إبراهيم بن سعد الحسنيّ الزّاهد
بغدادي اجتاز بدمشق أو بساحلها.
قال أبو الحارث الأولاسي: خرجت من الحصن أريد البحر، فقال لي بعض إخواننا: لا تبرح، فإني قد هيأت لك عجّة حتى تتغدّى، فجلست وأكلت معه، ونزلت إلى السّاحل، فإذا إبراهيم بن سعد العلويّ قائم يصلّي، فقلت في نفسي: يريد أن يقول لي: امش بنا على الماء، ولئن قال لأمشينّ معه؛ فما استتم ذلك الخاطر حتى سلّم من صلاته، وقال لي: يا أبا الحارث، هيه، عزمت، بسم الله، امش على ما خطر في نفسك، فقلت: بسم الله؛ فمشى على الماء، وذهبت لأمشي خلفه فغاصت رجلي في الماء، فالتفت إليّ وقال: يا أبا الحارث، أخذت العجّة برجلك، فذهب وتركني.
وقال أبو الحارث الأولاسي: خرجت من مكة في غير أيام الموسم أريد الشّام، فإذا أنا بثلاثة نفر على جبل، فإذا هم يتذاكرون الدّنيا، فلّما فرغوا أخذوا يعاهدون الله أن لا يمسّوا ذهباً ولا فضّة، فقلت: وأنا أيضاً معكم، فقالوا: إن شئت، ثم قاموا، فقال أحدهم: أمّا أنا فصائر إلى بلد كذا وكذا، وقال الآخر: أمّ أنا فصائر إلى بلد كذا وكذا، وبقيت أنا وآخر، فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريد الشام، فقال: وأنا أريد الشام؛ فكان إبراهيم بن سعد العلويّ، فوّدّع بعضاً وافترقنا، فمكثت حيناً أنتظر أن يأتيني كفايتي، فما شعرت يوماً وأنا بالأولاس، فخرجت أريد البحر، فصرت بين الأشجار، إلاّ برجل صافّ قدميه يصلّي؛ فاضطرب قلبي لمّا رأيته، وعلاني له هيبة، فلّما حسّ بي سلّم والتفت إليّ، فإذا هو إبراهيم بن سعد، فعرفته بعد ساعة، فقال لي: هاه،
فوبّخني، وقال: اذهب فغيّب عني شخصك ثلاثة أيّام ولا تطعم شيئاً ثم ائتني، فعلت ذلك، فجئته بعد ثلاثة وهو قائم يصلّي، فلّما حسّ بي وجز في صلاته ثم أخذ بيدي فأوقفني على البحر وحرّك شفتيه، فقلت في نفسي: يريد أن يمشي بي على الماء، ولئن فعل لأمشينّ، فما لبثت إلاّ يسيراً، فإذا أنا برفّ من الحيتان مدّ البصر قد أقبلت إلينا رافعةً رؤوسها فاتحةً أفواهها، فلّما رأيته قلت في نفسي: أين أبو بشر الصيّاد إنسان كان بالأولاس هذه السّاعة؟ فإذا الحيتان قد تفرّقت كأنما طرح في وسطها حجر، فالتفت إليّ وقال: فعلتها! فقلت: إنّما قلت كذا وكذا، فقال لي: مرّ، لست مطلوباً بهذا الأمر، ولكن عليك بهذه الرّمال والجبال، فوار شخصك ما أمكنك، وتقلل من الدّنيا حتى يأتيك أمر الله فإني أراك بهذا مطالباً، ثم غاب عنّي، فلم أره حتى مات؛ وكانت كتبه تصل إليّ.
