Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=91250&book=5525#2f3904
زياد بن عبيد وهو الذي ادعاه معاوية
فعرف بزياد بن أبي سفيان أبو المغيرة. أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يره، وأسلم في عهد أبي بكر، واستكتبه أبو موسى الأشعري في إمرته على البصرة، وولاه معاوية الكوفة والبصرة، وهو أول من جمع له المصران: الكوفة والبصرة. وقدم دمشق. قيل: إنه ولد عام هاجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، وقيل: إنه ولد هو والمختار بن أبي عبيد سنة إحدى من الهجرة، ومات في رمضان سنة ثلاث وخمسين.
عن الشعبي قال: أتي زياد في رجل توفي وترك عمته وخالته، فقال: هل تدرون كيف قضى عمر فيها؟ قالوا: لا. فقال: والله إني لأعلم الناس بقضاء عمر فيها، جعل العمة بمنزلة الأخ، والخالة بمنزلة الأخت، فأعطى العمة الثلثين، والخالة الثلث.
حدث جماعة من الرواة قالوا:
لما رجع أبو موسى عن أصبهان بعد دخول الجنود الكور، وقد هزم الربيع أهل بيروذ، وجمع السبي والأموال، فغدا على ستين غلاماً من أبناء الدهاقين تنقاهم وعزلهم، وبعث بالفتح إلى عمر، ووفد وفداً، فجاءه رجلٌ من عنزة فقال: اكتبني في الوفد. فقال: قد كتبنا من هو أحق منك. فانطلق مغاضباً مراغماً، وكتب أبو موسى إلى عمر أن رجلاً من عنزة يقال له: ضبة بن محصن كان من أمره، وقص قصته. فلما قدم الكتاب والفتح والوفد على عمر قدم العنزي، فأتى عمر فسلم عليه فقال: من أنت؟ فأخبره، فقال: لا مرحباً، ولا أهلاً. قال: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل. فاختلف
إليه ثلاثاً يقول له هذا، ويرد عليه هذا، حتى إذا كان اليوم الرابع، فدخل عليه، فقال: ما نقمت على أميرك؟ قال: تنقى ستين غلاماً من أبناء الدهاقين لنفسه، وله جارية تدعى عقيلة تغدى جفنةً وتعشى جفنة، وليس منا رجل يقدر على ذلك، وله قفيزان، وله خاتمان، وفوض إلى زياد بن أبي سفيان وكان زياد يلي أمور البصرة وأجاز الحطيئة بألف. فكتب عمر كلماً، قال: وبعث إلى أبي موسى، فلما قدم حجبة أياماً، ثم دعا به ودعا ضبة بن محصن، ودفع إليه الكتاب، فقال: اقرأ ما كتب، فقرأ: أخذ ستين غلاما لنفسه، فقال أبو موسى: دللت عليهم، وكان لهم فداء ففديتهم، فأخذته فقسمته بين المسلمين. فقال ضبة: والله ما كذب ولا كذبت، فقال: له قفيزان. فقال أبو موسى: قفيز لأهلي أقوتهم به وقفيز في أيديهم للمسلمين يأخذون به أرزاقهم. فقال ضبة: والله ما كذب ولا كذبت. فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى، فلم يعتذر، وعلم أن ضبة قد صدقه. قال: وزياد يلي أمور الناس ولا يعرف هذا ما يلي؟ فقال: وجدت له نبلاً ورأياً فأسندت إليه عملي. قال: وأجاز الحطيئة بألف. قال: سددت فمه بما لي أن يشتمني، قال: قد فعلت ما فعلت. فرده عمر وقال: إذا قدمت فأرسل إلي زياداً وعقيلة. ففعل، فقدمت عليه عقيلة قبل زياد، وقدم زياد، فأقام بالباب، فخرج عمر وزياد بالباب قائمٌ وعليه ثياب بياض كتان، فقال: ما هذه الثياب؟ فأخبره، فقال: كم أثمانها؟ فأخبره بشيء يسير فصدقه، فقال له: كم عطاؤك؟ قال: ألفان. قال: ما صنعت في أول عطاء خرج لك؟ قال: اشتريت به والدتي فأعتقتها، واشتريت بالثاني ربيبي عبيداً، فأعتقته. قال: وفقت. وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن فوجده فقيهاً، فرده وأمر أمراء البصرة أن يسيروا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة، وقال عمر: ألا إن ضبة بن محصن العنزي غضب على أبي موسى في الحق أن أصابه، فارقه مراغماً أن فاته أمر من أمور الدنيا فصدق عليه وكذب، فأفسد كذبه صدقه، فإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى
النار، وكان الحطيئة لقيه فأجازه من غزاة بيروذ، وكان أبو موسى قد ابتدأ غزاتهم وحصارهم حتى فلهم، ثم جازهم، ووكل بهم الربيع، ثم رجع إليهم بعد الفتح فولى القاسم.
