دحمان الجمال
قدم الشام، واستقدمه بعد ذلك الوليد بن يزيد.
قال أبو محمد العامري: كان دحمان جمالاً يكري إلى المواضع ويتجر، وكان له مروءة؛ فبينا هو ذات يوم قد أكرى جماله وأخذ ماله، إذ سمع رنةً! فقام واتبع الصوت، فإذا جارية قد خرجت
تبكي، فقال لها: أمملوكة أنت؟ قالت: نعم؛ قال: لمن؟ قالت: لامرأة من قريش ونسبتها له فقال لها: أتبيعك؟ قالت: نعم. ودخلت على مولاتها فقالت: هذا إنسان يشتريني؛ قالت: ائذني له، فدخل فساومها بها حتى استقر الأمر بينهما على مئتي دينار، فاشتراها ونقدها الثمن، وانصؤف بالجارية.
قال دحمان: فأقامت عندي مدة أطارحها ويطارحها معبد وغيره من المغنين؛ ثم خرجت بها بعد ذلك إلى الشام وقد حدقت، فكنت لا أزال أنزل ناحية وأعتزل بالجارية في محمل، وأطرح على المحمل أعبيةً وأجلس أنا وهي تحت ظلها، ثم أخرج شيئاً آكله؛ وتتغنى حتى نرحل. فلم نزل كذلك حتى قربنا من الشام؛ فبينا أنا ذات يوم نازل وأنا ألقي عليها لحني:
فإني لآتي البيت ما إن أحبه ... وأكثر هجر البيت وهو حبيب
وأغضي على أشياء منكم تسوءني ... وأدعى إلى ما سركم فأجبيب
ورددته عليها حتى حفظته واندفعت تغنيه، وإذا براكب قد أقبل، فسلم علينا وقال: أتأذنون لي أن أنزل تحت ظلكم ساعة؟ قلنا: نعم، فنزل، وعرضت عليه الطعام فأجاب، واستعاد الصوت مراراً، ثم قال للجارية: أتروين لدحمان شيئاً من غنائه؟ قالت: نعم، قال: فغنيني صوتاً؛ فغنته أصواتاً من صنعتي، وغمزتها ألا تعرفيه أني دحمان؛ فطرب وامتلأ سروراً، حتى قرب وقت الرحيل، فأقبل علي وقال: أتبيعني هذه الجارية؟ قلت: نعم، قال: بكم؟ قلت كالعابث " بعشرة آلاف دينار. قال: قد أخذتها، فهلم دواةً وقرطاساً فجئته بذلك، فكتب فيه: ادفع إلى حامل هذا الكتاب ساعة تقرأه عشرة آلف دينار وتسلم منه الجارية، واستعلم مكانه وعرفنيه، واستوص به خيراً. وختم الكتاب ودفعه إلي وقال: إذا دخلت المدينة، فسل عن فلان فاقبض منه المال وسلم
إليه الجارية. ثم ركب. فلما أصبحنا، دخلنا المدينة، فحططت رحلي وقلت للجارية: البسي ثيابك وقومي معي وأنا لا أطمع في ذلك، ولا أظن الرجل إلا عابثاً فقامت معي، فخرجت بها وسألت عن الرجل فدللت عليه، وإذا هو وكيل الوليد بن يزيد، فأوصلت إليه الكتاب. فلما قرأه وثب قائماً وقبله وقال: السمع والطاعة لأمير المؤمنين. ثم دعا بعشرة آلاف دينار، فسلمت إلي وأنا لا أصدق أنها لي؛ فقال لي: أقم حتى أعلم أمير المؤمنين خبرك، فقلت له: حيث كنت فأنا ضيفك، وقد كان أمر لي بمنزل وكان بخيلاً قال: وخرجت، فصادفت كراً فقضيت حوائجي في يومي وغدي ورحلت. وذكرني صاحبي بعد أيام، فسأل عني وطلبني، فعرف برحيلي فأمسك، ولم يذكرني إلا بعد شهر؛ فقال لها وقد غنته صوتاً من صنعتي: لمن هذا؟ قالت: لدحمان، قال: وددت أني رأيته وسمعت غناءه، فقالت: قد رأيته والله وسمعت غناءه. قال: لا والله، ما رأيته قط ولا سمعته. قالت: بلى، والله قد رأيته وسمعت غناءه؛ فغضب وقال: أنا أحلف أني لم أره ولم أسمعه وأنت تعارضيني وتكذبيني؛ قالت: إن الرجل الذي اشتريتني منه دحمان، قال: ويحك! فهلا أعلمتني؟ قالت: نهاني عن ذلك، قال: وإنه لهو، والله لأجشمنه السفر، ثم كتب إلى عامل المدينة يحمل إليه. فحمل ولم يزل أثيراً عنده.
