Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=150500#ea7514
الحجاج بن يوسف بن الحكم
ابن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف ابن ثقيف واسمه قسيّ بن منبه بن بكر بن هوازن أبو محمد الثقفي ولاه عبد الملك الحجاز فقتل ابن الزبير: وعزله عنها وولاه العراق، وقدم دمشق وافداً على عبد الملك، وكانت له بدمشق آدر، منها دار الزاوية التي بقرب قصر ابن أبي الحديد.
قال قتيبة بن مسلم: خطبنا الحجاج بن يوسف فذكر القبر فما زال يقول: إنه بيت الوحدة وبيت الغربة حتى بكى وأبكى من حوله، ثم قال: سمعت أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان يقول: سمعت مروان يقول في خطبته: خطبنا عثمان بن عفان فقال في خطبته: ما نظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قبر وذكره إلا بكى.
قال مالك بن دينار: دخلت يوماً على الحجاج فقال لي: يا أبا يحيى، ألا أحدثك بحديث حسن عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقلت: بلى، فقال: حدثني أبو بردة، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كانت له إلى الله حاجة فليدع بها دبر صلاة مفروضة.
قال أبو موسى بن أبي عبد الرحمن: أخبرني أبي قال: أبو محمد، حجاج بن يوسف الثقفي ليس بثقة ولا مأمون.
ولد الحجاج بن يوسف سنة تسع وثلاثين، وقيل سنة أربعين، وقيل سنة إحدى وأربعين.
حدث محمد بن إدريس الشافعي قال: سمعت من يذكر أن المغيرة بن شعبة نظر إلى امرأته وهي تتخلل من أول النهار فقال: والله لئن كانت باكرت الغداء إنها لرغيبة، وإن كان شيء بقي من فيها من البارحة إنها لقذرة، فطلقها فقالت: والله ما كان شيء مما ذكرت، ولكنني باكرت ما تباكره الحرّة من السواك، فبقيت شظية في فيّ، قال: فقال المغيرة بن شعبة ليوسف أبي الحجاج بن يوسف: تزوجها، فإنها لخليقة أن تأتي بالرجل يسود، فتزوجها، قال الشافعي: فأخبرت أن أبا الحجاج لما بنى بها واقعها فنام، فقيل له في النوم: ما أسرع ما ألقحت بالمبير.
حدث ابن حمدان عن أبيه قال: دخل الحجاج خربة فدعاني، فقال: أفرغ علي من الإداوة فأفرغت عليه، فإذا عضيدتان وجنيبان.
قال ابن عون: كنت إذا سمعت الحجاج يقرأ، عرفت أنه طالما درس القرآن.
قال أبو محمد الحناني: عملناه - يعني تجزئة القرآن في أربعة أشهر - وكان الحجاج يقرأه في كل ليلة.
قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أحداً أفصح من الحسن ومن الحجاج. فقيل: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن.
قال عتبة بن عمرو: ما رأيت عقول الناس إلا قريباً بعضها من بعض، إلا الحجاج وإياس بن معاوية، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس.
حدث عبد الله بن كثير ابن أخي إسماعيل بن جعفر المديني: أن الحجاج بن يوسف صلى مرة إلى جنب سعيد بن المسيب. قال: فجعل يرفع قبل الإمام ويضع قبله، فلما سلم الإمام أخذ سعيد بثوب الحجاج، قال: وسعيد في شيء من الذكر كان يقوله بعدما يصلي، قال: فجعل الحجاج يجاذبه عن ثوبه ليقوم فينصرف، قال: وسعيد يجذبه ليجلسه، حتى فرغ سعيد مما كان يقول من الذكر، قال: ثم جمع بين نعليه فرفعهما على الحجاج وقال: يا سارق، يا خائن، تصلي هذه الصلاة! لقد هممت أن أضرب بهما وجهك قال: ثم مضى الحجاج وكان حاجاً، ففرغ من حجه ورجع إلى الشام، ثم رجع والياً على المدينة، فلما دخلها مضى كما هو إلى المسجد قاصداً نحو مجلس سعيد بن المسيب، فقال الناس ما جاء إلا لينتقم منه، قال: فجاء فجلس بين يدي سعيد فقال له: أنت صاحب الكلمات؟ قال: فضرب سعيد صدر نفسه بيده وقال: أنا صاحبها. فقال له الحجاج: جزاك الله من معلم ومؤدب خيراً، ما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك، ثم قام فمضى.
حدث سفيان فقال: كانوا يرمون بالمنجنيق من أبي قبيس وهم يرتجزون ويقولون:
خطارة مثل الفنيق المزبد ... أرمي بها عواذ هذا المسجد
قال: فجاءت صاعقة فأحرقتهم، فامتنع الناس من الرمي فخطبهم الحجاج فقال:
ألم تعلموا أن بني إسرائيل كانوا إذا قربوا قرباناً، فجاءت نار فأكلتها علموا أنه قد تقبل منهم، وإن لم تأكلها قالوا: لم تقبل. قال: فلم يزل يخدعهم حتى عادوا فرموا.
قال عطاء بن أبي رباح: كنت مع ابن الزبير في البيت، فكان الحجاج إذا رمى ابن الزبير بحجر وقع الحجر على البيت، فسمعت للبيت أنيناً كأنين الإنسان: أوه.
روي عن معاذ بن العلاء أخي أبي عمرو بن العلاء قال: لما قتل الحجاج بن يوسف ابن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فأمر الناس فجمعوا في المسجد، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال بعقب حمد ربه: يا أهل مكة، بلغني إكثاركم واستفظاعكم قتل ابن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من أخيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها أهلها، فخلع طاعة الله واستكن بحرم الله، ولو كان شيء مانع للعصاة لمنعت آدم حرمة الجنة، لأن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته وأباحه كرامته وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم على الله أكرم من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة. اذكروا الله يذكركم.
وعن أبي الصديق الناجي: أن الحجاج بن يوسف دخل على أسماء بنت أبي بكر بعدما قتل ابنها عبد الله بن الزبير فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به وفعل. فقالت: كذبت كان براً بالوالدين، صواماً قواماً، والله لقد أخبرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول، وهو مبير.
وفي رواية أنها قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يخرج من ثقيف رجلان، مبير وكذاب، فأما الكذاب فابن أبي عبيد - يعني المختار - وأما المبير فأنت.
قال سعد بن حذافة: خطبنا الحجاج في الجمعة الثانية من مقتل ابن الزبير فقال: الحمد لله الرافع
للمتواضعين، الواضع للمتكبرين، وصلى الله على خير رسول دل على خير سبيل، أيها الناس، إن الراعي مسؤول عن رعيته، فإن أحسن فله، وإن أساء فعليه، وأنه يخيل إلي أنكم لا تعرفون حقاً من باطل، وإني أسألكم عن ثلاث خصال، فإن أجبتم عنها وإلا ضربت عليكم خمس الجزية، وكنتم لذلك مستأهلين. أسألكم عن شيء لا يستغني عنه شيء، وعن شيء لا يعرف إلا بكنيته، وعن والد لا والد له فقام إليه جبير بن حية الثقفي فقال: لولا عزمتك أيها الأمير لم أجبك. أما الشيء الذي لا يستغني عنه شيء فالاسم، لأن الله خلق الأشياء فجعل لكل شيء اسماً يدعى به ويدل عليه. وأما الشيء الذي لا يعرف إلا بكنيته فأم الحبين. وأما الولد الذي لا والد له فعيسى بن مريم. قال: من أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا جبير بن حية الثقفي. قال: الآن ضل صوابك، ما بطأ بك عني مع قرب قرابتك؟ قال: أيها الأمير، إنك لا تبقي لقومك ولا يدوم عزك، لأن الدهر دول ولا نحب أن نصيب اليوم ما يصاب منا مثله في غد. قال: فأمر له بجائزة.
روى نافع: أن ابن عمر اعتزل بمنى في قتال ابن الزبير والحجاج، فصلى مع الحجاج.
قال مكحول الأزدي: شهدت الحجاج بمكة فخطب الناس يوم جمعة، حتى كاد أن يذهب وقت الصلاة. فقام ابن عمر فقال: أيها الناس، قوموا لصلاتكم فقال الناس، فنزل الحجاج فصلى، فلما فرغ قال: من هذا؟ قال: قالوا: ابن عمر. قال: لولا أن به لمماً لعاقبته.
