ربيعة بن فروخ أبي عبد الرحمن
أبو عثمان المديني الفقيه المعروف بربيعة الرأي مولى بني تيم من قريش استقدمه الوليد بن يزيد ليستفتيه في الطلاق قبل النكاح، مع جماعة من فقهاء المدينة، وأمره بالمقام عنده ليعلم ولده عثمان بن الوليد.
حدث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأبهق، ولا بالآدم، وليس بالجعد القطط ولا بالسبط؛ بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله. وقال هشام: وقبضه على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرةً بيضاء.
قال أبو بكر بن عياش: قلت لربيعة الرأي: أسمعت من أنس شيئاً؟ قال: حديثاً واحداً، سمعته يقول: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يخضب، إنما كان شمطاته في هذا المكان عشرين شمطة، لو أشاء عددتها.
وحدث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم بن محمد عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كان في بريرة ثلاث سنن، فكانت إحدى السنن الثلاث أنها اعتقت فخيرت في زوجها، وقال: الولاء لمن أعتق. ودخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والبرمة تفور بلحم، فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألم أر برمةً فيها لحم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة؛ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو عليها صدقة، وهو لنا هدية.
كان الوليد أرسل إلى يزيد بن أسلم، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومحمد بن المنكدر، وأبي الزناد، يستفتيهم في شيء؛ فكانوا يجمعون بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس.
قال معمر: كتب الوليد بن يزيد إلى أمراء الأمصار أن يكتبوا إليه بالطلاق قبل النكاح، وكان
قد ابتلي بذلك؛ فحضر إليه جماعة فأخبروه عن العلماء أن لا طلاق قبل النكاح. ثم قال سماك من عنده: إنما النكاح عقدة تعقد، والطلاق يحلها، فكيف تحل عقدة قبل أن تعقد؟! فأعجب الوليد من قوله، وأخذ به، وكتب إلى عامله على اليمن أن يستعمله على القضاء، وحبس الوليد ربيعة، وضم إليه ابنه عثمان وجعله قائماً بأمره.
كان ربيعة الرأي صاحب الفتيا بالمدينة، وكان يجلس إليه وجوه الناس بالمدينة، وكان يحصى في مجلسه أربعون معتماً. وعنه أخذ مالك بن أنس، وكان عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة يجلس إلى ربيعة يأخذ عنه، فحكي عنه انه قال لربيعة في مرضه الذي مات فيه: يا أبا عثمان! إنا قد تعلمنا منك، وربما جاءنا من يستفتينا في الشيء لم نسمع فيه شيئاً، فترى أن رأينا له خير من رأيه لنفسه فنفتيه؟ فقال ربيعة: أجلسوني، فجلس ثم قال: ويحك يا عبد العزيز! لأن تموت جاهلاً خير لك من أن تقول في شيء بغير علم، لا، لا، لا؛ ثلاث مرات.
توفي ربيعة بالمدينة سنة ست وثلاثين ومئة في خلافة أبي العباس.
كان ربيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليس يشبه حالك، أنا أقول برأي، من شاء أخذه، وأنت تحدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحفظ، لا ينبغي لأحد يعلم أن عنده شيئاً من العلم يضيع نفسه.
روي عن مشيخة أهل المدينة، أن فروخاً أبا عبد الرحمن أبو ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازياً، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار؛ فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرساً، في يده رمح، فنزل عن فرسه، ثم دفع الباب برمحه، فخرج ربيعة فقال له: يا عدو الله! أتهجم على منزلي؟ فقال: لا، وقال فروخ: يا عدو الله! أنت رجل دخلت على حرمتي! فتواثبا، وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، فبلغ مالك بن أنس والمشيخة، فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وجعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا بالسلطان وأنت مع امرأتي، وكثر الضجيج. فلما بصروا بمالك سكت الناس كلهم، فقال مالك: أيها الشيخ! لك سعة في غير هذه الدار،
فقال الشيخ: هذه داري وأنا فروخ مولى بني فلان، فسمعت امرأته كلامه فخرجت فقالت: هذا زوجي وهذا ابني الذي خلفته وأنا حامل به، فاعتنقا جميعاً وبكيا. فدخل فروخ المنزل وقال: هذا ابني؟! قالت: نعم، قال: فأخرجي المال الذي لي عندك، وهذه معي أربعة آلاف دينار، فقالت: المال قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام. فخرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته، وأتاه مالك بن أنس، والحسن بن زيد، وابن أبي علي اللهبي، والمساحقي، وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به. فقالت امرأته: اخرج صل في مسجد الرسول، فخرج فصلى، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاه، فوقف عليه، ففرجوا له قليلاً، ونكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره، وعليه طويلة، فشك فيه أبو عبد الرحمن فقال: من هذا الرجل؟ فقالوا: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال أبو عبد الرحمن: لقد رفع الله ابني؛ فرجع إلى منزله فقال لوالدته: لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: فأيما أحب إليك، ثلاثون ألف دينار أو هذا الذي هو فيه من الجاه؟ قال: لا والله، ألا هذا، قالت: فإني قد أنفقت المال كله عليه، قال: فواالله ما ضيعته.