كان زياد كاتباً للمغيرة بن شعبة، وكتب لعتبة بن غزوان، ثم كتب لأبي موسى الأشعري، وكتب لأبي عامر، وكتب لابن عباس.
كان زياد بن عبيد كاتباً لابن عباس على البصرة، فقال الشاعر فيه: من الوافر
قد انطقت الدراهم بعد عيٍّ ... رجالاً طالما كانوا سكوتا
فما عادوا على جارٍ بخيرٍ ... ولا رفعوا لمكرمةٍ بيوتا
كذاك المال يجبر كل عبءٍ ... ويترك كل ذي حسبٍ صموتا
قال الشعبي وغيره: أقام علي رضي الله عنه بعد وقعة الجمل بالبصرة خمسين ليلة، ثم أقبل إلى الكوفة واستخلف عبد الله بن عباس على البصرة، قال: فلم يزل ابن عباس على البصرة حتى سار إلى صفين، واستخلف أبا الأسود الدؤلي على الصلاة بالبصرة، واستخلف زياداً على الخراج وبيت المال والديوان وقد كان استكتبه قبل ذلك، فلم يزالا على البصرة حتى قدم من صفين.
وفي حديث:
أنه لما أمر ابن عباس على البصرة، وولى زياداً الخراج وبيت المال أقر ابن عباس أن يسمع منه، وكان ابن عباس يقول: استشرته عند هنةٍ كانت من الناس فقال: إن كنت تعلم أنك على الحق، وأن من خالفك على الباطل أشرت عليك بما ينبغي، وإن كنت لا تدري أشرت عليك بما ينبغي لك. فقال له: إني على الحق، وإنهم على الباطل. فقال: اضرب بمن أطاعك من عصاك، ومن ترك أمرك فكان أعز للإسلام أن تضرب عنقه وأصلح له فاضرب عنقه. فلما ولي رأيت ما صنع، وعلمت أن قد اجتهد لي رأيه.
قال الهجيع بن قيسٍ: كتب زياد إلى الحسن والحسين وعبد الله بن عباس يعتذر إليهم في شأن حجر وأصحابه، فأما الحسن فقرأ كتابه وسكت، وأما الحسين فأخذ كتابه فمزقه ولم يقرأه، وأما ابن عباس فقرأ كتابه وجعل يقول: كذب كذب، ثم أنشأ يحدث قال: إني لما كنت بالبصرة كبر الناس بي تكبيرةً، ثم كبروا الثانية، ثم كبروا بي الثالثة، فدخل علي زياد فقال: هل أنت مطيعي يستقم لك الناس؟ قلت: ماذا؟ قال: أرسل إلى فلان وفلان وفلان ناس من الأشراف تضرب أعناقهم يستقم لك الناس. فعلمت أنه إنما صنع بحجر وأصحابه مثل ما أشار به علي.
قال عوانة: كانت سمية لدهقان زيدورد بكسكر، وكانت مدينة وهي اليوم قرية فاشتكى الدهقان، وخاف أن يكون بطنه قد استسقى، فدعا الحارث بن كلدة الثقفي، وقد كان قدم على كسرى، فعالج الحارث الدهقان فبرأ، فوهب له سمية أم زياد، فولدت عند الحارث أبا بكرة، وهو مسروح، فلم يقر به ولم ينفه، وإنما سمي أبا بكرة لأنه نزل في بكرة مع مجلى العبيد من الطائف حين أمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبيد ثقيف، ثم ولدت سمية نافعاً، فلم يقر بنافع. فلما نزل أبو بكر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الحارث لنافع: إن أخاك مسروحاً عبد وأنت ابني، فأقر به يومئذ، وزوجها الحارث غلاماً له رومياً يقال له عبيد، فولدت زياداً على فراشه. وكان أبو سفيان صار إلى الطائف فنزل على خمار يقال له أبو مريم السلولي، وكانت لأبي مريم بعد صحبةٌ، فقال أبو سفيان لأبي مريم بعد أن شرب عنده: قد اشتدت بي العزوبة، فالتمس لي بغياً. فقال: هل لك في جارية الحارث بن كلدة سمية امرأة عبيد؟ قال: هاتها على طول ثدييها وذفر إبطيها. فجاء بها إليه، فوقع بها، فولدت زياداً، فادعاه معاوية، فقال يزيد بن مفرغ لزياد: من الوافر
تذكر هل بيثرب زيدوردٌ ... قرى آبائك النبط القحاح
قال عوانة: لما توفي علي بن أبي طالب عليه السلام وزياد عامله على فارس، وبويع لمعاوية تحصن زياد في قلعة فسميت به فهي تدعى قلعة زياد إلى الساعة، فأرسل زياد من صالح معاوية على ألفي ألف درهم، وأقبل زياد من القلعة فلقيه مصقلة بن هبيرة وافداً إلى معاوية، فقال له زياد: متى عهدك بأمير المؤمنين؟ قال: عام أول، قال: كم أعطاك؟ قال عشرين ألفاً. قال: فهل لك أن أعطيك مثلها وتبلغه كلاماً؟ قال: نعم. قال: هل له إذا أتيته: أتاك زياد وقد أكل بر العراق وبحره فخدعك فصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلا حقاً، فإذا قال لك: ما يقال؟ فقل: يقال إنه ابن أبي سفيان.
