعوا الحائط، فأصبحت لا أعرف من نخلى شيئاً، واختلط بنخل إخوتي. ثم قال: يا غلام، طينة فختم لها خاتماً ثم قال امضي به إلى بابه حتى يحضر معك. فجاءت المرأة بالطينة فأخذها الحاجب ودخل على عيسى فقال له: أعدي شريك عليك. قال: ادع لي صاحب الشرطة، فدعا به فقال: امض إلى شريك فقل له: يا سبحان الله! ما رأيت أعجب من أمرك! امرأة ادعت دعوى لم تصح أعديتها علي! فقال: إن رأى الأمير أن يعفيني فليفعل، فقال: امض ويلك! فخرج فأمر غلمانه أن يتقدموا إلى الحبس بفراش وغير ذلك من آلة الحبس، فلما جاء وقف بين يدي شريك فأدى الرسالة، فقال لحاجبه؛ خذ بيده فضعه في الحبس، قال: قد عرفت أنك تفعل بي هذا فقدمت ما يصلحني إلى الحبس.
وبلغ عيسى بن موسى ذلك فوجه بحاجبه إليه فقال: هذا من ذاك رسول، أي شيءٍ عليه؟ فلما أدى الرسالة ألحقه بصاحبه فحبس؛ فلما صلى الأمير العصر بعث إلى إسحاق بن
الصباح الأشعثي، وإلى حماعةٍ من وجوه الكوفة من أصدقاء شريك فقال: امضوا إليه فأبلغوه السلام وأعلموه أنه قد استخف بي وأني لست كالعامة. فمضوا وهو جالس في مسجده بعد العصر، فدخلوا إليه فأبلغوه الرسالة، فلما انقضى كلامهم قال لهم: مالي لا أراكم جئتم في غيره من الناس؛ من ها هنا من فتيان الحي!؟ فابتدروه، فقال: ليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من هؤلاء فيذهب به إلى الحبس لا ينام والله إلا فيه. قالوا: أجاد أنت؟! قال: حقاً، حتى لا تعودوا تحملون رسالة ظالم. فحبسهم، فركب عيسى بن موسى في الليل إلى باب الحبس، ففتح الباب وأخذهم جميعاً، فلما كان الغد جلس شريك للقضاء فجاء السجان فأخبره، فدعا بالقمطر فختمها ووجه بها إلى منزله وقال لغلامه: الحقني بثقلي إلى بغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر منهم ولكن أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه إذا تقلدنا لهم.
ومضى نحو قنطرة الكوفة يريد بغداد، وبلغ عيسى بن موسى الخبر، فركب في موكبه فلحقه وجعل يناشده الله ويقول: يا أبا عبد الله! تثبت انظر، إخوانك تحبسهم! دع أعواني، قال: نعم لأنهم مشوا لك في أمرٍ لم يجب عليهم فيه، ولست ببارحٍ أو يردوا جميعاً إلى الحبس وإلا مضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فاستعفيته مما قلدني. فأمر بردهم جميعاً إلى الحبس وهو واقفٌ مكانه حتى جاءه السجان فقال: قد رجعوا إلى الحبس، فقال لأعوانه: خذوا بلجامه فردوه بين يدي إلى مجلس الحكم. فمروا به بين يديه حتى أدخل المسجد، وجلس مجلس القضاء ثم قال: الجريرية المتظلمة من هذا. فجاءت فقال: هذا خصمك قد حضر، فلما جلس معها بين يديه قال: يخرج أولئك من الحبس قبل كل شيء. ثم قال: ما تقول فيما تدعيه هذه؟ قال: صدقت. قال: ترد جميع ما أخذ منها إليها وتبني حائطها في أسرع وقت كما هدم. قال: أفعل. قال: بقي لك
شيء؟ قال: تقول المرأة: نعم وبيت الفارسي ومتاعه. قال: وبيت الفارسي ومتاعه. فقال شريك: أبقي لك شيء تدعينه؟ قالت: لا، وجزاك الله خيراً. قال: قومي، وزيرها، ثم وثب من مجلسه، فأخذ بيد