عمرو بن مسعود السّلميّ
من أهل الطّائف. شاعر وفد على معاوية بن أبي سفيان.
عن رجل من بني سليم، قال: كان عمرو بن مسعود رجل بني سليم، ثم أحدبني ذكوان، ينزل الطّائف، وكان صديقاً لأبي سفيان بن حرب وأخاً، وكان له مال وولد، فذهب ماله، وزوّج ولده؛ وإن الشّيخ عمّر حتى إذا استخلف معاوية أتاه بالخلّة التي كانت بينه وبين أبي سفيان، فأقام ببابه سنة وبعض أخرى لا يصل إليه، ثم إن معاوية ظهر للنّاس يوماً، فكتب إليه في رقعة: من البسيط
يا أيّها الملك لنا ضجراً ... لو كان صخر بعرض الأرض ما ضجرا
ما بال شيخك مخنوقاً بجرّته ... طال المطال به وهراً وقد كبرا
ومرّ حول ونصف ما يرى طمعاً ... يدينه منك وهذا الموت قد حضرا
قد جاء ترعد كفّاه بمحجنه ... لم يترك الدّهر من أولاده ذكرا
قد بشّرته أموراً فاقتأرّلها ... وقد حنا ظهره دهر وقد غبرا
نادى وكلكل هذا الدّهر يعركه ... قد كنت يا بن أبي سفيان معتصرا
فاذكر أباك أبا سفيان إن لنا ... حقّاً عليه وقد ضيّعته عصرا
فلّما قرأ الكتاب دعا به، فقال: كيف أنت؟ وكيف عيالك؟ وحالك؟ فقال: ما تسأل يا أمير المؤمنين عمّن ذبلت بشرته، وقطعت ثمرته، فابيضّ الشّعر، وانحنى الظّهر، فقد كثر منّي ما منت أحبّ أن يقلّ، وصعب منّي ما كنت أحبّ أن يذلّ، فأجمت النّساء وكنّ الشقاء، وكرهت المطعم وكان المنعم، وقصر خطوي، وكثر سهوي، فسحلت مريرتي بالنّقض، وشقلت على وجه الأرض، وقرب بعضي من بعض، ودّل وكلّ، فقلّ انحياشه، وكثر ارتعاشه، وقلّ معاشه؛ فنومه سبات، وفهمه تارات، وليله هبات، كمثل قول عمّك: من البسيط
أصبحت شيخا كبيرا هامةً لغد ... يرنو لدى جدثي أو لا فبعد غد
أردى الزّمان حلوباتي وما جمعت ... يادهر قدني ممّا تبتغيه قد
والله لو كان يا خير الخلائف ما ... لاقيت في أحد ذلّت ذرا أحد
أو كان بالغرد الجوّال لانصدعت ... من دونه كبد المستعصم الغرد
لّما رأى يا أمير المؤمنين به ... تقلّب الدّهر من جمع إلى بدد
وأبصر الشّيخ في حلقومه نقعت ... منه الحشاشة بين الصّدر وفي قعد
رام الرّحيل وفي كفّيه محجنه ... يوامر النّفس في ظعن وفي قعد
إمّا جوار إذا ما غاب ضيّعها ... أو المقام بدار الهون والفند
فأستمحت نفسه بالسّير مغترباً ... وإن تحرّم في تامورة الأسد
فقلبه فرق وماؤه سرق ... ودمعه عسق من شدّة الكمد
لنسوة رغب أولادها سغب ... كأفرخ زغب حلّوا على ضمد
رام الرّحيل فداروا حول شيخهم ... يسترجعون له أن خاض في البلد
ينعي أصيبية فقدان والدهم ... ووالد واضع كفّاً على كبد
قالوا: أبانا إذا ما غبت كيف لنا ... بمثل والدنا في القرب والبعد
قد كنت ترضعنا إن درّة نكأت ... عنّا وتكلؤنا بالّروح والجسد
فغرغر الشيخ في عينيه عبرته ... أنفاسه من سخين الوجد في صعد
وقال يودع صبياناً ونسوته ... أوصيكم باتقّاه الله يا ولدي
فإن أعش فإياب من حلوبتكم ... أو مت فاعتصموا بالواحد الصّمد
قال: فبكى معاوية بكاءً شديداً، وأمر له بثلاثمئة ألف، وكسى، وعروض، وحمله فوافى الطّائف لعشرة أيام من دمشق. تفسير غريبه.
قوله: ذبلت بشرته: أيّ قلّ وذهبت نضارتها، والبشرة ما يباشره البصر من ظاهر بدن الإنسان، والأدمة: باطن البدن؛ وفي ذبول البشرة وجه آخر وهو أن يكون كنايةً عن الفرج، يرد أنه قد ضعف واسترخى. قال سفيان بن عيينة في قوله عزّ وجلّ: " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ":أراد بالجلود الفرج.
وقوله: قطعت ثمرته؛ يريد ذهاب الزّرع وانقطاع النّسل، وهو ثمرة الإنسان؛ وهو يؤيد التّأويل الآخر في ذبول البشرة. وقوله: كثر منه ما يحبّ أن يقلّ؛ يريد آفات الكبر كالسّهو والغلط ونحوها، وكالبوال والدّنين وما أشبههما من العلل، وأمّا صعوبة ما كان يجب أن يذلّ؛ فإنه يريد بذلك ما يعرض للمشايخ من خشونة المفاصل، فيقلّ معه اللّين واللّدونة التي بها تكون مطاوعة للقبض والبسط والاعتماد. وقوله: سحلت مريرته بالنقض؛ فإن المريرة: الحبل المفتول. والسحيل، أن يفتل الغزل طاقةً واحدةً، يقال: خيط سحيل، فإذا فتل طاقين فهو مبرم. قال: زهير: من الطويل
يميناً لنعم السّيّدان وجدتما ... على كلّ حال من سحيل ومبرم
وقال ابن هرمة: من الطويل
أرى النّاس في سحيل فلاتكنله صاحباً حتى ترى الأمر مبرماً
وأما جعل الحبل وانتقاصه مثالاً لانحلال بدنه وانتقاص قواه. وقوله: أجم النّساء؛ أي ملّهنّ وعافهنّ كما يعاف الطّعام؛ ويقال: أجمت اللّحم، إذا أكثرت منه تعافه.
وقوله: قلّ انحياشه؛ أي حركته ونصرته في الأمور، إلاّ أن الحركة الضروريّة بالارتعاش قد كثرت منه وغلبت عليه. والسّبات: نوم المريض والشّيخ المسنّ، وهو الغشية الخفيقة؛ يقال: سبت الرّجل فهو مسبوت؛ ويقال: إنه مأخوذ من السّبت وهو القطع، وذلك لأنه سريع الانقطاع؛ ويقال: إنّما سمّي آخر أيّام الجمعة سبتاً لانقطاع الأيّام عنه، وذلك أن أوّلها يوم الأحد؛ والسّبت أيضاً: السّير السّريع. قال الشاعر: من الطويل
ومطويّة الأقراب أمّا نهارها ... فسبت وأمّا ليلها فذميل
والخفات: ضعف الحسّ؛ يريد أنه لا يدرك الصّوت إلاّ كهيئته السّرار، والخفوت: خفض الصوت، ومنه المخافتة في الكلام. قال الله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ". وإنّما قيل للميّت: خافت، لانقطاع صوته؛ والخفات من خفت بمنزلة الصّمات من صمت، والسّكات من سكت.
وقوله: وليله هبات؛ فإن الهبات من الهبت، وهو اللّين والاسترخاء، ويقال: في فلان هبتة أي ضعف عقل؛ وقد هبت السّحاب إذا أرخت عزاليها، وقال الشاعر: من البسيط
سقيا مجلجلة ينهل وابلها ... من باكر مستهل الودق مهبوت
كأنه يريد أن نومه باللّيل إنّما هو بقدر أن تسترخي أعضاؤه من غير أن يستغرق نوماً؛ ولو قيل: وليلة هبّات، من هبّ النّائم من نومه، كان جيداً؛ إلاّ أن الرّواية متّبعة.
من أهل الطّائف. شاعر وفد على معاوية بن أبي سفيان.
عن رجل من بني سليم، قال: كان عمرو بن مسعود رجل بني سليم، ثم أحدبني ذكوان، ينزل الطّائف، وكان صديقاً لأبي سفيان بن حرب وأخاً، وكان له مال وولد، فذهب ماله، وزوّج ولده؛ وإن الشّيخ عمّر حتى إذا استخلف معاوية أتاه بالخلّة التي كانت بينه وبين أبي سفيان، فأقام ببابه سنة وبعض أخرى لا يصل إليه، ثم إن معاوية ظهر للنّاس يوماً، فكتب إليه في رقعة: من البسيط
يا أيّها الملك لنا ضجراً ... لو كان صخر بعرض الأرض ما ضجرا
ما بال شيخك مخنوقاً بجرّته ... طال المطال به وهراً وقد كبرا
ومرّ حول ونصف ما يرى طمعاً ... يدينه منك وهذا الموت قد حضرا
قد جاء ترعد كفّاه بمحجنه ... لم يترك الدّهر من أولاده ذكرا
قد بشّرته أموراً فاقتأرّلها ... وقد حنا ظهره دهر وقد غبرا
نادى وكلكل هذا الدّهر يعركه ... قد كنت يا بن أبي سفيان معتصرا
فاذكر أباك أبا سفيان إن لنا ... حقّاً عليه وقد ضيّعته عصرا
فلّما قرأ الكتاب دعا به، فقال: كيف أنت؟ وكيف عيالك؟ وحالك؟ فقال: ما تسأل يا أمير المؤمنين عمّن ذبلت بشرته، وقطعت ثمرته، فابيضّ الشّعر، وانحنى الظّهر، فقد كثر منّي ما منت أحبّ أن يقلّ، وصعب منّي ما كنت أحبّ أن يذلّ، فأجمت النّساء وكنّ الشقاء، وكرهت المطعم وكان المنعم، وقصر خطوي، وكثر سهوي، فسحلت مريرتي بالنّقض، وشقلت على وجه الأرض، وقرب بعضي من بعض، ودّل وكلّ، فقلّ انحياشه، وكثر ارتعاشه، وقلّ معاشه؛ فنومه سبات، وفهمه تارات، وليله هبات، كمثل قول عمّك: من البسيط
أصبحت شيخا كبيرا هامةً لغد ... يرنو لدى جدثي أو لا فبعد غد
أردى الزّمان حلوباتي وما جمعت ... يادهر قدني ممّا تبتغيه قد
والله لو كان يا خير الخلائف ما ... لاقيت في أحد ذلّت ذرا أحد
أو كان بالغرد الجوّال لانصدعت ... من دونه كبد المستعصم الغرد
لّما رأى يا أمير المؤمنين به ... تقلّب الدّهر من جمع إلى بدد
وأبصر الشّيخ في حلقومه نقعت ... منه الحشاشة بين الصّدر وفي قعد
رام الرّحيل وفي كفّيه محجنه ... يوامر النّفس في ظعن وفي قعد
إمّا جوار إذا ما غاب ضيّعها ... أو المقام بدار الهون والفند
فأستمحت نفسه بالسّير مغترباً ... وإن تحرّم في تامورة الأسد
فقلبه فرق وماؤه سرق ... ودمعه عسق من شدّة الكمد
لنسوة رغب أولادها سغب ... كأفرخ زغب حلّوا على ضمد
رام الرّحيل فداروا حول شيخهم ... يسترجعون له أن خاض في البلد
ينعي أصيبية فقدان والدهم ... ووالد واضع كفّاً على كبد
قالوا: أبانا إذا ما غبت كيف لنا ... بمثل والدنا في القرب والبعد
قد كنت ترضعنا إن درّة نكأت ... عنّا وتكلؤنا بالّروح والجسد
فغرغر الشيخ في عينيه عبرته ... أنفاسه من سخين الوجد في صعد
وقال يودع صبياناً ونسوته ... أوصيكم باتقّاه الله يا ولدي
فإن أعش فإياب من حلوبتكم ... أو مت فاعتصموا بالواحد الصّمد
قال: فبكى معاوية بكاءً شديداً، وأمر له بثلاثمئة ألف، وكسى، وعروض، وحمله فوافى الطّائف لعشرة أيام من دمشق. تفسير غريبه.
قوله: ذبلت بشرته: أيّ قلّ وذهبت نضارتها، والبشرة ما يباشره البصر من ظاهر بدن الإنسان، والأدمة: باطن البدن؛ وفي ذبول البشرة وجه آخر وهو أن يكون كنايةً عن الفرج، يرد أنه قد ضعف واسترخى. قال سفيان بن عيينة في قوله عزّ وجلّ: " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ":أراد بالجلود الفرج.
وقوله: قطعت ثمرته؛ يريد ذهاب الزّرع وانقطاع النّسل، وهو ثمرة الإنسان؛ وهو يؤيد التّأويل الآخر في ذبول البشرة. وقوله: كثر منه ما يحبّ أن يقلّ؛ يريد آفات الكبر كالسّهو والغلط ونحوها، وكالبوال والدّنين وما أشبههما من العلل، وأمّا صعوبة ما كان يجب أن يذلّ؛ فإنه يريد بذلك ما يعرض للمشايخ من خشونة المفاصل، فيقلّ معه اللّين واللّدونة التي بها تكون مطاوعة للقبض والبسط والاعتماد. وقوله: سحلت مريرته بالنقض؛ فإن المريرة: الحبل المفتول. والسحيل، أن يفتل الغزل طاقةً واحدةً، يقال: خيط سحيل، فإذا فتل طاقين فهو مبرم. قال: زهير: من الطويل
يميناً لنعم السّيّدان وجدتما ... على كلّ حال من سحيل ومبرم
وقال ابن هرمة: من الطويل
أرى النّاس في سحيل فلاتكنله صاحباً حتى ترى الأمر مبرماً
وأما جعل الحبل وانتقاصه مثالاً لانحلال بدنه وانتقاص قواه. وقوله: أجم النّساء؛ أي ملّهنّ وعافهنّ كما يعاف الطّعام؛ ويقال: أجمت اللّحم، إذا أكثرت منه تعافه.
وقوله: قلّ انحياشه؛ أي حركته ونصرته في الأمور، إلاّ أن الحركة الضروريّة بالارتعاش قد كثرت منه وغلبت عليه. والسّبات: نوم المريض والشّيخ المسنّ، وهو الغشية الخفيقة؛ يقال: سبت الرّجل فهو مسبوت؛ ويقال: إنه مأخوذ من السّبت وهو القطع، وذلك لأنه سريع الانقطاع؛ ويقال: إنّما سمّي آخر أيّام الجمعة سبتاً لانقطاع الأيّام عنه، وذلك أن أوّلها يوم الأحد؛ والسّبت أيضاً: السّير السّريع. قال الشاعر: من الطويل
ومطويّة الأقراب أمّا نهارها ... فسبت وأمّا ليلها فذميل
والخفات: ضعف الحسّ؛ يريد أنه لا يدرك الصّوت إلاّ كهيئته السّرار، والخفوت: خفض الصوت، ومنه المخافتة في الكلام. قال الله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ". وإنّما قيل للميّت: خافت، لانقطاع صوته؛ والخفات من خفت بمنزلة الصّمات من صمت، والسّكات من سكت.
وقوله: وليله هبات؛ فإن الهبات من الهبت، وهو اللّين والاسترخاء، ويقال: في فلان هبتة أي ضعف عقل؛ وقد هبت السّحاب إذا أرخت عزاليها، وقال الشاعر: من البسيط
سقيا مجلجلة ينهل وابلها ... من باكر مستهل الودق مهبوت
كأنه يريد أن نومه باللّيل إنّما هو بقدر أن تسترخي أعضاؤه من غير أن يستغرق نوماً؛ ولو قيل: وليلة هبّات، من هبّ النّائم من نومه، كان جيداً؛ إلاّ أن الرّواية متّبعة.