فأبلغ مصقلة معاوية الكلام، فلما قال: إنه يقال إنه ابن أبي سفيان قال: أبى قائلها إلا إثماً، قال فادعاه معاوية، فما أعطى زياد مصقلة العشرين ألف درهم إلا بعد أن ادعاه.
قال أبو المهاجر القاضي: كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتق، فبعث زياد بن أبيه إليه فرتق الفتق، وانصرف محموداً عند أصحابه مشكوراً عند أهل الناحية، ودخل على عمر، وعنده المهاجرون والأنصار، فخطب خطبة لم يسمع مثلها حسناً، فقال عمرو بن العاص: لله هذا الغلام، لو كان أبوه قرشياً لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان، وهو حاضر في المجلس: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمه. فقال علي: يا أبا سفيان، اسكت فإنك لتعلم أن عمر إن سمع هذا القول منك كان سريعاً إليك بالشر. فأنشأ أبو سفيان. يقول: من الوافر
أما والله لولا خوف شخصٍ ... يرانا يا علي من الأعادي
لأظهر أمره صخر بن حربٍ ... ولم يكن المقالة عن زياد
فقد طالت مجاملتي ثقيفاً ... وتركي عندهم عرضاً فؤادي
فلما قلد علي الخلافة قلد زياد بن أبيه فارس، فضبطها، وحمى قلاعها، وأباد الأعداء بناحيتها، وحمد أثره فيها. واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك، وكتب إلى زياد: أما بعد فإن العش الذي ربيت فيه معلوم عندنا، فلا تدع أن تأوي كما تأوي الطير في أوكارها، ولولا ما الله أعلم به لقلت ما قاله العبد الصالح: " فلنأتينهم بجنودٍ لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " وكتب في آخر كتابه: من البسيط
لله در زيادٍ أيما رجلٍ ... لو كان يعلم ما يأتي ما يذر
تنسى أباك وقد خفت نعامته ... إذ يخطب الناس والوالي لنا عمر
فافخر بوالدك الأدنى ووالدنا ... إن ابن حربٍ له في قومه خطر
إن ابتهارك قوماً لا تناسبهم ... إلا بأمك عارٌ ليس يغتفر
فاترك ثقيفاً فإن الله باعدهم ... عن كل فضل به تعلو الورى مضر
فالرأي مطرف والعقل تجربةٌ ... فيها لصاحبها الإيراد والصدر
فلما ورد الكتاب على زياد قام في الناس فقال: العجب كل العجب من ابن أكلة الأكباد ورأس النفاق يخوفني بقصده إياي، وبيني وبينه ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار. أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أجم مجساً ضروباً بالسيف.
واتصل الخبر بعلي رضي الله عنه، فكتب إلى زياد: أما بعد، وليتك الذي وليتك، وأنا أراك له أهلاً، وإنه قد كان من أبي سفيان فلته من أماني الباطل وكذب النفس لا توجب له ميراثاً، ولا تحل لك نسباً، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه، ومن عن يمينه ومن عن شماله فاحذر، ثم احذر، والسلام.
وعن أبي عثمان قال: لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة، فقلت: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي
وقاص يقول: سمعت أذناي من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه فالجنة عليه حرام، فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال مفضل بن مهلهل: كتب زياد إلى عائشة: من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب إليه ابن أبي سفيان فيحتج بذلك فكتبت إليه: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد.
وعن محمد بن الحارث، رجل من قريش: أن مرة صاحب نهر مرة أتى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان مولاهم، فسأله أن يكتب له إلى زياد في حاجة له، فكتب: من عبد الرحمن إلى زياد، ونسبه إلى غير أبي سفيان، فقال: لا أذهب بكتابك هذا فيضربني، قال: فأتى عائشة فكتبت له: من عائشة أم المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان. فلما جاء بالكتاب قال له: إذا كان غد فجئني بكتابك. قال: وجمع الناس فقال: يا غلام اقرأه. قال: فقرأه: من عائشة أم المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان. قال: فقضى له حاجته.
كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا كتب إلى عماله فذكر زياداً قال: إن زياداً صاحب البصرة، ولا ينسبه.
وعن سعيد بن المسيب قال: أول قضية ردت من قضاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانيةً قضاء فلانٍ في زياد.