وفي رواية: فنزل الحجاج فصلى ثم دعا به فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنما تجيء للصلاة فإذا حضرت الصلاة فصل الصلاة لوقتها، ثم بقبق بعد ذلك ما شئت من بقبقة.
قال القعقاع بن المهلب: خطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير غير كتاب الله، فقال ابن عمر: ما له سلطه الله على ذلك ولا أنت معه، ولو شئت أن أقول: كذبت، لفعلت.
وعن عبد الله بن جعفر: أنه زوج ابنته من الحجاج بن يوسف فقال لها: إذا دخل بك فقولي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، وزعم أن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا حزبه أمر قال هذا. قال حماد: فظننت أنه قال، فلم يصل إليها.
قال محمد بن إدريس الشافعي: لما تزوج الحجاج بن يوسف ابنة عبد الله بن جعفر قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان: أتركت الحجاج يتزوج ابنة عبد الله بن جعفر؟ قال: نعم، وما بأس بذلك؟ قال: أشد البأس والله. قال: وكيف؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب ما في صدري على ابن الزبير منذ تزوجت رملة بنت الزبير، قال: فكأنه كان نائماً فأيقظه قال: فكتب إليه يعزم عليه في طلاقها فطلقها.
قال سعيد بن أبي عروبة: حج الحجاج، ونزل بعض المياه بين مكة والمدينة، ودعا بالغداء فقال لحاجبه: انظر من يتغدى معي، وأسأله عن بعض الأمر، فنظر نحو الجبل فإذا هو بأعرابي بين شملتين من شعر، نائم، فضربه برجله وقال: ائت الأمير، فأتاه. فقال له الحجاج: اغسل يدك وتغد معي، فقال: إنه دعاني من هو خير منك فأجبته، قال: ومن هو؟ قال: الله تبارك وتعالى، دعاني إلى الصوم فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم، صمت ليوم هو أشد حراً من هذا اليوم، قال: فأفطر، وتصوم غداً. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك إلي. قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه! قال: إنه طعام طيب؛ قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، ولكن طيبته العافية.
قال عبيد الله بن يزيد بن أبي مسلم الثقفي عن أبيه قال: كان الحجاج عاملاً لعبد الملك على مكة، فكتب إليه بولايته على العراق، قال: فخرج وخرجت معه في نفر ثمانية أو تسعة على النجائب، فلما كنا بماء قريب من الكوفة نزل، فاختضب وتهيأ، وذلك في يوم جمعة، ثم راح معتماً قد ألقى عذبة العمامة بين كتفيه، متقلداً سيفه حتى نزل عند دار الإمارة عند مسجد الكوفة، وقد أذن المؤذن بالأذان الأول لصلاة الجمعة، وخرج عليهم الحجاج وهم لا يعلمون، فجمع بهم، ثم صعد المنبر فجلس عليه،
فسكت وقد اشرأبوا إليه وجثوا على الركب، وتناولوا الحصى ليقذفوه بها ويخرجوه عنهم - قال: وقد كانوا حصبوا عاملاً قبله فخرج عنهم - فسكت سكتة أبهتهم بها، وأحبوا أن يسمعوا كلامه. قال: فكان بدء كلامه أن قال: يا أهل العراق، يا أهل الشقاق، ويا أهل النفاق، والله إن كان أمركم ليهمني قبل أن آتيكم، ولقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بي وأن يبتليني بكم، فأجاب دعوتي. ألا إني أسريت البارحة، فسقط مني سوطي فاتخذت هذا، - وأشار إليهم بسيف مكانه - فوالله لأجرنه فيكم جر المرأة ذيلها، ولأفعلن ولأفعلن. قال يزيد: حتى رأيت الحصى متساقطاً من بين أيديهم. قال: قوموا إلى بيعتكم. فقامت القبائل قبيلة قبيلة تبايع فيقول: من؟ فتقول: بنو فلان. حتى جاءته قبيلة قال: ومن؟ قالوا: النخع. قال: منكم كميل بن زياد؟ قالوا: نعم. قال: ما فعل؟ قالوا: أيها الأمير، شيخ كبير، قال: لا بيعة لكم عندي ولا تقربون حتى تأتوني به، قال: فأتوه به منعوشاً في سرير، حتى وضعوه إلى جانب المنبر. فقال: ألا إنه لم يبق ممن دخل على عثمان الدار غير هذا، فدعا بنطع فضرب عنقه.
قال أبو بكر الهذلي: حدثني من شهد الحجاج بن يوسف حين قدم العراق، فبدأ بالكوفة قبل البصرة، ونودي للصلاة جامعة، فأقبل الناس إلى المسجد والحجاج يتقلد قوساً عربية، وعليه عمامة خز حمراء متلثماً، فقعد وعرض القوس بين يديه، ثم لم يتكلم حتى امتلأ المسجد. فقال محمد بن عمير: فسكت حتى ظننت أنما يمنعه العي، وأخذت في يدي كفاً من حصى، أردت أن أضرب به وجهه، قال: فقام فوضع نقابه، وتقلد قوسه، وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
إني لأرى رؤوساً قد أينعت، وحان قطافها، كأني أنظر إلى الدماء بين العمائمواللحى.
ليس بعشك فادرجي
قد شمرت عن ساقها فشمري
قد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبي ... مهاجر ليس بأعرابي
إني والله ما أغمز غمز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وجريت من الغاية. فإنكم يا أهل العراق طالما أوضعتم في الضلالة، وسلكتم سبيل الغواية، أما والله لألحينكم لحي العود، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، ألا إن أمير المؤمنين نكب كنانته بين يديه، فعجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً، وأصلبها مكسراً، فوجهني إليكم، فاستقيموا ولا يميلن منكم مائل، واعلموا أني إذا قلت قولاً وفيت به. من كان من بعث المهلب فليلحق به، فإني لا أجد أحداً بعد ثالثة إلا ضربت عنقه، وإياي وهذه الزرافات، فإني لا أجد أحداً يسير في زرافة إلا سفكت دمه، واستحللت ماله. ثم نزل.
قال محمد بن صالح الثقفي وغيره: فأتاه عمير بن ضابئ بعد ثالثة معه ابنه فقال: هذا ابني، هذا أشد بني تميم يداً وبطشاً وظهراً، وأعدّهم سلاحاً، وأنا شيخ كبير، وهو خير لك مني قال: صدقت، من يشهد على تزمينك؟ فقام قوم فشهدوا أن بشراً أزمنه؛ وأخذ عطاءه، وقال: إنك لمعذور، ولكني أكره أن أطمع الناس فيّ، أنت بعد ابن ضابىء قاتل عثمان، فأنت كأبيك فأمر بقتله. وقيل: إن عنبسة بت سعيد قال: هذا ابن ضابىء الذي يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
فقال: أخروه، أما أمير المؤمنين عثمان فتغزوه بنفسك، وأما الأزارقة فتبعث بديلاً! فأمر به فقتل.
وفي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي:
أقول لعبد الله لما لقيته ... أرى الأمر أمسى هالكاً مذ تشعبا
تخيّر فإمّا أن تزور ابن ضابىء ... عميراً وإمّا أن تزور المهلّبا
فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه ... مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
هما خطّتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّاً من الثلج أشهبا
فحال، ولو كانت خراسان خلتها ... عليه مكان السوق أو هي أقربا
وفي رواية أنه قال: والله ما أقول إلا وقيت، ولا أهمّ إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت. وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه. يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم. فلم يقل أحد شيئاً. فقال الحجاج: اكفف يا غلام. ثم أقبل على الناس فقال: أسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئاً! هذا أدب ابن نهية. أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، أو لتستقيمن. اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فقرأ. فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق في المسجد أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام.
ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون، حتى أتاه شيخ يرعش كبراً فقال: أيها الأمير، إني من الضعف على ما ترى، ولي ابن هو أقوى على الأسفار مني، أفتقبله مني
بديلاً؟ فقال له الحجاج: نفعل أيها الشيخ. فلما ولى قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا. قال: هذا عمير بن ضابئ البرجمي، الذي يقول أبوه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولاً، فوطئ بطنه فكسر ضلعين من أضلاعه. فقال: ردوه، فلما رد قال الحجاج: أيها الشيخ، هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بديلاً يوم الدار! إن قتلك أيها الشيخ صلاح للمسلمين. يا حرسي اضربا عنقه.
