خوبلد بن خالد بن محرث بن أسد
ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر أبو ذؤيب الهذلي شاعر مجيد مخضرم، أدرك الجاهلية؛ وقدم المدينة عند وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلم وحسن إسلامه؛ وغزا الروم في خلافة عمر بن الخطاب؛ ومات ببلاد الروم. وكان أشعر هذيل، وكان هذيل أشعر أحياء العرب.
حدث أبو ذؤيب الشاعر قال: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليل، وقع ذلك إلينا عن رجل من الحي قدم مغتماً، فأوجس أهل الحي خيفةً وأشعرنا حزناً؛ فبت بليلة باتت النجوم طويلة الإباء، لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها؛ فظلت أقاسي طولها وأقارن غولها، حتى إذا كان دوين السفر وقرب السحر خفت، فهتف الهاتف وهو يقول:
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت من نومي فزعاً؛ فنظرت إلى السماء، فلم أر إلا سعد الذابح، فتفائلت به ذبحاً يقع في العرب، وعلمت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قبض، أو هو ميت. فركبت ناقتي وسرت؛ فلما أصبحت طلبت شيئاً أزجره، فعن لي شيهم يعني القنفذ قد قبض على صل يعني الحية فهو يلتوي عليه والشيهم يقضمه حتى أكله، فزجرت ذلك وقلت: تلوي الصل انفتال الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ثم أولت أكل الشيهم إياه غلبة القائم على الأمر؛ فحثثت ناقتي حتى إذا كنت بالعالية زجرت الطائر، فأخبرني بوفاته؛ ونعب غراب سانح فنطق بمثل ذلك؛ فتعوذت من شر ما عن لي في طريقي، وقدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقيل: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فجئت إلى المسجد فوجدته خالياً، فأتيت بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصبته مرتجاً وقد خلا به أهله، فقلت: أين الناس؟ فقيل لي: هم في سقيفة بني ساعدة، صاروا إلى الأنصار، فجئت إلى السقيفة فأصبت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وسالماً وجماعةً من قريش. ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة، ومعهم شعراؤهم حسان بن ثابت وكعب وملأ منهم، فأويت إلى قريش؛ وتكلمت الأنصار فأطالوا الخطب وأكثروا الصواب، وتكلم أبو بكر، فلله من رجل! لا يطيل الكلام، ويعلم مواضع فصل الخصام. والله لتكلم بكلام لا يسمعه سامع إلا انقاذ له، ومال إليه؛ ثم تكلم بعده عمر بدون كلامه، ومد يده فبايعه؛ ورجع أبو بكر، ورجعت معه.
قال أبو ذؤيب: فشهدت الصلاة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهدت دفنه؛ ولقد بايع الناس من أبي بكر رجلاً خل قداماها ولم يركب ذناباها. ورثى أبو ذؤيب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبيات.
أنشد أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب لآبي ذؤيب الهذلي يرثي بنين له ماتوا:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
فالعين بعدهم كأن حداقها ... سملت بشوك فهي عور تدمع
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشرق كل يوم تقرع
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
المشرق: نحو مسجد الخيف. والمرو: الحجارة قال الأصمعي: أبرع بيت قالته العرب بيت أبو ذؤيب:
النفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وأحسن ما قيل في الاستعفاف:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
وأحسن ما قيل في حفظ المال قول المتلمس:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وأحسن ما قيل في الكبر:
أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما
وأحسن مرثية قول أوس بن حجر الكندي:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
خرج أبو ذؤيب مع ابنه وابن أخ له يقال له أبو عبيد حتى قدموا على عمر بن الخطاب فقال له: أي العمل أفضل يا أمير المؤمنين؟ قال: إيمان بالله ورسوله؛ قال: قد فعلت فأيه أفضل بعده؟ قال: الجهاد في سبيل الله؛ قال: ذلك كان عملي، فلا أرجو جنة ولا أخاف ناراً؛ ثم خرج فغزا الروم مع المسلمين. فلما قفلوا أخذه الموت، فأراد ابنه وابن أخيه أن يتخلفا عليه جميعاً، فمنعهما صاحب الساقة وقال: ليتخلف عليه أحدكما وليعلم أنه مقتول. فاتكلا بينهما من يتخلف عليه، فقال لهما أبو ذؤيب: اقترعا، فطارت القرعة لأبي عبيد، فتخلف عليه ومضى ابنه مع الناس. فكان ابن أخيه يحدث قال: قال لي أبو ذؤيب: يا أبا عبيد احفر ذلك الجرف برمحك، ثم اعضد من الشجر بسيفك، واجررني إلى هذا النهر، فإنك لا تفرغ حتى أفرغ، فاغسلني وكفني بكفني، ثم اجعلني في حفرتك، وانثل علي الجرف برمحك، وألق علي الغصون والحجارة؛ ثم اتبع الناس فإن لهم رهجة تراها في الأفق إذا أمسيت كأنها جهامة. قال: فما أخطأ مما قال شيئاً، ولولا نعته لم أهتد لأثر الجيش. وقال وهو يجود بنفسه:
أبا عبيد وقع الكتاب ... واقترب الموعود والحساب
وعند رحلي جمل نجاب ... أحمر في حاركه انصباب
ثم مضيت حتى لحقت الناس. فكان يقال: إن أهل الإسلام أبعدوا الأثرة في بلاد الروم؛ فما كان وراء قبر أبي ذؤيب قبر يعلم للمسلمين. وقيل: إنه مات بغزوة إفريقية.
ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر أبو ذؤيب الهذلي شاعر مجيد مخضرم، أدرك الجاهلية؛ وقدم المدينة عند وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلم وحسن إسلامه؛ وغزا الروم في خلافة عمر بن الخطاب؛ ومات ببلاد الروم. وكان أشعر هذيل، وكان هذيل أشعر أحياء العرب.
حدث أبو ذؤيب الشاعر قال: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليل، وقع ذلك إلينا عن رجل من الحي قدم مغتماً، فأوجس أهل الحي خيفةً وأشعرنا حزناً؛ فبت بليلة باتت النجوم طويلة الإباء، لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها؛ فظلت أقاسي طولها وأقارن غولها، حتى إذا كان دوين السفر وقرب السحر خفت، فهتف الهاتف وهو يقول:
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت من نومي فزعاً؛ فنظرت إلى السماء، فلم أر إلا سعد الذابح، فتفائلت به ذبحاً يقع في العرب، وعلمت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قبض، أو هو ميت. فركبت ناقتي وسرت؛ فلما أصبحت طلبت شيئاً أزجره، فعن لي شيهم يعني القنفذ قد قبض على صل يعني الحية فهو يلتوي عليه والشيهم يقضمه حتى أكله، فزجرت ذلك وقلت: تلوي الصل انفتال الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ثم أولت أكل الشيهم إياه غلبة القائم على الأمر؛ فحثثت ناقتي حتى إذا كنت بالعالية زجرت الطائر، فأخبرني بوفاته؛ ونعب غراب سانح فنطق بمثل ذلك؛ فتعوذت من شر ما عن لي في طريقي، وقدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقيل: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فجئت إلى المسجد فوجدته خالياً، فأتيت بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصبته مرتجاً وقد خلا به أهله، فقلت: أين الناس؟ فقيل لي: هم في سقيفة بني ساعدة، صاروا إلى الأنصار، فجئت إلى السقيفة فأصبت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وسالماً وجماعةً من قريش. ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة، ومعهم شعراؤهم حسان بن ثابت وكعب وملأ منهم، فأويت إلى قريش؛ وتكلمت الأنصار فأطالوا الخطب وأكثروا الصواب، وتكلم أبو بكر، فلله من رجل! لا يطيل الكلام، ويعلم مواضع فصل الخصام. والله لتكلم بكلام لا يسمعه سامع إلا انقاذ له، ومال إليه؛ ثم تكلم بعده عمر بدون كلامه، ومد يده فبايعه؛ ورجع أبو بكر، ورجعت معه.
قال أبو ذؤيب: فشهدت الصلاة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهدت دفنه؛ ولقد بايع الناس من أبي بكر رجلاً خل قداماها ولم يركب ذناباها. ورثى أبو ذؤيب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبيات.
أنشد أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب لآبي ذؤيب الهذلي يرثي بنين له ماتوا:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
فالعين بعدهم كأن حداقها ... سملت بشوك فهي عور تدمع
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشرق كل يوم تقرع
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
المشرق: نحو مسجد الخيف. والمرو: الحجارة قال الأصمعي: أبرع بيت قالته العرب بيت أبو ذؤيب:
النفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وأحسن ما قيل في الاستعفاف:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
وأحسن ما قيل في حفظ المال قول المتلمس:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وأحسن ما قيل في الكبر:
أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما
وأحسن مرثية قول أوس بن حجر الكندي:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
خرج أبو ذؤيب مع ابنه وابن أخ له يقال له أبو عبيد حتى قدموا على عمر بن الخطاب فقال له: أي العمل أفضل يا أمير المؤمنين؟ قال: إيمان بالله ورسوله؛ قال: قد فعلت فأيه أفضل بعده؟ قال: الجهاد في سبيل الله؛ قال: ذلك كان عملي، فلا أرجو جنة ولا أخاف ناراً؛ ثم خرج فغزا الروم مع المسلمين. فلما قفلوا أخذه الموت، فأراد ابنه وابن أخيه أن يتخلفا عليه جميعاً، فمنعهما صاحب الساقة وقال: ليتخلف عليه أحدكما وليعلم أنه مقتول. فاتكلا بينهما من يتخلف عليه، فقال لهما أبو ذؤيب: اقترعا، فطارت القرعة لأبي عبيد، فتخلف عليه ومضى ابنه مع الناس. فكان ابن أخيه يحدث قال: قال لي أبو ذؤيب: يا أبا عبيد احفر ذلك الجرف برمحك، ثم اعضد من الشجر بسيفك، واجررني إلى هذا النهر، فإنك لا تفرغ حتى أفرغ، فاغسلني وكفني بكفني، ثم اجعلني في حفرتك، وانثل علي الجرف برمحك، وألق علي الغصون والحجارة؛ ثم اتبع الناس فإن لهم رهجة تراها في الأفق إذا أمسيت كأنها جهامة. قال: فما أخطأ مما قال شيئاً، ولولا نعته لم أهتد لأثر الجيش. وقال وهو يجود بنفسه:
أبا عبيد وقع الكتاب ... واقترب الموعود والحساب
وعند رحلي جمل نجاب ... أحمر في حاركه انصباب
ثم مضيت حتى لحقت الناس. فكان يقال: إن أهل الإسلام أبعدوا الأثرة في بلاد الروم؛ فما كان وراء قبر أبي ذؤيب قبر يعلم للمسلمين. وقيل: إنه مات بغزوة إفريقية.