عبيد بن سرية
ويقال: ابن سارية، ويقال: ابن شرية الجرهمي.
وفد على معاوية، وقيل: إنه لم يفد عليه، وإنه لقيه بالحيرة حين توجه معاوية إلى العراق.
قال هشام بن محمد الكلبي: عاش
عبيد بن سرية الجرهمي ثلاث مئة سنة، وأدرك الإسلام فأسلم، ودخل على معاوية بالشام، فقال له معاوية: كيف رأيت الدنيا؟ قال: يوم كيوم، وليلة كليلة، سنيات بلاء وسنيات رخاء، وميت ومولود، ومولود مهنأ، ومولود معزى بمفقود، ولولا كثرة من يولد، ما بقي على الأرض أحد، ولولا من يموت ما وسع الناس بلد، فقال له معاوية: إن لك لعلماً، فما أحسن الأشياء في عينك؟ قال: عين خرارة في أرض خوارة، فال: ثم ماذا؟ قال: ثم فرس في بطنها فرس تتبعها فرس، قال: فأين أنت عن النعم؟ قال: ليس النعم مال مثلك، إنما النعم مال من حضرة وأشرف عليه، قال: فما تقول في الذهب والفضة؟ قال: حجران إن حبستهما لم يزيدا، وإن أنفقتهما تلفا، قال: إنا حابسوك عندنا، ومجرون عليك جراية، قال: لا حاجة لي في هذا، لأن أبي وأمي هلكا في مثل هذه السنة، ونفسي تحدثني أني هالك فيها، فمالي حاجة في المقام عندك، فقال معاوية: فسلني حاجتك؟ قال: أما الآخرة فإنها بيد غيرك، وأما الدنيا فما
تقدر ترد شبابي علي فما أسألك؟ قال له معاوية: فأخبرني بما يكون بعدي؟ ثم انصرف ورجع، فقال: سألتني عن شيء لم أكن أعلمه ثم علمته، مررت بغلمان يستبقون يقول بعضهم لبعض: الآخر أشر. فقال معاوية: هل رأيت حرباً؟ قال: رأيت أمية يقوده غلام له يقال له: ذكوان، فقال له: لا تقل ذاك، فإنهم سادة الحي، فقال قل أنت ما شئت.
وقيل إنه عاش مئتين وعشرين سنة. وإن معاوية قال له: كم أتى عليك؟ قال مئتان وعشرون سنة قال: ومن أين علمت ذلك؟ قال من كتاب الله تعالى. قال: ومن أي كتاب الله تعالى؟ قال: من قول الله تعالى: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب " فقال له معاوية: وما أدركت؟ قال: أدركت يوماً في إثر يوم، وليلة في إثر ليلة متشابهاً كتشابه الحذف يحدوان بقوم في ديار قوم يكدحون ما يبيد عنهم، ولا يعتبرون بما مضى منهم، حيهم يتلف، ومولودهم يخلف، في دهر يصرف، أيامه تقلب بأهلها كتقلبها دهرها، بينا أخوه في الرخاء إذ صار في البلاد، وبينا هو في الزيادة إذ أدركه النقصان، وبينا هو حر إذ أصبح قنا، لا يدوم على حال، بين مسرور بمولود، ومخزون بمفقود. قال: أخبرني عن المال، أيه أحسن في عينك؟ قال: أحسن المال في عيني وأنفعه غناء وأقله غناء، وأجداه على العامة: عين خرارة في أرض خوارة، إذا استودعت أدت، وإذا استحلبتها درت وأفعمت، تعول ولا تعال.
وفي آخره قال: فأخبرني عن قيامك وقعودك وأكلك وشربك ونومك وشهوتك للباه؟ قال: أما قيامي فإن قمت فالسماء تبعد، وإن قعدت فالأرض تقرب فالأرض تقرب، وأما أكلي وشربي فإني إن جعت كلبت، وإن شربت بهرت، وأما نومي فإن حضرت مجلساً
حالفني، وإن خلوت أطلبه فارقني، وأما الباه فإن بذل لي عجزت، وإن منعته غضبت.
قال معاوية: فأخبرني عن أعجب شيء رأيته، قال: أعجب شيء رأيته، أني نزلت بحي من قضاعة، فخرجوا بجنازة رجل من عذرة يقال له: حريث بن جبلة، فخرجت معهم حتى إذا واروه انكبدت جانباً عن القوم، وعيناي تذرفان، ثم تمثلت بأبيات شعر كنت رويتها قبل ذلك بزمان طويل: من البسيط
يا قلب إنك في أسماء مغرور ... أذكر وهل ينفعك اليوم تذكير
قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد ... حتى جرت بك أطلاقاً محاضير
تبغي أموراً فما تدري أعاجلها ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيراً وارضين به ... فبينما العسر أم ما فيه مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطاً ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيتما حال دهارير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
وذاك آخر عهد من أخيك إذا ... ما المرء ضمنه اللحد الخناشير
الواحد: خنشير والجمع خناشير، ويقال: الخناشرة، وهم الذين يتبعون الجنازة، فقال
رجل إلى جانبي، سمع ما أقول: يا عبد الله، من قائل هذه الأبيات؟ قلت: والذي أحلف به ما أدري، قد رويتها منذ زمن، قال: قائلها الذي دفناه آنفاً، وإن هذا ذو قرابته أسر الناس بموته، وإنك للغريب الذي وصف تبكي عليه، فعجبت لما ذكر في شعره، والذي صار إليه من قوله، كأنه كان ينظر إلى موضع قبره، فقلت: إن البلاء موكل بالمنطق فذهبت مثلاً.
