العباس بْن الأحنف، الشاعر:
كان ظريفا حلوا مقبولا حسن الشعر، ولم يقل في المديح والهجاء إلا شيئا نزرا، وشعره في الغزل، وله أخبار كثيرة مع هارون الرشيد وغيره. وقيل أنه العباس بْن الأحنف بْن الأسود بْن طلحة بْن جدان بْن كلدة بْن جذيم بن شهاب بن سالم بن دحية بْن كليب بْن عبد اللَّه بْن عدي بْن حنيفة بْن لجيم بْن صعب بْن علي بن بكر بن وائل بْن قاسط بْن هنب بْن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بْن نزار بْن معد بْن عدنان.
وَقَالَ إبراهيم بْن العباس الصولي: العباس بْن الأحنف من ولد الديل بْن حنيفة أخي عدي بْن حنيفة، فالله أعلم.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عليّ الأصبهانيّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عَبْد اللَّه بْن سَعِيد العسكري- فيما أذن لنا أن نرويه عنه- أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي، حدثني القاسم ابن إسماعيل قَالَ: سمعت إبراهيم بْن العباس الكاتب يقول- وقد ذكر العباس بْن الأحنف- فقال: هو العباس بْن الأحنف بْن الأسود بْن قدامة بْن هميان- من بني هميان- بن الحارث بْن ذهل بْن الديل بْن حنيفة قال: أبو بكر الصولي: وقيل العبّاس ابن الأحنف أصله من عرب خراسان، ومنشؤه بغداد، ولم تزل العلماء تقدمه على كثير من المحدثين، ولا يزال قد ندر له الشيء البارع جدا حتى يلحقه بالمحسنين.
وَقَالَ الصولي: سمعت العطوي يقول: كان ابْن الأحنف شاعرا مجيدا غزلا، وكان أبو الهذيل [العلاف] البطال يبغضه ويلعنه لقوله:
إذا أردت سلوا كان ناصركم ... قلبي فهل أنا من قلبي بمنتصر
فأكثروا أو أقلوا من إساءتكم ... فكل ذلك محمول على القدر
فكان أَبُو الهذيل يقول: يعقد الفجور والكذب في شعره، ويلعنه قَالَ العطوي:
وقد أحسن في تمام هذا الشعر:
وضعت خدي لأدنى من يطيف بكم ... حتى احتقرت وما مثلي بمحتقر
أَخْبَرَنَا علي بْن أبي علي، أخبرنا محمّد بن عبد الرّحيم المازني، حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بن القاسم الكوكبي قَالَ: حَدَّثَنِي محمّد بن عجلان، حدّثنا يعقوب بن السكيت،
أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن المهنى قَالَ: كان عَبَّاس بْن الأحنف مع إخوان له على شراب، فجرى ذكر مسلم بْن الوليد، فقال بعضهم صريع الغواني. فقال عَبَّاس: وَاللَّه ما يصلح إلا أن يكون صريع الغيلان. فاتصل ذلك بمسلم فأنشأ مسلم يهجوه ويقول:
بنو حنيفة لا يرضى الدعي بهم ... فاترك حنيفة واطلب غيرها نسبا
منيت مني وقد جد الجراء بنا ... بغاية منعتك الفوت والطلبا
واذهب فأنت طليق الحلم مرتهن ... بسورة الجهل ما لم أملك الغضبا
اذهب إلى عرب ترضى بدعوتهم ... إني أرى لك خلقا يشبه العربا
أخبرنا أبو عبد الله الحسن بْن الحسن بْن مُحَمَّد بْن القاسم المخزومي، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ العباس الصولي قَالَ: كنت عند أبي ذكوان- وهو القاسم ابن إسماعيل- فقال: أنشدني عمك إبراهيم بْن العباس لخاله العباس بْن الأحنف:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالحب غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
ثم قَالَ: كأني أعرف شعرا أخذه العباس منه، فقلت له: أنشدنا أَبُو العيناء عَنِ الأصمعي لمزاحم العقيلي:
ألا يا سرور النفس ليس بعالم ... بك الناس حتى يعلموا ليلة القدر
سوى رجمهم بالظن والظن مخطئ ... مرارا ومنهم من يصيب ولا يدري
فقال: هو وَاللَّه الذي أردت، لو رآك عمك لأقر اللَّه عينه بك.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الحسن الأهوازي، أَخْبَرَنَا الحسن بْن عبد اللَّه اللغوي عَنْ محمّد ابن يحيى قَالَ: سمعت أبا العباس عبد اللَّه بن المعتز يقول: لو قيل لي ما أحسن شعر تعرفه. لقلت شعر العباس بْن الأحنف:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظن غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