فجعل الرجل يضيق عليه بعض أمره فيرتحل، وبأمر وليه أن يلحقه بزاده.
حدث عمران الضبعي أنه رأى في منامه كأن الحجاج بن يوسف على بغل، وكأنه على حائط كلس، وكأنه يستف التراب، قال: فقصها على غير واحد من أصحابه، فكلهم يقول خيراً حتى قصها على أبي قلابة، فقال له: هاتها ما كانت. فقال أبو قلابة: أما البغل فليس في الدواب أطول عمراً من البغل، وأما حائط كلس فليس في البناء أثبت من كلس، وأما سفه التراب فأكله أموالكم.
قال حفص بن النضر السلمي: خطب الحجاج الناس يوماً فقال: أيها الناس، الصبر عن محارم الله أشد من الصبر على عذاب الله. فقام إليه رجل فقال: يا حجاج، ويحك ما أصفق وجهك وأقل حياءك! تفعل ما تفعل، ثم تقول مثل هذا. فأمر به فأخذ، فلما نزل عن المنبر دعا به فقال له: لقد اجترأت علي. فقال له: يا حجاج، أنت تجترئ على الله قلا تنكره على نفسك، وأجترئ أنا عليك فتكثره علي! فخلى سبيله.
قال الهيثم بن عدي: دخل الأبي بن الإباء على الحجاج بن يوسف فقال: أصلح الله الأمير، موسوم بالميل، مشهور بالطاعة، خرج أخي مع ابن الأشعث فخلق على اسمي، وحرمت عطائي، وهدم منزلي، فقال: أما سمعت ما قال الشاعر:
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصحاح مبارك الجرب
ولرب مأخوذ بذنب قرينه ... ونجا المقارف صاحب الذنب
قال: أيها الأمير، سمعت الله يقول غير هذا. قال: وما قال جل ثناؤه؟ قال: " قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون ". قال: يا غلام، اردد اسمه، وابن داره، وأعطه عطاءه، ومر منادياً ينادي: صدق الله وكذب الشاعر.
قال ابن عياش: كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: أما بعد، إذا ورد عليك كتابي هذا فابعث إلي برأس أسلم بن عبد البكري، لما قد بلغني عنه. قال: فلما ورد عليه كتاب أحضره، فقال: أعز الله الأمير، أمير المؤمنين الغائب وأنت الحاضر، قال الله تعالى: " يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ". وما بلغه عني فباطل، فاكتب إليه: إني أعول أربعاً وعشرين امرأة، ما لهن بعد الله كسب غيري. فقال: ومن لنا بتصديق ذلك؟ قال: هن بالباب أصلح الله الأمير. فأمر بإحضارهن فلما دخلن عليه جعل يسائلهن، فهذه تقول: عمته، والأخرى تقول: خالته، والأخرى: زوجته، إلى أن انتهى إلى جارية فوق الثمانية ودون العشارية فقال لها: من أنت منه؟ قالت: ابنته أصلح الله الأمير، ثم جثت بين يديه وأنشأت تقول:
أحجاج لم تشهد مقام بناته ... وعماته يندبنه الليل أجمعا
أحجاج كم تقتل به إن قتلته ... ثمانً وعشراً واثنتين وأربعا
أحجاج من هذا يقوم مقامه ... علينا فمهلاً أن تزدنا تضعضعاً
أحجاج إما أن تجود بنعمة ... علينا وإما أن تقتلنا معا
قال: فما استتمت كلامها حتى أسبل الحجاج دمعه من البكاء، وقال: والله لا أعنت الدهر عليكن، فلا زدتكن تضعضعا، وكتب إلى عبد الملك بخبر الرجل والجارية، فكتب
إليه عبد الملك: إن كان كما ذكرت فأحسن له الصلة، وتفقد الجارية، وعجل بسراحهن ففعل ما أمره.
قال المدائني: أتي الحجاج بأسيرين ممن كان مع الأشعث، فأمر بضرب أعناقهما، فقال أحدهما: أصلح الله الأمير، إن لي عندك يداً. قال: ما هي؟ قال: ذكر ابن الأشعث يوماً أمك بسوء فنهيته. قال: ومن يعلم بذلك؟ قال: هذا الأسير الآخر. فسأله الحجاج فقال: قد كان ذلك. فقال له الحجاج: فلم لم تفعل كما فعل؟ قال: أينفعني الصدق عندك؟ قال: نعم. قال: لبغضك وبغض قومك. قال الحجاج: خلوا عن هذا لصدقه، وعن هذا لفعله.
قال الحجاج ليحيى بن يعمر الليثي: أتسمعني ألحن على المنبر؟ قال يحيى: الأمير أفصح الناس. - قال يونس: فصدق، كان أفصح الناس إلا أنه لم يكن يروي الشعر - قال: تسمعني ألحن؟ قال: حرفاً. قال: في أي؟ قال: في القرآن. قال: فذاك أشنع له. قال: ما هو؟ قال: تقول: " إن كان آباؤكم وأبناؤكم " الآية " أحب إليكم من الله ورسوله " بالرفع. قال: فبعث به إلى خراسان، وبها يزيد بن المهلب، فكتب يزيد إلى الحجاج: إنا لقينا العدو ففعلنا وفعلنا، واضطررناهم إلى عرعرة الجبل. فقال الحجاج: ما لابن المهلب وهذا الكلام! فقيل له: إن ابن يعمر عنده. فقال: ذلك إذاً أحرى.
وفي حديث آخر بمعناه: أن يحيى بن يعمر كان كاتب المهلب بخراسان فجعل الحجاج يقرأ كتبه فيتعجب منها، فقال: من هذا؟ فأخبر، فكتب فيه، فقدم، فرآه فصيحاً فقال: أنى ولدت؟ قال: بالأهواز. قال: فما هذه الفصاحة؟ قال: كان أبي نشأ في تنوخ، فأخذت ذلك عنه. قال: أخبرني عن عنبسة بن سعد يلحن؟ قال: كثيراً. قال: فأنا ألحن؟ قال: لحناً
خفياً، قال: أين؟ قال: تجعل إن أن، وأن إن، أو نحو ذلك. قال: لا تساكني ببلد، أخرج. وكان يحيى بن يعمر من عدوان، وعدوان من قيس.
قال عاصم بن بهدلة: اجتمعوا عند الحجاج، فذكر الحسين بن علي فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعنده يحيى بن يعمر، قال: كذبت أيها الأمير، فقال: لتأتيني على ما قلت ببينة ومصداق من كتاب الله عز وجل، وإلا قتلتك قال: " ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون " إلى قوله " وزكريا ويحيى وعيسى " فأخبره الله عز وجل إن عيسى من ذرية آدم بأمه، والحسين بن علي من ذرية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمه، قال: صدقت، فما حملك على تكذيبي في مجلسي؟ قال: ما أخذ الله على الأنبياء " لتبيننه للناس ولا تكتمونه " قال الله عز وجل " فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً " قال: فنفاه إلى خراسان.
قال الأصمعي: أخبرت أن الحجاج بن يوسف لما فرغ من أمر عبد الله بن الزبير بن العوام وصلبه، قدم المدينة فلقي شيخاً خارجاً من المدينة، فلما رآه الحجاج قال: يا شيخ من أهل المدينة أنت؟ قال: نعم. قال الحجاج: من أيهم أنت؟ قال: من بني فزارة. قال: كيف حال أهل المدينة؟ قال: شر حال. قال: ومم؟ قال: لما لحقهم من البلاء بقتل ابن حواري رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له الحجاج: من قتله؟ قال: الفجر اللعين حجاج بن يوسف، عليه لعائن الله وبهلته من قليل المراقبة لله. فقال له الحجاج: وقد استشاط غضباً: وإنك يا شيخ ممن حزنه ذلك وأسخطه؟ قال الشيخ: إني والله أسخطني ذلك، فأسخط الله الحجاج وأخزاه. فقال الحجاج: أوتعرف الحجاج إن رأيته؟ قال: أي والله إني به لعارف، فلا عرفه الله خيراً، ولا وقاه ضيراً. فكشف الحجاج لثامه وقال: هذا والله العجب،
أما والله يا حجاج لو كنت تعرفني، ما قلت هذه المقالة. أنا والله يا حجاج العباسي بن أبي ثور، أصرع في كل يوم خمس مرات. فقال الحجاج: انطلق فلا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه.