وعنه قال: أول من رد قضاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة معاوية.
قال ابن أبي نجيح: أول حكم رد من حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانية الحكم في زياد.
قال عمرو بن بعجة: أول ذل دخل على العرب: قتل الحسين، وادعاء زياد.
قال عبد الملك بن عمير:
شهدت زياد بن أبي سفيان وقد صعد المنبر فسلم تسليماً خفياً، وانحرف انحرافاً بطياً،
وخطب خطبة بتيراء والبتيراء: التي لا يصلى فيها على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: إن أمير المؤمنين قد قال ما سمعتم، وشهدت الشهود بما قد علمتم، وإنما كنت امرأ حفظ الله مني ما ضيع الناس، ووصل مني ما قطعوه. إلا أنا قد سسنا وساسنا السائسون، وجربنا وجربنا المجربون، وولينا وولي علينا الوالون، وإنا وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف، وايم الله إن لي فيكم صرعى، فليحذر كل رجل منكم أن يكون من صرعاي، فوالله لآخذن البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر حتى تلين لي قناتكم، وحتى يقول القائل: انج سعد فقد هلك سعيد. ألا رب فرحٍ بإمارتي لن تنفعه، ورب كارهٍ لها لن تضره، وقد كانت بيني وبين أقوام منكم دمنٌ وأحقاد، وقد جعلت ذلك خلف ظهري، وتحت قدمي، فلو بلغني عن أحدكم أن البغض لي قتله ما كشفت له قناعاً، ولا هتكت له ستراً، حتى يبدي صفحته، فإذا أبداها لم أقله عثرته، ألا ولا كذبة أكثر شاهداً عليها من كذبة إمامٍ على منبر، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في، فإذا وعدتكم خيراً أو شراً فلم أف به فلا طاعة لي في رقابكم. ألا وأيما رجل منكم كان مكتبه خراسان فأجله سنتان، ثم هو أمير نفسه، وأيما رجل منكم كان مكتبه دون خراسان فأجله ستة أشهر ثم هو أمير نفسه، وأيما امرأةٍ احتاجت تأتينا نعطها عطاء زوجها ثم نقاصه به، وأيما عقال فقدتموه من مقامي هذا إلى خراسان فأنا له ضامن.
فقام إليه نعيم بن الأهتم المنقري فقال: أشهد لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال: كذبت أيها الرجل، ذاك نبيٌّ الله داود عليه السلام. ثم قام إليه الأحنف بن قيس فقال: أيها الرجل، إنما الجواد بشده، والسيف بحده، والمرء بجده، وقد بلغك جدك ما ترى، وإنما الشكر بعد العطاء، والثناء بعد البلاء، ولسنا نثني عليك حتى نبتليك. فقال: صدقت.
ثم قام أبو بلال مرداس بن أدية فقال: أيها الرجل قد سمعت قولك: والله لآخذن البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر. ولعمري لقد خالفت ما حكم الله في
كتابه إذ يقول: " ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى "، فقال: إيها عني، فوالله ما أجد السبيل إلى ما تريد أنت وأصحابك حتى أخوض الباطل خوضاً ثم نزل. فقام مرداس بن أدية وهو يقول: من البسيط
يا طالب الخير نهر الجور معترضٌ ... طول التهجد أو فتك بجبار
لا كنت إن لم أصم عن كل عاتبةٍ ... حتى يكون بريق الجور إفطاري
فقال له رجل: أصحابك يا أبا بلال شباب. فقال: شباب متكهلون في شبابهم، ثم قال: من الوافر
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهو سجود
فشرى وانجفل الناس معه، وكان قد ضيق الكوفة على زياد. وهذا الشعر يروى على غير هذه القافية أيضاً وهو: من الوافر
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
قال الشعبي: دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد. فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة بن شعبة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير.
وعن الشعبي قال: كان القضاة أربعة والدهاة أربعة، فأما القضاة فعمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأما الدهاة فمعاوية، وعمرو، والمغيرة، وزياد.
قال قميصة بن جابر: صحبت عمر بن الخطاب، فما رأيت رجلاً أقرأ لكتاب الله تعالى ولا أفقه في دين الله منه، ولا أحسن مدارسةً منه. وصحبت طلحة بن عبيد الله، فما رأيت رجلاً أعطى الجزيل من مالٍ عن غير مسألةٍ منه، قيل: وكان يسمى الفياض. قال: وصحبت معاوية بن أبي سفيان، فما رأيت رجلاً أثقل حلماً، ولا أبطأ جهلاً، ولا أبعد أناةً منه، وصحبت عمرو بن العاص، فما رأيت رجلاً أبين ظرفاً ولا أحلم جليساً منه، وصحبت زياداً، فما رأيت رجلاً أخصب نادياً، ولا أكرم جليساً، ولا أشبه سريرةً بعلانية منه، وصحبت المغيرة بن شعبة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها.