قال ابن زيد: مكث ربيعة بن أبي عبد الرحمن دهراً طويلاً عابداً، يصلي الليل والنهار، صاحب عبادة؛ ثم نزع عن ذلك إلى أن جالس القوم، فجالس القاسم فنطق بلب وعقل، قال: فكان القاسم إذا سئل عن شيء قال: سلوا هذا لربيعة قال: فإن كان شيء في كتاب الله أخبرهم به القاسم أو في سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا قال: سلوا هذا لربيعة أو سالم. قال: وصار ربيعة إلى فقه وفضل وعفاف، وما كان بالمدينة رجل واحد كان أسخى نفساً بما في يده لصديق أو لابن صديق، أو لباغ يبتغيه منه،
كان يستصحبه القوم فيأبى صحبة أحد إلا أحداً لا يتزود معه، ولم يكن في يده ما يحمل ذلك.
قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: كان الأمر إلى سعيد بن المسيب، فلما مات سعيد أفضى الأمر إلى القاسم وسالم. فلما مات القاسم وسالم كان الأمر صار إلى ربيعة.
قال مالك: فحدثني ربيعة قال: قال لي ابن خلدة وكان نعم القاضي: يا ربيعة، أراك تفتي الناس، فإذا جاءك الرجل يسألك فلا تكن همتك أن تخرجه مما وقع فيه، ولتكن همتك أن تتخلص مما سألك عنه.
قال عبيد الله بن عمر: كان يحيى بن سعيد يحدثنا، فإذا طلع ربيعة قطع يحيى حديثه إجلالاً لربيعة وإعظاماً له، وليس ربيعة بأسن منه؛ وكان كل واحد منهما مجلاً لصاحبه.
وكان ربيعة يقول له وهو يمازحه في الشيء من الفتيا، يسمع ذلك يحيى بن سعيد: هذا خير لك مما تحوز من الدنيا.
قال يحيى بن سعيد: ما رأيت أحداً أسد عقلاً من ربيعة.
قال الليث: وكان صاحب معضلات أهل المدينة، ورئيسهم في الفتيا.
قال سوار بن عبد الله العنبري: ما رأيت أحداً قط مثل ربيعة الرأي! قيل: ولا الحسن؟ قال: ولا الحسن، ولا ابن سيرين.
قال مالك: قدم ابن شهاب المدينة، فأخذ بيد ربيعة ودخلا إلى بيت الديوان، فما خرجا إلى العصر، خرج ابن شهاب وهو يقول: ما ظننت بالمدينة مثل ربيعة؛ وخرج ربيعة وهو يقول: ما ظننت أن أحداً بلغ من العلم ما يلغ ابن شهاب.
كان القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق يقول: ما يسرني أن أمي ولدت لي أخاً ممن ترون من أهل المدينة إلا ربيعة الرأي.
قال يونس بن يزيد: شهدت أبا حنيفة في مجلس ربيعة، فكان مجهود أبي حنيفة أن يفهم ما يقول ربيعة.
قال عبد العزيز بن أبي سلمة: لما جئت العراق جاءني أهل العراق فقالوا: حدثنا عن ربيعة الرأي، قال: فقلت: يا أهل العراق، تقولون: ربيعة الرأي، لا والله، ما رأيت أحداً أحوط لسنة منه.
وعن سفيان بن عيينة قال: تقنع ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فجعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: شهوة خفية، ورياء حاضر، والناس عند علمائهم كالغلمان في حجور أمهاتهم، إذا نهوا انتهوا، وإذا أمروا ائتمروا.
وعن أنس بن عياض: أن غيلان وقف على ربيعة فقال: يا ربيعة، أنت الذي يزعم أن الله يحب أن يعصى؟ فقال: ويلك يا غيلان! أفأنت الذي يزعم أن الله يعصى قسراً؟ قال: ووقف ربيعة على قوم وهو يتذاكرون القدر فقال: لئن كنتم صادقين وأعوذ بالله أن تكونوا صادقين، لما في أيديكم أعظم مما في يدي ربكم، إن كان الخير والشر بأيديكم.
قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: المروءة ست خصال، ثلاث في الحضر وثلاث في السفر؛ فأما الثلاث التي في الحضر:
فتلاوة القرآن؛ وعمارة مساجد الله؛ واتخاذ الإخوان في الله؛ وأما الثلاث التي في السفر: فبذل الزاد؛ وحسن الخلق؛ وكثرة المزاح في غير معصية.
قال بكر بن عبد الله بن الشرود الصنعاني: أتينا مالك بن أنس، فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي ابن أبي عبد الرحمن، فكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة؟ هو نائم في ذاك الطاق، قال: فأتينا ربيعة فأنبهناه فقلنا له: أنت ربيعة بن أبي عبد الرحمن؟ قال: بلى، قلنا: ربيعة بن فروخ؟ قال: بلى، قلنا: ربيعة الرأي؟ قال: بلى، قلنا: هذا الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: بلى، قلنا له: كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك؟ فقال: أما علمتم أن مثقالاً من دولة خير من حمل علم؟ وعن مالك: أن إياس بن معاوية قال لربيعة: إن البناء إذا بني على غير أس، لم يكد أن يعتدل. يريد بذلك المفتي الذي يتكلم على غير أصل يبني عليه كلامه.
قال الشافعي: وقف أعرابي على ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فجعل يسجع في كلامه، ثم نظر إلى الأعرابي فقال: يا أعرابي، ما تعدون البلاغة فيكم؟ قال: خلاف ما كنت فيه منذ اليوم.
قال الأصمعي: ما هبت عالماً قط ما هبت مالكاً حتى لحن، فذهبت هيبته من قلبي، وذلك أني سمعته يقول: مطرنا مطراً وأي مطر. فقلت له في ذلك فقال: كيف لو قد رأيت ربيعة بن أبي عبد الرحمن، كنا إذا قلنا له: كيف أصبحت؟ يقول: بخيراً بخيراً. وإذا مالك قد جعل بنفسه قدوةً يقتدي به في اللحن.
قال الليث بن سعد: كنت عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن وعلي جبة تارجية فقلت له: يا أبا عثمان، لو
أصلحت من لسانك، فقال: يا أبا الحارث، لأن ألحن كذا وكذا لحنة أحب إلي من أن ألبس مثل جبتك هذه.
قال كثير بن الوليد: قال رجل للزهري: يا أبا بكر، تركت دار الهجرة ولزمت شعباً! فأراه قال: أفسدها العبدان: ربيعة وأبو الزناد.
وروى سفيان بسنده حديثاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً مستقيماً حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. قال سفيان: فنظرنا، فإذا أول من تكلم بالرأي بالمدينة ربيعة بن أبي عبد الرحمن. وذكر آخر بالكوفة، وبالبصرة البتي. فوجدناهم من أبناء سبايا الأمم.
قال سفيان بن عيينة: كنا إذا رأينا رجلاً من طلبة الحديث يغشى أحد ثلاثة ضحكنا منه، لأنهم كانوا لا يتقنون الحديث ولا يحفظونه: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومحمد بن أبي بكر بن حزم، وجعفر بن محمد.
وجلد ربيعة وحلق رأسه ولحيته، فنبتت لحيته مختلفة، شق أطول من الآخر، فقيل له: يا أبا عثمان؛ لو سويته، قال: لا، حتى ألتقي معهم بين يدي الله.
قال إبراهيم بن المنذر: كان سبب جلد ربيعة سعاية أبي الزناد، سعى به فولي بعد فلان التيمي، فأرسل إلى أبي الزناد، فأدخله بيتاً وسد باب البيت ليقتله جوعاً وعطشاً، فبلغ ذلك ربيعة، فجاء إلى الوالي فكلمه وأنكر ما فعل، فقال: وهل فعلت به هذا إلا لما كان منه إليك؟ دعه يموت، فأبى عليه حتى أخرجه وقال: سأحاكمه إلى الله عز وجل. هذا أو نحوه.
قال مطرف بن عبد الله: سمعت مالك بن أنس يقول: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
توفي ربيعة بن أبي عبد الرحمن سنة اثنتين وثلاثين ومئة. وقيل: سنة ثلاثين، والأكثر أنه توفي سنة ست وثلاثين ومئة.