قال محمد بن إدريس الشافعي: قال الوليد بن عبد الملك للغازي بن ربيعة. إني سأدعوك وأدعو الحجاج فتتحدثان عني، فإذا قمت وخلوت به فسله عن هذه الدماء: هل يحيك في نفسه منها شيء، أو يتخوف لها عاقبة؟ قال: فتحدثا عن الوليد، ثم خرجا فألقي لهما وسادة في الجبل أو في القصر، وقام الحجاج ينظر إلى الغوطة. قال: واستحييت أن أجلس فقمت معه، فقلت: يا أبا محمد، أرأيت هذه الدماء التي أصبت، هل يحييك في نفسك منها شيء، أو تتخوف لها عاقبة؟ قال: فجمع يده فضرب بها في صدري، ثم قال: يا غاز ارتبت في أمرك، أو شككت في طاعتك! والله ما أود أن لي لبنان وسنير ذهباً مقطعاً أنفقها في سبيل الله مكان ما أبلاني الله من الطاعة.
حدث أبو المضرجي قال: أمر الحجاج محمد بن المستنير ابن أخي مسروق بن الأجدع أن يعذب أزادمرد بن الهربد، فقال له أزادمرد: يا محمد، إن لك شرفاً قديماً وإن مثلي لا يعطي على الذل شيئاً، فاستأدني وثق بي، فاستأداه في جمعة ثلاث مئة ألف، فغضب الحجاج وأمر معداً صاحب العذاب أن يعذبه، فدق يديه ورجليه، فلم يعطهم شيئاً. قال محمد: فإني لأسير بعد ثلاثة أيام، إذا أنا بأزدامرد معترضاً على بغل، قد دقت يداه ورجلاه. فقال لي: يا محمد. فكرهت أن آتيه فيبلغ الحجاج، وتذممت من تركه إذ دعاني، فدنوت منه فقلت: حاجتك؟ فقال: قد وليت مني مثل هذا وأحسنت إلي، ولي عند فلان مئة ألف درهم، فانطلق فخذها. قلت: لا والله لا آخذ منها درهماً وأنت على هذه الحال، قال: وإني أحدثك حديثاً سمعت من أهل دينك يقولون: إذا أراد الله تعالى بالعباد خيراً أمطرهم في
أوانه، واستعمل عليهم خيارهم، وجعل المال عند سمائحهم. وإذا أراد بهم شراً أمطروا في غير إبانه، واستعمل عليهم شرارهم، وجعل المال في أحشائهم، ومضى فأتيت منزلي فما وضعت ثيابي حتى جاءني رسول الحجاج، فأتيته وقد اخترط سيفه فهو في حجره فقال: ادن فدنوت قليلاً، ثم قال: ادن. فقلت: ليس لي دنو وفي حجر الأمير ما أرى، فأضحكه الله تعالى لي وأغمد السيف فقال: ما قال لك الخبيث؟ فقلت: والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذبتك منذ صدقتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني. فأخبرته بما قال: فلما أردت ذكر الرجل الذي عنده المال، صرف وجهه وقال: لا تسمه. وقال: لقد سمع عدو الله الأحاديث!
قال عوف: خرجت يوم عيد فقلت: لأسمعن الليلة خطبة الحجاج، فجئت فجلست على الدكان، وجاء الحجاج يتمايل حتى صعد المنبر فتكلم، وكان إذا أكثر وضع يده على فيه حتى يفهمنا كلامه، ثم قال: يا أهل الشام إنكم حاججتم الناس ففلجتم عليهم بالسيف، وأن حكم الدنيا والآخرة فيكم واحد، وهو عدل لا يجوز فكما فلجتم عليهم في الدنيا كذلك تفلجون عليهم في الآخرة ثم قال: من كان سائلاً عن هذا الخليفة فليسأل الله عنه، كان لا يشاقه أحد ولا ينازعه إلا أتي برأسه وهو على فراشه مع أهله وولده، فمن كان سائلاً عنه أحداً منالناس فليسأل الله عز وجل عنه. تزعمون يا أهل العراق أن خبر السماء قد انقطع عن أمير المؤمنين وكذبتم والله يا أهل العراق، والله ما انقطع خبر السماء عنه إن عنده منه كذا وعنده منه كذا.
حدث بزيغ بن خالد الضبي قال: سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله! فقلت في نفسي: لله علي ألا أصلي خلفك صلاة أبداً، وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنك معهم.
قال عاصم: سمعت الحجاج وهو على المنبر يقول: اتقوا الله ما استطعتم، ليس فيها مثوبة.
واسمعوا وأطيعوا، ليس فيها مثوبة لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دمائهم وأموالهم، والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي لله حلالاً، ويا عذيري من عبد هذيل، يزعم أن قرآنه من عند الله، والله ما هي إلا رجز من رجز الأعراب، ما أنزلها الله عز وجل على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعذيري من هذه الحمر، أيزعم أحدهم أنه يرمي بالحجر فيقول: إلا أن يقع الحجر حدث أمر، فوالله لأدعنهم كالأمس الدابر.
قال عاصم والأعمش: سمعنا الحجاج بن يوسف على المنبر يقول: عبد هذيل يعني ابن مسعود يقرأ القرآن رجزاً كرجز الأعراب، ويقول هذا القرآن. أما لو أدركته لضربت عنقه. وفي رواية: يا عجباً من عبد هذيل، يزعم أنه يقرأ قرآناً من عند الله، والله ما هو إلا رجز من رجز الأعراب، والله لو أدركت عبد هذيل لضربت عنقه.
قال عوف: سمعت الحجاج يخطب وهو يقول إن مثل عثمان عند الله، كمثل عيسى بن مريم ثم قرأ هذه الآية يقرأها ويفسرها: " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا " يشير إلينا بيده وإلى أهل الشام.
قال عتاب بن أسيد بن عتاب: لما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلت أم أيمن تبكي ولا تستريح من البكاء. فقال أبو بكر لعمر: قم بنا إلى هذه المرأة، فدخلا عليها فقالا: يا أم أيمن ما يبكيك! قد أفضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ما هو خير له من الدنيا. فقالت: ما أبكي لذلك، إني لأعلم أنه قد أفضى إلى ما هو خير من الدنيا، ولكن أبكي على الوحي انقطع. فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فقال: كذبت أم أيمن، ما أعمل إلا بوحي.
قال عوانة: خطب الحجاج الناس بالكوفة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل العراق، تزعمون أنا من بقية ثمود! وتزعمون أني ساحر! وتزعمون أن الله عز وجل علمني اسماً من أسمائه، أقهركم وأنتم أولياؤه بزعمكم! وأنا عدوه! فبيني وبينكم كتاب الله تعالى، قال عز وجل: " فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه ". فنحن بقية الصالحين إن كنا من ثمود. وقال عز وجل: " إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ". والله أعدل في حكمه أن يعلم عدواً من أعدائه اسماً من أسمائه يهزم به أولياءه. ثم حمي وكثر كلامه فتحامل على رمانة المنبر فحطمها، فجعل الناس يتلاحظون بينهم وهو ينظر إليهم فقال: يا أعداء الله، ما هذا الترامز! أنا حديا الظبي السانح، والغراب الأبقع، والكوكب ذي الذنب. ثم أمر بذلك العود فأصلح قبل أن ينزل من المنبر.
قوله: أنا حديا الظبي. أراد، إنا لثقتنا بالغلبة والإستعلاء نتحدى ارتفاع الظبي سانحاً، وهو أحمد ما يكون في سرعته ومضائه، والغراب الأبقع في تحذره وذكائه ومكره وخبثه ودهائه، وذا الذنب من الكواكب فيما تنذر به من عواقب مكروه بلائه. والله ذو البأس الشديد بالمرصاد له ولحزبه وأوليائه.