قال الشعبي:
ما رأيت أحداً يتكلم إلا أحببت أن يسكت مخافة أن ينقطع إلا زياداً فإنه لا يخرج من حسنٍ إلا إلى حسن.
قال الشعبي: ما رأيت أحداً أخطب من زياد.
قال أحمد بن صالح: زياد أمير البصرة تابعي، ولم يكن يتهم بالكذب قال الأصمعي: مكث زياد على العراق تسع سنين لم يضع لبنةً على لبنةٍ، ولم يغرس شجرةً.
قال أبو رجاء العطاردي: ولي زياد البصرة سنة خمس وأربعين، وكان زياد يصيف بالكوفة ويشتو بالبصرة، ومات زياد بالكوفة وهو على المصرين: البصرة والكوفة، وكان إذا غاب عن البصرة استخلف سمرة بن جندب. ومات سنة ثلاث وخمسين في رمضان قريباً من الكوفة.
قال أبو إسحاق: غزوت في زمن زياد ست غزوات أو سبع غزوات، ومات زياد قبل معاوية، وما
رأيت قط خيراً من زمن زياد. فقال له رجل: ولا زمن عمر بن عبد العزيز؟ فقال: ما كان زمن زياد إلا عرساً.
قال الزهري سمعت رجلاً من أهل الري يقول: سمعت زياداً على المنبر يقول: إن أكذب الناس من قام على رأس مئة ألفٍ فكذبهم. إني والله لا أعدكم خيراً إلا أنجزته لكم، ولا شراً إلا أنجزته لكم، ولا أعاقبكم بذنب حتى أتقدم إليكم فيه، فاتقوا غضب السلطان، فإنه يغضبه ما يغضب الوليد، ويأخذ أخذ الأسد، وله ملك مؤجل، فإذا انقضت مدته كشفه الله عنكم.
قال يونس: كان زياد إذا ولى رجلاً عملاً قال له: خذ عهدك، وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتكن وأنك تصير إلى أربع خلال، فاختر لنفسك: إنا إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلناك لضعفك، وسلمتك منا أمانتك، وإن وجدناك قوياً خائناً استهنا بقوتك، وأحسنا على خيانتك أدبك، وأوجعنا ظهرك، وثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الحرمين عليك المصرين، وإن وجدناك أميناً قوياً زدنا في عملك، ورفعنا ذكرك، وكثرنا مالك، وأوطأنا عقبك.
قال عجلان مولى زياد وكان حاجبه، قال: كان زياد إذا خرج من منزله مشيت أمامه إلى المسجد، فإذا دخل مشيت أمامه إلى مجلسه، فدخل مجلسه ذات يوم فإذا هو بهر في زاويةٍ، فذهبت أزجره فقال: دعه. فأرب ماله، ثم صلى الظهر، ثم عاد إلى مجلسه، كل ذلك يلاحظ الهر، فلما كان قبل غروب الشمس خرج جرذ، فوثب إليه فأخذه، فقال زياد: من كانت له حاجة فليواظب عليها مواظب الهر يظفر بها.
قال عجلان: قال لي زياد: أدخل علي ويحك رجلاً عاقلاً قال: قلت: لا أعرف من تعني: قال: لا يخفى العاقل في وجهه وقده. فخرجت، فإذا أنا برجل حسن الوجه، مديد
القامة، فصيح اللسان. قلت: ادخل. فدخل، فقال زياد: يا هذا، إني قد أردت مشورتك في أمر، فما عندك؟ فقال: أنا حاقن، ولا رأي لحاقنٍ. قال: يا عجلان، أدخله المتوضأ، قال: ثم خرج فقال: ما عندك؟ فقال: إني جائع، ولا رأي لجائع. قال: يا عجلان، ائت بطعام، فأتي به. قال: فطعم فقال: سل عما بدا لك. فما سأله عن شيء إلا وجد عنده بعض ما يريد. فكتب إلى عماله: لا تنظروا في حوائج الناس وأحد منكم حاقن أو جائع.
قال أبو الحسن المدائني: لما ولي زياد العراق صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني قد رأيت خلالاً ثلاثاً نبذت إليكم فيهن النصيحة: رأيت إعظام ذوي الشرف، وإجلال أهل العلم، وتوقير ذوي الأسنان. وإني أعاهد الله عهداً: لا يأتيني شريفٌ بوضيعٍ لم يعرف له حق شرفه إلا عاقبته، ولا يأتيني كهل بحدثٍ لم يعرف له حق فضل سنه على حداثته إلا عاقبته، ولا يأتيني عالم بجاهل لا حاه في علمه ليهجنه عليه إلا عاقبته، فإنما الناس بأشرافهم وعلمائهم وذوي أسنانهم.
