دريد بن الصمة بن بكر
ابن علقمة بن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور وفيه خلاف أبو قرة الجشمي واسم الصمة معاوية. وفد على الحارث بن أبي شمر، المعروف بابن جفنة الغساني. خطب دريد بن الصمة الخنساء ابنة عمرو بن الشريد فلم تجبه فقال فيها من أبيات:
كفاك الله يابنة آل عمرو ... من الفتيان أمثالي ونفسي
أتزعم أنني شيخ كبير ... وهل أنبأتها أني ابن أمس
كانت له أيام وغارات، وكان من فرسان قيس المعدودين؛ أحضره مالك بن عوف النصري يوم حنين معه فقتل طافراً.
حدث المدائني قال: قال دريد بن الصمة: كفى بالمروءة صاحباً، ومن كانت له مروءة فليظهرها، وقومه أعلم به.
روى هشام بن محمد الكلبي: أن دريد بن الصمة خطب الخنساء بنت عمرو إلى أخويها صخر ومعاوية، فوافقها وهي تهنأ إبلاً لها، فاستأمرها أخواها فيه؟ فقالت: أترونني تاركةً بني عمي كأنهم عوالي الرماح، ومرتثةً شيخ بني جشم؟! قال: فانصرف دريد وهو يقول:
ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم هاني أينق صهب
متبذلاُ تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب
قالوا: وعاش دريد بن الصمة نحواً من مئتي سنة حتى سقط حاجباه على عينيه. وأدرك الإسلام ولم يسلم؛ وقتل يوم حنين، وإنما خرجت به هوازن تتيمن به.
وإنه لما كبر أراد أهله أن يحبسوه، وقالوا: إنا حابسوك ومانعوك من الكلام منع الناس، وقد خشينا أن تخلط فيروي ذلك الناس علينا ويرون منك علينا عاراً فقال: أو قد خشيتم ذلك مني؟ قالوا: نعم، قال: فانحروا جزوراً واصنعوا طعاماً واجمعوا لي قومي حتى أحدث إليهم عمداً؛ فنحروا جزوراً وعملوا طعاماً، ولبس ثياباً حساناً وجلس لقومه؛ حتى إذا فرغوا من طعامهم قال: اسمعوا مني، فإني أرى أمري بعد اليوم صائراً لغيري، قد زعم أهلي أنهم قد خافوا علي الوهم، وأنا اليوم خبير بصير، إن النصيحة لا تهجم على فضيحة. أما أول ما أنهاكم عنه فأنهاكم عن محاربة الملوك، فإنهم كالسيل بالليل، لا تدري كيف تأتيه ولا من أين يأتيك؛ وإذا دنا منكم الملوك وادياً فاقطعوا بينكم وبينه واديين؛ وإن أجدبتم فلا ترعوا حمى الملوك وإن أذنوا لكم، فإن من يرعاه غانماً لم يرجع سالماً؛ ولا تحقرن شراً، فإن قليله كثير؛ واستكثروا من الخير، فإن زهيده كثير. اجعلوا
السلام محياة بينكم وبين الناس. ومن خرق ستركم فارقعوه، ومن حاربكم فلا تغفلوه، وروا منه ما يرى منكم، واجعلوا عليه حدكم كله؛ ومن ترككم فاتركوه؛ ومن أسدى إليكم خيراً فلأأضعفوه له، وإلا فلا تعجزوا أن تكونوا مثله. وعلى كل إنسان منكم بالأقرب إليه، يكفي كل إنسان ما يليه؛ إذا التقيتم على حسب فلا تواكلوا فيه؛ وما أظهرتم من خير فاجعلوه كبيراً ولا يرى رفدكم صغيراً. ولا تنافسوا السؤدد، وليكن لكم سيد، فإنه لا بد لكل قوم من شريف. ومن كانت له مروءة فليظهرها، ثم قومه أعلم، وحسبه بالمروءة صاحباً. ووسعوا الخير وإن قل، وادفنوا الشر يمت. ولا تنكحوا دنيئاً من غيركم، فإنه عار عليكم. ولا يحتشمن شريف أن يرفع وضيعه بأياماه. وإياكم والفاحشة في النساء، فإنها عار أبد، وعقوبة غد. وعليكم بصلة الرحم فإنها تعظم الفضل، وتزين النسل؛ وأسلموا ذا الجريرة بجريرته؛ ومن أبى الحق فأعلقوه إياه؛ وإذا عنيتم بأمر فتعاونوا عليه تبلغوا، ولا تحضروا ناديكم السفيه؛ ولا تلحوا بالباطل فيلج بكم.