فلّما مات كنت قاعداً يوماً فتحرّك قلبي للخروج من باب البحر، ولم يكن لي حاجة، فقلت: لا أكره القلب فيعمى، فخرجت، فلّما صرت في المسجد الذي على الباب إذا أنا بأسود، قام إليّ فقال: أنت أبو الحارث؟ فقلت: نعم، فقال: آجرك الله في أخيك إبراهيم بن سعد، وكان اسمه ناصح، مولى لإبراهيم بن سعد، فذكر أن إبراهيم أوصاه أن يوصل إليّ هذه الرّسالة، فإذا فيها مكتوب:
بسم الله الرّحمن الرّحيم، يا أخي إذا نزل بك أمر من أمر فقر أو سقم أو أذىً فاستعن بالله واستعمل عن الله الرّضى، فإنّ الله مطلع عليك، يعلم ضميرك، وما أنت عليه، ولا بدّ لك من أن ينفذ فيك حكمه، فإن رضيت فلك الثّواب الجزيل، والأمن من الهول الشديد؛ وأنت في رضاك وسخطك لست تقدر أن تتعدّى المقدور، ولا تزداد في الرّزق المقسوم والأمر المكتوم والأجل المعلوم؛ ففي أيّ هذه تريد أن تحتال في نقضها بهمّتك، وبأيّ قدرة تريد أن تدفعها عنك عند حلولها، أن تجتليها من قبل أوانها! كلاّ والله لا بدّ لأمر الله أن ينفذ فيك طوعاً منك أو كرهاً فإن لم تجد إلى الرّضا سبيلاً فعليك بالتّجمّل، ولا تشك ممّن ليس بأهل أن يشكى، وهو من أهل الشكر والثناء القديم، ما أوفى من نعمته علينا، فما أعطى وعافى أكثر مّما زوى وأبلى، وهو مع ذلك أعرف بموضع الخير لنا منّا، وإذا اضطرّتك الأمور وقلّ صبرك، فالجأ إليه بهمّتك، واشك إليه بثّك
وليكن طبعك فيه، واحذر أن تستبطئه أو تسيء به ظناً، فإن لكل شيء سبباً، ولكل سبب أجل، ولكل همّ في الله ولله فرج عاجل أو آجل، ومن علم أنه بعين الله استحيا أن يراه الله يؤمّل سواه، ومن أيقن ينظر الله أسقط الاختيار لنفسه في الأمور، ومن علم أن الله الضّارّ النّافع أسقط مخاوف المخلوقين عن قلبه، وراقب الله في قربه، وطلب الأشياء من معادنها، فاحذر أن تعلّق قلبك بمخلوق خوفاً أو رجاءً، أو تفشي إلى أحد اليوم سرّك، أو تشكو إليه بثّك، أو تعتمد على إخائه، أو تستريح إليه استراحة يكون فيها موضع شكوى بثّ، فإن غنيّهم فقير في غناه، وفقيرهم ذليل في فقره، وعالمهم جاهل في علمه، فاجر في فعله، إلاّ القليل ممّن عصم الله.
قال أبو الحارث الأولاسي: قلت لإبراهيم بن سعد، ما كان مبتدأ أمرك؟ قال: كنت من الغلويّة، وفي نخوتهم وتكبّرهم، والتّزيّن بالشّرف والتّعظيم به على النّاس، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرى النّائم، فقال لي: أنت شريف؟ فقلت: نعم يا رسول الله، أنا من أولادك؛ فقال: لم لا تتواضع في شرفك حتى تكون شريفاً؟ فالشّرف بالله يكون حقيقته الشرف والتواضع لعباده، وقضاء حوائجهم تكون المروءة، وصحبة الفقراء تزيل عنك هذا الكبر، وتدلّك على منهاج الحقّ، وإيّاك والرذكون إلى الدنيا ومحبّتها، وصحبة أهلها، وتشرّف بالفقر تكن شريفاً. قال: فانتبهت، وقد زال عنّي ما كنت أجده من التكبّر ورؤية الشرف وأنفقت كلّ ما كنت أملكه، وصحبت الفقراء، وقصدتهم في أماكنهم، وتتبّعتهم في كلّ أمورهم؛ فتلك رؤيا كانت سبب أمري. وقال: كان أحبّ شيء إليّ لبس الثّياب الفاخرة، فالآن إذا لبست ثوباً جديداً وقلّ ما ألبسه إلاّ وجدت نفسي ذلاًّ إلى أن يتّسخ أو يتخرّق، كل هذا ببركة موعظة النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بغدادي اجتاز بدمشق أو بساحلها.
