تُبع بن حسان بن ملكيكرب بن تبع
ابن الأقرن ويقال: إن اسم تبع هذا حسان بن تبع بن أسعد بن كرب الحميري، وتبع لقبٌ للملك الأكبر بلغة أهل اليمن، ككسرى بالفارسية، وقيصر بالرومية، والنجاشي بالحبشة، ملك تبع دمشق.
قال أبو نصر بن ماكولا: أما تبان، أوله تاء معجمة باثنتين من فوق، وبعدها باء معجمة بواحدة، فهو تبع الحميري واسمه أسعد تبان أبو كرب بن ملكي كرب بن قيس بن زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبأ، ويقال: هو أول من كسا البيت.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان تبع إذا عرض الخيل قاموا صفاً من دمشق إلى صنعاء اليمن.
وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أدري الحدود كفارةٌ لأهلها أم لا، ولا أدري تبع لعيناً كان أم لا، ولا أدري، ذو القرنين نبياً كان أم ملكاً؟ ".
وفي رواية: " أعزير كان نبياً أم لا؟ ".
وعن ابن عباسٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث وثلاث وثلاث، فثلاث لا يمين فيهن، وثلاث الملعون فيهن، وثلاث أشك فيهن؛ فأما الثلاث التي لا يمين فيهن: فلا يمين مع والد؛ ولا المرأة مع زوجها؛ ولا المملوك مع سيده. وأما الملعون فيهن؛ فملعونٌ من لعن والديه؛ وملعونٌ من ذبح لغير الله، وملعون من غير تخوم الأرض. وأما الذي أشك فيهن: فعزير لا أدري أكان نبياً أم لا؛ ولا أدري ألعن تبع أما لا؟ قال: ونسيت ".
- يعني الثالثة - وهذا الشك من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قبل أن يتبين له أمره ثم أخبر أنه كان مسلماً.
كما روي عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم ".
قال أبو مجلز: جاء ابن عباس إلى عبد الله بن سلام.
فقال: إني أسألك عن ثلاث؟ قال: تسألني وأنت تقرأ القرآن؟! قال: نعم.
قال: تسألني وأنت تقرأ القرآن؟! قال: نعم، أسألك عن تبع ما كان؟ وأسألك عن عزير ما كان؟ وأسألك عن الهدهد لمَ تفقده سليمان صلى الله على نبينا وعليه، من بين الطير؟ قال: أما تبع فإنه كان رجلاً من الهرب ظهر على الناس وسبى فتيةً من الأحبار فأفسد عليهم أوقات دعائهم فأنكر الناس تبعاً، قال: قد ترك دينكم وآلهتكم فما تقولون، أو فما تأمرون؟ فقالوا: بيننا وبينهم النار التي تحرق الكاذب وينجو منها الصادق، فعرض ذلك تبع على أصحابه، فرضوا بذلك، فعمد بهم تبع إلى النار فأمر الفتية أن يدخلوا فيها، فألقوا مصاحفهم في أعناقهم فلما أرادوا أن يدخلوها سفعت النار وجوههم فوجدوا حرها فنكصوا، فقال تبع: لتدخلنها، فدخلوها فانفرجت عنهم حتى مضوا، ثم أمر قومه أن يدخلوها فلما أرادوا أن يدخلوها سفعت وجوههم فوجدوا حرها فنكصوا، فأمر بهم تبع أن يدخلوها فدخلوها فانفرجت لهم حتى توسطوها، فأحاطت بهم فأحرقتهم.
فأسلم تبع.
وكان رجلاً صالحاً.
وأما عزير فإنه لما ظهر بخت نصر على بني إسرائيل خرب بيت المقدس، وشقوا المصاحف.
ودرست السنة، وكان عزير توحش في الجبال، وكانت له عينٌ يشرب منها.
فمثلت له عند العين امرأة، فلما جاء ليشرب فبصر بالمرأة فانصاع.
فلما جهده العطش أتاها وهي تبكي.
قال: ما يبكيك؟ قالت: أبكي على ابني، قال: أكان يخلق؟ قالت: لا.
قال: فكان يرزق؟ قالت: لا، وذكر الحديث، قالت: ما بالك هاهنا تركت قومك؟ قال: وأين قومي؟ قالت: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك.
قال: فدخلها فجعل لا يرفع قدمه إلا زيد في علمه فانتهى إلى قومه فأحيا لهم التوراة والسنة.
وأما الهدهد فإن سليمان - صلوات الله على نبينا وعليه - نزل منزلاً فلم يدر ما بعد الماء، فسأل عن بعد الماء، فقالوا: الهدهد فعند ذلك تفقده.