وفي ذكر قصة اجتماع هوازن لحرب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: وحضرها دريد بن الصمة، وهو يومئذ ابن ستين ومئة سنة، شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن به ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً مجرباً، وقد ذهب بصره يومئذ؛ وجماع الناس ثقيف وغيرها من هوازن إلى مالك بن عوف النصري. فلما أجمع مالك المسير بالناس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الناس فجاؤوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حنى نزلوا بأوطاس، واجتمع الناس به، فعسكروا وأقاموا به، وجعلت الأمداد تأتيهم من كل ناحية؛ ودريد بن الصمة يومئذ في شجار يقاد به على بعير، فمكث على بعيره، فلما نزل الشيخ لمس الأرض بيده فقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس،
ولا سهل دهس؛ مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير، وثغاء الشاء، وخوار البقر، وبكاء الصغير؟! قالوا: ساق مالك مع الناس أبناءهم وأموالهم ونساءهم. قال: يا معشر هوازن، أمعكم من بني كلاب بن ربيعة أحد؟ قالوا: لا، قال: فمعكم من بني كعب بن بيعة أحد؟ قالوا: لا، قال: فمعك من بني هلال بن عامر أحد؟ قالوا: لا، قال دريد: لو كان خيراً ما سبقتموهم إليه، ولو كان ذكراً وشرفاً ما تخلفوا عنه، فأطيعوني يا معشر هوازن، وارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء، فأبوا عليه؛ قال: فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر؛ قال: ذانك الجذعان من عامر، لا يضران ولا ينفعان، ثم قال: أين مالك؟ قالوا: هذا مالك، فقال: يا مالك، إنك تقاتل رجلاً كريماً، وقد أصبحت رئيس قومك، فإن هذا اليوم كائن له ما بعده من الأيام، يا مالك، مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وخوار البقر وبكاء الصغير ويعار الشاة؟ قال مالك: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم. قال دريد: ولم؟ قال مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله وولده ونساءه حتى يقاتلوا عنهم. قال: فأنقض بيده ثم قال: راعي ضأن! ماله وللحرب، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك؛ ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الجد والحد، ولو كان يوم رفعة وعلاء لم تغب عنه كعب ولا كلاب. يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، فإذ صنعت ما صنعت فلا تعصني في هذه الخطة: ارفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم وعزهم، ثم الق القوم على متون الخيل، فإن كان لك لحق بك من وراءك وكان أهلك لا فوت عليهم، وإن كانت عليك ألقاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. فغضب مالك من قوله وقال: والله لا أفعل ولا أغير أمراً صنعته، إنك قد كبرت وكبر علمك، وحدث بعدك من هو أبصر بالحرب منك. قال دريد: يا معشر هوازن، والله ما هذا لكم برأي، هذا فاضحكم في عوراتكم، وممكن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا واتركوه. قال: فسل مالك سيفه ثم نكسه ثم قال: يا معشر هوازن، لتطيعني أو لأتكئن على السيف حتى يخرج من ظهري. وكره مالك أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي. فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: والله لئن عصينا مالكاً وهو ساب ليقتلن نفسه، ونبقى مع دريد، شيخ كبير، لا قتال فيه ابن ستين ومئة سنة. فأجمعوا رأيهم مع مالك. فلما رأى دريد أنهم قد خالفوه قال: هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع
وكان دريد قد ذكر بالفروسية والشجاعة ولم يكن له عشرون سنة، وكان سيد بني جشم وأوسطهم نسباً، ولكن السن أدركته حتى فني فناءً.
قالوا: وقال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد.
قالوا: فبعث سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيلاً تتبع من سلك نخلة ولم تتبع من سلك الثنايا؛ ويدرك ربيعة بن رفيع بن وهبان بن ثعلبة، فأدرك ربيعة دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة وذلك أنه كان في شجار له فإذا هو رجل، فأناخ به وهو شيخ كبير ابن ستين ومئة سنة، فإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام فقال له
دريد: ما تريد؟ قال: أقتلك، قال: وما تريد إلى المرعس الكبير الفاني الأدرد؟ قال الفتى: ما أريد إلى غيره ممن هو على مثل دينه، قال له دريد: من أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي. قال: فضربه بسيفه فلم يغن شيئاً. قال دريد: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي من وراء الرحل في لاشجار فاضرب به، وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ، فإني كنت كذلك أقتل الرجال؛ ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب يوم قد منعت فيه نساءك.