قال أبو الحارث الأولاسي: خرجت من الحصن أريد البحر، فقال لي بعض إخواننا: لا تبرح، فإني قد هيأت لك عجّة حتى تتغدّى، فجلست وأكلت معه، ونزلت إلى السّاحل، فإذا إبراهيم بن سعد العلويّ قائم يصلّي، فقلت في نفسي: يريد أن يقول لي: امش بنا على الماء، ولئن قال لأمشينّ معه؛ فما استتم ذلك الخاطر حتى سلّم من صلاته، وقال لي: يا أبا الحارث، هيه، عزمت، بسم الله، امش على ما خطر في نفسك، فقلت: بسم الله؛ فمشى على الماء، وذهبت لأمشي خلفه فغاصت رجلي في الماء، فالتفت إليّ وقال: يا أبا الحارث، أخذت العجّة برجلك، فذهب وتركني.
وقال أبو الحارث الأولاسي: خرجت من مكة في غير أيام الموسم أريد الشّام، فإذا أنا بثلاثة نفر على جبل، فإذا هم يتذاكرون الدّنيا، فلّما فرغوا أخذوا يعاهدون الله أن لا يمسّوا ذهباً ولا فضّة، فقلت: وأنا أيضاً معكم، فقالوا: إن شئت، ثم قاموا، فقال أحدهم: أمّا أنا فصائر إلى بلد كذا وكذا، وقال الآخر: أمّ أنا فصائر إلى بلد كذا وكذا، وبقيت أنا وآخر، فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريد الشام، فقال: وأنا أريد الشام؛ فكان إبراهيم بن سعد العلويّ، فوّدّع بعضاً وافترقنا، فمكثت حيناً أنتظر أن يأتيني كفايتي، فما شعرت يوماً وأنا بالأولاس، فخرجت أريد البحر، فصرت بين الأشجار، إلاّ برجل صافّ قدميه يصلّي؛ فاضطرب قلبي لمّا رأيته، وعلاني له هيبة، فلّما حسّ بي سلّم والتفت إليّ، فإذا هو إبراهيم بن سعد، فعرفته بعد ساعة، فقال لي: هاه،
فوبّخني، وقال: اذهب فغيّب عني شخصك ثلاثة أيّام ولا تطعم شيئاً ثم ائتني، فعلت ذلك، فجئته بعد ثلاثة وهو قائم يصلّي، فلّما حسّ بي وجز في صلاته ثم أخذ بيدي فأوقفني على البحر وحرّك شفتيه، فقلت في نفسي: يريد أن يمشي بي على الماء، ولئن فعل لأمشينّ، فما لبثت إلاّ يسيراً، فإذا أنا برفّ من الحيتان مدّ البصر قد أقبلت إلينا رافعةً رؤوسها فاتحةً أفواهها، فلّما رأيته قلت في نفسي: أين أبو بشر الصيّاد إنسان كان بالأولاس هذه السّاعة؟ فإذا الحيتان قد تفرّقت كأنما طرح في وسطها حجر، فالتفت إليّ وقال: فعلتها! فقلت: إنّما قلت كذا وكذا، فقال لي: مرّ، لست مطلوباً بهذا الأمر، ولكن عليك بهذه الرّمال والجبال، فوار شخصك ما أمكنك، وتقلل من الدّنيا حتى يأتيك أمر الله فإني أراك بهذا مطالباً، ثم غاب عنّي، فلم أره حتى مات؛ وكانت كتبه تصل إليّ.