حدث محمد بن إسحاق قال: سار تبع الأول إلى الكعبة.
فأراد هدمها وكان من الخمسة الذين لهم الدنيا بأسرها.
وكان له وزراء.
فاختار منهم واحداً وأخرجه معه وكان يسمى عميارسنا لينظر إلى مملكته، وخرج في مائة ألف وثلاثين ألفاً من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفاً من الرجالة.
وكان يدخل كل بلدة وكانوا يعظمونه وكان يختار من كل بلدةٍ عشرة أنفس من حكمائهم حتى جاء إلى مكة ومعه أربعة آلاف رجل من الحكماء الذين اختارهم من بلدانٍ مختلفة، فلم يتحرك له أحد ولم يعظموه، فغضب عليهم، ودعا عميارسنا وقال: كيف شأن أهل هذه البلد الذين لم يهابوني ولم يهابوا عسكري كيف شأنهم وأمرهم؟ قال الوزير: إنهم قوم عربيون جاهلون لا يعرفون شيئاً، وإن لهم بيتاً يقال له الكعبة، وإنهم معجبون بها، ويسجدون للطاغوت والأصنام من دون عز وجل.
قال الملك: إنهم معجبون بهذا البيت؟ قال: نعم.
فنزل ببطحاء مكة معه عسكره، وتفكر في نفسه دون الوزير ودون الناس وعزم أن يأمر بهدم هذا البيت وأن التي سميت كعبة تسمى خربة، وأن يقتل رجالهم ويسبي نساءهم وذراريهم.
فأخذه الله عز وجل بالصداع، وفتح من عينيه وأذنه وأنفه وفمه ماءً منتناً، فلم يكن يستقر أحدٌ عنده طرفة عين من نتن الريح، فاستيقظ لذلك وقال لوزيره اجمع العلماء والأطباء وشاورهم في أمري؛ فاجتمع العلماء والأطباء عنده فلم يصبر أحد منهم ولم تمكنهم مداواته؛ قال: قد جمعت حكماء بلدانٍ مختلفة ووقعت في هذه العلة،
فلم يقم أحدٌ في مداواتي، فقالوا: بأجمعهم: يا قوم أمرنا أمر الدنيا، وهذا أمرٌ سماويٌ لا نستطيع مرد أمر السماء، واشتد الأمر على الملك، فتفرق الناس وأمره كل ساعةٍ أشد، حتى أقبل الليل وجاء أحد العلماء إلى وزيره فقال: إن بيني وبينك سراً وهو أنه إن كان الملك يصدق لي في كلامه وما نواه عالجته فاستبشر بذلك الوزير وأخذ بيده وحمله إلى الملك وقال للملك إن رجلاً من العلماء ذكر: إن صدق الملك وما نواه في قلبه ولم يكتم شيئاً منه عالجه؛ فاستبشر الملك وأذن له بالدخول عليه فدخل فقال: إن بيني وبينك سراً أريد الخلوة فيه، فخلا به وقال: هل نويت في هذا البيت أمراً؟ قال: نعم، نويت أن أخرب هذا البيت وأقتل رجالهم وأسبي نساءهم، فقال: إن وجعك وبلاءك من هذا، اعلم أن صاحب هذا البيت قويٌ يعلم الأسرار، فيجب أن تخرج من قلبك جميع ما نويت من أذى هذا البيت وذلك خير الدنيا والآخرة، قال الملك: فقد أخرجت جميع المكروهات من قلبي ونويت جميع الخيرات والمعروفات، فلم يخرج العالم الناصح من عنده حتى برأ من العلة وعافاه الله عز وجل بأمر الله جل وعلا من ساعته، وخرج من منزله صحيحاً على دين إبراهيم - صلى الله على نبينا وعليه - وخلع على الكعبة سبعة أثواب، وهو أول من كسا البيت ودعا أهل مكة فأمرهم بحفظ الكعبة، وخرج هو إلى يثرب.