زعمت بنو سليم أن ربيعة لما ضربه تكشف للموت عجانه وبطون فخذيه مثل القراطيس من ركوب الخيل فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه فقالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثاً في غداة واحدة، وجز ناصية أبيك. قال الفتى: لم أشعر. د وقالت عمرة ابنة دريد في قتل ربيعة دريداً من أبيات:
جزى عنا الإله بني سليم ... وأعقبهم بما فعلوا عقاق
وأسقانا إذا سرنا إليهم ... دماء خيارهم عند التلاقي
فرب عظيمة دافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي
ورب كريمة أعتقت منهم ... وأخرى قد فككت من الوثاق
ابن علقمة بن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور وفيه خلاف أبو قرة الجشمي واسم الصمة معاوية. وفد على الحارث بن أبي شمر، المعروف بابن جفنة الغساني. خطب دريد بن الصمة الخنساء ابنة عمرو بن الشريد فلم تجبه فقال فيها من أبيات:
كفاك الله يابنة آل عمرو ... من الفتيان أمثالي ونفسي
أتزعم أنني شيخ كبير ... وهل أنبأتها أني ابن أمس
كانت له أيام وغارات، وكان من فرسان قيس المعدودين؛ أحضره مالك بن عوف النصري يوم حنين معه فقتل طافراً.
حدث المدائني قال: قال دريد بن الصمة: كفى بالمروءة صاحباً، ومن كانت له مروءة فليظهرها، وقومه أعلم به.
روى هشام بن محمد الكلبي: أن دريد بن الصمة خطب الخنساء بنت عمرو إلى أخويها صخر ومعاوية، فوافقها وهي تهنأ إبلاً لها، فاستأمرها أخواها فيه؟ فقالت: أترونني تاركةً بني عمي كأنهم عوالي الرماح، ومرتثةً شيخ بني جشم؟! قال: فانصرف دريد وهو يقول:
ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم هاني أينق صهب
متبذلاُ تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب
قالوا: وعاش دريد بن الصمة نحواً من مئتي سنة حتى سقط حاجباه على عينيه. وأدرك الإسلام ولم يسلم؛ وقتل يوم حنين، وإنما خرجت به هوازن تتيمن به.
وإنه لما كبر أراد أهله أن يحبسوه، وقالوا: إنا حابسوك ومانعوك من الكلام منع الناس، وقد خشينا أن تخلط فيروي ذلك الناس علينا ويرون منك علينا عاراً فقال: أو قد خشيتم ذلك مني؟ قالوا: نعم، قال: فانحروا جزوراً واصنعوا طعاماً واجمعوا لي قومي حتى أحدث إليهم عمداً؛ فنحروا جزوراً وعملوا طعاماً، ولبس ثياباً حساناً وجلس لقومه؛ حتى إذا فرغوا من طعامهم قال: اسمعوا مني، فإني أرى أمري بعد اليوم صائراً لغيري، قد زعم أهلي أنهم قد خافوا علي الوهم، وأنا اليوم خبير بصير، إن النصيحة لا تهجم على فضيحة. أما أول ما أنهاكم عنه فأنهاكم عن محاربة الملوك، فإنهم كالسيل بالليل، لا تدري كيف تأتيه ولا من أين يأتيك؛ وإذا دنا منكم الملوك وادياً فاقطعوا بينكم وبينه واديين؛ وإن أجدبتم فلا ترعوا حمى الملوك وإن أذنوا لكم، فإن من يرعاه غانماً لم يرجع سالماً؛ ولا تحقرن شراً، فإن قليله كثير؛ واستكثروا من الخير، فإن زهيده كثير. اجعلوا
السلام محياة بينكم وبين الناس. ومن خرق ستركم فارقعوه، ومن حاربكم فلا تغفلوه، وروا منه ما يرى منكم، واجعلوا عليه حدكم كله؛ ومن ترككم فاتركوه؛ ومن أسدى إليكم خيراً فلأأضعفوه له، وإلا فلا تعجزوا أن تكونوا مثله. وعلى كل إنسان منكم بالأقرب إليه، يكفي كل إنسان ما يليه؛ إذا التقيتم على حسب فلا تواكلوا فيه؛ وما أظهرتم من خير فاجعلوه كبيراً ولا يرى رفدكم صغيراً. ولا تنافسوا السؤدد، وليكن لكم سيد، فإنه لا بد لكل قوم من شريف. ومن كانت له مروءة فليظهرها، ثم قومه أعلم، وحسبه بالمروءة صاحباً. ووسعوا الخير وإن قل، وادفنوا الشر يمت. ولا تنكحوا دنيئاً من غيركم، فإنه عار عليكم. ولا يحتشمن شريف أن يرفع وضيعه بأياماه. وإياكم والفاحشة في النساء، فإنها عار أبد، وعقوبة غد. وعليكم بصلة الرحم فإنها تعظم الفضل، وتزين النسل؛ وأسلموا ذا الجريرة بجريرته؛ ومن أبى الحق فأعلقوه إياه؛ وإذا عنيتم بأمر فتعاونوا عليه تبلغوا، ولا تحضروا ناديكم السفيه؛ ولا تلحوا بالباطل فيلج بكم.