أَخْبَرَنَا علي بْن أيوب القمي، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد الله مُحَمَّد بْن عمران المرزباني، أخبرني الصولي، حَدَّثَنَا المغيرة بْن مُحَمَّد المهلبي قَالَ: سمعت الزبير يقول: العباس بْن الأحنف أشعر أهل زمانه، وقوله:
يعتل بالشغل عنا ما يكلمنا ... والشغل للقلب ليس الشغل للبدن
ويقول: لا أعلم شيئا من أمور الدنيا- خيرها وشرها- إلا وهو يصلح أن يتمثل فيه بهذا النصف الأخير. قَالَ المرزباني وهو من هذه الأبيات:
أغيب عنك بود لا يغيره ... نأي المحل ولا صرف من الزمن
فإن أعش فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت فبطول الهم والحزن
قد حسن الحب في عيني ما صنعت ... حتى أرى حسنا ما ليس بالحسن
أَخْبَرَنِي عليّ بن أيّوب، أخبرنا المرزباني، أخبرني الصولي، روي عَنِ الزبير بْن بكار أن بشارا أنشد قول العباس بْن الأحنف أول ما قَالَ الشعر:
لما رأيت الليل سد طريقه ... عني وعذبني الظلام الراكد
والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحير ما لديه قائد
ناديت من طرد الرقاد بنومه ... عما ألاقي وهو خلو هاجد
قَالَ: قاتل اللَّه هذا الغلام ما رضي أن يجعله أعمى حتى جعله بلا قائد.
أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عَلِيّ الجوهري، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن العباس. وأَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عمر ابن روح النهرواني، أَخْبَرَنَا المعافى بْن زكريا قالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن القاسم الأنباريّ، حدثني محمّد بن المرزبان، حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن أبي طاهر قَالَ: قَالَ لي بعض أصحابنا، قَالَ بشار: ما كنا نعد هذا الغلام في الشعراء- يعني العباس بْن الأحنف- حتى قَالَ هذين البيتين:
نزف البكاء دموع عينك فالتمس ... عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... يا من لعين للبكاء تعار؟
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيّ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد الجازري، حدّثنا المعافى بن زكريا- إملاء- حدّثنا محمّد بن يحيى الصولي، حدّثنا أحمد بن إسماعيل، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يزيد المبرد قَالَ: صرت إلى مجلس ابْن عَائِشَة- وفيه الجاحظ والجماز- فسأله عيسى ابن إسماعيل- تينة- من أشعر المولدين؟ فقال الذي يقول:
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
بعين خالط التفت ... ير من أجفانها الحورا
ووجه سامري لو ... تصوب ماؤه قطرا
يعني العباس بْن الأحنف.
أَخْبَرَنَا الحسن بْن مُحَمَّد بْن عبد الواحد، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الرحيم المازني.
وَأَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْن عَبْدِ اللَّهِ الطبري، حَدَّثَنَا المعافى بْن زكريا الجريري- واللفظ للمازني- قالا: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن القاسم الأنباري، حدثني أبي، حدّثنا عبد الله بن أبي سعد، حدّثنا عبد الله بن الربيع، حَدَّثَنِي صاحب لنا قَالَ: قَالَ هارون الرشيد في الليل بيتا ورام أن يشفعه بآخر فامتنع القول عليه، فقال علي بالعباس بْن الأحنف الشاعر، فلما طرق ذعر وفزع أهله، فلما وقف بين يدي الرشيد، قَالَ له: وجهت إليك لبيت قلته ورمت أن أشفعه بمثله، فامتنع القول علي.