قال زياد: ثلاثة لا يستخف بهم: عامل السلطان، والعالم، والصديق. فإنه من استخف بالسلطان أفسد دنياه، ومن استخف بالعالم أفسد دينه، ومن استخف بالصديق أفسد مروءته.
قال سفيان بن عيينة: قال زياد: ليس العاقل الذي يحتال للأمر إذا وقع فيه، ولكن العاقل الذي يحتال للأمر ألا يقع فيه.
قال أبو سفيان القرشي: قال زياد: إن مما يجب لله عز وجل على ذي النعمة بحق نعمته ألا يتوصل بها إلى معصيته.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قال رجل في مجلس يونس: قال عمر بن الخطاب ذات يوم: لئن بقيت لأمنعن فروج العربيات إلا من الأكفاء. فقال يونس: رحم الله عمر، لو أدرك تلاعب زياد وبنيه لساءه ذلك.
قال زياد:
ما جلست مجلساً قط إلا تركت منه ما لو آخذته لكان لي، وترك بعض ما لي أحب إلي من أخذ ما ليس لي.
قال زياد: أكرم الناس مجلساً من إذا أتى مجلساً عرف قدره فجلس مجلسه، وإذا ركب دابة حملها على ما يريد، ولا يدعها تحمله على ما تريد.
قال زياد: لو أن لي عشرة دراهم لا أملك غيرها ما تركت نائبةً يلزمني فيها حقٌّ، ولو أن لي مائة ألفٍ ولي بعير أجرب ما ضيعته لكثرة ما لي.
قال زياد لجلسائه: من أغبط الناس عيشاً؟ قالوا: الأمير وجلساؤه. فقال: ما صنعتم شيئاً، إن لأعواد المنبر هيبة، وإن لقرع لجام البريد لفزعة، ولكن أغبط الناس عندي رجلٌ له دار لا يجري عليه كراؤها، وله زوجة صالحة قد رضيته فهما راضيان بعيشهما، لا يعرفنا ولا نعرفه، فإنه إن عرفنا وعرفناه أتعبنا ليله ونهاره، وأذهبنا دينه ودنياه.
كان الشافعي رحمه الله يقول: تعلموا النحو فإنه والله يزري بالرجل ألا يكون فصيحاً، ولقد بلغني أن رجلاً دخل على زياد بن أبيه فقال له: أصلح الله الأمير، إن أبينا هلك، وإن أخينا غصبنا على ما خلفه لنا. فقال له زياد: ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع من مالك.
قال العتبي: قال زياد: ما من كلام إلا له عندي جواب، فمر به مجنون فقال له: أيسرك أنك من الحور العين؟ فتحير وبهت ثم قال: إن من السكوت جواباً، وإن جواب هذا الكلام السكوت.
قال سلمة بن كهيل: أول من وطىء على سماح الإسلام زياد.
قال الحكم بن عوانة: وفد زياد إلى معاوية ومعه أشراف أهل العراق فرجز به ابن حنيق العبادي فقال:
قد علمت ضامرة الجياد ... أن الأمير بعده زياد
فلم يصل زياد إلى معاوية حتى أتاه الخبر، وما قاله ابن حنيق وإقرار زياد بذلك ومعاوية يربص لابنه ما يربص من الخلافة ثم أذن للناس، فأخذوا مجالسهم، ثم دخل زياد فلم يدعه إلى مجلس حتى قام له رجل من أهل العراق فجلس في مجلسه، فحمد الله معاوية وأثنى عليه، ثم قال: هذه الخلافة أمر من أمر الله، وقضاء من قضاء الله، وإنها لا تكون لمنافق، ولا لمن صلى خلف إمام منافق يعرض بزياد حتى عرف زياد وقام الناس، حتى إذا كان الليل أرسل معاوية إلى حضين بن المنذر الذهلي، فدعاه وأدناه حتى كان قريباً منه، ثم أجلسه، وألقيت تحته وسادة، ثم قال له معاوية: بلغني أن لك عقلاً ورأياً وعلماً بالأمور، فأخبرني: ما فرق ملأها؟ قال: قتل أمير المؤمنين عثمان. قال: ما صنعت شيئاً. قال: مسير علي إلى عائشة وطلحة والزبير، ومسير علي إليك وقتالكم بصفين والذي كان بينكم من سفك الدماء والاختلاف. قال: ما صنعت شيئاً. قال: فأخبرني يا أمير المؤمنين، فحمد الله معاوية ثم قال: إن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق. فدعا الناس إلى الإسلام، فعمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتاب الله عز وجل حتى قبضه الله، وعصمه بالوحي، ثم استخلف المسلمون أبا بكر فكان أفضل من تعلم وتعلمون، فعمل أبو بكر بكتاب الله وسنة رسوله حتى قبضه الله إليه، ثم استخلف أبو بكر على المسلمين عمر، فعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسنة أبي بكر، حتى أصاب عمر من قضاء الله ما أصابه، فخير بين ستة فجعلها شورى، ولم تجب إلا بجعلها بينهم، وكانوا خير من يعلم على الأرض، فلما جلسوا لها، وتنازعوها دعا كل رجل منهم إلى نفسه، فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها ويستخلف فأبى القوم وكان أزهدهم فيها فقلدوها إياه فاستخلف عثمان، فما زال كل رجل من أهل الشورى يطمع فيها، ويطمع له فيها أحباؤهم حتى وثبوا على
عثمان فقتلوه، واختلفوا بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً. فهذا الذي سفك دماء هذه الأمة وشق عصاها وفرق ملأها.
حدث هشام بن محمد عن أبيه قال:
كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس شيعة لعلي بن أبي طالب، فلما قدم زياد الكوفة والياً عليها أخافه، وطلبه زياد، فأتى الحسن بن علي، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته فحبسهم، وأخذ ماله، وهدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن علي إلى زياد، أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره، وأخذت ماله وعياله فحبستهم، فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره، واردد عليه عياله وماله، فإني قد أجرته، فشفعني فيه، فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة، أما بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي، وأنت طالب حاجة، وأنا سلطان وأنت سوقة، كتبت إلي في فاسق لا يؤويه إلا مثله وشر من ذلك توليه، إياك وإياك، وقد علمت أنك قد آويته إقامة منك على سوء الرأي، ورضًى منك بذلك. وايم الله لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ولحمك. وإن نلت بعضك غير رفيق بك ولا فزع عليك، فإن أحب لحمٍ إلي آكله للحم الذي أنت منه، فأسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه، وإن قتلته لم أقتله إلا بحبه إياك.
فلما قرأ الحسن عليه السلام الكتاب تبسم، وكتب إلى معاوية يذكر له حال ابن سرح، وكتابه إلى زياد فيه، وإجابة زياد إياه، ولف كتابه في كتابه، وبعث به إلى معاوية، وكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية: الولد للفراش وللعاهر الحجر. فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية، وقرأ معاوية الكتاب ضاقت به الشام، وكتب إلى زياد: أما بعد فإن الحسن بن علي بعث بكتابك إلي جواب
كتابه إليك في ابن سرح، فأكثرت التعجب منك، وعلمت أن لك رأيين: أحدهما من أبي سفيان، والآخر من سمية، فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم، وأما رأيك من سمية فما يكون رأي مثلها، ومن ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه، وتعرض له بالفسق، ولعمري لأنت أولى بالفسق من الحسن، ولأبوك إذ كنت تنسب إلى عبيد أولى بالفسق من أبيه. وإن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً عليك، وإن ذلك لم يضعك، وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك. فإذا قدم عليك كتابي فخل ما في يديك لسعيد بن سرح، وابن له داره، ولا تعرض له، واردد عليه ماله، فقد كتبت إلى الحسن أن يخبر صاحبه إن شاء أقام عنده، وإن شاء رجع إلى بلده، ليس لك عليه سلطان بيد ولا لسان. وأما كتابك إلى الحسن باسمه ولا تنسبه إلى أبيه فإن الحسن ويلك من لا يرمى به الرجوان! أفإلى أمه وكلته! لا أم لك، هي فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وتلك أفخر له، إن كنت تعقل. وكتب في أسفل الكتاب: من الطويل
تدارك ما ضيعت من بعد خبرةٍ ... وأنت أريبٌ بالأمور خبير
أبا حسن يا بن الذي كان قبله ... إذا سار الموت حيث يسير
وهل يلد الرئبال إلا نظيره ... فذا حسنٌ شبهٌ له ونظير
ولكنه لو يوزن الحلم والحجى ... برأي لقالوا فاعلمن ثبير
جاء زياد بن أبي سفيان إلى معقل بن يسار فقيل له: هذا الأمير على الباب. فقال: لا يدخل علي أحد غير الأمير. فدخل، فألقيت له وسادة، فنظر إليه فقال: يا معقل، ألا تزودنا منك شيئاً؟ كان الله ينفعنا بأشياء نسمعها منك. فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ليس من والٍ يلي أمةً قلت أو كثرت لم يعدل فيهم إلا كبه الله
عز وجل في جهنم ". فاطرق ساعةً ثم قال: شيئاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من وراء وراء؟ قال: بل سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن أبي برزة الأسلمي: أنه دخل على زياد فقال: إن من شر الرعاء الحطمة. فقال له: اسكت فإنك من نخالة أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: يا للمسلمين! وهل كان لأصحاب محمد نخالة؟ بل كانوا لباباً، بل كانوا لباباً، والله لا أدخل عليك ما كان في الروح.
قال أبو معشر:
كان حجر بن عدي رجلاً من كندة، وكان عابداً لم يحدث قط إلا توضأ، ولم يهرق ماءً إلا توضأ، وما توضأ إلا صلى، وكان مع علي بن أبي طالب في زمانه، فلما قتل علي، وكانت الجماعة على معاوية اعتزل حجر وناسٌ من أصحابه وزياد معهم نحو أرض فارس، فقال بعضهم لبعض: ما تصنعون نحن وحدنا والجماعة على معاوية؟ أرسلوا رجلاً يأخذ لنا الأمان من معاوية. فاختاروا زياداً اختياراً فأرسلوه إلى معاوية، فأخذ لهم الأمان، وبايعوا على سنة الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، العمل بطاعته. فأعجب معاوية عقل زيادٍ فقال: يا زياد، هل لك في شيء؟ أعترف أنك أخي، وأؤمرك على العراق. قال: نعم.
بلغ الحسن بن علي أن زياداً يتتبع شيعة علي بالبصرة فيقتلهم، فقال: اللهم لا تقتلن زيادا، وأمته حتف أنفه فإنه كان يقال: إن في القتل كفارة.
قال عبد الرحمن بن السائب: جمع زياد أهل الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من علي
رضي الله عنه. قال عبد الرحمن: فإني لمع نفرٍ من الأنصار، والناس في أمر عظيم، قال: فهومت تهويمةً، فرأيت شيئاً أقبل طويل العنق مثل عنق البعير، أهدب، أهدل، فقلت: ما أنت؟ قال: أنا النقاد ذو الرقبة، بعثت إلى صاحب هذا القصر. فاستيقظت فزعاً، فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا. فأخبرتهم. قال: ويخرج علينا خارج من القصر فقال: إن الأمير يقول لكم: انصرفوا عني فإني عنكم مشغول. وإذا الطاعون قد ضربه، فأنشأ عبد الرحمن بن السائب يقول: من البسيط
ما كان منتهياً عما أراد بنا ... حتى تناوله النقاد ذو الرقبه
فأثبت الشق منه ضربة ثبتت ... كما تناول ظلماً صاحب الرحبه
وفي رواية: فإذا الفالج قد ضربه.
حدث محمد بن إدريس الشافعي قال: أوصى زياد فقال: هذا ما أوصى به زياد بن أبي سفيان حيث أتاه من أمر الله ما ينتظر، ومن قدرته ما لا ينكر، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف ربه، وخاف ذنبه، وأن محمداً عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأوصى أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين بتقوى الله حق تقاته، ولا يموتن إلا وهم مسلمون، وأن يتعاهدوا كبير أمرهم وصغيره، فإن الثواب في الكبير على قدره في التحمل له، والصبر غير قليل في حاجتهم إليه وطاعتهم الله فيه، وإن جعل لعباده عقولاً عاقبهم بها على معصيته، وأثابهم على طاعته، والناس بين محسن بنعمة الله عليه ومسيء بخذلان الله إياه، ولله النعمة على المحسن، والحجة على المسيء، فما أحق من تمت نعمة الله عليه في نفسه، ورأى العبرة في غيره، بأن يضع الدنيا بحيث وضعها الله، فيعطي ما عليه منها، ولا يتكثر مما ليس له فيها، فإن الدنيا دار لا سبيل إلى بقائها، ولا بد من لقاء الله، فأحذركم الله الذي حذركم نفسه، وأوصيكم بتعجيل ما أخرت العجزة حتى صاروا إلى دار ليست لهم منها أوبةٌ، ولا يقدرون فيها على توبة، وأنا أستخلف الله عليكم، وأستخلفه منكم.
وعن أبي كعب الجرموزي: أن زياداً لما قدم الكوفة قال: أي أهل الكوفة أعبد.؟ قيل: فلان الحميري. فأرسل إليه فأتاه فإذا سمت ونحو، فقال زياد: لو مال هذا مال أهل الكوفة معه، فقال له: إني بعثت إليك لخير. قال: إني إلى الخير لفقير. قال: بعثت إليك لأنولك وأعطيك على أن تلزم بيتك فلا تخرج؟ قال: سبحان الله! والله لصلاةٌ واحدة في جماعة أحب إلي من الدنيا كلها، ولزيادة أخٍ في الله، وعيادة مريض أحب إلي من الدنيا كلها، فليس إلى ذلك سبيل. قال: فاخرج فصل في جماعة، وزر إخوانك، وعد المريض، والزم شأنك. قال: سبحان الله! أرى معروفاً لا أقول فيه!؟ أرى منكراً لا أنهى عنه!؟ فوالله لمقام من ذلك واحدٌ أحب إلي من الدنيا كلها. قال: يا أبا المغيرة، فهو للسيف. قال: للسيف. فأمر به فضربت عنقه. قال جعفر أحد رواة الحديث: فقيل لزياد، وهو في الموت: أبشر. قال: كيف وأبو المغيرة بالطريق؟!