ويثرب هي بقعةٌ فيها عين ماء ليس فيها نبت ولا بيت ولا أحد فنزل على رأس العين مع عسكره بجمع العلماء والحكماء الذين كانوا معه واختارهم من بلدانٍ مختلفة ورئيس العلماء العالم الناصح الشفيق لدين الله عز وجل الذي أعلم الملك شأن الكعبة، ثم إنهم اجتمعوا وتشاوروا فاعتزل من بين أربعة آلاف رجلٍ عالم أربع مائة رجل، كل من كان أعلم وأفهم وبايع كل واحدٍ منهم صاحبه أنهم لا يخرجون من ذلك المقام وإن ضربهم الملك وقتلهم وقرضهم وأحرقهم وجاؤوا بجملتهم ووقفوا بباب الملك وقالوا: إن خرجنا من بلداننا فطفنا مع الملك زماناً وحيناً ونريد أن نقيم في هذا المقام إلى أن نموت فيه، وإنا قد عقدنا أن لا نخرج من هذا المقام إلى أن نموت، وإن قتلتنا وحرقتنا، فقال الملك للوزير: انظر ما شأنهم يمتنعون عن الخروج معي وأنا أحتاج إليهم ولا أستغني عنهم، وأي حكمةٍ في نزولهم في هذا المقام واختيارهم؟ فخرج الوزير وجمعهم وذكر لهم قول الملك، فقالوا للوزير مثل ما قالوا للملك، قال الوزير: فما الحكمة في ذلك؟ قالوا: أيها الوزير اعلم أن شرف هذا البيت وشرف هذه البلدة بسبب هذا الرجل الذي يخرج، يقال له محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إمام الحق، صاحب القضيب والناقة والتاج والهراوة، وصاحب القرآن والقبلة، وصاحب اللواء والمنبر، صاحب قول لا إله إلا الله، ومولده بمكة، وهجرته إلى ههنا فطوبى لمن أدركه وآمن به، وكنا على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا فلما سمع الوزير مقالتهم هم أن يقيم معهم؛ فلما جاء وقت الرحيل أمر الملك أن يرحلوا، فقالوا بأجمعهم: لا نرحل، وقد أخبرنا الوزير بحكمة مقامنا ههنا؛ فدعا الملك الوزير فقال له: لم تخبرنا بمقالة القوم، قال: لأني عزمت على المقام معهم وخفت أن لا تدعني، وأعلم أنهم لا يخرجون، فلما سمع الملك منه تفكر أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر الملك أن يبنوا أربع مائة دار، لكل رجلٍ من العلماء دار، واشترى لكل منهم جاريةً وأعتقها وزوجها منه، وأعطى لكل واحد منهم عطاءً جزيلاً، وأمرهم أن يقيموا في ذلك الموضع إلى وقت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتب كتاباً وختمه بالذهب ودفع الكتاب إلى العالم الذي نصحه في شأن الكعبة، وأمره أن يدفع الكتاب إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أدركه، وإن لم يدركه إلى أولاده، وأولاد أولاده أبداً ما تناسلوا إلى حين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان في الكتاب: أما بعد، يا محمد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزله الله عليك، وأنا على دينك وسنتك وآمنت بربك ورب كل شيء، وبكل ما جاء من ربك عز وجل من شرائع الإيمان والإسلام، وإني قبلت ذلك، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني، وإني من أمتك الأوابين وبايعتك قبل مجيئك، وقبل إرسال الله تعالى إياك، وأنا على ملتك وملت أبيك إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وختم الكتاب بالذهب ونقش عليه " لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله " وكتب عنوان الكتاب إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلوات الله عليه، من تبع الأول حمير بن وردع، أمانة الله في يد من وقع، إلى أن يوصل إلى صاحبه.
ودفع الكتاب إلى العالم الذي نصح له في شأن الكعبة وأمره بحفظها.
وخرج تبع من يثرب، ويثرب هو الموضع الذي نزل به العلماء، وهو مدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسار تبع حتى مر بغلسان بلدةٍ من بلاد الهند فمات بها.
ومن اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي ولد فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألف سنةٍ لا زيادة فيه ولا نقصان، ثم إن أهل المدينة الذين نصروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أولاد أولئك العلماء الأربع مائة الذين سكنوا دور تبع إلى أن بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعوا بخروجه استشاروا في إيصال الكتاب إليه فأشار عليهم عبد الرحمن بن عوف وكان قد هاجر قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اختاروا رجلاً ثقةً وابعثوا بالكتاب معه إليه فاختاروا رجلاً يقال له: أبو ليلى وكان من الأنصار، ودفعوا إليه الكتاب وأوصوه محافظة الكتاب والتبليغ؛ وخرج على طريق مكة، فوجد محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبيلة سليم، فعرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعاه وقال: " أنت أبو ليلى ومعك كتاب تبع الأول ".
فبقي الرجل متفكراً وذكر في نفسه أن هذا من العجب ولم يعرفه، فقال: من أنت فإني لست أعرف في وجهك أثر السجود، وتوهم أنه ساحر فقال: " لا بل أنا محمد، هات الكتاب ".
ففتح الرجل رحله وكان يخفي الكتاب فدفعه إليه، فقرأه أبو بكر على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " مرحباً بالأخ الصالح ".
