الزبير بن كثير بن الصلت
الكندي المدني وجهه أبو بكتابه إلى معاوية بن أبي سفيان. كان أهل المدينة إذا نسبوا رجلاً إلى الإقبال قالوا: لقي ليلة كثير بن الصلت.
قال أبو مسكين:
فسألت شيخانهم عن ذلك فقالوا: أمر معاوية رجلاً من آل أبي بكر أن يبتني له منزلاً بالمدينة، ينزله إذا اجتاز إلى مكة، ففعل، وأقبل معاوية والبكري يسايره، إذ نظر من القبة إلى منزل كثير بن الصلت الكندي أحد بني وليعة، وهم أخوال علي بن عبد الله بن
العباس، فقال معاوية للبكري، أمنزلي هذا؟ فقال: ليس به يا أمير المؤمنين، ومنزلك قريبٌ، ولو قد صرت إلى قرار المصلى لقد رأيته، وهذا منزل كثير بن الصلت. فقال معاوية: إن منزل كثيرٍ لهنيء، أفتراه بائعه؟ ونظر إلى كثير في موكبه على بعيرٍ له، فبعث إليه، فدعاه، وسايره، وسأله عن رأيه في المنزل، فقال: لست أقدر على بيعه يا أمير المؤمنين. قال: أوليس لك؟ قال: بلى، ولكن قدمنا هذا الحرم ونحن ننسب إلى آبائنا ونعرف بأحسابنا، فاستولى على ذلك هذا المنزل، وصرنا نعرف به، وفيه بعد سبعون مختمرة، ليس يحول بين الناس وبين معرفة حالهن إلا حائطه، ولو خرجن منه كشف منهن ما لا نقدر على احتماله. فقال: إني أيمنك، وأنيخ بعيرك فأصب على هامته وسنامه حتى أواريهما. فقال: يا أمير المؤمنين، إني لا أجد إلى ذلك سبيلاً لما أعلمتك، وكانت له نفسٌ شديدة.
فقضى معاوية حجه، وفيه عنه إعراضٌ، وقد كان أسلفه مئتي ألف درهم في غرم له فلما نفذ معاوية أوصى مروان بن الحكم بقبض المال منه، وقال: إن استأجلك فأجله أجلاً قصيراً، فإن وافاك بالمال، وإلا فبع ربعه وملكه حتى تستوفي ذلك منه. وكان الذي بين مروان وكثير قبيحاً.
فلما نفذ معاوية أرسل مروان إلى كثير، فأعلمه ما أمر به فيه، فاستأجله شهراً فقبل، وقال: في شهر ما كفى.
ورجع كثير إلى منزله، وقد ضاقت به الأرض، فدعا ابنه الزبير، وكان به يكنى، وقال: يا بني، إنا لسنا نجد لنا خيراً من أمير المؤمنين، وإن كان قد أمر فينا بما أمر، فكتب له ووجهه، وعظم الحق.
فلما كان في آخر يوم في الأجل، ولم يأته عن ابنه خبرٌ، علم أن مروان سيهجم عليه بما يكره، فأتى سعيد بن العاص، فقال له: ما جاء بك؟ قال: الشر، قال: لا شر
عليك، فأخبره بخبره، فقال له سعيد: إن أحببت أن أتولى المال ودفعه، واكتتاب البراءة لك بذلك فعلت، وإن شئت حمل إليك. فجزاه خيراً، وانصرف.
حتى إذا كان ببعض الطريق ذكر قيس بن سعد بن عبادة، فقال: قيس سيد هذا الحرم من ذي يمنٍ، وقد ابتليت بما علم، فلو أتيته، وأسندت أمري إليه لكان لي عون صدقٍ. فجاء إلى قيس، فقال له: ما جاء بك؟ قال: الشر. قال: لا شر عليك. فأخبره خبره، فقال له قيس: أمسيت عن حاجتك وهي مصبحتك غداً إلى منزلك، وإن أحببت ولينا حملها عنك إلى مروان.