أبو عثمان المديني الفقيه المعروف بربيعة الرأي مولى بني تيم من قريش استقدمه الوليد بن يزيد ليستفتيه في الطلاق قبل النكاح، مع جماعة من فقهاء المدينة، وأمره بالمقام عنده ليعلم ولده عثمان بن الوليد.
حدث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأبهق، ولا بالآدم، وليس بالجعد القطط ولا بالسبط؛ بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله. وقال هشام: وقبضه على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرةً بيضاء.
قال أبو بكر بن عياش: قلت لربيعة الرأي: أسمعت من أنس شيئاً؟ قال: حديثاً واحداً، سمعته يقول: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يخضب، إنما كان شمطاته في هذا المكان عشرين شمطة، لو أشاء عددتها.
وحدث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم بن محمد عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كان في بريرة ثلاث سنن، فكانت إحدى السنن الثلاث أنها اعتقت فخيرت في زوجها، وقال: الولاء لمن أعتق. ودخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والبرمة تفور بلحم، فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألم أر برمةً فيها لحم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة؛ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو عليها صدقة، وهو لنا هدية.
كان الوليد أرسل إلى يزيد بن أسلم، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومحمد بن المنكدر، وأبي الزناد، يستفتيهم في شيء؛ فكانوا يجمعون بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس.
قال معمر: كتب الوليد بن يزيد إلى أمراء الأمصار أن يكتبوا إليه بالطلاق قبل النكاح، وكان
قد ابتلي بذلك؛ فحضر إليه جماعة فأخبروه عن العلماء أن لا طلاق قبل النكاح. ثم قال سماك من عنده: إنما النكاح عقدة تعقد، والطلاق يحلها، فكيف تحل عقدة قبل أن تعقد؟! فأعجب الوليد من قوله، وأخذ به، وكتب إلى عامله على اليمن أن يستعمله على القضاء، وحبس الوليد ربيعة، وضم إليه ابنه عثمان وجعله قائماً بأمره.
كان ربيعة الرأي صاحب الفتيا بالمدينة، وكان يجلس إليه وجوه الناس بالمدينة، وكان يحصى في مجلسه أربعون معتماً. وعنه أخذ مالك بن أنس، وكان عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة يجلس إلى ربيعة يأخذ عنه، فحكي عنه انه قال لربيعة في مرضه الذي مات فيه: يا أبا عثمان! إنا قد تعلمنا منك، وربما جاءنا من يستفتينا في الشيء لم نسمع فيه شيئاً، فترى أن رأينا له خير من رأيه لنفسه فنفتيه؟ فقال ربيعة: أجلسوني، فجلس ثم قال: ويحك يا عبد العزيز! لأن تموت جاهلاً خير لك من أن تقول في شيء بغير علم، لا، لا، لا؛ ثلاث مرات.
توفي ربيعة بالمدينة سنة ست وثلاثين ومئة في خلافة أبي العباس.
كان ربيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليس يشبه حالك، أنا أقول برأي، من شاء أخذه، وأنت تحدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحفظ، لا ينبغي لأحد يعلم أن عنده شيئاً من العلم يضيع نفسه.
روي عن مشيخة أهل المدينة، أن فروخاً أبا عبد الرحمن أبو ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازياً، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار؛ فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرساً، في يده رمح، فنزل عن فرسه، ثم دفع الباب برمحه، فخرج ربيعة فقال له: يا عدو الله! أتهجم على منزلي؟ فقال: لا، وقال فروخ: يا عدو الله! أنت رجل دخلت على حرمتي! فتواثبا، وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، فبلغ مالك بن أنس والمشيخة، فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وجعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا بالسلطان وأنت مع امرأتي، وكثر الضجيج. فلما بصروا بمالك سكت الناس كلهم، فقال مالك: أيها الشيخ! لك سعة في غير هذه الدار،
فقال الشيخ: هذه داري وأنا فروخ مولى بني فلان، فسمعت امرأته كلامه فخرجت فقالت: هذا زوجي وهذا ابني الذي خلفته وأنا حامل به، فاعتنقا جميعاً وبكيا. فدخل فروخ المنزل وقال: هذا ابني؟! قالت: نعم، قال: فأخرجي المال الذي لي عندك، وهذه معي أربعة آلاف دينار، فقالت: المال قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام. فخرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته، وأتاه مالك بن أنس، والحسن بن زيد، وابن أبي علي اللهبي، والمساحقي، وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به. فقالت امرأته: اخرج صل في مسجد الرسول، فخرج فصلى، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاه، فوقف عليه، ففرجوا له قليلاً، ونكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره، وعليه طويلة، فشك فيه أبو عبد الرحمن فقال: من هذا الرجل؟ فقالوا: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال أبو عبد الرحمن: لقد رفع الله ابني؛ فرجع إلى منزله فقال لوالدته: لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: فأيما أحب إليك، ثلاثون ألف دينار أو هذا الذي هو فيه من الجاه؟ قال: لا والله، ألا هذا، قالت: فإني قد أنفقت المال كله عليه، قال: فواالله ما ضيعته.