ثلاث مرات، وأمر أبا ليلى بالرجوع إلى المدينة، فرجع وبشر القوم، فأعطاه كل واحدٍ منهم عطاءً على تلك البشارة.
وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله أهل القبائل أن ينزل عليهم وتعلقوا بناقته، فقال: " دعوها فإنها مأمورة ".
حتى جاءت إلى دار أبي أيوب فبركت، ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دار أبي أيوب، وأبو أيوب كان من أولاد العالم الناصح لتبع في شأن الكعبة، وكانوا ينتظرونه، فهم من أولاد العلماء الذين سكنوا يثرب في دور تبع الذي بنى لهم، والدار التي نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها هي الدار التي بنى تبع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأنشد أبو زيد لتبع الأول: " من الكامل "
منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وطلوعها بيضاء صافيةً ... وغروبها صفراء كالورس
تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت بالنفس
قال محمد بن إسحاق: ولما فعل تبع ما فعل غضبت ملوك حمير وقالوا: أما كان يرضى أن يطيل غزونا ويبعدنا في المسير من أهلنا حتى طعن علينا أيضاً في ديننا وعاب آباءنا فاجتمعوا على أن
يقتلوه ويستخلفوا أخاه من بعده.
فاجتمع رأي الملوك كلهمعلى ذلك إلا ذا همدان فإنه أبى أن يمالئهم على ذلك، فثاروا به فأخذوه ليقتلوه، فقال لهم: أتراكم قاتلي؟ قالوا: نعم، قال: أما لا، فإذا قتلتموني فادفنوني قائماً فإنه لن يزال لكم ملك قائم مادمت قائماً فلما قتلوه قالوا والله لا يهلكنا حياً وميتاً فنكسوه على رأسه فقال في ذلك ذو همدان في الذي كان من أمره: " من الوافر "
إن تك حميرٌ غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
ألا من يشتري سهراً بنومٍ ... سعيدٌ من يبيت قرير عين
ثم استخلفوا أخاً له يقال له عبد كلال فزعموا أنه كان لا يأتيه النوم بالليل فأرسل إلى من كان ثم من يهود فقال: ويحكم ما ترون شأني؟ فقالوا: إنك غير نائمٍ حتى تقتل جميع من مالأك على قتل أخيك.
فتتبعهم فقتل رؤوس حمير وخونتهم، ثم خرج ابنٌ لتبع يقال له: دوس، حتى أتى قيصر فهو مثلٌ في اليمن يضرب به بعد لا كدوس ولا كعملق رحله.
فلما انتهى إلى قيصر دخل عليه، فقال له: إني ابن ملك العرب، وإن قومي عدوا على أبي فقتلوه، فجئتك لتبعث معي من يملك لي بلادي وذلك لأن ملكهم الذي ملكهم بعد أبي قد قتل أشرافهم ورؤوسهم، فدعا قيصر بطارقته فقال: ما ترون في شأن هذا؟ فقالوا: لا نرى أن تبعث معه أحداً إلى بلاد العرب وذلك أن لا نأمن هذا عليهم ليكون إنما جاء ليهلكهم؟ فقال قيصر: كيف أصنع به وقد جاءني مستغيثاً؟ فقالوا: اكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة - وملك الحبشة يدين لملك الروم - فكتب له إليه وأمره أن يبعث معه رجالاً إلى بلده، فخرج دوسٌ بكتاب قيصر حتى أتى به النجاشي، فلما قرأه نخر وسجد له، وبعث معه ستين ألفاً واستعمل عليهم روزبه، فخرج في البحر حتى أرسى إلى ساحل اليمن فخرج عليهم هو وقومه، فخرجت عليهم حمير، وحمير
يومئذٍ فرسان أهل اليمن، فقاتل أهل اليمن قتالاً شديداً على الخيل، فجعلوا يكردسونهم كراديس، ثم يحملون عليهم فكلما مضى منهم كردوس تبعه آخر فلما رأى ذلك روزبه، قال لدوس: ما جئت بي هاهنا إلا لتحرر بي قومك فلأبدأن بك ولأقتلنك قبل أن أقتل، فقال: لا تفعل أيها الملك ولكن أشير عليك فتقبل مني؟ قال: نعم فأشر عليّ، قال له دوس: أيها الملك إن حمير قوم لا يقاتلون إلا على الخيل، فلو أنك أمرت أصحابك فألقوا بين أيديهم درقهم وأترستهم، ففعلوا ذلك، فجعلت حمير تحمل عليهم فتزلق الخيل عن الترسة والدرق فتطرح فرسانها فيقتل الآخرون، فلم يزالوا كذلك حتى رقوا وكثرهم الآخرون، وإنهم ساروا حتى دخلوا صنعاء فملكوها وملكوا اليمن.