قال أبو حفص الثقفي: خطب الحجاج يوماً فأقبل عن يمينه فقال: إن الحجاج كافر، ثم أطرق فقال: إن الحجاج كافر ثم أطرق وأقبل عن يساره فقال: ألا إن الحجاج كافر. فعل ذلك مراراً ثم قال: كافر يا أهل العراق باللات والعزى.
قال أبو شوذب: ما رئي مثل الحجاج لمن أطاعه، ولا مثله لمن عصاه.
قال الأصمعي: مثل فتى بين يدي الحجاج فقال: أصلح الله الأمير، مات أبي وأنا حمل، وماتت
أمي وأنا رضيع، فكفلني الغرباء حتى ترعرعت، فوثب بعض أهلي على مالي واجتاحه، وهو هارب مني ومن عدل الأمير. فقال الحجاج: الله، مات أبوك وأنت حمل، وماتت أمك وأنت رضيع، وكفلك الغرباء، فلم يمنعك ذلك من أن فصح لسانك وأنبأت عن إرادتك. اطردوا المؤدبين عن أولادي.
قال محمد بن إدريس الشافعي: بلغني أن عبد الملك بن مروان قال للحجاج بن يوسف: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبأ منها شيئاً. قال: يا أمير المؤمنين، أنا لجوج حقود حسود. فقال عبد الملك: إذاً بينك وبين إبليس نسب. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الشيطان إذا رآني سالمني. ثم قال الشافعي: الحسد إنما يكون من لؤم العنصر وتعادي الطبائع واختلاف التركيب وفساد مزاج البنية وضعف عقد العقل، والحاسد طويل الحسرات عادم الراحات.
قال سلم بن قتيبة: عددت أربعاً وثمانين لقمة من خبز الماء، في كل لقمة رغيف، وملء كفه سمك طري، يعني على الحجاج.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فأخبره أن أهل العراق قد حصبوا أميرهم، فخرج غضبان، فصلى لنا صلاة فسها فيها حتى جعل الناس يقولون: سبحان الله، سبحان الله. فلما سلم أقبل على الناس فقال: من هاهنا من أهل الشام؟ فقام رجل، ثم قام آخر. قال الراوي: ثم قمت أنا ثالثاً أو رابعاً. فقال: يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق، فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ، اللهم إنهم قد لبسوا علي فالبس عليهم، وعجل عليهم بالغلام الثقفي، يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم.
حدث الحسن، أن علياً كان على المنبر فقال: اللهم، إني ائتمنتهم فخانوني، ونصحتهم فغشوني، اللهم، فسلط عليهم غلام ثقيف، يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية. فوصفه وهو
يقول: الزبال مفجر الأنهار، يأكل خضرتها، ويلبس فروتها. قال: فقال الحسن. هذه والله صفة الحجاج.
وفي حديث آخر قال: يقول الحسن: وما خلق الحجاج يومئذ.
حدث حبيب بن أبي ثابت قال: قال علي لرجل: لا مت حتى تدرك فتى ثقيف. قيل له: يا أمير المؤمنين، ما فتى ثقيف! قال: ليقالن له يوم القيامة: اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين أو بضعاً وعشرين سنة، لا يدع لله تعالى معصية إلا ارتكبها، حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة فكان بينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه.
قال العتبي: قال الحجاج لرجل وأراد أن ينفذه في بعض أموره: أعندك خير؟ قال: لا، ولكن عندي شر. قال: إياه أردت. وأنفذه فيه.
قال محمد بن عائشة: أراد الحجاج الخروج من البصرة إلى مكة، فخطب الناس فقال: يا أهل البصرة، إني أريد الخروج إلى مكة، وقد استخلفت عليكم محمداً ابني، أوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأنصار، فإنه أوصى في الأنصار أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، ألا وإني قد أوصيته فيكم: ألا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم، ألا وإنكم قائلون بعدي كلمة ليس يمنعكم من إظهارها إلا الخوف، ألا وإنكم قائلون: لا أحسن الله له الصحابة. وإني معجل لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة.
قال إسحاق بن يزيد: رأيت أنس بن مالك مختوماً في عنقه ختمة الحجاج، أراد أن يذله بذلك. قال محمد بن عمر: وقد فعل ذلك بغير واحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يريد أن يذلهم بذلك، وقد مضت العزة لهم بصحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال سماك بن موسى الضبي: أمر الحجاج أن توجأ عنق أنس بن مالك، وقال: أتدرون من هذا؟ هذا خادم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أتدرون لم فعلت به هذا؟ قالوا: الأمير أعلم. قال: لأنه تبنى البلاء في الفتنة الأولى. عاش الصدر في الفتنة الآخرة.
قال عوانة بن الحكم الكلبي: دخل أنس بن مالك على الحجاج بن يوسف، فلما وقف بين يديه سلم عليه فقال: إيه إيه يا أنيس، يوم لك مع علي، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصلنك كما تستأصل الشأفة، ولأدمغنك كما تدمغ الصمغة. قال أنس: إياي يعني الأمير أصلحه الله؟ قال: إياك، سك الله سمعك. قال أنس: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت أي قتلة قتلت، ولا أي ميتة مت. ثم خرج من عند الحجاج، فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك. فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضباً، وصفق عجباً، وتعاظمه ذلك من الحجاج. وكان كتاب أنس إلى عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، من أنس بن مالك. أما بعد، فإن الحجاج قال لي هجراً، وأسمعني نكراً، ولم أكن لذلك أهلاً، فخذ لي على يديه، فإني أمت بخدمتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله.
فبعث عبد الملك إلى إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، وكان مصادقاً للحجاج فقال له: دونك كتابي هذين، فخذهما واركب البريد إلى العراق، فابدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وادفع كتابه إليه، وأبلغه مني السلام، وقل له: يا أبا حمزة، قد كتبت إلى الحجاج الملعون كتاباً، إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك. وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى أنس بن مالك خادم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت من شكاتك الحجاج، وما سلطته عليك، ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها فاكتب إلي بذلك، أنزل به عقوبتي، وتحسن لك معونتي. والسلام. فلما قرأ أنس كتابه
وأخبره برسالته قال: جزى الله أمير المؤمنين عني خيراً، وعافاه وكافأه عني بالجنة، فهذا كان ظني به، والرجاء منه. فقال إسماعيل بن عبيد الله لأنس: يا أبا حمزة، إن الحجاج عامل أمير المؤمنين، وليس بك عنه غنى ولا بأهل بيتك، ولو جعل لك في جامعة ثم دفع إليك، لقدر أن يضر وينفع. فقاربه وداره. فقال أنس: أفعل إن شاء الله.
ثم خرج إسماعيل من عنده فدخل على الحجاج. فلما رآه الحجاج قال: مرحباً برجل أحبه وكنت أحب لقاءه. فقال له إسماعيل: أنا والله كنت أحب لقاءك في غير ما أتيتك به. قال: وما أتيتني به؟ قال: فارقت أمير المؤمنين وهو أشد الناس عليك غضباً، ومنك بعداً. قال: فاستوى الحجاج جالساً مرعوباً، فرمى إليه إسماعيل بالطومار، فجعل الحجاج ينظر فيه مرة ويعرق، وينظر إلى إسماعيل أخرى. فلما نفضه فال: قم بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضاه. فقال له إسماعيل: لا تعجل. قال: كيف لا أعجل، وقد أتيتني بأمره؟ وكان في الطومار إلى الحجاج بن يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد، فإنك عبد طمت به الأمور، فسموت فيها، وعدوت طورك، وجاوزت قدرك، وركبت داهية أذىً، وأردت أن تبورني، فإن سوغتكها مضيت قدماً، وإن لم أسوغكها رجعت القهقرى، فلعنك الله عبداً أخفش العينين، منقوص الجاعرتين، أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل، يا بن المستفرمة بعجم الزبيب! والله لأغمزنك غمز الليث الثعلب، والصقر الأرنب، وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا فلم تقبل له إحسانه، ولم تجاوز له إساءته، جرأة منك على الرب عز وجل، واستخفافاً منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلاً خدم عزيز بن عذرة وعيسى بن مريم، لعظمته وشرفته وأكرمته فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خدمه ثمان سنين يطلعه على سره، ويشاوره في أمره، ثم هو هذا بقية من بقايا أصحابه. فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله، وإلا أتاك
مني سهم مثكل بحتف قاض. و" لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون ".