فانصرف كثير حتى إذا أخذ بحلقة باب داره ذكر عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، فقال: ما فيهم أحد أشد إكراماً لي منه، وإن بلغه ما صنعت، وما صنع الرجلان لم أستقله منه أبداً، فدخل إليه، وهو يتعشى وبين يديه شمعةٌ عظيمة، فسمع وطء كثير، وكان جسيماً، فلما دخل عليه قال: يا أبا الزبير، العشاء. قال: قد أصبت منه ما كفى، قال: ما جاء بك؟ قال: الشر. قال: لا شر عليك، فأخبره الخبر، فالتفت إلى هانىءٍ وكيله قال: ما عندك؟ قال: مئة ألف. قال: ما جاء من شيء نصفه إلا تم بإذن الله، ثم نظر في وجوه جلسائه، ومعه رجل من بني الأرقط من ولد علي، فضحك وقال: هي عندي. قال: من أين لك؟ قال: من فضول صلاتك أجمعها، لأفتكك بها مما أنت فيه.
فانصرف كثير إلى منزله، فبات آمناً وأمن نساؤه وحرمه.
فلما كان في السحر ضرب عليه الباب، فإذا ابنه الزبير قد قدم بكتاب معاوية إلى مروان ألا يعرض له، وكتب براءةً له، فأصبح غادياً إلى مروان، فدفع كتبه إليه، وانصرف إلى سعيد بن العاص، فإذا البدر على ظهر الطريق، فلما نظر إليه قال: أحوجنا أبا الزبير إلى الغدو. قال: ما لذلك جئت، ولكني أتيتك لأسرك، وأشكرك، وأقرك مالك. هذا كتاب أمير المؤمنين. فقرأه، وقال: أتراني راجعاً في شيءٍ أمرت لك به؟ لا يكون هذا أبداً. ارجع وحمل معه المال.
فأتى قيس بن سعد فإذا المال مجموعٌ، فأخبره خبره، فقال: أفأرده يا أبا الزبير في مالي، وقد أمرت لك به؟! والله لا يكون هذا! احملها يا غلام معه.
ثم أتى عبد الله بن جعفر، فأخبره خبره، فقال: ما كنت أرجع في شيء أمرت لك به. فقال كثير: أما ما كان من عندك قبضته، وأما ما استقرضته فلا أريده. فقال عبد الله: أنا على قضاء الديون أقوى منك على اكتساب المال، ولك خروقٌ فارقعها به فانصرف بها، فصار مثلاً في المدينة.
الكندي المدني وجهه أبو بكتابه إلى معاوية بن أبي سفيان. كان أهل المدينة إذا نسبوا رجلاً إلى الإقبال قالوا: لقي ليلة كثير بن الصلت.
قال أبو مسكين:
فسألت شيخانهم عن ذلك فقالوا: أمر معاوية رجلاً من آل أبي بكر أن يبتني له منزلاً بالمدينة، ينزله إذا اجتاز إلى مكة، ففعل، وأقبل معاوية والبكري يسايره، إذ نظر من القبة إلى منزل كثير بن الصلت الكندي أحد بني وليعة، وهم أخوال علي بن عبد الله بن
العباس، فقال معاوية للبكري، أمنزلي هذا؟ فقال: ليس به يا أمير المؤمنين، ومنزلك قريبٌ، ولو قد صرت إلى قرار المصلى لقد رأيته، وهذا منزل كثير بن الصلت. فقال معاوية: إن منزل كثيرٍ لهنيء، أفتراه بائعه؟ ونظر إلى كثير في موكبه على بعيرٍ له، فبعث إليه، فدعاه، وسايره، وسأله عن رأيه في المنزل، فقال: لست أقدر على بيعه يا أمير المؤمنين. قال: أوليس لك؟ قال: بلى، ولكن قدمنا هذا الحرم ونحن ننسب إلى آبائنا ونعرف بأحسابنا، فاستولى على ذلك هذا المنزل، وصرنا نعرف به، وفيه بعد سبعون مختمرة، ليس يحول بين الناس وبين معرفة حالهن إلا حائطه، ولو خرجن منه كشف منهن ما لا نقدر على احتماله. فقال: إني أيمنك، وأنيخ بعيرك فأصب على هامته وسنامه حتى أواريهما. فقال: يا أمير المؤمنين، إني لا أجد إلى ذلك سبيلاً لما أعلمتك، وكانت له نفسٌ شديدة.
