دغفل بن حنظلة بن زيد بن عبده
ابن عبد الله بن ربيعة بن عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفضى ابن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة السدوسي، الذهلي، الشيباني، النسابة يقال: إن له صحبة، ويقال: لا صحبة له. استقدمه معاوية، فقدم عليه، وأمره أن يعلم ابنه يزيد.
روى الحسن بن دغفل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي وهو ابن خمس وستين سنة.
وحدث الحسن بن دغفل قال: كان على النصارى صوم شهر رمضان، فمرض ملك منهم فقال: لئن شفاه الله ليزيدن عشرة أيام؛ ثم كان ملك بعده، فأكل لحماً فوجع فاه، فقال: لئن شفاه الله ليزيدن سبعة أيام؛ ثم كان ملك بعده فقال: ما ندع هذه الثلاثة أيام أن نتمها ونجعل صومها في الربيع. ففعل، فكانت خمسين يوماً.
وقد روى ذلك مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال عبد الله بن بريدة: أرسل معاوية إلى دغفل، فسأله عن أنساب العرب، وعن النجوم، والعربية، وعن أنساب قريش، فأخبره، فإذارجل عالم، فقال: من أين حفظت هذا يا دغفل؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول؛ وإن آفة العلم النسيان. قال: فأمره أن يذهب إلى يزيد فيعلمه العربية، وأنساب قريش، وأنساب العرب. وفي رواية: والنجوم.
وقيل: قال معاوية لدغفل: بم ضبطت ما أرى؟ قال: بمفاوضة العلماء، قال: وما مفاوضة العلماء؟ قال: كنت إذا لقيت عالماً أخذت ما عنده، وأعطيته ما عندي.
قال ابن عباس: حدثني علي بن أبي طالب من فيه قال: لما أمر الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب؛ فتقدم أبو بكر وكان مقدماً في كل خير، وكان نسابة فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: وأي ربيعة أنتم؟ أمن هامها أم من لهازمها؟ فقالوا: بل من الهامة العظمى، فقال أبو بكر؟ وأي هامتها
العظمى أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: منكم عوف الذي قال: لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا، قال: منكم جساس بن مرة، حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة سمي صاحب العمامة الفردة لأنه كان إذا ركب لم يعتم معه غيره قالوا: لا، قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا، قالأبو بكر: فلستم ذهل الأكبر، أنتم ذهل الأصغر. قال: فقام إليه غلام من بني شيبان، يقال له دغفل حين بقل وجهه فقال:
إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا! إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئاً، فممن الرجل؟ قال أبو بكر الصديق: أنا من قريش، فقال الفتى: بخ بخ! أهل الشرف والرئاسة! من أي القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة، فقال الفتى: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة، امنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى في قريش مجمعاً؟ قال: لا، قال: منكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه:
ورجال مكة مسنتون عجاف؟
قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب، مطعم طير السماء، الذي كان وجهه القمر يضيء في الليلة الداجية الظلماء؟ قال: لا، قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا. واجتذب أبو بكر زمام الناقة راجعاً إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الغلام:
صادف درء السيل درءاً يدفعه ... يهيضه حيناً وحيناً يصدعه
أما والله لو ثبت لأخبرتك من قريش. قال: فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال علي: فقلت: يا أبا بكر! لقد وقعت من الأعرابي على باقعة، قال: أجل أبا حسن، ما من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق.
قال: ثم رجعنا إلى مجلس آخر، عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر، فسلم فقال: ممن القوم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: بأبي وأمي! هؤلاء غرر الناس وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك؛ وكان مفروق قد غلبهم جمالاً ولساناً، وكانت له غديرتان تسقطان على تربيته، وكان أدنى القوم مجلساً؛ فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف، ولن يغلب ألف من قلة؛ فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: علينا الجهد، ولكل قوم جد؛ فقال أبو بكر: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرةً ويديل علينا أخرى، لعلك أخا قريش ... فقال أبو بكر: قد بلغكم أنه رسول الله، ألا هو ذا، فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام
يدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجلس، وقام أبو بكر يظله بثوبه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد، فقال مفروق بن عمرو: إلام تدعونا يا أخا قريش، فوالله ما سمعت كلاماً أحسن من هذا؟ فتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " إلى قوله " فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " فقال مفروق: وإلام تدعو يا أخا قريش، فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض؟ قال: فتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون ". فقال مفروق بن عمرو: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش! وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك بمجلس جلسته لينا ليس له أول ولا آخر، إنه زلل في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة؛ ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى بن حارثة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتك على دينك، وإنا إنما نزلنا بين ضرتين: اليمامة والشأمة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما هاتان الضرتان؟ فقال: انهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول؛ وأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول؛ وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا: أن لا نحدث جدثاً، ولا نؤوي محدثاً؛ وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا قرشي مما يكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع
جوانبه، أرأيتم إن لم يلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم ولك ذلك. قال: فتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ". ثم نهض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قابضاً على يدي أبي بكر وهو يقول: يا أبا بكر! أية أخلاق في الجاهلية! ما أشرفها! بها يدفع الله عز وجل، ناس بعضهم من بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم.