قال الزبير بن عدي: أتينا أنس بن مالك نشكو إليه الحجاج. فقال: لا يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم. سمعت ذلك من نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الشعبي: والله لئن بقيتم لتمنون الحجاج.
وقال الشعبي: يأتي على الناس زمان يصلون فيه على الحجاج.
قال الأصمعي: قيل للحسن: إنك كنت تقول الآخر شر. وهذا عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج! فقال الحسن: لا بد للناس من متنفسات.
قال ميمون بن مهران: بعث الحجاج إلى الحسن وقد هم به، فلما دخل عليه فقام بين يديه قال: يا حجاج، كم يتلو من آدم من أب؟ قال: كثير. قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. قال: فنكس الحجاج رأسه، وخرج الحسن.
وعن أيوب بن أبي تميمة أن الحجاج بن يوسف أراد قتل الحسن بن أبي الحسن مراراً، فعصمه الله منه مرتين، وكان اختفى مرة في بيت علي بن زيد بن جدعان سنتين، ومرة في طاحنة في بيت أبي محمد البزاز، فعصمه الله من شره، حتى إذا كان يوم من أيام الصيف شديد القظة والرمدة، أرسل إليه نصف النهار فتغفله في ساعة لم يحسب أن يرسل إليه فيها، دخل عليه ستة من الحرس فأخذوه وأتعبوه إتعاباً شديداً. قال أيوب: وبلغنا ذلك، فسعيت أنا وثابت البناني وزياد النميري وسويد بن حجير الباهلي نحو القصر معنا الكفن والحنوط، لا نشك في قتله،
فجلسنا بالباب، فخرج علينا وهو يكثر مبتسماً، فلما لحظناه حمدنا الله على سلامته. قال الحسن: العجب والله لهذا العبد، دخلت عليه وهو في مثنية رقيقة متوشح بها ذات علم، في جنبذة من خلاف سقفها الثلج، فهو يقطر عليه، فوجدت القر، وسلمت عليه وفي يده القضيب فقال: أنت القائل يا حسن ما بلغني عنك؟ قال: وما الذي بلغك؟ قال: أنت القائل: اتخذوا عباد الله خولاً، وكتاب الله دغلاً، ومال الله دولاً، يأخذون من غضب الله، وينفقون في سخط الله، والحساب عند البيدر؟ والله يقول: " وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " فيكفي بها إحصاء. قال: نعم، أنا القائل ذلك. قال: ولم؟ قال: لما أخذ الله ميثاق الفقهاء في الأزمنة كلها: " لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم " الآية. قال: فنكت بالقضيب ساعة وفكر، ثم قال: يا جارية، الغالية، قال: فخرجت جارية ذات قصاص، معها مدهن من فضة. فقال: أوسعي رأس الشيخ ولحيته ففعلت، ثم قال: يا حسن، إياك والسلطان أن تذكرهم إلا بخير، فإنهم ظل الله في الأرض، من نصحهم اهتدى، ومن غشهم غوى. فقلت له: أصلحك الله، هكذا بلغني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " وقروا السلطان وأجلوهم، فإنهم عز الله في الأرض، وظله، ومن نصحهم اهتدى، ومن غشهم غوى، إذا كانوا عدولاً ". قال الحجاج: لا والله ما فيه إذا كانوا عدولاً، ولكنك زدت يا حسن، انصرف إلى أصحابك، فنعم المؤدب أنت.
وفي رواية، في حديث الحسن: أن الحجاج أرسل إليه، فأدخل عليه. فلما خرج من عنده قال: دخلت على أحيول يطرطب شعرات له، فأخرج إلي ثياباً قصيرة. قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله.
قوله: يطرطب شعرات له: أن ينفخ شفتيه في شاربه غيظاً له أو كبراً.
قال سليمان بن علي الربعي: لما كانت فتنة ابن الأشعث، إذ قاتل الحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الحوراء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائه، فدخلوا على الحسن فقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟ قال: وذكروا من فعال الحجاج. قال: فقال الحسن: أرى ألا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج! قال: وهم قوم عرب. وخرجوا مع ابن الأشعث. قال: فقتلوا جميعاً.
قال أبو التياح: شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن حين أقبل ابن الأشعث، فكان الحسن ينهى عن الخروج على الحجاج ويأمر بالكف، وكان سعيد بن أبي الحسن يحضض. ثم قال سعيد، فيما يقول: ما ظنك بأهل الشام إذا لقيناهم غداً، فقلنا: والله ما خلعنا أمير المؤمنين، ولا نريد خلعه، ولكنا نقمنا عليه استعماله الحجاج فاعزله عنا. فلما فرغ سعيد من كلامه، تكلم الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنّه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع، وأما ما ذكرت من ظنّي بأهل الشام، فإن ظني بهم أن لو جاؤوا فألقمهم الحجاج دنياه، لم يحملهم على أمر إلا ركبوه، هذا ظني بهم.
قال عمر بن عبد العزيز لعنبسة بن سعيد: أخبرني ببعض ما رأيت من عجائب الحجاج فقال: كنا جلوساً عنده ذات ليلة قال: فأتي برجل فقال: ما أخرجك في هذه الساعة؛ وقد قلت: لا آخذ فيها أحداً إلا فعلت به وفعلت؟! قال: أما والله لا أكذب الأمير، أغمي على أمي منذ ثلاث فكنت عندها، فأفاقت الساعة فقالت: يا بني، مذ كم أنت عندي فقلت لها: منذ ثلاث، قالت: أعزم عليك إلا رجعت إلى أهلك، فإنهم مغمومون بتخلفك عنهم، فكن عندهم الليلة وتعود إليّ غداً. فخرجت فأخذني الطائف. فقال: ننهاكم وتعصونا! اضربوا عنقه. ثم أتي برجل آخر فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ فقال: والله لا أكذبك، لزمني غريم لي على
بابه؛ فلما كانت الساعة أغلق بابه دوني وتركني على بابه، فجاءني طائفك وأخذني. فقال: اضربوا عنقه. ثم أتي بآخر فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ قال: كنت مع شربة أشرب، فلما سكرت خرجت فأخذني الطائف، فذهب عني السكر فزعاً. فقال: يا عنبسة، ما أراه إلا صادقاً، خليا سبيله.
فقال عمر بن عبد العزيز لعنبسة: فما قلت له شيئاً؟ فقال: لا، فقال عمر لآذنه: لا تأذن لعنبسة علينا، إلا أن تكون له حاجة.
قال ابن عائشة: أتي الوليد برجل من الخوارج فقيل له: ما تقول في أبي بكر؟ قال: خيراً قال: فما تقول في عمر؟ قال: خيراً. قال: فعثمان؟ قال: خيراً. قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: الآن جاءت المسألة، ما أقول في رجل الحجاج خطيئة من خطاياه! قال علي بن مسلم الباهلي: أتي الحجاج بن يوسف بامرأة من الخوارج، فجعل يكلمها ولا تكلمه معرضة عنه، فقال بعض الشرط: الأمير يكلمك وأنت معرضة! فقالت: إني لأستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فأمر بها فقتلت.