فقال: يا أمير المؤمنين دعني حتى ترجع إلي نفسي فإني قد تركت عيالي على حال من القلق عظيمة، ونالني من الخوف ما يتجاوز الحد والوصف، فانتظره هنية ثم أنشده البيت:
جنان قد رأيناها ... ولم نر مثلها بشرا
فقال العباس بْن الأحنف:
يزيدك وجهها حسنا ... إذا ما زدته نظرا
فقال له الرشيد زدني، فقال:
إذا ما الليل مال علي ... ك بالإظلام واعتكرا
ودج فلم ترى قمرا ... فأبرزها ترى قمرا
فقال له الرّشيد: قد زعرناك وأفزعنا عيالك، فأقل الواجب أن نعطيك ديتك. وأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه.
أَخْبَرَنِي علي بْن أيوب قَالَ: أنشدنا أَبُو عبيد اللَّه المرزباني عَنْ مُحَمَّد بْن يحيى الصولي للعباس بْن الأحنف:
برغمي أطيل الصد عنك وأبتلي ... بهجرك قلبا لم يزل فيك متعبا
وما أنا في صدي بأول ذي هوى ... رأى بعض ما لا يشتهي فتجنبا
تجنب يرتاد السلو فلم يجد ... له عنك في الأرض العريضة مذهبا
فصار إلى أن راجع الوصل صاغرا ... وعاد إلى ما تشتهين وأعتبا
أخبرني عليّ بن أيّوب، أخبرنا المرزباني، حدثني عليّ بن هارون، أَخْبَرَنِي أبي قَالَ: من بارع شعر العباس بْن الأحنف قوله:
قد رق أعدائي لما حل بي ... فليت أحبابي كأعدائي
أملت بالهجران لي راحة ... من جمرات بين أحشائي
فازداد جهدي وبلائي بها ... أنا الذي استشفيت بالداء
قَالَ: وقوله:
يا ذا الذي أنكرني طرفه ... إن ذاب جسمي وعلاني شحوب
ما مسني ضر ولكنني ... جفوت نفسي إذ جفاني الحبيب
أَخْبَرَنِي أَبُو القاسم الأزهري، حدّثنا محمّد بن جعفر الأديب، حدّثنا أبو القاسم السكوني- إملاء- حدّثنا الحسين بن مكرم، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزيد الثمالي قَالَ: مات أَبُو العتاهية، وعباس بْن الأحنف، وإبراهيم الموصلي في يوم واحد، فرفع خبرهم إلى الرشيد، فأمر المأمون بحضورهم والصلاة عليهم، فوافى المأمون وقد صفوا له في موضع الجنائز، فقال: من قدمتم؟ فقالوا إبراهيم، قَالَ: أخروه وقدموا عباسا، قَالَ فلما فرغ من الصلاة اعترضه بعض الطاهرية فقال له: أيها الأمير بم قدمت عباسا؟ فقال يا فضولي بقوله:
سماك لي قوم وقالوا إنها ... هي التي تشقى بها وتكابد
فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد
قلت: في هذا الخبر نظر، لأن وفاة العباس كانت بالبصرة، واختلف في الوقت الذي مات فيه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وعلى بْن أبي علي المعدلان قَالا: أَخْبَرَنَا عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبْد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ، حدّثنا محمّد بن القاسم الشطوي، حدّثنا أحمد ابن عبيد قال: سمعت الأصمعي يقول: بينا أنا ذات يوم قاعد في مجلس بالبصرة، فإذا أنا بغلام أحسن الناس وجهها وثوبا واقف على رأسي، فقال: إن مولاي يريد أن يوصي إليك، فقمت معه، فأخذ بيدي حتى أخرجني إلى الصحراء، فإذا أنا بعباس بْن الأحنف ملقى على فراشه، وإذا هو يجود بنفسه وهو يقول:
يا بعيد الدار من وطنه ... مفردا يبكي على شجنه
كلما شد النجاء به ... دارك الأسقام في بدنه
ثم أغمي عليه، فانتبه بصوت طائر على شجرة وهو يقول:
ولقد زاد الفؤاد شجى ... هاتف يبكي على فننه
شاقه ما شاقني فبكى ... كلنا يبكي على سكنه
ثم أغمي عليه، فظننتها مثل الأولى، فحركته فإذا هو ميت.