ابن الأقرن ويقال: إن اسم تبع هذا حسان بن تبع بن أسعد بن كرب الحميري، وتبع لقبٌ للملك الأكبر بلغة أهل اليمن، ككسرى بالفارسية، وقيصر بالرومية، والنجاشي بالحبشة، ملك تبع دمشق.
قال أبو نصر بن ماكولا: أما تبان، أوله تاء معجمة باثنتين من فوق، وبعدها باء معجمة بواحدة، فهو تبع الحميري واسمه أسعد تبان أبو كرب بن ملكي كرب بن قيس بن زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبأ، ويقال: هو أول من كسا البيت.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان تبع إذا عرض الخيل قاموا صفاً من دمشق إلى صنعاء اليمن.
وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أدري الحدود كفارةٌ لأهلها أم لا، ولا أدري تبع لعيناً كان أم لا، ولا أدري، ذو القرنين نبياً كان أم ملكاً؟ ".
وفي رواية: " أعزير كان نبياً أم لا؟ ".
وعن ابن عباسٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث وثلاث وثلاث، فثلاث لا يمين فيهن، وثلاث الملعون فيهن، وثلاث أشك فيهن؛ فأما الثلاث التي لا يمين فيهن: فلا يمين مع والد؛ ولا المرأة مع زوجها؛ ولا المملوك مع سيده. وأما الملعون فيهن؛ فملعونٌ من لعن والديه؛ وملعونٌ من ذبح لغير الله، وملعون من غير تخوم الأرض. وأما الذي أشك فيهن: فعزير لا أدري أكان نبياً أم لا؛ ولا أدري ألعن تبع أما لا؟ قال: ونسيت ".
- يعني الثالثة - وهذا الشك من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قبل أن يتبين له أمره ثم أخبر أنه كان مسلماً.
كما روي عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم ".
قال أبو مجلز: جاء ابن عباس إلى عبد الله بن سلام.
فقال: إني أسألك عن ثلاث؟ قال: تسألني وأنت تقرأ القرآن؟! قال: نعم.
قال: تسألني وأنت تقرأ القرآن؟! قال: نعم، أسألك عن تبع ما كان؟ وأسألك عن عزير ما كان؟ وأسألك عن الهدهد لمَ تفقده سليمان صلى الله على نبينا وعليه، من بين الطير؟ قال: أما تبع فإنه كان رجلاً من الهرب ظهر على الناس وسبى فتيةً من الأحبار فأفسد عليهم أوقات دعائهم فأنكر الناس تبعاً، قال: قد ترك دينكم وآلهتكم فما تقولون، أو فما تأمرون؟ فقالوا: بيننا وبينهم النار التي تحرق الكاذب وينجو منها الصادق، فعرض ذلك تبع على أصحابه، فرضوا بذلك، فعمد بهم تبع إلى النار فأمر الفتية أن يدخلوا فيها، فألقوا مصاحفهم في أعناقهم فلما أرادوا أن يدخلوها سفعت النار وجوههم فوجدوا حرها فنكصوا، فقال تبع: لتدخلنها، فدخلوها فانفرجت عنهم حتى مضوا، ثم أمر قومه أن يدخلوها فلما أرادوا أن يدخلوها سفعت وجوههم فوجدوا حرها فنكصوا، فأمر بهم تبع أن يدخلوها فدخلوها فانفرجت لهم حتى توسطوها، فأحاطت بهم فأحرقتهم.
فأسلم تبع.
وكان رجلاً صالحاً.
وأما عزير فإنه لما ظهر بخت نصر على بني إسرائيل خرب بيت المقدس، وشقوا المصاحف.
ودرست السنة، وكان عزير توحش في الجبال، وكانت له عينٌ يشرب منها.
فمثلت له عند العين امرأة، فلما جاء ليشرب فبصر بالمرأة فانصاع.
فلما جهده العطش أتاها وهي تبكي.
قال: ما يبكيك؟ قالت: أبكي على ابني، قال: أكان يخلق؟ قالت: لا.
قال: فكان يرزق؟ قالت: لا، وذكر الحديث، قالت: ما بالك هاهنا تركت قومك؟ قال: وأين قومي؟ قالت: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك.
قال: فدخلها فجعل لا يرفع قدمه إلا زيد في علمه فانتهى إلى قومه فأحيا لهم التوراة والسنة.
وأما الهدهد فإن سليمان - صلوات الله على نبينا وعليه - نزل منزلاً فلم يدر ما بعد الماء، فسأل عن بعد الماء، فقالوا: الهدهد فعند ذلك تفقده.
حدث محمد بن إسحاق قال: سار تبع الأول إلى الكعبة.
