برق الأفق المدنية
قال دحمان الأشقر: كتب عامل الحجاز إلى عبد الملك بن مروان: إن بالحجاز رجلاً يقال له ابن مسجح، أسود يغني، وقد أفسد رهبان قريش، وأنفقوا عليه أموالهم.
فكتب إليه في نفيه عن الحجاز وأخذ ماله، فنفي، فخرج إلى الشام في صحبة رجلٍ له جوارٍ مغنيات، فكان معه حتى بلغا دمشق، فدخلا مسجدها فسألا من حضر عن أخص الناس بالخليفة؟ فقالوا:
هؤلاء النفر من قريش وأخصهم بنو عمه؛ فعمد ابن مسجح إلى القرشيين فسلم عليهم وقال لهم: يا فتيان هل فيكم من يضيف رجلاً غريباً من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض، وكانوا قد تواعدوا أن يذهبوا إلى قينةٍ يقال لها برق الأفق، فتثاقلوا به إلا فتى منهم تذمم فقال: أنا أضيفك، وقال لأصحابه: انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفي، فقالوا له: لا، بل تجيء أنت وضيفك، فذهبوا جميعاً إلى بيت القينة؛ فلما أتوا بالغداء قال لهم ابن مسجح: إني رجلٌ أسود، فلعل فيكم من يقذرني، فأنا أجلس ناحية، وقام، فاستحوا منه وبعثوا إليه بما أكل، فلما صاروا إلى الشراب، قال لهم مثل ذلك، ففعلوا به، وأخرجت لهم القينة جاريتين، فجلستا على سريرٍ قد وضع لهما، فغنتا إلى العشاء، ثم دخلتا وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة، وهما معها، فجلست على السرير وجلستا أسفل منها عن يمين السرير وشماله؛ قال ابن مسجح: فتمثلت بهذا البيت:
فقلت أشمسٌ أم مصابيح بيعةٍ ... بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
فغضبت الجارية وقالت: أيضرب لنا هذا الأسود الأمثال؟! فنظروا إلي نظراً منكراً، ولم يزالوا يسكتونها، ثم غنت صوتاً فقلت: أحسنت والله، فغضب مولاها وقال: هذا الأسود يقدم على جاريتي! فقال لي الرجل الذي أنزلني عليه: قم فانصرف إلى منزلي فقد ثقلت على القوم، فذهبت أقوم، فتذمم القوم مني وقالوا: بل أقم وأحسن أدبك، فأقمت، وغنت لحناً لي فقلت: أخطأت والله - أي زانية - وأسأت، ثم اندفعت فغنيت الصوت، فوثبت الجارية فقالت لمولاها: هذا والله أبو عثمان سعيد بن مسجح، فقلت: إني والله أنا هو، ولا أقيم عندكم، فوثب القرشيون فقال لي: هذا يكون عندي وقال هذا: لا بل يكون عندي، فقلت: لا والله لا أقيم إلا عند سيدكم - يعني الرجل الذي أنزله - وسألوه عما أقدمه؟ فأخبرهم، فقال له صاحب منزله: أنا أسمر الليلة عند أمير المؤمنين فهل تحسن أن تحدو؟ قال: لا والله، ولكني أصوغ لحناً على الحداء، قال: فافعل، فصنع لحناً على ألحان الحداء في هذا الشعر: " من مشطور الرجز "
إنك يا معاوي المفضل ... إن زلزل الأقوام لم تزلزل
عن دين موسى والكتاب المنزل ... تقيم أصداغ القرون الميل
للحق حتى ينتحوا للأعدل
وسمعه الفتى فقال: أحسنت والله، وأجدت، رح معي، فراح معه وجلس على الباب، فلما طابت نفس عبد الملك بعث القرشي بغلامه إليه أن يعلو السور ويرفع صوته بالأبيات، وكان من أحسن الناس صوتاً، ففعل، فلما سمع عبد الملك صوته طرب وقال: من هذا؟ قال الفتى: هذا رجلٌ من أهل الحجاز قدم علينا فأحببت أن تسمع حداءه؛ قال: هاتوه فجاؤوا به، فسمعه من قريب، ثم قال: أتغني غناء الركبان؟ قال: نعم، قال: فغن، فغناه فازداد طربه واستزاده، ثم قال له: هل تغني الغناء المتقن؟ قال: نعم، قال: عن، فغناه فاهتز عبد الملك طرباً، واستزاده فقال له: إن لك في القوم اسماً كبيراً فمن أنت منهم؟ قال: أنا المظلوم المنفي، المقبوض ماله ابن مسجح، فأمر بالكتاب إلى عامله برد ماله، وألا يعرض له بسوءٍ إذا عاد إلى وطنه.
وأمر له بمائة، وسأل القرشي عن خبره؟ فأخبره به، فضحك حتى استغرب، فقال عن الصوت الذي أخطأت فيه الجارية فغناه وهو للحادرة: " من الكامل "
بكرت سمية غدوةً فتمتع ... وغدت غدوة مفارقٍ لم يرجع
وتعرضت لك فاستبتك بواضحٍ ... صلتٍ كمنتص الغزال الأتلع
أسمي ما يدريك كم من فتيةٍ ... باكرت لذتهم بأدكن مترع
بكروا علي بسحرةٍ فصحبتهم ... من عاتقٍ كدم الذبيح مشعشع
فطرب عبد الملك ورمى إليه بمطرفٍ كان عليه وقال له: كن مع الحرس مادمت مقيماً حتى نأنس بصوتك، ففعل، وتوسل مولى برق الأفق إليه بصاحب منزله حتى وصل إليه فوصله صلةً سنية، وأخذت جاريته عنه فأكثرت وانصرفت.