قال: فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فلقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سر بما كان من أبي بكر ومعرفته بأنسابهم.
مر نفر من الأنصار بدغفل النسابة بعدما ذهب بصره، فسلموا عليه، فقال: من أنتم؟ قالوا: أشراف أهل اليمن، قال: من أهل ملكها القديم وشرفها الصميم، كندة! قالوا: لا، قال: فمن الطوال قصباً والممحضين نسباً بني عبد المدان؟ قالوا: لا، قال: فمن أقودها للزحوف، وأخرقها للصفوف، وأضربها بالسيوف، بني زبيد رهط عمرو بن معد يكرب؟ قالوا: لا، قال: فمن أحضرها قراءً، وأطنبها فناءً، وأصدقها لقاءً، طيئ؟ قالوا: لا، قال: فمن الغارسين النخل، والمطعمين في المحل، والقائلين بالعدل، الأنصار؟ قالوا: نعم.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: جاء قوم من بني سعد بن زيد مناة تميم إلى دغفل النسابة، فسلموا عليه وهو مول ظهره للشمس في مشرقة له، فرد عليهم من غير أن يلتفت إليهم، ثم قال لهم: من القوم؟ قالوا: نحن سادة مضر، قال: أنتم إذاً قريش الحرم، أهل العز والقدم، والفضل والكرم، والرأي في البهم، قالوا: لسنا منهم، قال: لا؟ قالوا: لا؛ قال: فأنتم إذاً هوازن، أجرؤها فوارس، وأجملها مجالس؛ قالوا: لسنا بهم، قال: لا؟ قالوا: لا؛ قال: فأنتم إذاً سليم، فوارس عظاظها، ومناع أعراضها، قالوا: لسنا بهم، قال: لا؟
قالوا: لا؛ قال: فأنتم إذاً غطفان، أعظمها أحلاماً، وأسرعها إقداماً، قالوا: لسنا منهم، قال: لا؟ قالوا: لا؛ قال: فأنتم إذاً بنو حنظلة، أكرمها جدوداً، وأسهلها خدوداً، وألينها جلوداً، قالوا: لسنا بهم، قال: لا؟ قالوا: لا. قال: أفلا أراكم إلا من ربعات مضر وأنتم تأبون إلا أن تترقوا في الغلاصم منهم، اذهبوا لا كثر الله بكم من قلة ولا أعز بكم من ذلة.
قال الأصمعي: النسابون أربعة: دغفل، وأبو ضمضم، وصبح، والكيس النمري.
قيل للنساب البكري: قد نسبت كل شيء حتى نسبت الذر! قال: الذر ثلاثة أبطن: الذر، وفازر، وعقفان.
قال رؤبة بن العجاج: دخلت على النسابة البكري، فقال: من أنت؟ قلت: رؤبة بنت العجاج، قال: قصرت وعرفت، لعلك كأقوام يأتوني إن حدثتهم لم يعوا عني، وإن سكت عنهم لم يسألوني، قال: قلت: أرجو أن لا أكون كذلك، فقال لي: فما أعداء المروءة؟ قلت: تخبرني، قال: بنو عم السوء، إن رأوا حسناً دفنوه، وإن رأوا سيئاً أذاعوه. ثم قال: إن للعلم آفةً وهجنةً ونكداً؛ فآفته الكذب، ونكده النسيان، وهجنته نشره عند غير أهله.
قال دغفل العلامة: في العلم خصال: إن له آفة، وله هجنة، وله نكد: فآفته أن تخزنه، فلا تحدث به ولا تنشره؛ وهجنته أن تحدثه من لا يعيه ولا يعمل به؛ ونكده أن تكذب فيه.
قيل: إن دغفلاً غرق في يوم دولاب من فارس في قتال الخوارج.