قدم الشام، واستقدمه بعد ذلك الوليد بن يزيد.
قال أبو محمد العامري: كان دحمان جمالاً يكري إلى المواضع ويتجر، وكان له مروءة؛ فبينا هو ذات يوم قد أكرى جماله وأخذ ماله، إذ سمع رنةً! فقام واتبع الصوت، فإذا جارية قد خرجت
تبكي، فقال لها: أمملوكة أنت؟ قالت: نعم؛ قال: لمن؟ قالت: لامرأة من قريش ونسبتها له فقال لها: أتبيعك؟ قالت: نعم. ودخلت على مولاتها فقالت: هذا إنسان يشتريني؛ قالت: ائذني له، فدخل فساومها بها حتى استقر الأمر بينهما على مئتي دينار، فاشتراها ونقدها الثمن، وانصؤف بالجارية.
قال دحمان: فأقامت عندي مدة أطارحها ويطارحها معبد وغيره من المغنين؛ ثم خرجت بها بعد ذلك إلى الشام وقد حدقت، فكنت لا أزال أنزل ناحية وأعتزل بالجارية في محمل، وأطرح على المحمل أعبيةً وأجلس أنا وهي تحت ظلها، ثم أخرج شيئاً آكله؛ وتتغنى حتى نرحل. فلم نزل كذلك حتى قربنا من الشام؛ فبينا أنا ذات يوم نازل وأنا ألقي عليها لحني:
فإني لآتي البيت ما إن أحبه ... وأكثر هجر البيت وهو حبيب
وأغضي على أشياء منكم تسوءني ... وأدعى إلى ما سركم فأجبيب
ورددته عليها حتى حفظته واندفعت تغنيه، وإذا براكب قد أقبل، فسلم علينا وقال: أتأذنون لي أن أنزل تحت ظلكم ساعة؟ قلنا: نعم، فنزل، وعرضت عليه الطعام فأجاب، واستعاد الصوت مراراً، ثم قال للجارية: أتروين لدحمان شيئاً من غنائه؟ قالت: نعم، قال: فغنيني صوتاً؛ فغنته أصواتاً من صنعتي، وغمزتها ألا تعرفيه أني دحمان؛ فطرب وامتلأ سروراً، حتى قرب وقت الرحيل، فأقبل علي وقال: أتبيعني هذه الجارية؟ قلت: نعم، قال: بكم؟ قلت كالعابث " بعشرة آلاف دينار. قال: قد أخذتها، فهلم دواةً وقرطاساً فجئته بذلك، فكتب فيه: ادفع إلى حامل هذا الكتاب ساعة تقرأه عشرة آلف دينار وتسلم منه الجارية، واستعلم مكانه وعرفنيه، واستوص به خيراً. وختم الكتاب ودفعه إلي وقال: إذا دخلت المدينة، فسل عن فلان فاقبض منه المال وسلم
إليه الجارية. ثم ركب. فلما أصبحنا، دخلنا المدينة، فحططت رحلي وقلت للجارية: البسي ثيابك وقومي معي وأنا لا أطمع في ذلك، ولا أظن الرجل إلا عابثاً فقامت معي، فخرجت بها وسألت عن الرجل فدللت عليه، وإذا هو وكيل الوليد بن يزيد، فأوصلت إليه الكتاب. فلما قرأه وثب قائماً وقبله وقال: السمع والطاعة لأمير المؤمنين. ثم دعا بعشرة آلاف دينار، فسلمت إلي وأنا لا أصدق أنها لي؛ فقال لي: أقم حتى أعلم أمير المؤمنين خبرك، فقلت له: حيث كنت فأنا ضيفك، وقد كان أمر لي بمنزل وكان بخيلاً قال: وخرجت، فصادفت كراً فقضيت حوائجي في يومي وغدي ورحلت. وذكرني صاحبي بعد أيام، فسأل عني وطلبني، فعرف برحيلي فأمسك، ولم يذكرني إلا بعد شهر؛ فقال لها وقد غنته صوتاً من صنعتي: لمن هذا؟ قالت: لدحمان، قال: وددت أني رأيته وسمعت غناءه، فقالت: قد رأيته والله وسمعت غناءه. قال: لا والله، ما رأيته قط ولا سمعته. قالت: بلى، والله قد رأيته وسمعت غناءه؛ فغضب وقال: أنا أحلف أني لم أره ولم أسمعه وأنت تعارضيني وتكذبيني؛ قالت: إن الرجل الذي اشتريتني منه دحمان، قال: ويحك! فهلا أعلمتني؟ قالت: نهاني عن ذلك، قال: وإنه لهو، والله لأجشمنه السفر، ثم كتب إلى عامل المدينة يحمل إليه. فحمل ولم يزل أثيراً عنده.