فأراد هدمها وكان من الخمسة الذين لهم الدنيا بأسرها.
وكان له وزراء.
فاختار منهم واحداً وأخرجه معه وكان يسمى عميارسنا لينظر إلى مملكته، وخرج في مائة ألف وثلاثين ألفاً من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفاً من الرجالة.
وكان يدخل كل بلدة وكانوا يعظمونه وكان يختار من كل بلدةٍ عشرة أنفس من حكمائهم حتى جاء إلى مكة ومعه أربعة آلاف رجل من الحكماء الذين اختارهم من بلدانٍ مختلفة، فلم يتحرك له أحد ولم يعظموه، فغضب عليهم، ودعا عميارسنا وقال: كيف شأن أهل هذه البلد الذين لم يهابوني ولم يهابوا عسكري كيف شأنهم وأمرهم؟ قال الوزير: إنهم قوم عربيون جاهلون لا يعرفون شيئاً، وإن لهم بيتاً يقال له الكعبة، وإنهم معجبون بها، ويسجدون للطاغوت والأصنام من دون عز وجل.
قال الملك: إنهم معجبون بهذا البيت؟ قال: نعم.
فنزل ببطحاء مكة معه عسكره، وتفكر في نفسه دون الوزير ودون الناس وعزم أن يأمر بهدم هذا البيت وأن التي سميت كعبة تسمى خربة، وأن يقتل رجالهم ويسبي نساءهم وذراريهم.
فأخذه الله عز وجل بالصداع، وفتح من عينيه وأذنه وأنفه وفمه ماءً منتناً، فلم يكن يستقر أحدٌ عنده طرفة عين من نتن الريح، فاستيقظ لذلك وقال لوزيره اجمع العلماء والأطباء وشاورهم في أمري؛ فاجتمع العلماء والأطباء عنده فلم يصبر أحد منهم ولم تمكنهم مداواته؛ قال: قد جمعت حكماء بلدانٍ مختلفة ووقعت في هذه العلة،
فلم يقم أحدٌ في مداواتي، فقالوا: بأجمعهم: يا قوم أمرنا أمر الدنيا، وهذا أمرٌ سماويٌ لا نستطيع مرد أمر السماء، واشتد الأمر على الملك، فتفرق الناس وأمره كل ساعةٍ أشد، حتى أقبل الليل وجاء أحد العلماء إلى وزيره فقال: إن بيني وبينك سراً وهو أنه إن كان الملك يصدق لي في كلامه وما نواه عالجته فاستبشر بذلك الوزير وأخذ بيده وحمله إلى الملك وقال للملك إن رجلاً من العلماء ذكر: إن صدق الملك وما نواه في قلبه ولم يكتم شيئاً منه عالجه؛ فاستبشر الملك وأذن له بالدخول عليه فدخل فقال: إن بيني وبينك سراً أريد الخلوة فيه، فخلا به وقال: هل نويت في هذا البيت أمراً؟ قال: نعم، نويت أن أخرب هذا البيت وأقتل رجالهم وأسبي نساءهم، فقال: إن وجعك وبلاءك من هذا، اعلم أن صاحب هذا البيت قويٌ يعلم الأسرار، فيجب أن تخرج من قلبك جميع ما نويت من أذى هذا البيت وذلك خير الدنيا والآخرة، قال الملك: فقد أخرجت جميع المكروهات من قلبي ونويت جميع الخيرات والمعروفات، فلم يخرج العالم الناصح من عنده حتى برأ من العلة وعافاه الله عز وجل بأمر الله جل وعلا من ساعته، وخرج من منزله صحيحاً على دين إبراهيم - صلى الله على نبينا وعليه - وخلع على الكعبة سبعة أثواب، وهو أول من كسا البيت ودعا أهل مكة فأمرهم بحفظ الكعبة، وخرج هو إلى يثرب.