أنبأنا إبراهيم بن مخلد، حَدَّثَنَا أَبُو الفرج علي بْن الحسين الأصبهاني، أخبرني إسماعيل بن يونس، حَدَّثَنَا عمر بْن شبة قَالَ: مات إبراهيم الموصلي في سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي، وعباس بْن الأحنف.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الحسن الأهوازي، أَخْبَرَنَا الحسن بْن عبد اللَّه اللغوي عَنْ أبي بكر الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا القاسم بْن إِسْمَاعِيل قَالَ: سمعت إبراهيم بْن العباس الصولي يقول: توفي العباس بْن الأحنف سنة اثنتين وتسعين ومائة، وتوفي أبوه الأحنف سنة خمسين ومائة، ودفن بالبصرة قَالَ: وكان انتقال أهله إلى خراسان من البصرة ولهم فيها منازل.
قَالَ أَبُو بَكْر الصولي: وَحَدَّثَنِي عون بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: أنا رأيت العباس بْن الأحنف ببغداد بعد موت الرشيد، وكان منزله بباب الشام، وكان لي صديقا، ومات وسنه أقل من ستين سنة. قَالَ أَبُو بَكْر: فهذا يدل على أنه مات بعد السنة التي ذكر إبراهيم بْن العباس أنه مات فيها، لأن الرشيد توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة.
كان ظريفا حلوا مقبولا حسن الشعر، ولم يقل في المديح والهجاء إلا شيئا نزرا، وشعره في الغزل، وله أخبار كثيرة مع هارون الرشيد وغيره. وقيل أنه العباس بْن الأحنف بْن الأسود بْن طلحة بْن جدان بْن كلدة بْن جذيم بن شهاب بن سالم بن دحية بْن كليب بْن عبد اللَّه بْن عدي بْن حنيفة بْن لجيم بْن صعب بْن علي بن بكر بن وائل بْن قاسط بْن هنب بْن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بْن نزار بْن معد بْن عدنان.
وَقَالَ إبراهيم بْن العباس الصولي: العباس بْن الأحنف من ولد الديل بْن حنيفة أخي عدي بْن حنيفة، فالله أعلم.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عليّ الأصبهانيّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عَبْد اللَّه بْن سَعِيد العسكري- فيما أذن لنا أن نرويه عنه- أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي، حدثني القاسم ابن إسماعيل قَالَ: سمعت إبراهيم بْن العباس الكاتب يقول- وقد ذكر العباس بْن الأحنف- فقال: هو العباس بْن الأحنف بْن الأسود بْن قدامة بْن هميان- من بني هميان- بن الحارث بْن ذهل بْن الديل بْن حنيفة قال: أبو بكر الصولي: وقيل العبّاس ابن الأحنف أصله من عرب خراسان، ومنشؤه بغداد، ولم تزل العلماء تقدمه على كثير من المحدثين، ولا يزال قد ندر له الشيء البارع جدا حتى يلحقه بالمحسنين.