وفي ذكر قصة اجتماع هوازن لحرب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: وحضرها دريد بن الصمة، وهو يومئذ ابن ستين ومئة سنة، شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن به ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً مجرباً، وقد ذهب بصره يومئذ؛ وجماع الناس ثقيف وغيرها من هوازن إلى مالك بن عوف النصري. فلما أجمع مالك المسير بالناس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الناس فجاؤوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حنى نزلوا بأوطاس، واجتمع الناس به، فعسكروا وأقاموا به، وجعلت الأمداد تأتيهم من كل ناحية؛ ودريد بن الصمة يومئذ في شجار يقاد به على بعير، فمكث على بعيره، فلما نزل الشيخ لمس الأرض بيده فقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس،
ولا سهل دهس؛ مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير، وثغاء الشاء، وخوار البقر، وبكاء الصغير؟! قالوا: ساق مالك مع الناس أبناءهم وأموالهم ونساءهم. قال: يا معشر هوازن، أمعكم من بني كلاب بن ربيعة أحد؟ قالوا: لا، قال: فمعكم من بني كعب بن بيعة أحد؟ قالوا: لا، قال: فمعك من بني هلال بن عامر أحد؟ قالوا: لا، قال دريد: لو كان خيراً ما سبقتموهم إليه، ولو كان ذكراً وشرفاً ما تخلفوا عنه، فأطيعوني يا معشر هوازن، وارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء، فأبوا عليه؛ قال: فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر؛ قال: ذانك الجذعان من عامر، لا يضران ولا ينفعان، ثم قال: أين مالك؟ قالوا: هذا مالك، فقال: يا مالك، إنك تقاتل رجلاً كريماً، وقد أصبحت رئيس قومك، فإن هذا اليوم كائن له ما بعده من الأيام، يا مالك، مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وخوار البقر وبكاء الصغير ويعار الشاة؟ قال مالك: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم. قال دريد: ولم؟ قال مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله وولده ونساءه حتى يقاتلوا عنهم. قال: فأنقض بيده ثم قال: راعي ضأن! ماله وللحرب، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك؛ ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الجد والحد، ولو كان يوم رفعة وعلاء لم تغب عنه كعب ولا كلاب. يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، فإذ صنعت ما صنعت فلا تعصني في هذه الخطة: ارفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم وعزهم، ثم الق القوم على متون الخيل، فإن كان لك لحق بك من وراءك وكان أهلك لا فوت عليهم، وإن كانت عليك ألقاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. فغضب مالك من قوله وقال: والله لا أفعل ولا أغير أمراً صنعته، إنك قد كبرت وكبر علمك، وحدث بعدك من هو أبصر بالحرب منك. قال دريد: يا معشر هوازن، والله ما هذا لكم برأي، هذا فاضحكم في عوراتكم، وممكن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا واتركوه. قال: فسل مالك سيفه ثم نكسه ثم قال: يا معشر هوازن، لتطيعني أو لأتكئن على السيف حتى يخرج من ظهري. وكره مالك أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي. فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: والله لئن عصينا مالكاً وهو ساب ليقتلن نفسه، ونبقى مع دريد، شيخ كبير، لا قتال فيه ابن ستين ومئة سنة. فأجمعوا رأيهم مع مالك. فلما رأى دريد أنهم قد خالفوه قال: هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع
وكان دريد قد ذكر بالفروسية والشجاعة ولم يكن له عشرون سنة، وكان سيد بني جشم وأوسطهم نسباً، ولكن السن أدركته حتى فني فناءً.
قالوا: وقال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد.
قالوا: فبعث سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيلاً تتبع من سلك نخلة ولم تتبع من سلك الثنايا؛ ويدرك ربيعة بن رفيع بن وهبان بن ثعلبة، فأدرك ربيعة دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة وذلك أنه كان في شجار له فإذا هو رجل، فأناخ به وهو شيخ كبير ابن ستين ومئة سنة، فإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام فقال له
دريد: ما تريد؟ قال: أقتلك، قال: وما تريد إلى المرعس الكبير الفاني الأدرد؟ قال الفتى: ما أريد إلى غيره ممن هو على مثل دينه، قال له دريد: من أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي. قال: فضربه بسيفه فلم يغن شيئاً. قال دريد: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي من وراء الرحل في لاشجار فاضرب به، وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ، فإني كنت كذلك أقتل الرجال؛ ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب يوم قد منعت فيه نساءك.
زعمت بنو سليم أن ربيعة لما ضربه تكشف للموت عجانه وبطون فخذيه مثل القراطيس من ركوب الخيل فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه فقالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثاً في غداة واحدة، وجز ناصية أبيك. قال الفتى: لم أشعر. د وقالت عمرة ابنة دريد في قتل ربيعة دريداً من أبيات:
جزى عنا الإله بني سليم ... وأعقبهم بما فعلوا عقاق
وأسقانا إذا سرنا إليهم ... دماء خيارهم عند التلاقي
فرب عظيمة دافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي
ورب كريمة أعتقت منهم ... وأخرى قد فككت من الوثاق