ويثرب هي بقعةٌ فيها عين ماء ليس فيها نبت ولا بيت ولا أحد فنزل على رأس العين مع عسكره بجمع العلماء والحكماء الذين كانوا معه واختارهم من بلدانٍ مختلفة ورئيس العلماء العالم الناصح الشفيق لدين الله عز وجل الذي أعلم الملك شأن الكعبة، ثم إنهم اجتمعوا وتشاوروا فاعتزل من بين أربعة آلاف رجلٍ عالم أربع مائة رجل، كل من كان أعلم وأفهم وبايع كل واحدٍ منهم صاحبه أنهم لا يخرجون من ذلك المقام وإن ضربهم الملك وقتلهم وقرضهم وأحرقهم وجاؤوا بجملتهم ووقفوا بباب الملك وقالوا: إن خرجنا من بلداننا فطفنا مع الملك زماناً وحيناً ونريد أن نقيم في هذا المقام إلى أن نموت فيه، وإنا قد عقدنا أن لا نخرج من هذا المقام إلى أن نموت، وإن قتلتنا وحرقتنا، فقال الملك للوزير: انظر ما شأنهم يمتنعون عن الخروج معي وأنا أحتاج إليهم ولا أستغني عنهم، وأي حكمةٍ في نزولهم في هذا المقام واختيارهم؟ فخرج الوزير وجمعهم وذكر لهم قول الملك، فقالوا للوزير مثل ما قالوا للملك، قال الوزير: فما الحكمة في ذلك؟ قالوا: أيها الوزير اعلم أن شرف هذا البيت وشرف هذه البلدة بسبب هذا الرجل الذي يخرج، يقال له محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إمام الحق، صاحب القضيب والناقة والتاج والهراوة، وصاحب القرآن والقبلة، وصاحب اللواء والمنبر، صاحب قول لا إله إلا الله، ومولده بمكة، وهجرته إلى ههنا فطوبى لمن أدركه وآمن به، وكنا على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا فلما سمع الوزير مقالتهم هم أن يقيم معهم؛ فلما جاء وقت الرحيل أمر الملك أن يرحلوا، فقالوا بأجمعهم: لا نرحل، وقد أخبرنا الوزير بحكمة مقامنا ههنا؛ فدعا الملك الوزير فقال له: لم تخبرنا بمقالة القوم، قال: لأني عزمت على المقام معهم وخفت أن لا تدعني، وأعلم أنهم لا يخرجون، فلما سمع الملك منه تفكر أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر الملك أن يبنوا أربع مائة دار، لكل رجلٍ من العلماء دار، واشترى لكل منهم جاريةً وأعتقها وزوجها منه، وأعطى لكل واحد منهم عطاءً جزيلاً، وأمرهم أن يقيموا في ذلك الموضع إلى وقت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتب كتاباً وختمه بالذهب ودفع الكتاب إلى العالم الذي نصحه في شأن الكعبة، وأمره أن يدفع الكتاب إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أدركه، وإن لم يدركه إلى أولاده، وأولاد أولاده أبداً ما تناسلوا إلى حين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان في الكتاب: أما بعد، يا محمد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزله الله عليك، وأنا على دينك وسنتك وآمنت بربك ورب كل شيء، وبكل ما جاء من ربك عز وجل من شرائع الإيمان والإسلام، وإني قبلت ذلك، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني، وإني من أمتك الأوابين وبايعتك قبل مجيئك، وقبل إرسال الله تعالى إياك، وأنا على ملتك وملت أبيك إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وختم الكتاب بالذهب ونقش عليه " لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله " وكتب عنوان الكتاب إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلوات الله عليه، من تبع الأول حمير بن وردع، أمانة الله في يد من وقع، إلى أن يوصل إلى صاحبه.
ودفع الكتاب إلى العالم الذي نصح له في شأن الكعبة وأمره بحفظها.
وخرج تبع من يثرب، ويثرب هو الموضع الذي نزل به العلماء، وهو مدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسار تبع حتى مر بغلسان بلدةٍ من بلاد الهند فمات بها.
ومن اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي ولد فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألف سنةٍ لا زيادة فيه ولا نقصان، ثم إن أهل المدينة الذين نصروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أولاد أولئك العلماء الأربع مائة الذين سكنوا دور تبع إلى أن بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعوا بخروجه استشاروا في إيصال الكتاب إليه فأشار عليهم عبد الرحمن بن عوف وكان قد هاجر قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اختاروا رجلاً ثقةً وابعثوا بالكتاب معه إليه فاختاروا رجلاً يقال له: أبو ليلى وكان من الأنصار، ودفعوا إليه الكتاب وأوصوه محافظة الكتاب والتبليغ؛ وخرج على طريق مكة، فوجد محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبيلة سليم، فعرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعاه وقال: " أنت أبو ليلى ومعك كتاب تبع الأول ".
فبقي الرجل متفكراً وذكر في نفسه أن هذا من العجب ولم يعرفه، فقال: من أنت فإني لست أعرف في وجهك أثر السجود، وتوهم أنه ساحر فقال: " لا بل أنا محمد، هات الكتاب ".
ففتح الرجل رحله وكان يخفي الكتاب فدفعه إليه، فقرأه أبو بكر على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " مرحباً بالأخ الصالح ".
ثلاث مرات، وأمر أبا ليلى بالرجوع إلى المدينة، فرجع وبشر القوم، فأعطاه كل واحدٍ منهم عطاءً على تلك البشارة.
وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله أهل القبائل أن ينزل عليهم وتعلقوا بناقته، فقال: " دعوها فإنها مأمورة ".
حتى جاءت إلى دار أبي أيوب فبركت، ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دار أبي أيوب، وأبو أيوب كان من أولاد العالم الناصح لتبع في شأن الكعبة، وكانوا ينتظرونه، فهم من أولاد العلماء الذين سكنوا يثرب في دور تبع الذي بنى لهم، والدار التي نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها هي الدار التي بنى تبع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأنشد أبو زيد لتبع الأول: " من الكامل "
منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وطلوعها بيضاء صافيةً ... وغروبها صفراء كالورس
تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت بالنفس
قال محمد بن إسحاق: ولما فعل تبع ما فعل غضبت ملوك حمير وقالوا: أما كان يرضى أن يطيل غزونا ويبعدنا في المسير من أهلنا حتى طعن علينا أيضاً في ديننا وعاب آباءنا فاجتمعوا على أن
يقتلوه ويستخلفوا أخاه من بعده.
فاجتمع رأي الملوك كلهمعلى ذلك إلا ذا همدان فإنه أبى أن يمالئهم على ذلك، فثاروا به فأخذوه ليقتلوه، فقال لهم: أتراكم قاتلي؟ قالوا: نعم، قال: أما لا، فإذا قتلتموني فادفنوني قائماً فإنه لن يزال لكم ملك قائم مادمت قائماً فلما قتلوه قالوا والله لا يهلكنا حياً وميتاً فنكسوه على رأسه فقال في ذلك ذو همدان في الذي كان من أمره: " من الوافر "
إن تك حميرٌ غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
ألا من يشتري سهراً بنومٍ ... سعيدٌ من يبيت قرير عين
ثم استخلفوا أخاً له يقال له عبد كلال فزعموا أنه كان لا يأتيه النوم بالليل فأرسل إلى من كان ثم من يهود فقال: ويحكم ما ترون شأني؟ فقالوا: إنك غير نائمٍ حتى تقتل جميع من مالأك على قتل أخيك.
فتتبعهم فقتل رؤوس حمير وخونتهم، ثم خرج ابنٌ لتبع يقال له: دوس، حتى أتى قيصر فهو مثلٌ في اليمن يضرب به بعد لا كدوس ولا كعملق رحله.
فلما انتهى إلى قيصر دخل عليه، فقال له: إني ابن ملك العرب، وإن قومي عدوا على أبي فقتلوه، فجئتك لتبعث معي من يملك لي بلادي وذلك لأن ملكهم الذي ملكهم بعد أبي قد قتل أشرافهم ورؤوسهم، فدعا قيصر بطارقته فقال: ما ترون في شأن هذا؟ فقالوا: لا نرى أن تبعث معه أحداً إلى بلاد العرب وذلك أن لا نأمن هذا عليهم ليكون إنما جاء ليهلكهم؟ فقال قيصر: كيف أصنع به وقد جاءني مستغيثاً؟ فقالوا: اكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة - وملك الحبشة يدين لملك الروم - فكتب له إليه وأمره أن يبعث معه رجالاً إلى بلده، فخرج دوسٌ بكتاب قيصر حتى أتى به النجاشي، فلما قرأه نخر وسجد له، وبعث معه ستين ألفاً واستعمل عليهم روزبه، فخرج في البحر حتى أرسى إلى ساحل اليمن فخرج عليهم هو وقومه، فخرجت عليهم حمير، وحمير
يومئذٍ فرسان أهل اليمن، فقاتل أهل اليمن قتالاً شديداً على الخيل، فجعلوا يكردسونهم كراديس، ثم يحملون عليهم فكلما مضى منهم كردوس تبعه آخر فلما رأى ذلك روزبه، قال لدوس: ما جئت بي هاهنا إلا لتحرر بي قومك فلأبدأن بك ولأقتلنك قبل أن أقتل، فقال: لا تفعل أيها الملك ولكن أشير عليك فتقبل مني؟ قال: نعم فأشر عليّ، قال له دوس: أيها الملك إن حمير قوم لا يقاتلون إلا على الخيل، فلو أنك أمرت أصحابك فألقوا بين أيديهم درقهم وأترستهم، ففعلوا ذلك، فجعلت حمير تحمل عليهم فتزلق الخيل عن الترسة والدرق فتطرح فرسانها فيقتل الآخرون، فلم يزالوا كذلك حتى رقوا وكثرهم الآخرون، وإنهم ساروا حتى دخلوا صنعاء فملكوها وملكوا اليمن.