وَقَالَ الصولي: سمعت العطوي يقول: كان ابْن الأحنف شاعرا مجيدا غزلا، وكان أبو الهذيل [العلاف] البطال يبغضه ويلعنه لقوله:
إذا أردت سلوا كان ناصركم ... قلبي فهل أنا من قلبي بمنتصر
فأكثروا أو أقلوا من إساءتكم ... فكل ذلك محمول على القدر
فكان أَبُو الهذيل يقول: يعقد الفجور والكذب في شعره، ويلعنه قَالَ العطوي:
وقد أحسن في تمام هذا الشعر:
وضعت خدي لأدنى من يطيف بكم ... حتى احتقرت وما مثلي بمحتقر
أَخْبَرَنَا علي بْن أبي علي، أخبرنا محمّد بن عبد الرّحيم المازني، حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بن القاسم الكوكبي قَالَ: حَدَّثَنِي محمّد بن عجلان، حدّثنا يعقوب بن السكيت،
أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن المهنى قَالَ: كان عَبَّاس بْن الأحنف مع إخوان له على شراب، فجرى ذكر مسلم بْن الوليد، فقال بعضهم صريع الغواني. فقال عَبَّاس: وَاللَّه ما يصلح إلا أن يكون صريع الغيلان. فاتصل ذلك بمسلم فأنشأ مسلم يهجوه ويقول:
بنو حنيفة لا يرضى الدعي بهم ... فاترك حنيفة واطلب غيرها نسبا
منيت مني وقد جد الجراء بنا ... بغاية منعتك الفوت والطلبا
واذهب فأنت طليق الحلم مرتهن ... بسورة الجهل ما لم أملك الغضبا
اذهب إلى عرب ترضى بدعوتهم ... إني أرى لك خلقا يشبه العربا
أخبرنا أبو عبد الله الحسن بْن الحسن بْن مُحَمَّد بْن القاسم المخزومي، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ العباس الصولي قَالَ: كنت عند أبي ذكوان- وهو القاسم ابن إسماعيل- فقال: أنشدني عمك إبراهيم بْن العباس لخاله العباس بْن الأحنف:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالحب غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
ثم قَالَ: كأني أعرف شعرا أخذه العباس منه، فقلت له: أنشدنا أَبُو العيناء عَنِ الأصمعي لمزاحم العقيلي:
ألا يا سرور النفس ليس بعالم ... بك الناس حتى يعلموا ليلة القدر
سوى رجمهم بالظن والظن مخطئ ... مرارا ومنهم من يصيب ولا يدري
فقال: هو وَاللَّه الذي أردت، لو رآك عمك لأقر اللَّه عينه بك.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الحسن الأهوازي، أَخْبَرَنَا الحسن بْن عبد اللَّه اللغوي عَنْ محمّد ابن يحيى قَالَ: سمعت أبا العباس عبد اللَّه بن المعتز يقول: لو قيل لي ما أحسن شعر تعرفه. لقلت شعر العباس بْن الأحنف:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظن غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
أَخْبَرَنَا علي بْن أيوب القمي، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد الله مُحَمَّد بْن عمران المرزباني، أخبرني الصولي، حَدَّثَنَا المغيرة بْن مُحَمَّد المهلبي قَالَ: سمعت الزبير يقول: العباس بْن الأحنف أشعر أهل زمانه، وقوله:
يعتل بالشغل عنا ما يكلمنا ... والشغل للقلب ليس الشغل للبدن
ويقول: لا أعلم شيئا من أمور الدنيا- خيرها وشرها- إلا وهو يصلح أن يتمثل فيه بهذا النصف الأخير. قَالَ المرزباني وهو من هذه الأبيات:
أغيب عنك بود لا يغيره ... نأي المحل ولا صرف من الزمن
فإن أعش فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت فبطول الهم والحزن
قد حسن الحب في عيني ما صنعت ... حتى أرى حسنا ما ليس بالحسن
أَخْبَرَنِي عليّ بن أيّوب، أخبرنا المرزباني، أخبرني الصولي، روي عَنِ الزبير بْن بكار أن بشارا أنشد قول العباس بْن الأحنف أول ما قَالَ الشعر:
لما رأيت الليل سد طريقه ... عني وعذبني الظلام الراكد
والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحير ما لديه قائد
ناديت من طرد الرقاد بنومه ... عما ألاقي وهو خلو هاجد
قَالَ: قاتل اللَّه هذا الغلام ما رضي أن يجعله أعمى حتى جعله بلا قائد.
أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عَلِيّ الجوهري، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن العباس. وأَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عمر ابن روح النهرواني، أَخْبَرَنَا المعافى بْن زكريا قالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن القاسم الأنباريّ، حدثني محمّد بن المرزبان، حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن أبي طاهر قَالَ: قَالَ لي بعض أصحابنا، قَالَ بشار: ما كنا نعد هذا الغلام في الشعراء- يعني العباس بْن الأحنف- حتى قَالَ هذين البيتين:
نزف البكاء دموع عينك فالتمس ... عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... يا من لعين للبكاء تعار؟
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيّ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد الجازري، حدّثنا المعافى بن زكريا- إملاء- حدّثنا محمّد بن يحيى الصولي، حدّثنا أحمد بن إسماعيل، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يزيد المبرد قَالَ: صرت إلى مجلس ابْن عَائِشَة- وفيه الجاحظ والجماز- فسأله عيسى ابن إسماعيل- تينة- من أشعر المولدين؟ فقال الذي يقول:
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
بعين خالط التفت ... ير من أجفانها الحورا
ووجه سامري لو ... تصوب ماؤه قطرا
يعني العباس بْن الأحنف.
أَخْبَرَنَا الحسن بْن مُحَمَّد بْن عبد الواحد، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الرحيم المازني.
وَأَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْن عَبْدِ اللَّهِ الطبري، حَدَّثَنَا المعافى بْن زكريا الجريري- واللفظ للمازني- قالا: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن القاسم الأنباري، حدثني أبي، حدّثنا عبد الله بن أبي سعد، حدّثنا عبد الله بن الربيع، حَدَّثَنِي صاحب لنا قَالَ: قَالَ هارون الرشيد في الليل بيتا ورام أن يشفعه بآخر فامتنع القول عليه، فقال علي بالعباس بْن الأحنف الشاعر، فلما طرق ذعر وفزع أهله، فلما وقف بين يدي الرشيد، قَالَ له: وجهت إليك لبيت قلته ورمت أن أشفعه بمثله، فامتنع القول علي.
فقال: يا أمير المؤمنين دعني حتى ترجع إلي نفسي فإني قد تركت عيالي على حال من القلق عظيمة، ونالني من الخوف ما يتجاوز الحد والوصف، فانتظره هنية ثم أنشده البيت:
جنان قد رأيناها ... ولم نر مثلها بشرا
فقال العباس بْن الأحنف:
يزيدك وجهها حسنا ... إذا ما زدته نظرا
فقال له الرشيد زدني، فقال:
إذا ما الليل مال علي ... ك بالإظلام واعتكرا
ودج فلم ترى قمرا ... فأبرزها ترى قمرا
فقال له الرّشيد: قد زعرناك وأفزعنا عيالك، فأقل الواجب أن نعطيك ديتك. وأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه.