فقضى معاوية حجه، وفيه عنه إعراضٌ، وقد كان أسلفه مئتي ألف درهم في غرم له فلما نفذ معاوية أوصى مروان بن الحكم بقبض المال منه، وقال: إن استأجلك فأجله أجلاً قصيراً، فإن وافاك بالمال، وإلا فبع ربعه وملكه حتى تستوفي ذلك منه. وكان الذي بين مروان وكثير قبيحاً.
فلما نفذ معاوية أرسل مروان إلى كثير، فأعلمه ما أمر به فيه، فاستأجله شهراً فقبل، وقال: في شهر ما كفى.
ورجع كثير إلى منزله، وقد ضاقت به الأرض، فدعا ابنه الزبير، وكان به يكنى، وقال: يا بني، إنا لسنا نجد لنا خيراً من أمير المؤمنين، وإن كان قد أمر فينا بما أمر، فكتب له ووجهه، وعظم الحق.
فلما كان في آخر يوم في الأجل، ولم يأته عن ابنه خبرٌ، علم أن مروان سيهجم عليه بما يكره، فأتى سعيد بن العاص، فقال له: ما جاء بك؟ قال: الشر، قال: لا شر
عليك، فأخبره بخبره، فقال له سعيد: إن أحببت أن أتولى المال ودفعه، واكتتاب البراءة لك بذلك فعلت، وإن شئت حمل إليك. فجزاه خيراً، وانصرف.
حتى إذا كان ببعض الطريق ذكر قيس بن سعد بن عبادة، فقال: قيس سيد هذا الحرم من ذي يمنٍ، وقد ابتليت بما علم، فلو أتيته، وأسندت أمري إليه لكان لي عون صدقٍ. فجاء إلى قيس، فقال له: ما جاء بك؟ قال: الشر. قال: لا شر عليك. فأخبره خبره، فقال له قيس: أمسيت عن حاجتك وهي مصبحتك غداً إلى منزلك، وإن أحببت ولينا حملها عنك إلى مروان.
فانصرف كثير حتى إذا أخذ بحلقة باب داره ذكر عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، فقال: ما فيهم أحد أشد إكراماً لي منه، وإن بلغه ما صنعت، وما صنع الرجلان لم أستقله منه أبداً، فدخل إليه، وهو يتعشى وبين يديه شمعةٌ عظيمة، فسمع وطء كثير، وكان جسيماً، فلما دخل عليه قال: يا أبا الزبير، العشاء. قال: قد أصبت منه ما كفى، قال: ما جاء بك؟ قال: الشر. قال: لا شر عليك، فأخبره الخبر، فالتفت إلى هانىءٍ وكيله قال: ما عندك؟ قال: مئة ألف. قال: ما جاء من شيء نصفه إلا تم بإذن الله، ثم نظر في وجوه جلسائه، ومعه رجل من بني الأرقط من ولد علي، فضحك وقال: هي عندي. قال: من أين لك؟ قال: من فضول صلاتك أجمعها، لأفتكك بها مما أنت فيه.
فانصرف كثير إلى منزله، فبات آمناً وأمن نساؤه وحرمه.
فلما كان في السحر ضرب عليه الباب، فإذا ابنه الزبير قد قدم بكتاب معاوية إلى مروان ألا يعرض له، وكتب براءةً له، فأصبح غادياً إلى مروان، فدفع كتبه إليه، وانصرف إلى سعيد بن العاص، فإذا البدر على ظهر الطريق، فلما نظر إليه قال: أحوجنا أبا الزبير إلى الغدو. قال: ما لذلك جئت، ولكني أتيتك لأسرك، وأشكرك، وأقرك مالك. هذا كتاب أمير المؤمنين. فقرأه، وقال: أتراني راجعاً في شيءٍ أمرت لك به؟ لا يكون هذا أبداً. ارجع وحمل معه المال.
فأتى قيس بن سعد فإذا المال مجموعٌ، فأخبره خبره، فقال: أفأرده يا أبا الزبير في مالي، وقد أمرت لك به؟! والله لا يكون هذا! احملها يا غلام معه.
ثم أتى عبد الله بن جعفر، فأخبره خبره، فقال: ما كنت أرجع في شيء أمرت لك به. فقال كثير: أما ما كان من عندك قبضته، وأما ما استقرضته فلا أريده. فقال عبد الله: أنا على قضاء الديون أقوى منك على اكتساب المال، ولك خروقٌ فارقعها به فانصرف بها، فصار مثلاً في المدينة.