قال ابن زيد: مكث ربيعة بن أبي عبد الرحمن دهراً طويلاً عابداً، يصلي الليل والنهار، صاحب عبادة؛ ثم نزع عن ذلك إلى أن جالس القوم، فجالس القاسم فنطق بلب وعقل، قال: فكان القاسم إذا سئل عن شيء قال: سلوا هذا لربيعة قال: فإن كان شيء في كتاب الله أخبرهم به القاسم أو في سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا قال: سلوا هذا لربيعة أو سالم. قال: وصار ربيعة إلى فقه وفضل وعفاف، وما كان بالمدينة رجل واحد كان أسخى نفساً بما في يده لصديق أو لابن صديق، أو لباغ يبتغيه منه،
كان يستصحبه القوم فيأبى صحبة أحد إلا أحداً لا يتزود معه، ولم يكن في يده ما يحمل ذلك.
قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: كان الأمر إلى سعيد بن المسيب، فلما مات سعيد أفضى الأمر إلى القاسم وسالم. فلما مات القاسم وسالم كان الأمر صار إلى ربيعة.
قال مالك: فحدثني ربيعة قال: قال لي ابن خلدة وكان نعم القاضي: يا ربيعة، أراك تفتي الناس، فإذا جاءك الرجل يسألك فلا تكن همتك أن تخرجه مما وقع فيه، ولتكن همتك أن تتخلص مما سألك عنه.
قال عبيد الله بن عمر: كان يحيى بن سعيد يحدثنا، فإذا طلع ربيعة قطع يحيى حديثه إجلالاً لربيعة وإعظاماً له، وليس ربيعة بأسن منه؛ وكان كل واحد منهما مجلاً لصاحبه.
وكان ربيعة يقول له وهو يمازحه في الشيء من الفتيا، يسمع ذلك يحيى بن سعيد: هذا خير لك مما تحوز من الدنيا.
قال يحيى بن سعيد: ما رأيت أحداً أسد عقلاً من ربيعة.
قال الليث: وكان صاحب معضلات أهل المدينة، ورئيسهم في الفتيا.
قال سوار بن عبد الله العنبري: ما رأيت أحداً قط مثل ربيعة الرأي! قيل: ولا الحسن؟ قال: ولا الحسن، ولا ابن سيرين.
قال مالك: قدم ابن شهاب المدينة، فأخذ بيد ربيعة ودخلا إلى بيت الديوان، فما خرجا إلى العصر، خرج ابن شهاب وهو يقول: ما ظننت بالمدينة مثل ربيعة؛ وخرج ربيعة وهو يقول: ما ظننت أن أحداً بلغ من العلم ما يلغ ابن شهاب.
كان القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق يقول: ما يسرني أن أمي ولدت لي أخاً ممن ترون من أهل المدينة إلا ربيعة الرأي.
قال يونس بن يزيد: شهدت أبا حنيفة في مجلس ربيعة، فكان مجهود أبي حنيفة أن يفهم ما يقول ربيعة.
قال عبد العزيز بن أبي سلمة: لما جئت العراق جاءني أهل العراق فقالوا: حدثنا عن ربيعة الرأي، قال: فقلت: يا أهل العراق، تقولون: ربيعة الرأي، لا والله، ما رأيت أحداً أحوط لسنة منه.
وعن سفيان بن عيينة قال: تقنع ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فجعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: شهوة خفية، ورياء حاضر، والناس عند علمائهم كالغلمان في حجور أمهاتهم، إذا نهوا انتهوا، وإذا أمروا ائتمروا.
وعن أنس بن عياض: أن غيلان وقف على ربيعة فقال: يا ربيعة، أنت الذي يزعم أن الله يحب أن يعصى؟ فقال: ويلك يا غيلان! أفأنت الذي يزعم أن الله يعصى قسراً؟ قال: ووقف ربيعة على قوم وهو يتذاكرون القدر فقال: لئن كنتم صادقين وأعوذ بالله أن تكونوا صادقين، لما في أيديكم أعظم مما في يدي ربكم، إن كان الخير والشر بأيديكم.
قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: المروءة ست خصال، ثلاث في الحضر وثلاث في السفر؛ فأما الثلاث التي في الحضر:
فتلاوة القرآن؛ وعمارة مساجد الله؛ واتخاذ الإخوان في الله؛ وأما الثلاث التي في السفر: فبذل الزاد؛ وحسن الخلق؛ وكثرة المزاح في غير معصية.
قال بكر بن عبد الله بن الشرود الصنعاني: أتينا مالك بن أنس، فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي ابن أبي عبد الرحمن، فكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة؟ هو نائم في ذاك الطاق، قال: فأتينا ربيعة فأنبهناه فقلنا له: أنت ربيعة بن أبي عبد الرحمن؟ قال: بلى، قلنا: ربيعة بن فروخ؟ قال: بلى، قلنا: ربيعة الرأي؟ قال: بلى، قلنا: هذا الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: بلى، قلنا له: كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك؟ فقال: أما علمتم أن مثقالاً من دولة خير من حمل علم؟ وعن مالك: أن إياس بن معاوية قال لربيعة: إن البناء إذا بني على غير أس، لم يكد أن يعتدل. يريد بذلك المفتي الذي يتكلم على غير أصل يبني عليه كلامه.
قال الشافعي: وقف أعرابي على ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فجعل يسجع في كلامه، ثم نظر إلى الأعرابي فقال: يا أعرابي، ما تعدون البلاغة فيكم؟ قال: خلاف ما كنت فيه منذ اليوم.
قال الأصمعي: ما هبت عالماً قط ما هبت مالكاً حتى لحن، فذهبت هيبته من قلبي، وذلك أني سمعته يقول: مطرنا مطراً وأي مطر. فقلت له في ذلك فقال: كيف لو قد رأيت ربيعة بن أبي عبد الرحمن، كنا إذا قلنا له: كيف أصبحت؟ يقول: بخيراً بخيراً. وإذا مالك قد جعل بنفسه قدوةً يقتدي به في اللحن.
قال الليث بن سعد: كنت عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن وعلي جبة تارجية فقلت له: يا أبا عثمان، لو
أصلحت من لسانك، فقال: يا أبا الحارث، لأن ألحن كذا وكذا لحنة أحب إلي من أن ألبس مثل جبتك هذه.
قال كثير بن الوليد: قال رجل للزهري: يا أبا بكر، تركت دار الهجرة ولزمت شعباً! فأراه قال: أفسدها العبدان: ربيعة وأبو الزناد.
وروى سفيان بسنده حديثاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً مستقيماً حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. قال سفيان: فنظرنا، فإذا أول من تكلم بالرأي بالمدينة ربيعة بن أبي عبد الرحمن. وذكر آخر بالكوفة، وبالبصرة البتي. فوجدناهم من أبناء سبايا الأمم.
قال سفيان بن عيينة: كنا إذا رأينا رجلاً من طلبة الحديث يغشى أحد ثلاثة ضحكنا منه، لأنهم كانوا لا يتقنون الحديث ولا يحفظونه: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومحمد بن أبي بكر بن حزم، وجعفر بن محمد.
وجلد ربيعة وحلق رأسه ولحيته، فنبتت لحيته مختلفة، شق أطول من الآخر، فقيل له: يا أبا عثمان؛ لو سويته، قال: لا، حتى ألتقي معهم بين يدي الله.
قال إبراهيم بن المنذر: كان سبب جلد ربيعة سعاية أبي الزناد، سعى به فولي بعد فلان التيمي، فأرسل إلى أبي الزناد، فأدخله بيتاً وسد باب البيت ليقتله جوعاً وعطشاً، فبلغ ذلك ربيعة، فجاء إلى الوالي فكلمه وأنكر ما فعل، فقال: وهل فعلت به هذا إلا لما كان منه إليك؟ دعه يموت، فأبى عليه حتى أخرجه وقال: سأحاكمه إلى الله عز وجل. هذا أو نحوه.
قال مطرف بن عبد الله: سمعت مالك بن أنس يقول: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
توفي ربيعة بن أبي عبد الرحمن سنة اثنتين وثلاثين ومئة. وقيل: سنة ثلاثين، والأكثر أنه توفي سنة ست وثلاثين ومئة.