ويقال: ابن سارية، ويقال: ابن شرية الجرهمي.
وفد على معاوية، وقيل: إنه لم يفد عليه، وإنه لقيه بالحيرة حين توجه معاوية إلى العراق.
قال هشام بن محمد الكلبي: عاش
عبيد بن سرية الجرهمي ثلاث مئة سنة، وأدرك الإسلام فأسلم، ودخل على معاوية بالشام، فقال له معاوية: كيف رأيت الدنيا؟ قال: يوم كيوم، وليلة كليلة، سنيات بلاء وسنيات رخاء، وميت ومولود، ومولود مهنأ، ومولود معزى بمفقود، ولولا كثرة من يولد، ما بقي على الأرض أحد، ولولا من يموت ما وسع الناس بلد، فقال له معاوية: إن لك لعلماً، فما أحسن الأشياء في عينك؟ قال: عين خرارة في أرض خوارة، فال: ثم ماذا؟ قال: ثم فرس في بطنها فرس تتبعها فرس، قال: فأين أنت عن النعم؟ قال: ليس النعم مال مثلك، إنما النعم مال من حضرة وأشرف عليه، قال: فما تقول في الذهب والفضة؟ قال: حجران إن حبستهما لم يزيدا، وإن أنفقتهما تلفا، قال: إنا حابسوك عندنا، ومجرون عليك جراية، قال: لا حاجة لي في هذا، لأن أبي وأمي هلكا في مثل هذه السنة، ونفسي تحدثني أني هالك فيها، فمالي حاجة في المقام عندك، فقال معاوية: فسلني حاجتك؟ قال: أما الآخرة فإنها بيد غيرك، وأما الدنيا فما
تقدر ترد شبابي علي فما أسألك؟ قال له معاوية: فأخبرني بما يكون بعدي؟ ثم انصرف ورجع، فقال: سألتني عن شيء لم أكن أعلمه ثم علمته، مررت بغلمان يستبقون يقول بعضهم لبعض: الآخر أشر. فقال معاوية: هل رأيت حرباً؟ قال: رأيت أمية يقوده غلام له يقال له: ذكوان، فقال له: لا تقل ذاك، فإنهم سادة الحي، فقال قل أنت ما شئت.
وقيل إنه عاش مئتين وعشرين سنة. وإن معاوية قال له: كم أتى عليك؟ قال مئتان وعشرون سنة قال: ومن أين علمت ذلك؟ قال من كتاب الله تعالى. قال: ومن أي كتاب الله تعالى؟ قال: من قول الله تعالى: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب " فقال له معاوية: وما أدركت؟ قال: أدركت يوماً في إثر يوم، وليلة في إثر ليلة متشابهاً كتشابه الحذف يحدوان بقوم في ديار قوم يكدحون ما يبيد عنهم، ولا يعتبرون بما مضى منهم، حيهم يتلف، ومولودهم يخلف، في دهر يصرف، أيامه تقلب بأهلها كتقلبها دهرها، بينا أخوه في الرخاء إذ صار في البلاد، وبينا هو في الزيادة إذ أدركه النقصان، وبينا هو حر إذ أصبح قنا، لا يدوم على حال، بين مسرور بمولود، ومخزون بمفقود. قال: أخبرني عن المال، أيه أحسن في عينك؟ قال: أحسن المال في عيني وأنفعه غناء وأقله غناء، وأجداه على العامة: عين خرارة في أرض خوارة، إذا استودعت أدت، وإذا استحلبتها درت وأفعمت، تعول ولا تعال.
وفي آخره قال: فأخبرني عن قيامك وقعودك وأكلك وشربك ونومك وشهوتك للباه؟ قال: أما قيامي فإن قمت فالسماء تبعد، وإن قعدت فالأرض تقرب فالأرض تقرب، وأما أكلي وشربي فإني إن جعت كلبت، وإن شربت بهرت، وأما نومي فإن حضرت مجلساً
حالفني، وإن خلوت أطلبه فارقني، وأما الباه فإن بذل لي عجزت، وإن منعته غضبت.
قال معاوية: فأخبرني عن أعجب شيء رأيته، قال: أعجب شيء رأيته، أني نزلت بحي من قضاعة، فخرجوا بجنازة رجل من عذرة يقال له: حريث بن جبلة، فخرجت معهم حتى إذا واروه انكبدت جانباً عن القوم، وعيناي تذرفان، ثم تمثلت بأبيات شعر كنت رويتها قبل ذلك بزمان طويل: من البسيط
يا قلب إنك في أسماء مغرور ... أذكر وهل ينفعك اليوم تذكير
قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد ... حتى جرت بك أطلاقاً محاضير
تبغي أموراً فما تدري أعاجلها ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيراً وارضين به ... فبينما العسر أم ما فيه مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطاً ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيتما حال دهارير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
وذاك آخر عهد من أخيك إذا ... ما المرء ضمنه اللحد الخناشير
الواحد: خنشير والجمع خناشير، ويقال: الخناشرة، وهم الذين يتبعون الجنازة، فقال
رجل إلى جانبي، سمع ما أقول: يا عبد الله، من قائل هذه الأبيات؟ قلت: والذي أحلف به ما أدري، قد رويتها منذ زمن، قال: قائلها الذي دفناه آنفاً، وإن هذا ذو قرابته أسر الناس بموته، وإنك للغريب الذي وصف تبكي عليه، فعجبت لما ذكر في شعره، والذي صار إليه من قوله، كأنه كان ينظر إلى موضع قبره، فقلت: إن البلاء موكل بالمنطق فذهبت مثلاً.