فلّما مات كنت قاعداً يوماً فتحرّك قلبي للخروج من باب البحر، ولم يكن لي حاجة، فقلت: لا أكره القلب فيعمى، فخرجت، فلّما صرت في المسجد الذي على الباب إذا أنا بأسود، قام إليّ فقال: أنت أبو الحارث؟ فقلت: نعم، فقال: آجرك الله في أخيك إبراهيم بن سعد، وكان اسمه ناصح، مولى لإبراهيم بن سعد، فذكر أن إبراهيم أوصاه أن يوصل إليّ هذه الرّسالة، فإذا فيها مكتوب:
بسم الله الرّحمن الرّحيم، يا أخي إذا نزل بك أمر من أمر فقر أو سقم أو أذىً فاستعن بالله واستعمل عن الله الرّضى، فإنّ الله مطلع عليك، يعلم ضميرك، وما أنت عليه، ولا بدّ لك من أن ينفذ فيك حكمه، فإن رضيت فلك الثّواب الجزيل، والأمن من الهول الشديد؛ وأنت في رضاك وسخطك لست تقدر أن تتعدّى المقدور، ولا تزداد في الرّزق المقسوم والأمر المكتوم والأجل المعلوم؛ ففي أيّ هذه تريد أن تحتال في نقضها بهمّتك، وبأيّ قدرة تريد أن تدفعها عنك عند حلولها، أن تجتليها من قبل أوانها! كلاّ والله لا بدّ لأمر الله أن ينفذ فيك طوعاً منك أو كرهاً فإن لم تجد إلى الرّضا سبيلاً فعليك بالتّجمّل، ولا تشك ممّن ليس بأهل أن يشكى، وهو من أهل الشكر والثناء القديم، ما أوفى من نعمته علينا، فما أعطى وعافى أكثر مّما زوى وأبلى، وهو مع ذلك أعرف بموضع الخير لنا منّا، وإذا اضطرّتك الأمور وقلّ صبرك، فالجأ إليه بهمّتك، واشك إليه بثّك
وليكن طبعك فيه، واحذر أن تستبطئه أو تسيء به ظناً، فإن لكل شيء سبباً، ولكل سبب أجل، ولكل همّ في الله ولله فرج عاجل أو آجل، ومن علم أنه بعين الله استحيا أن يراه الله يؤمّل سواه، ومن أيقن ينظر الله أسقط الاختيار لنفسه في الأمور، ومن علم أن الله الضّارّ النّافع أسقط مخاوف المخلوقين عن قلبه، وراقب الله في قربه، وطلب الأشياء من معادنها، فاحذر أن تعلّق قلبك بمخلوق خوفاً أو رجاءً، أو تفشي إلى أحد اليوم سرّك، أو تشكو إليه بثّك، أو تعتمد على إخائه، أو تستريح إليه استراحة يكون فيها موضع شكوى بثّ، فإن غنيّهم فقير في غناه، وفقيرهم ذليل في فقره، وعالمهم جاهل في علمه، فاجر في فعله، إلاّ القليل ممّن عصم الله.
قال أبو الحارث الأولاسي: قلت لإبراهيم بن سعد، ما كان مبتدأ أمرك؟ قال: كنت من الغلويّة، وفي نخوتهم وتكبّرهم، والتّزيّن بالشّرف والتّعظيم به على النّاس، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرى النّائم، فقال لي: أنت شريف؟ فقلت: نعم يا رسول الله، أنا من أولادك؛ فقال: لم لا تتواضع في شرفك حتى تكون شريفاً؟ فالشّرف بالله يكون حقيقته الشرف والتواضع لعباده، وقضاء حوائجهم تكون المروءة، وصحبة الفقراء تزيل عنك هذا الكبر، وتدلّك على منهاج الحقّ، وإيّاك والرذكون إلى الدنيا ومحبّتها، وصحبة أهلها، وتشرّف بالفقر تكن شريفاً. قال: فانتبهت، وقد زال عنّي ما كنت أجده من التكبّر ورؤية الشرف وأنفقت كلّ ما كنت أملكه، وصحبت الفقراء، وقصدتهم في أماكنهم، وتتبّعتهم في كلّ أمورهم؛ فتلك رؤيا كانت سبب أمري. وقال: كان أحبّ شيء إليّ لبس الثّياب الفاخرة، فالآن إذا لبست ثوباً جديداً وقلّ ما ألبسه إلاّ وجدت نفسي ذلاًّ إلى أن يتّسخ أو يتخرّق، كل هذا ببركة موعظة النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.