ابن عبد الله بن ربيعة بن عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفضى ابن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة السدوسي، الذهلي، الشيباني، النسابة يقال: إن له صحبة، ويقال: لا صحبة له. استقدمه معاوية، فقدم عليه، وأمره أن يعلم ابنه يزيد.
روى الحسن بن دغفل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي وهو ابن خمس وستين سنة.
وحدث الحسن بن دغفل قال: كان على النصارى صوم شهر رمضان، فمرض ملك منهم فقال: لئن شفاه الله ليزيدن عشرة أيام؛ ثم كان ملك بعده، فأكل لحماً فوجع فاه، فقال: لئن شفاه الله ليزيدن سبعة أيام؛ ثم كان ملك بعده فقال: ما ندع هذه الثلاثة أيام أن نتمها ونجعل صومها في الربيع. ففعل، فكانت خمسين يوماً.
وقد روى ذلك مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال عبد الله بن بريدة: أرسل معاوية إلى دغفل، فسأله عن أنساب العرب، وعن النجوم، والعربية، وعن أنساب قريش، فأخبره، فإذارجل عالم، فقال: من أين حفظت هذا يا دغفل؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول؛ وإن آفة العلم النسيان. قال: فأمره أن يذهب إلى يزيد فيعلمه العربية، وأنساب قريش، وأنساب العرب. وفي رواية: والنجوم.
وقيل: قال معاوية لدغفل: بم ضبطت ما أرى؟ قال: بمفاوضة العلماء، قال: وما مفاوضة العلماء؟ قال: كنت إذا لقيت عالماً أخذت ما عنده، وأعطيته ما عندي.
قال ابن عباس: حدثني علي بن أبي طالب من فيه قال: لما أمر الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب؛ فتقدم أبو بكر وكان مقدماً في كل خير، وكان نسابة فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: وأي ربيعة أنتم؟ أمن هامها أم من لهازمها؟ فقالوا: بل من الهامة العظمى، فقال أبو بكر؟ وأي هامتها
العظمى أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: منكم عوف الذي قال: لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا، قال: منكم جساس بن مرة، حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة سمي صاحب العمامة الفردة لأنه كان إذا ركب لم يعتم معه غيره قالوا: لا، قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا، قالأبو بكر: فلستم ذهل الأكبر، أنتم ذهل الأصغر. قال: فقام إليه غلام من بني شيبان، يقال له دغفل حين بقل وجهه فقال:
إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا! إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئاً، فممن الرجل؟ قال أبو بكر الصديق: أنا من قريش، فقال الفتى: بخ بخ! أهل الشرف والرئاسة! من أي القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة، فقال الفتى: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة، امنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى في قريش مجمعاً؟ قال: لا، قال: منكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه:
ورجال مكة مسنتون عجاف؟
قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب، مطعم طير السماء، الذي كان وجهه القمر يضيء في الليلة الداجية الظلماء؟ قال: لا، قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا. واجتذب أبو بكر زمام الناقة راجعاً إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الغلام:
صادف درء السيل درءاً يدفعه ... يهيضه حيناً وحيناً يصدعه
أما والله لو ثبت لأخبرتك من قريش. قال: فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال علي: فقلت: يا أبا بكر! لقد وقعت من الأعرابي على باقعة، قال: أجل أبا حسن، ما من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق.
قال: ثم رجعنا إلى مجلس آخر، عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر، فسلم فقال: ممن القوم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: بأبي وأمي! هؤلاء غرر الناس وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك؛ وكان مفروق قد غلبهم جمالاً ولساناً، وكانت له غديرتان تسقطان على تربيته، وكان أدنى القوم مجلساً؛ فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف، ولن يغلب ألف من قلة؛ فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: علينا الجهد، ولكل قوم جد؛ فقال أبو بكر: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرةً ويديل علينا أخرى، لعلك أخا قريش ... فقال أبو بكر: قد بلغكم أنه رسول الله، ألا هو ذا، فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام
يدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجلس، وقام أبو بكر يظله بثوبه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد، فقال مفروق بن عمرو: إلام تدعونا يا أخا قريش، فوالله ما سمعت كلاماً أحسن من هذا؟ فتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " إلى قوله " فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " فقال مفروق: وإلام تدعو يا أخا قريش، فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض؟ قال: فتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون ". فقال مفروق بن عمرو: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش! وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك بمجلس جلسته لينا ليس له أول ولا آخر، إنه زلل في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة؛ ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى بن حارثة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتك على دينك، وإنا إنما نزلنا بين ضرتين: اليمامة والشأمة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما هاتان الضرتان؟ فقال: انهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول؛ وأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول؛ وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا: أن لا نحدث جدثاً، ولا نؤوي محدثاً؛ وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا قرشي مما يكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع
جوانبه، أرأيتم إن لم يلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم ولك ذلك. قال: فتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ". ثم نهض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قابضاً على يدي أبي بكر وهو يقول: يا أبا بكر! أية أخلاق في الجاهلية! ما أشرفها! بها يدفع الله عز وجل، ناس بعضهم من بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم.
قال: فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فلقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سر بما كان من أبي بكر ومعرفته بأنسابهم.
مر نفر من الأنصار بدغفل النسابة بعدما ذهب بصره، فسلموا عليه، فقال: من أنتم؟ قالوا: أشراف أهل اليمن، قال: من أهل ملكها القديم وشرفها الصميم، كندة! قالوا: لا، قال: فمن الطوال قصباً والممحضين نسباً بني عبد المدان؟ قالوا: لا، قال: فمن أقودها للزحوف، وأخرقها للصفوف، وأضربها بالسيوف، بني زبيد رهط عمرو بن معد يكرب؟ قالوا: لا، قال: فمن أحضرها قراءً، وأطنبها فناءً، وأصدقها لقاءً، طيئ؟ قالوا: لا، قال: فمن الغارسين النخل، والمطعمين في المحل، والقائلين بالعدل، الأنصار؟ قالوا: نعم.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: جاء قوم من بني سعد بن زيد مناة تميم إلى دغفل النسابة، فسلموا عليه وهو مول ظهره للشمس في مشرقة له، فرد عليهم من غير أن يلتفت إليهم، ثم قال لهم: من القوم؟ قالوا: نحن سادة مضر، قال: أنتم إذاً قريش الحرم، أهل العز والقدم، والفضل والكرم، والرأي في البهم، قالوا: لسنا منهم، قال: لا؟ قالوا: لا؛ قال: فأنتم إذاً هوازن، أجرؤها فوارس، وأجملها مجالس؛ قالوا: لسنا بهم، قال: لا؟ قالوا: لا؛ قال: فأنتم إذاً سليم، فوارس عظاظها، ومناع أعراضها، قالوا: لسنا بهم، قال: لا؟
قالوا: لا؛ قال: فأنتم إذاً غطفان، أعظمها أحلاماً، وأسرعها إقداماً، قالوا: لسنا منهم، قال: لا؟ قالوا: لا؛ قال: فأنتم إذاً بنو حنظلة، أكرمها جدوداً، وأسهلها خدوداً، وألينها جلوداً، قالوا: لسنا بهم، قال: لا؟ قالوا: لا. قال: أفلا أراكم إلا من ربعات مضر وأنتم تأبون إلا أن تترقوا في الغلاصم منهم، اذهبوا لا كثر الله بكم من قلة ولا أعز بكم من ذلة.
قال الأصمعي: النسابون أربعة: دغفل، وأبو ضمضم، وصبح، والكيس النمري.
قيل للنساب البكري: قد نسبت كل شيء حتى نسبت الذر! قال: الذر ثلاثة أبطن: الذر، وفازر، وعقفان.
قال رؤبة بن العجاج: دخلت على النسابة البكري، فقال: من أنت؟ قلت: رؤبة بنت العجاج، قال: قصرت وعرفت، لعلك كأقوام يأتوني إن حدثتهم لم يعوا عني، وإن سكت عنهم لم يسألوني، قال: قلت: أرجو أن لا أكون كذلك، فقال لي: فما أعداء المروءة؟ قلت: تخبرني، قال: بنو عم السوء، إن رأوا حسناً دفنوه، وإن رأوا سيئاً أذاعوه. ثم قال: إن للعلم آفةً وهجنةً ونكداً؛ فآفته الكذب، ونكده النسيان، وهجنته نشره عند غير أهله.
قال دغفل العلامة: في العلم خصال: إن له آفة، وله هجنة، وله نكد: فآفته أن تخزنه، فلا تحدث به ولا تنشره؛ وهجنته أن تحدثه من لا يعيه ولا يعمل به؛ ونكده أن تكذب فيه.
قيل: إن دغفلاً غرق في يوم دولاب من فارس في قتال الخوارج.