قال دحمان الأشقر: كتب عامل الحجاز إلى عبد الملك بن مروان: إن بالحجاز رجلاً يقال له ابن مسجح، أسود يغني، وقد أفسد رهبان قريش، وأنفقوا عليه أموالهم.
فكتب إليه في نفيه عن الحجاز وأخذ ماله، فنفي، فخرج إلى الشام في صحبة رجلٍ له جوارٍ مغنيات، فكان معه حتى بلغا دمشق، فدخلا مسجدها فسألا من حضر عن أخص الناس بالخليفة؟ فقالوا:
هؤلاء النفر من قريش وأخصهم بنو عمه؛ فعمد ابن مسجح إلى القرشيين فسلم عليهم وقال لهم: يا فتيان هل فيكم من يضيف رجلاً غريباً من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض، وكانوا قد تواعدوا أن يذهبوا إلى قينةٍ يقال لها برق الأفق، فتثاقلوا به إلا فتى منهم تذمم فقال: أنا أضيفك، وقال لأصحابه: انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفي، فقالوا له: لا، بل تجيء أنت وضيفك، فذهبوا جميعاً إلى بيت القينة؛ فلما أتوا بالغداء قال لهم ابن مسجح: إني رجلٌ أسود، فلعل فيكم من يقذرني، فأنا أجلس ناحية، وقام، فاستحوا منه وبعثوا إليه بما أكل، فلما صاروا إلى الشراب، قال لهم مثل ذلك، ففعلوا به، وأخرجت لهم القينة جاريتين، فجلستا على سريرٍ قد وضع لهما، فغنتا إلى العشاء، ثم دخلتا وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة، وهما معها، فجلست على السرير وجلستا أسفل منها عن يمين السرير وشماله؛ قال ابن مسجح: فتمثلت بهذا البيت:
فقلت أشمسٌ أم مصابيح بيعةٍ ... بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
فغضبت الجارية وقالت: أيضرب لنا هذا الأسود الأمثال؟! فنظروا إلي نظراً منكراً، ولم يزالوا يسكتونها، ثم غنت صوتاً فقلت: أحسنت والله، فغضب مولاها وقال: هذا الأسود يقدم على جاريتي! فقال لي الرجل الذي أنزلني عليه: قم فانصرف إلى منزلي فقد ثقلت على القوم، فذهبت أقوم، فتذمم القوم مني وقالوا: بل أقم وأحسن أدبك، فأقمت، وغنت لحناً لي فقلت: أخطأت والله - أي زانية - وأسأت، ثم اندفعت فغنيت الصوت، فوثبت الجارية فقالت لمولاها: هذا والله أبو عثمان سعيد بن مسجح، فقلت: إني والله أنا هو، ولا أقيم عندكم، فوثب القرشيون فقال لي: هذا يكون عندي وقال هذا: لا بل يكون عندي، فقلت: لا والله لا أقيم إلا عند سيدكم - يعني الرجل الذي أنزله - وسألوه عما أقدمه؟ فأخبرهم، فقال له صاحب منزله: أنا أسمر الليلة عند أمير المؤمنين فهل تحسن أن تحدو؟ قال: لا والله، ولكني أصوغ لحناً على الحداء، قال: فافعل، فصنع لحناً على ألحان الحداء في هذا الشعر: " من مشطور الرجز "
إنك يا معاوي المفضل ... إن زلزل الأقوام لم تزلزل
عن دين موسى والكتاب المنزل ... تقيم أصداغ القرون الميل
للحق حتى ينتحوا للأعدل
وسمعه الفتى فقال: أحسنت والله، وأجدت، رح معي، فراح معه وجلس على الباب، فلما طابت نفس عبد الملك بعث القرشي بغلامه إليه أن يعلو السور ويرفع صوته بالأبيات، وكان من أحسن الناس صوتاً، ففعل، فلما سمع عبد الملك صوته طرب وقال: من هذا؟ قال الفتى: هذا رجلٌ من أهل الحجاز قدم علينا فأحببت أن تسمع حداءه؛ قال: هاتوه فجاؤوا به، فسمعه من قريب، ثم قال: أتغني غناء الركبان؟ قال: نعم، قال: فغن، فغناه فازداد طربه واستزاده، ثم قال له: هل تغني الغناء المتقن؟ قال: نعم، قال: عن، فغناه فاهتز عبد الملك طرباً، واستزاده فقال له: إن لك في القوم اسماً كبيراً فمن أنت منهم؟ قال: أنا المظلوم المنفي، المقبوض ماله ابن مسجح، فأمر بالكتاب إلى عامله برد ماله، وألا يعرض له بسوءٍ إذا عاد إلى وطنه.
وأمر له بمائة، وسأل القرشي عن خبره؟ فأخبره به، فضحك حتى استغرب، فقال عن الصوت الذي أخطأت فيه الجارية فغناه وهو للحادرة: " من الكامل "
بكرت سمية غدوةً فتمتع ... وغدت غدوة مفارقٍ لم يرجع
وتعرضت لك فاستبتك بواضحٍ ... صلتٍ كمنتص الغزال الأتلع
أسمي ما يدريك كم من فتيةٍ ... باكرت لذتهم بأدكن مترع
بكروا علي بسحرةٍ فصحبتهم ... من عاتقٍ كدم الذبيح مشعشع
فطرب عبد الملك ورمى إليه بمطرفٍ كان عليه وقال له: كن مع الحرس مادمت مقيماً حتى نأنس بصوتك، ففعل، وتوسل مولى برق الأفق إليه بصاحب منزله حتى وصل إليه فوصله صلةً سنية، وأخذت جاريته عنه فأكثرت وانصرفت.