قال العتبي: كانت امرأة من الخوارج من الأزد يقال لها فراشة، وكانت ذات نبه في رأي الخوارج، تجهّز أصحاب البصائر منهم، وكان الحجاج تطلّبها طلباً شديداً فأعجزته، ولم يظفر بها، وكان يدعو الله أن يمكنه من فراشة أو بعض من جهّزته. فمكث ما شاء الله، ثم جيء برجل: فقيل: هذا ممن جهزته فراشة، فخرّ ساجداً ثم رفع رأسه فقال له: يا عدو الله؟ قال: أنت أولى بها يا حجاج. قال: أين فراشة؟ قال: مرت تطير منذ ثلاث. قال: أين تطير؟ قال: تطير ما بين السماء والأرض. قال: أعن تلك سألتك عليك لعنة الله! قال: عن تلك أخبرتك عليك غضب الله. قال: سألتك عن المرأة التي جهزتك وأصحابك. قال: وما تصنع بها؟ قال: دلنا عليها. قال: تصنع بها ماذا؟ قال: أضرب
عنقها. قال: ويلك يا حجاج ما أجهلك! تريد أن أدلك وأنت عدو الله على من هي ولي الله " قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين " قال: فما رأيك في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: على ذلك الفاسق لعنة الله ولعنة اللاعنين. قال: ولم لا أم لك؟ قال: إنه أخطأ خطيئة طبقت ما بين السماء والأرض. قال: وما هي؟ قال: استعماله إياك على رقاب المسلمين. فقال الحجاج: ما رأيكم فيه؟ قالوا: نرى أن نقتله قتلة لم يقتل مثلها أحد قال: ويلك يا حجاج، جلساء أخيك كانوا أحسن مجالسة من جلسائك. قال: وأي إخوتي تريد؟ قال: فرعون، حين شاور في موسى فقالوا: " أرجه وأخاه "، وأشار عليك هؤلاء بقتلي. قال: فهل حفظت القرآن؟ قال: وهل خشيت فراره فأحفظه! قال: هل جمعت القرآن؟ قال: ما كان متفرقاً فأجمعه. قال: قرأته ظاهراً؟ قال: معاذ الله، بل قرأته وأنا إليه، قال: فكيف تراك تلقى الله إن قتلتك؟ قال: ألقاه بعملي، وتلقاه بدمي. قال: إذاً أعجلك إلى النار. قال: لو علمت أن ذلك إليك، أحسنت عبادتك، وأيقنت عذابك، ولم أبغ خلافك، ومناقضتك. قال: إني قاتلك. قال: إذاً أخاصمك لآن الحكم يومئذ إلى غيرك. قال: نقمعك عن الكلام السيئ، يا حرسي اضرب عنقه، وأومأ إلى السيّاف ألا يقتله. فجعل يأتيه من بين يديه ومن خلفه ويروعه بالسيف، فلما طال ذلك عليه رشح جبينه. قال: جزعت من الموت يا عدو الله! قال: لا، يا فاسق، ولكن أبطأت علي بما لي فيه راجية. قال: يا حرسي، أعظم جرحه. فلما أحس بالسيف قال: لا إله إلا الله، والله لقد أتمها ورأسه على الأرض.
قال جعفر بن أبي المغيرة: كان حطيط صواماً قواماً، يختم في كل يوم وليلة ختمة، ويخرج من البصرة ماشياً حافياً إلى مكة في كل سنة، فوجّه الحجاج في طلبه فأخذ، فأتي به الحجاج فقال له: إيهاً، قال: قل، فإني قد عاهدت الله إن سئلت لأصدقن، ولئن ابتليت لأصبرن، ولئن عوفيت لأشكرن، ولأحمدن الله على ذلك. قال: ما تقول فيّ؟ قال: أنت عدو الله، تقتل على الظنّة. قال: فما قولك في أمير المؤمنين؟ قال: أنت شررة من شرره، وهو
أعظم جرماً منك. قال خذوا ففظعوا عليه العذاب، ففعلوا، فلم يقل حساً ولا بساً، فأتوه فأخبروه، فأتوه فأخبروه، فأمر بالقصب فشقق ثم شد عليه، وصب عليه الخلّ والملح، وجعل يستل قصبة قصبة، فلم يقل حساً ولا بساً، فأتوه فأخبروه قال: أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه. قال جعفر: فأنا رأيته حين أخرج، فأتاه صاحب له فقال: لك حاجة؟ قال: شربة من ماء، فأتاه بماء فشرب ثم ضربت عنقه. وكان ابن ثمان عشرة سنة.
قال سالم الأفطس: أتي الحجاج بسعيد بن جبير، وقد وضع رجله في الركاب فقال: لا أستوي على دابتي حتى تبوّأ مقعدك من النار. فأمر به فضربت عنقه. قال: فما برح حتى خولط. قال: قيودنا قيودنا. فأمر برجليه فقطعتا، ثم انتزعت القيود منه.
قال علي بن نديمة: ختم الدنيا بقتل سعيد بن جبير، وافتتح الآخرة بقتل ماهان.
قال قتادة: قيل لسعيد بن جبير: خرجت على الحجاج. قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر.
حدث مبشر بن بشر أن رجلاً هرب من الحجاج، فمر بساباط فيه كلب بين جبّين يقطر عليه ماؤهما. فقال: يا ليتني كنت مثل هذا الكلب، فما لبث أن مر بالكلب في عنقه حبل، فسأل عنه فقالوا: جاء كتاب الحجاج يأمر بقتل الكلاب.
قال هشام بن حسان: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً، فبلغ مئة ألف وعشرين ألفاً.
قال الهيثم بن عدي: مات الحجاج بن يوسف وفي سجنه ثمانون ألف محبوس، منهم ثلاثون ألف امرأة. ووجد في قصة رجل بال في الرحبة وخري في المسجد. فقال أعرابي:
إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ... خرينا وصلّينا بغير حساب
قال صالح بن سليمان: قال زياد بن الربيع الحارثي لأهل السجن: يموت الحجاج في مرضه هذا، في ليلة كذا وكذا. فلما كان تلك الليلة لم ينم أهل السجن فرحاً، جلسوا ينتظرون، حتى سمعوا الداعية. وذلك ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان.
قال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم وجئنا بالحجاج لغلبناهم، وما كان يصلح لدنيا ولا آخرة. لقد ولي العراق وهو أوفر ما يكون من العمارة، فأخسّ به حتى صيره إلى أربعين ألف ألف، ولقد أدي إلي في عامي هذا ثمانون ألف ألف، وإن بقيت إلى قابل رجوت أن يؤدي إلي ما أدي إلى عمر بن الخطاب، مئة ألف ألف، وعشرة آلاف ألف.
قال مخذم: جبى عمر بن الخطاب العراق مئة ألف ألف، وتسعة وكذا وكذا ألف ألف، وجباها عمر بن عبد العزيز مئة ألف وأربعة عشر ألف ألف، وجباها الحجاج ثمانية عشر ألفألف.
قال يحيى بن يحيى الغساني: قال لي عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بأبي محمد لفتناهم، فقال له رجل من آل أبي معيط: لا تقل ذلك، فوالله إن وطّأ لكم هذا الأمر الذي أصبحتم فيه غرّة فقال عمر: أتحب أن يدخلك الله مدخلك الحجاج؟ قال: إي والله، إني لأحب أن يدخلني الله مدخله ولا يدخلني مدخلك. فقال عمر: أمّنوا، اللهم أدخله مدخل الحجاج.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: بلغني أنك تستنّ بسنن الحجاج، فلا تستن بسنته، فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها، ويأخذ الزكاة من غير حقها، وكان لما سوى ذلك أضيع.
قال مالك بن دينار: كنا إذا صلينا خلف الحجاج فإنا نلتفت ما بقي علينا من الشمس؟ فيقول: إلام تلتفتون أعمى الله أبصاركم! أنا لا أسجد لشمس ولا لقمر ولا لحجر ولا لوثن.
قال الريان بن مسلم: بعث عمر بن عبد العزيز بآل أبي عقيل أهل الحجاج إلى صاحب اليمن وكتب إليه: أما بعد، فإني بعثت بآل أبي عقيل، وهم شر بيت في العرب، ففرقهم في عملك على قدر هوانهم على الله تعالى وعلينا، وعليك السلام. وإنما نفاهم، رحمه الله.
قال الأعمش: اختلفوا في الحجاج فقالوا: بمن ترضون؟ فقال بعضهم: بمجاهد. فأتوه فسألوه، فقال: تسألوني عن الشيخ الكافر؟!
قال الأجلح: اختلفت أنا وعمر بن قيس الماصر في الحجاج فقلت أنا: الحجاج كافر، وقال عمر: الحجاج مؤمن ضال. قال: فأتينا الشعبي فقلت: يا أبا عمرو، إني قلت: إن الحجاج كافر، وقال عمر: الحجاج مؤمن ضال. قال: فقال الشعبي: يا عمرو، شمرت ثيابك، وحللت إزارك، وقلت: إن الحجاج مؤمن ضال، فقال: فكيف يجتمع في رجل إيمان وضلال؟! الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله العظيم.
قال الأوزاعي: سمعت القاسم بن مخيمرة يقول: كان الحجاج ينقض عرى الإسلام.
قال عاصم بن أبي النجود: ما بقيت لله تعالى حرمة، إلا وقد انتهكها الحجاج.