أَخْبَرَنِي علي بْن أيوب قَالَ: أنشدنا أَبُو عبيد اللَّه المرزباني عَنْ مُحَمَّد بْن يحيى الصولي للعباس بْن الأحنف:
برغمي أطيل الصد عنك وأبتلي ... بهجرك قلبا لم يزل فيك متعبا
وما أنا في صدي بأول ذي هوى ... رأى بعض ما لا يشتهي فتجنبا
تجنب يرتاد السلو فلم يجد ... له عنك في الأرض العريضة مذهبا
فصار إلى أن راجع الوصل صاغرا ... وعاد إلى ما تشتهين وأعتبا
أخبرني عليّ بن أيّوب، أخبرنا المرزباني، حدثني عليّ بن هارون، أَخْبَرَنِي أبي قَالَ: من بارع شعر العباس بْن الأحنف قوله:
قد رق أعدائي لما حل بي ... فليت أحبابي كأعدائي
أملت بالهجران لي راحة ... من جمرات بين أحشائي
فازداد جهدي وبلائي بها ... أنا الذي استشفيت بالداء
قَالَ: وقوله:
يا ذا الذي أنكرني طرفه ... إن ذاب جسمي وعلاني شحوب
ما مسني ضر ولكنني ... جفوت نفسي إذ جفاني الحبيب
أَخْبَرَنِي أَبُو القاسم الأزهري، حدّثنا محمّد بن جعفر الأديب، حدّثنا أبو القاسم السكوني- إملاء- حدّثنا الحسين بن مكرم، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزيد الثمالي قَالَ: مات أَبُو العتاهية، وعباس بْن الأحنف، وإبراهيم الموصلي في يوم واحد، فرفع خبرهم إلى الرشيد، فأمر المأمون بحضورهم والصلاة عليهم، فوافى المأمون وقد صفوا له في موضع الجنائز، فقال: من قدمتم؟ فقالوا إبراهيم، قَالَ: أخروه وقدموا عباسا، قَالَ فلما فرغ من الصلاة اعترضه بعض الطاهرية فقال له: أيها الأمير بم قدمت عباسا؟ فقال يا فضولي بقوله:
سماك لي قوم وقالوا إنها ... هي التي تشقى بها وتكابد
فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد
قلت: في هذا الخبر نظر، لأن وفاة العباس كانت بالبصرة، واختلف في الوقت الذي مات فيه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وعلى بْن أبي علي المعدلان قَالا: أَخْبَرَنَا عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبْد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ، حدّثنا محمّد بن القاسم الشطوي، حدّثنا أحمد ابن عبيد قال: سمعت الأصمعي يقول: بينا أنا ذات يوم قاعد في مجلس بالبصرة، فإذا أنا بغلام أحسن الناس وجهها وثوبا واقف على رأسي، فقال: إن مولاي يريد أن يوصي إليك، فقمت معه، فأخذ بيدي حتى أخرجني إلى الصحراء، فإذا أنا بعباس بْن الأحنف ملقى على فراشه، وإذا هو يجود بنفسه وهو يقول:
يا بعيد الدار من وطنه ... مفردا يبكي على شجنه
كلما شد النجاء به ... دارك الأسقام في بدنه
ثم أغمي عليه، فانتبه بصوت طائر على شجرة وهو يقول:
ولقد زاد الفؤاد شجى ... هاتف يبكي على فننه
شاقه ما شاقني فبكى ... كلنا يبكي على سكنه
ثم أغمي عليه، فظننتها مثل الأولى، فحركته فإذا هو ميت.
أنبأنا إبراهيم بن مخلد، حَدَّثَنَا أَبُو الفرج علي بْن الحسين الأصبهاني، أخبرني إسماعيل بن يونس، حَدَّثَنَا عمر بْن شبة قَالَ: مات إبراهيم الموصلي في سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي، وعباس بْن الأحنف.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الحسن الأهوازي، أَخْبَرَنَا الحسن بْن عبد اللَّه اللغوي عَنْ أبي بكر الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا القاسم بْن إِسْمَاعِيل قَالَ: سمعت إبراهيم بْن العباس الصولي يقول: توفي العباس بْن الأحنف سنة اثنتين وتسعين ومائة، وتوفي أبوه الأحنف سنة خمسين ومائة، ودفن بالبصرة قَالَ: وكان انتقال أهله إلى خراسان من البصرة ولهم فيها منازل.
قَالَ أَبُو بَكْر الصولي: وَحَدَّثَنِي عون بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: أنا رأيت العباس بْن الأحنف ببغداد بعد موت الرشيد، وكان منزله بباب الشام، وكان لي صديقا، ومات وسنه أقل من ستين سنة. قَالَ أَبُو بَكْر: فهذا يدل على أنه مات بعد السنة التي ذكر إبراهيم بْن العباس أنه مات فيها، لأن الرشيد توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة.