ابْنُ سِيْنَا أَبُو عَلِيٍّ الحُسَيْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ البَلْخِيُّ
العَلاَّمَةُ الشَّهِيْرُ، الفَيْلَسُوفُ، أَبُو عَلِيٍّ الحُسَيْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ بن عَلِيِّ بنِ سِينَا البَلْخِيُّ، ثُمَّ البُخَارِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ فِي الطِّبِّ وَالفَلْسَفَةِ وَالمنطِقِ.
كَانَ أَبُوْهُ كَاتِباً مِنْ دُعَاة الإِسْمَاعِيْلِيَّة، فَقَالَ:
كَانَ أَبِي تولَّى التَّصرُّف بقريَةٍ كَبِيْرَةٍ، ثُمَّ نزل بُخَارَى، فَقَرَأْت القُرْآنَ وَكَثِيْراً مِنَ الأَدب وَلِي عشرٌ، وَكَانَ أَبِي مِمَّنْ آخَى دَاعِي المِصْرِيّين، وَيُعَدُّ مِنَ الإِسْمَاعِيْلِيَّة.
ثُمَّ ذكرَ مبَادئَ اشتغَالِهِ، وَقُوَّةَ فَهْمِهِ، وَأَنَّهُ أَحكم المَنْطِقَ وَكِتَاب إِقليدس إِلَى أَنْ قَالَ:
وَرغبتُ فِي الطِّبِّ، وَبَرَّزْتُ فِيْهِ، وَقرؤُوا عليَّ، وأَنَا
مَعَ ذَلِكَ أَختلِفُ إِلَى الفِقْه، وَأُنَاظِرُ وَلِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً.ثُمَّ قَرَأْتُ جَمِيعَ أَجزَاءِ الفَلْسَفَةِ، وَكُنْتُ كلَمَّا أَتَحَيَّرُ فِي مَسْأَلَةٍ، أَوْ لَمْ أَظْفَرَ بِالحدِّ الأَوسطِ فِي قيَاسٍ، ترددتُ إِلَى الجَامع، وَصَلَّيْتُ، وَابتهَلْتُ إِلَى مبدعِ الكُلِّ حَتَّى فُتِحَ لِي المُنغلِقُ مِنْهُ، وَكُنْتُ أَسهَرُ، فمهمَا غَلبَنِي النَّومُ، شربْتُ قَدَحاً.
إِلَى أَنْ قَالَ: حَتَّى اسْتحكم مَعِي جَمِيْعُ الْعُلُوم، وَقَرَأْتُ كِتَاب (مَا بَعْد الطّبيعَة) ، فَأَشكل عليَّ حَتَّى أَعدتُ قرَاءتَه أَرْبَعِيْنَ مرَّةً، فَحَفِظتُهُ وَلاَ أَفهمُه، فَأَيسْتُ.
ثُمَّ وَقَعَ لِي مُجَلَّدٌ لأَبِي نَصْرٍ الفَارَابِيّ فِي أَغرَاض كِتَاب (مَا بَعْد الحِكْمَة الطّبيعيَّة ) ، ففتحَ عليّ أَغرَاض الكُتُب، فَفَرحتُ، وَتَصَدَّقْتُ بِشَيْءٍ كَثِيْر.
واتَّفَقَ لسُلْطَان بُخَارَى نوح مرضٌ صعبٌ، فَأُحْضِرتُ مَعَ الأَطباء، وَشَاركتُهُم فِي مُدَاواتِه، فسأَلتُ إِذْناً فِي نظرِ خزَانَةِ كُتُبِه، فَدَخَلتُ فَإِذَا كُتُبٌ لاَ تُحصَى فِي كُلِّ فَنّ، فَظفرتُ بفَوائِدَ ... إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا بلغتُ ثَمَانِيَةَ عشرَ عَاماً، فَرَغْتُ مِنْ هَذِهِ العُلُوم كُلِّهَا، وَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ للعلمِ أَحفَظُ، وَلَكِنَّهُ مَعِي اليَوْمَ أَنضَجُ، وَإِلاَّ فَالعِلْمُ وَاحِدٌ لَمْ يتجدَّد لِي شَيْءٌ، وَصنَّفْتُ (الْمَجْمُوع) ، فَأَتيتُ فِيْهِ عَلَى علومٍ، وَسأَلنِي جَارُنَا أَبُو بَكْرٍ البَرْقِيّ وَكَانَ مَائِلاً إِلَى الفِقْهِ وَالتَّفْسِيْرِ وَالزُّهْد، فصنَّفْتُ لَهُ (الحَاصل وَالمَحْصُوْل) فِي عِشْرِيْنَ مُجلَّدَة، ثُمَّ تقلَّدتُ شَيْئاً مِنْ أَعمَال السُّلْطَان، وَكُنْتُ بزِيِّ الفُقَهَاء إِذْ ذَاكَ؛ بطَيْلَسَانٍ مُحَنَّك، ثُمَّ انتقلْتُ إِلَى نَسَا، ثُمَّ أَباورد وَطُوس
وَجَاجرم، ثُمَّ إِلَى جُرْجَان.قُلْتُ: وَصَنَّفَ الرَّئِيْسُ بِأَرْضِ الجبلِ كُتُباً كَثِيْرَةً، مِنْهَا (الإِنصَاف) ؛عِشْرُوْنَ مُجَلَّداً، (البِرّ وَالإِثم) ؛مُجَلَّدَان، (الشِّفَاء) ، ثَمَانِيَة عَشْرَة مُجَلَّداً، (القَانُوْنَ) ؛مُجَلَّدَات.
(الإِرصَاد) ، مُجَلَّد، (النَّجَاة) ثَلاَث مُجَلَّدَات، (الإِشَارَات) مُجَلَّد، (الْقُولنْج) مُجَلَّد، (اللُّغَة) عشر مُجَلَّدَات، (أَدويَة القَلْب) مُجَلَّد، (الْمُوجز) مُجَلَّد، (المعَاد) مُجَلَّد، وَأَشْيَاء كَثِيْرَة وَرسَائِل.
ثُمَّ نَزَلَ الرَّيَّ وَخدم مجدَ الدَّوْلَة وَأُمَّه، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى قَزْوين وَهَمَذَان، فوزَر بِهَا، ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِ الأُمَرَاءُ، وَنهبُوا دَارَهُ، وَأَرَادُوا قتلَه، فَاخْتَفَى، فَعَاود مُتَوَلِّيهَا شمسَ الدَّوْلَةِ القُولَنْجُ، فَطَلبَ الرَّئِيْس، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَعَالجه، فَبرَأَ وَاسْتوزرَهُ ثَانياً، وَكَانُوا يشتغِلُوْنَ عَلَيْهِ، فَإِذَا فرغُوا، حضَر المُغَنُّوْنَ، وَهُيِّئَ مَجْلِسُ الشَّرَاب.
ثُمَّ مَاتَ الأَمِيْرُ، فَاخْتَفَى أَبُو عَلِيٍّ عِنْد شخصٍ، فَكَانَ يُؤلِّفُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسِيْنَ وَرقَةً، ثُمَّ أُخِذَ، وَسُجِنَ أَرْبَعَةَ أَشهر، ثُمَّ تسحَّب إِلَى أَصْبَهَانَ مُتَنَكِّراً فِي زِيِّ الصَّوَفَة هُوَ وَأَخُوْهُ وَخَادِمُه وَغُلاَمَان.
وَقَاسُوا شدَائِدَ، فَبالغ صَاحِبُ أَصْبَهَان علاَءُ الدَّوْلَةِ فِي إِكرَامِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ خَادِمُهُ: وَكَانَ الشَّيْخُ قويَّ القُوَى كُلِّهَا، يُسْرِفُ فِي الجِمَاع، فَأَثَّر فِي مِزَاجه، وَأخذه القُولَنْجُ حَتَّى حقن نَفْسَهُ فِي يَوْم ثَمَان مَرَّات، فتقرَّحَ مِعَاهُ، وَظهر بِهِ سَحْجٌ، ثُمَّ حصل لَهُ الصَّرعُ الَّذِي يتبع علَّةَ القُولَنْج، فَأَمر يَوْماً بدَانِقَين مِنْ بِزْرِ الكَرَفْسِ فِي الحُقْنَة، فَوَضَع طبيبُه عمداً أَوْ خطأً زنَةَ خَمْسَةِ دَرَاهِم، فَازدَاد السَّحْجُ، وَتنَاول مثروذيطوس لأَجل الصَّرعِ، فكثَّرهُ غُلاَمُه، وَزَادَهُ أَفيون، وَكَانوا قَدْ خَانوهُ فِي مَالٍ كَثِيْر، فتمنَّوا هلاَكَهُ، ثُمَّ تصلَّح، لَكِنَّهُ مَعَ حَاله يُكْثِرُ الجمَاع، فينتكِسُ، وَقصد علاَءُ الدَّوْلَة هَمَذَانَ، فَسَارَ مَعَهُ الشَّيْخُ، فَعَاودته العِلَّةُ فِي الطَّرِيْق، وَسقطت قوتُه فَأَهمل الْعِلَاج، وَقَالَ:مَا كَانَ يُدَبِّر بدنِي عَجَزَ، فَلاَ تنفعُنِي المعَالجَة.
وَمَاتَ: بِهَمَذَانَ بَعْد أَيَّام وَلَهُ ثَلاَثٌ وَخمسُوْنَ سَنَة.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَان :ثُمَّ اغتسلَ وَتَابَ، وَتصدَّق بِمَا مَعَهُ عَلَى الفُقَرَاء، وَردَّ المَظَالِمَ، وَأَعتقَ مماليكَه، وَجَعَلَ يَخْتِمُ القُرْآنَ فِي كُلِّ ثَلاَثٍ، ثُمَّ مَاتَ يَوْم الجُمُعَة فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
قَالَ: وَمَوْلِدُهُ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
قُلْتُ: إِن صَحَّ مولدُه، فَمَا عَاشَ إِلاَّ ثَمَانِياً وَأَرْبَعِيْنَ سَنَةً وَأَشهراً، وَدُفن عِنْد سُور هَمَذَان.
وَقيل: نُقِلَ تَابوتُه إِلَى أَصْبَهَانَ.
وَمن وَصيَّة ابْنِ سينَا لأَبِي سَعِيْدٍ، فضلِ الله المِيْهَنِي: ليكنِ اللهُ - تَعَالَى - أَوّلَ فكرٍ لَهُ وآخِرَه، وَبَاطِنُ كُلِّ اعتبَارٍ وَظَاهِرَهُ، وَلتكن عينُه مكحولَةً بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَقَدَمُه موقُوفَةً عَلَى المُثُول بَيْنَ يَدَيْهِ، مُسَافراً بعقلهِ فِي المَلَكُوتِ الأَعْلَى وَمَا فِيْهِ مِنْ آيَات رَبِّه الكُبْرَى، وَإِذَا انْحَطَّ إِلَى قرَاره، فليُنَزِّه اللهَ فِي آثَاره، فَإِنَّهُ باطنٌ ظَاهِرٌ تجلَّى لِكُلِّ شَيْءٍ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَتَذَكَّرَ نَفْسَهُ، وَودَعَهَا، وَكَانَ مَعَهَا كَأنْ لَيْسَ مَعَهَا، فَأَفضلُ الحَرَكَاتِ الصَّلاَةُ، وَأَمثلُ السّكنَاتِ الصِّيَامُ، وَأَنفعُ البِرِّ الصَّدَقَةُ، وَأَزكَى السِّرِّ الاحْتِمَالُ، وَأَبطُل السَّعْي الرِّياءُ، وَلَنْ تخلُصَ النَّفسُ عَنِ الدوْنِ مَا التفتَتْ إِلَى قِيْلٍ وَقَالٍ وَجدَالٍ، وَخيرُ العَمَلِ مَا صَدَرَ عَنْ خَالصِ نِيَّة، وَخَيْرُ النِّيَّة مَا انفرجَ عَنْ علمٍ، وَمَعْرِفَةُ الله أَوّلُ الأَوَائِل، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّب.إِلَى أَنْ قَالَ: وَالمشروبُ فيُهجَرُ تَلَهِّياً لاَ تَشَفِّياً، وَلاَ يقصِّرُ فِي الأَوضَاع الشَّرعيَة، وَيُعظِّمُ السُّنَن الإِلهيَة.
قد سقتُ فِي (تَاريخ الإِسْلاَم) أَشْيَاءَ اختصرتُهَا، وَهُوَ رَأْسُ الفَلاَسِفَة الإِسلاَمِيَة، لَمْ يَأْت بَعْد الفَارَابِي مثلُه، فَالحَمْدُ للهِ عَلَى الإِسْلاَم وَالسُّنَّة.
وَلَهُ كِتَاب (الشِّفَاء) ، وَغَيْرُهُ، وَأَشْيَاءُ لاَ تُحْتَمل، وَقَدْ كَفَّرَهُ الغزَالِيُّ فِي كِتَاب (المُنْقِذ مِنَ الضَّلاَل ) ، وَكفَّر الفَارَابِيّ.
وَقَالَ الرَّئِيْسُ: قَدْ صَحَّ عِنْدِي بِالتَّواتُر مَا كَانَ بجوزجَان فِي زَمَانِنَا مِنْ أَمرِ حَدِيْدٍ - لَعَلَّهُ زنَةُ مائَة خَمْسِيْنَ مَنّاً - نزلَ مِنَ الهوَاءِ، فَنشَبَ فِي الأَرْض، ثُمَّ نَبا نَبْوَة الكُرَة، ثُمَّ عَادَ فَنشَبَ فِي الأَرْضِ، وَسُمِعَ لَهُ صَوْتٌ عَظِيْمٌ هَائِلٌ، فَلَمَّا تَفَقَّدُوا أَمره، ظَفِرُوا بِهِ، وَحُمِلَ إِلَى وَالِي جوزجَان، فَحَاولُوا كَسْرَ قِطْعَةٍ مِنْهُ، فَمَا عَمِلَتْ فِيْهِ الآلاَتُ إِلاَّ بِجَهْدٍ، فرَامُوا عَمل سَيْفٍ مِنْهُ،
فَتَعَذَّرَ. نَقله فِي (الشِّفَاء) .
العَلاَّمَةُ الشَّهِيْرُ، الفَيْلَسُوفُ، أَبُو عَلِيٍّ الحُسَيْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ بن عَلِيِّ بنِ سِينَا البَلْخِيُّ، ثُمَّ البُخَارِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ فِي الطِّبِّ وَالفَلْسَفَةِ وَالمنطِقِ.
كَانَ أَبُوْهُ كَاتِباً مِنْ دُعَاة الإِسْمَاعِيْلِيَّة، فَقَالَ:
كَانَ أَبِي تولَّى التَّصرُّف بقريَةٍ كَبِيْرَةٍ، ثُمَّ نزل بُخَارَى، فَقَرَأْت القُرْآنَ وَكَثِيْراً مِنَ الأَدب وَلِي عشرٌ، وَكَانَ أَبِي مِمَّنْ آخَى دَاعِي المِصْرِيّين، وَيُعَدُّ مِنَ الإِسْمَاعِيْلِيَّة.
ثُمَّ ذكرَ مبَادئَ اشتغَالِهِ، وَقُوَّةَ فَهْمِهِ، وَأَنَّهُ أَحكم المَنْطِقَ وَكِتَاب إِقليدس إِلَى أَنْ قَالَ:
وَرغبتُ فِي الطِّبِّ، وَبَرَّزْتُ فِيْهِ، وَقرؤُوا عليَّ، وأَنَا
مَعَ ذَلِكَ أَختلِفُ إِلَى الفِقْه، وَأُنَاظِرُ وَلِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً.ثُمَّ قَرَأْتُ جَمِيعَ أَجزَاءِ الفَلْسَفَةِ، وَكُنْتُ كلَمَّا أَتَحَيَّرُ فِي مَسْأَلَةٍ، أَوْ لَمْ أَظْفَرَ بِالحدِّ الأَوسطِ فِي قيَاسٍ، ترددتُ إِلَى الجَامع، وَصَلَّيْتُ، وَابتهَلْتُ إِلَى مبدعِ الكُلِّ حَتَّى فُتِحَ لِي المُنغلِقُ مِنْهُ، وَكُنْتُ أَسهَرُ، فمهمَا غَلبَنِي النَّومُ، شربْتُ قَدَحاً.
إِلَى أَنْ قَالَ: حَتَّى اسْتحكم مَعِي جَمِيْعُ الْعُلُوم، وَقَرَأْتُ كِتَاب (مَا بَعْد الطّبيعَة) ، فَأَشكل عليَّ حَتَّى أَعدتُ قرَاءتَه أَرْبَعِيْنَ مرَّةً، فَحَفِظتُهُ وَلاَ أَفهمُه، فَأَيسْتُ.
ثُمَّ وَقَعَ لِي مُجَلَّدٌ لأَبِي نَصْرٍ الفَارَابِيّ فِي أَغرَاض كِتَاب (مَا بَعْد الحِكْمَة الطّبيعيَّة ) ، ففتحَ عليّ أَغرَاض الكُتُب، فَفَرحتُ، وَتَصَدَّقْتُ بِشَيْءٍ كَثِيْر.
واتَّفَقَ لسُلْطَان بُخَارَى نوح مرضٌ صعبٌ، فَأُحْضِرتُ مَعَ الأَطباء، وَشَاركتُهُم فِي مُدَاواتِه، فسأَلتُ إِذْناً فِي نظرِ خزَانَةِ كُتُبِه، فَدَخَلتُ فَإِذَا كُتُبٌ لاَ تُحصَى فِي كُلِّ فَنّ، فَظفرتُ بفَوائِدَ ... إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا بلغتُ ثَمَانِيَةَ عشرَ عَاماً، فَرَغْتُ مِنْ هَذِهِ العُلُوم كُلِّهَا، وَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ للعلمِ أَحفَظُ، وَلَكِنَّهُ مَعِي اليَوْمَ أَنضَجُ، وَإِلاَّ فَالعِلْمُ وَاحِدٌ لَمْ يتجدَّد لِي شَيْءٌ، وَصنَّفْتُ (الْمَجْمُوع) ، فَأَتيتُ فِيْهِ عَلَى علومٍ، وَسأَلنِي جَارُنَا أَبُو بَكْرٍ البَرْقِيّ وَكَانَ مَائِلاً إِلَى الفِقْهِ وَالتَّفْسِيْرِ وَالزُّهْد، فصنَّفْتُ لَهُ (الحَاصل وَالمَحْصُوْل) فِي عِشْرِيْنَ مُجلَّدَة، ثُمَّ تقلَّدتُ شَيْئاً مِنْ أَعمَال السُّلْطَان، وَكُنْتُ بزِيِّ الفُقَهَاء إِذْ ذَاكَ؛ بطَيْلَسَانٍ مُحَنَّك، ثُمَّ انتقلْتُ إِلَى نَسَا، ثُمَّ أَباورد وَطُوس
وَجَاجرم، ثُمَّ إِلَى جُرْجَان.قُلْتُ: وَصَنَّفَ الرَّئِيْسُ بِأَرْضِ الجبلِ كُتُباً كَثِيْرَةً، مِنْهَا (الإِنصَاف) ؛عِشْرُوْنَ مُجَلَّداً، (البِرّ وَالإِثم) ؛مُجَلَّدَان، (الشِّفَاء) ، ثَمَانِيَة عَشْرَة مُجَلَّداً، (القَانُوْنَ) ؛مُجَلَّدَات.
(الإِرصَاد) ، مُجَلَّد، (النَّجَاة) ثَلاَث مُجَلَّدَات، (الإِشَارَات) مُجَلَّد، (الْقُولنْج) مُجَلَّد، (اللُّغَة) عشر مُجَلَّدَات، (أَدويَة القَلْب) مُجَلَّد، (الْمُوجز) مُجَلَّد، (المعَاد) مُجَلَّد، وَأَشْيَاء كَثِيْرَة وَرسَائِل.
ثُمَّ نَزَلَ الرَّيَّ وَخدم مجدَ الدَّوْلَة وَأُمَّه، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى قَزْوين وَهَمَذَان، فوزَر بِهَا، ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِ الأُمَرَاءُ، وَنهبُوا دَارَهُ، وَأَرَادُوا قتلَه، فَاخْتَفَى، فَعَاود مُتَوَلِّيهَا شمسَ الدَّوْلَةِ القُولَنْجُ، فَطَلبَ الرَّئِيْس، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَعَالجه، فَبرَأَ وَاسْتوزرَهُ ثَانياً، وَكَانُوا يشتغِلُوْنَ عَلَيْهِ، فَإِذَا فرغُوا، حضَر المُغَنُّوْنَ، وَهُيِّئَ مَجْلِسُ الشَّرَاب.
ثُمَّ مَاتَ الأَمِيْرُ، فَاخْتَفَى أَبُو عَلِيٍّ عِنْد شخصٍ، فَكَانَ يُؤلِّفُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسِيْنَ وَرقَةً، ثُمَّ أُخِذَ، وَسُجِنَ أَرْبَعَةَ أَشهر، ثُمَّ تسحَّب إِلَى أَصْبَهَانَ مُتَنَكِّراً فِي زِيِّ الصَّوَفَة هُوَ وَأَخُوْهُ وَخَادِمُه وَغُلاَمَان.
وَقَاسُوا شدَائِدَ، فَبالغ صَاحِبُ أَصْبَهَان علاَءُ الدَّوْلَةِ فِي إِكرَامِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ خَادِمُهُ: وَكَانَ الشَّيْخُ قويَّ القُوَى كُلِّهَا، يُسْرِفُ فِي الجِمَاع، فَأَثَّر فِي مِزَاجه، وَأخذه القُولَنْجُ حَتَّى حقن نَفْسَهُ فِي يَوْم ثَمَان مَرَّات، فتقرَّحَ مِعَاهُ، وَظهر بِهِ سَحْجٌ، ثُمَّ حصل لَهُ الصَّرعُ الَّذِي يتبع علَّةَ القُولَنْج، فَأَمر يَوْماً بدَانِقَين مِنْ بِزْرِ الكَرَفْسِ فِي الحُقْنَة، فَوَضَع طبيبُه عمداً أَوْ خطأً زنَةَ خَمْسَةِ دَرَاهِم، فَازدَاد السَّحْجُ، وَتنَاول مثروذيطوس لأَجل الصَّرعِ، فكثَّرهُ غُلاَمُه، وَزَادَهُ أَفيون، وَكَانوا قَدْ خَانوهُ فِي مَالٍ كَثِيْر، فتمنَّوا هلاَكَهُ، ثُمَّ تصلَّح، لَكِنَّهُ مَعَ حَاله يُكْثِرُ الجمَاع، فينتكِسُ، وَقصد علاَءُ الدَّوْلَة هَمَذَانَ، فَسَارَ مَعَهُ الشَّيْخُ، فَعَاودته العِلَّةُ فِي الطَّرِيْق، وَسقطت قوتُه فَأَهمل الْعِلَاج، وَقَالَ:مَا كَانَ يُدَبِّر بدنِي عَجَزَ، فَلاَ تنفعُنِي المعَالجَة.
وَمَاتَ: بِهَمَذَانَ بَعْد أَيَّام وَلَهُ ثَلاَثٌ وَخمسُوْنَ سَنَة.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَان :ثُمَّ اغتسلَ وَتَابَ، وَتصدَّق بِمَا مَعَهُ عَلَى الفُقَرَاء، وَردَّ المَظَالِمَ، وَأَعتقَ مماليكَه، وَجَعَلَ يَخْتِمُ القُرْآنَ فِي كُلِّ ثَلاَثٍ، ثُمَّ مَاتَ يَوْم الجُمُعَة فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
قَالَ: وَمَوْلِدُهُ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
قُلْتُ: إِن صَحَّ مولدُه، فَمَا عَاشَ إِلاَّ ثَمَانِياً وَأَرْبَعِيْنَ سَنَةً وَأَشهراً، وَدُفن عِنْد سُور هَمَذَان.
وَقيل: نُقِلَ تَابوتُه إِلَى أَصْبَهَانَ.
وَمن وَصيَّة ابْنِ سينَا لأَبِي سَعِيْدٍ، فضلِ الله المِيْهَنِي: ليكنِ اللهُ - تَعَالَى - أَوّلَ فكرٍ لَهُ وآخِرَه، وَبَاطِنُ كُلِّ اعتبَارٍ وَظَاهِرَهُ، وَلتكن عينُه مكحولَةً بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَقَدَمُه موقُوفَةً عَلَى المُثُول بَيْنَ يَدَيْهِ، مُسَافراً بعقلهِ فِي المَلَكُوتِ الأَعْلَى وَمَا فِيْهِ مِنْ آيَات رَبِّه الكُبْرَى، وَإِذَا انْحَطَّ إِلَى قرَاره، فليُنَزِّه اللهَ فِي آثَاره، فَإِنَّهُ باطنٌ ظَاهِرٌ تجلَّى لِكُلِّ شَيْءٍ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَتَذَكَّرَ نَفْسَهُ، وَودَعَهَا، وَكَانَ مَعَهَا كَأنْ لَيْسَ مَعَهَا، فَأَفضلُ الحَرَكَاتِ الصَّلاَةُ، وَأَمثلُ السّكنَاتِ الصِّيَامُ، وَأَنفعُ البِرِّ الصَّدَقَةُ، وَأَزكَى السِّرِّ الاحْتِمَالُ، وَأَبطُل السَّعْي الرِّياءُ، وَلَنْ تخلُصَ النَّفسُ عَنِ الدوْنِ مَا التفتَتْ إِلَى قِيْلٍ وَقَالٍ وَجدَالٍ، وَخيرُ العَمَلِ مَا صَدَرَ عَنْ خَالصِ نِيَّة، وَخَيْرُ النِّيَّة مَا انفرجَ عَنْ علمٍ، وَمَعْرِفَةُ الله أَوّلُ الأَوَائِل، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّب.إِلَى أَنْ قَالَ: وَالمشروبُ فيُهجَرُ تَلَهِّياً لاَ تَشَفِّياً، وَلاَ يقصِّرُ فِي الأَوضَاع الشَّرعيَة، وَيُعظِّمُ السُّنَن الإِلهيَة.
قد سقتُ فِي (تَاريخ الإِسْلاَم) أَشْيَاءَ اختصرتُهَا، وَهُوَ رَأْسُ الفَلاَسِفَة الإِسلاَمِيَة، لَمْ يَأْت بَعْد الفَارَابِي مثلُه، فَالحَمْدُ للهِ عَلَى الإِسْلاَم وَالسُّنَّة.
وَلَهُ كِتَاب (الشِّفَاء) ، وَغَيْرُهُ، وَأَشْيَاءُ لاَ تُحْتَمل، وَقَدْ كَفَّرَهُ الغزَالِيُّ فِي كِتَاب (المُنْقِذ مِنَ الضَّلاَل ) ، وَكفَّر الفَارَابِيّ.
وَقَالَ الرَّئِيْسُ: قَدْ صَحَّ عِنْدِي بِالتَّواتُر مَا كَانَ بجوزجَان فِي زَمَانِنَا مِنْ أَمرِ حَدِيْدٍ - لَعَلَّهُ زنَةُ مائَة خَمْسِيْنَ مَنّاً - نزلَ مِنَ الهوَاءِ، فَنشَبَ فِي الأَرْض، ثُمَّ نَبا نَبْوَة الكُرَة، ثُمَّ عَادَ فَنشَبَ فِي الأَرْضِ، وَسُمِعَ لَهُ صَوْتٌ عَظِيْمٌ هَائِلٌ، فَلَمَّا تَفَقَّدُوا أَمره، ظَفِرُوا بِهِ، وَحُمِلَ إِلَى وَالِي جوزجَان، فَحَاولُوا كَسْرَ قِطْعَةٍ مِنْهُ، فَمَا عَمِلَتْ فِيْهِ الآلاَتُ إِلاَّ بِجَهْدٍ، فرَامُوا عَمل سَيْفٍ مِنْهُ،
فَتَعَذَّرَ. نَقله فِي (الشِّفَاء) .