قال العيزار بن جرول: خرجت مع راذان إلى الجبال يوم العيد نصلي، وستور الحجاج ترفعها الرياح فقال: هذا والله المفلس. فقلت له: تقول مثل هذا وله مثل هذا؟! فقال: هذا المفلس من دينه.
وقال طاوس: عجبت لإخواننا من أهل العراق، يسمون الحجاج مؤمناً.
قال منصور: سألنا إبراهيم النخعي عن الحجاج فقال: ألم يقل الله: " ألا لعنة الله على الظالمين ".
قال سلام بن أبي مطيع: لأنا أرجى للحجاج بن يوسف مني لعمرو بن عبيد، إن الحجاج بن يوسف إنما قتل الناس على الدنيا، وإن عمرو بن عبيد أحدث بدعة، فقتل الناس بعضهم بعضاً.
قال الزبرقان: كنت عند أبي وائل فجعلت أسب الحجاج وأذكر مساوئه، فقال: لا تسبه وما يدريك لعله قال: اللهم اغفر لي فغفر له.
قال عوف: ذكر الحجاج عند محمد بن سيرين قال: مسكين أبو محمد، إن يعذبه الله عز وجل فبذنبه، وإن يغفر له فهنيئاً، وإن يلق الله عز وجل بقلب سليم فقد أصاب الذنوب من هو خير منه. قال: فقلت لمحمد بن سيرين: وما القلب السليم؟ قال: أن تعلم أن الله عز وجل حق، وأن الساعة حق قائمة، وأن الله يبعث من في القبور.
قال رباح بن عبيدة: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فذكر الحجاج فشتمته ووقعت فيه. قال: فنهاني عمر وقال: مهلاً يا رباح، فإنه بلغني أن الرجل يظلم بالمظلمة، ولا يزال المظلوم يشتم الظالم وينتقصه، حتى يستوفي حقه، ويبقى للظالم الفضل عليه.
قال السري بن يحيى: مر الحجاج في يوم جمعة، فسمع استغاثة فقال: ما هذا؟ فقيل له: أهل السجون،
يقولون: قتلنا الحر. قال: قولوا لهم: " اخسأوا فيها ولا تكلمون " قال: فما عاش بعد ذلك، إلا أقل من جمعة حتى مات.
قال الأصمعي: ولي الحجاج العراق عشرين سنة، صار إليها في سنة خمس وسبعين، وكانت ولايته أيام عبد الملك إحدى عشرة سنة، وفي أيام الوليد تسع سنين، وبنى واسط في سنتين، وفرغ منها في السنة التي مات فيها عبد الملك سنة ست وثمانين، ومات الوليد بعد الحجاج بتسعة أشهر.
قال الصلت بن دينار: مرض الحجاج فأرجف به أهل الكوفة. فلما تماثل من علته صعد المنبر وهو يتثنى على أعواده، فقال: يا أهل الشقاق والنفاق والمراق، نفخ الشيطان في مناخركم فقلتم: مات الحجاج، مات الحجاج، فمه، والله ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت، وما رضي الله الخلود لأحد من خلقه إلا لأهونهم عليه إبليس، وقد قال العبد الصالح سليمان بن داود عليه السلام: " رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " فكان ذلك ثم اضمحل، فكأن لم يكن يأتيها الرجل، وذلكم ذلك الرجل كأني بكل حي ميت، وبكل رطب يابس، وبكل امرئ في ثياب طهوره إلى بيت حفرته، فخد له في الأرض خمسة أذرع طولاً في ذراعين عرضاً، فأكلت الأرض من لحمه، ومصت من صديده ودمه، وانقلع الحبيبان يقاسم أحدهما صاحبه من ماله، أما إن الذين يعلمون يعلمون ما أقول، والسلام.
حدث الأحوص بن حكيم العبسي عن أبيه عن جده قال: حضرت نزيع الحجاج بن يوسف، فلما حضره الموت جعل يقول: ما لي ولك يا سعيد بن جبير.
قال عمر: ما حسدت الحجاج عدو الله عن شيء حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل.
قال الأصمعي: لما حضرت الحجاج الوفاة أنشأ يقول:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا ... بأنني رجل من ساكني النار
أيحلفون على عمياء وحيهم ... ما علمهم بكثير العفو غفار
فأخبر بذلك الحسن فقال: بالله، إن نجا فبهما.
قال أحمد بن عبد الله التيمي: لما مات الحجاج بن يوسف لم يعلم بموته حتى أشرفت جارية فبكت فقالت: ألا إن مطعم الطعام، ومفلق الهام، وسيد أهل الشام قد مات. ثم أنشأت تقول:
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ... واليوم يأمننا من كان يخشانا
قال ابن طاوس: دخل رجل على أبي فقال: مات الحجاج بن يوسف. فقال له أبي: اربعوا على أنفسكم، حبس رجل عليه لسانه، وعلم ما يقول. فقال له الرجل: يا أبا عبد الرحمن، برح الخفاء، هذه نساء وافد بن سلمة قد نشرن أشعارهن، وحرقن ثيابهن، ينحن عليه. قال: أفعلوا؟ قال: نعم. قال: " فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " قال علي بن يزيد: كنت عند الحسن، فجاءه رجل فقال: مات الحجاج. فسجد الحسن.
قال ابن شوذب: لما مات الحجاج قال الحسن البصري: اللهم قد أمته فأمت عنا سننه، ثم قال: إن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام: ذكر بني إسرائيل أيام الله، وقد كانت عليكم أيام كأيام القوم.
وتوفي الحجاج لأربع وعشرين من رمضان سنة خمس وتسعين.
قال ابن شوذب: ولي الحجاج العراق وهو ابن ثلاث وثلاثين، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وقيل: ابن أربع وخمسين سنة.
قال علي بن المديني: مات الحجاج سنة خمس وتسعين، وفيها مات إبراهيم، وقبلها قتل سعيد بن جبير.
قال سماك بن حرب: قيل لي في النوم: إياك والغيبة، إياك والنميمة، إياك وأكل أموال اليتامى، إياك والصلاة خلف الحجاج، فإني أقسمت أن أقصمه، كما قصم عبادي.
قال أبو معشر: مات رجل عندنا بالمدينة، فلما وضع على مغتسله ليغسل استوى قاعداً، ثم أهوى بيده على عينيه فقال: بصر عيني، بصر عيني، بصر عيني إلى عبد الملك بن مروان، وإلى الحجاج بن يوسف يسحبان أمعاءهما في النار، ثم عاد مضطجعاً كما كان.
روى الأصمعي عن أبيه قال: رأيت الحجاج في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: قتلني بكل قتلة قتلت بها
إنساناً، ثم رأيته بعد الحول فقلت: يا أبا محمد، ما صنع الله بك؟ فقال: يا ماص بظر أمه، أما سألت عن هذا عام أول! قال أبو يوسف القاص: كنت عند الرشيد، فدخل عليه رجل فقال: رأيت الحجاج البارحة في النوم. قال: في أي زي رأيته؟ قال: قلت: في زي قبيح، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: ما أنت وذاك يا ماص بظر أمه! قال: هرون صدقت، والله أنت رأيت الحجاج حقاً، ما كان أبو محمد ليدع صرامته حياً وميتاً.
قال أشعب المدائني: رأيت الحجاج في منامي بحال سيئة، فقلت: يا أبا محمد، ما صنع بك ربك؟ قال: ما قتلت أحداً قتلة إلا قتلني بها. قلت: ثم مه؟ قال: ثم أمر بي إلى النار. قلت: ثم مه؟ قال: ثم أرجو ما يرجو أهل لا إله إلا الله. قال: فكان ابن سيرين يقول: إني لأرجو له. قال: فبلغ ذلك الحسن. قال: فقال الحسن: أم والله ليجعلن الله عز وجل رجاءه فيه. يعني: ابن سيرين.
قال أبو سليمان الداراني: كان الحسن البصري لا يجلس مجلساً إلا ذكر الحجاج، فدعا عليه، قال: فرآه في منامه فقال: أنت الحجاج؟ قال: أنا الحجاج. قال: ما فعل الله بك؟ قال: قتلت بكل قتلة قتلة، ثم عزلت مع الموحدين. قال: فأمسك الحسن بعد ذلك عن شتمه.