عُبَيْد اللَّه بْن سليمان بْن وهب بْن سَعِيد، أَبُو الْقَاسِمِ الكاتب :
تقدم ذكر والده، ولي الوزارة للمعتضد باللَّه، وهو ولي عمه المعتمد عَلَى اللَّه فِي أواخر صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين واستولى عَلَى جميع أموره، وكان يكفيه ويجلسه
بين يديه، فلما توفى المعتمد وولى المعتضد الخلافة أقر عُبَيْد اللَّه عَلَى وزارته إلى حين وفاته.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن موسى بْن الفرات الكاتب: كان عُبَيْد اللَّه نسيج وحده وواحد دهره سياسة وتدبيرا وضبطا لأمور المملكة.
أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الحذاء عن أَبِي سعد بْن الطيوري قَالَ: أنبأنا أَبُو القاسم علي بْن المحسن بْن علي التنوخي إذنا عن أبيه قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن عمر الحارثي قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي وكان يخدم في دار الموفق [و] المعتضد بعده أن المعتضد أراد أن يشهد عَلَى نفسه العدول فِي كتاب صدره هَذَا؛ فأشهد على نفسه الشهود شهدوا جميعا أن أمير المؤمنين عَبْد اللَّه أَبَا العباس المعتضد باللَّه أشهدهم عَلَى نفسه فِي صحة منه وجواز أمر، وعرضت النسخة عَلَى عُبَيْد اللَّه بْن سليمان فضرب عليها وَقَالَ: هَذَا لا يحسن كتبه عن الخليفة، اكتبوا: فِي سلامة من جسمه وإصابة من رأيه.
قال: وأنبأنا التنوخي عن أبيه قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن عياش قَالَ: حَدَّثَنِي شيخ من شيوخنا- ذكره وقد غاب عني اسمه- قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عبد الله ابن أَبِي عون قَالَ:
استقر عندي عُبَيْد اللَّه بْن سليمان فدخلت عليه يوما فِي حجرة كنت أفردته فيها من داري، فقام إليّ فقلت له ممازحا كما جرى عَلَى لساني: يا سيدي! إخبا لي هَذَا القيام إلى وقت انتفع به، قَالَ: فلما كان بعد مدة انتقل من عندي، فما مضت الأيام يسيرة حتى ولى الوزارة فَقَالَ لي أهلي: لو قصدته، وكان حالي إذ ذاك صغيرة، فقلت لهم: لا أفعل وأنا فِي ستر وقصدي له الآن كأنه اقتضاء لثمن معروف أستدعيه لنفسي، ما أرضى لنفسي بهذا، ولو كان لي عنده خير لابتدأني، وبت ليلتي مفكرا وكان يوم الخلع، فلما كان فِي السحر جاءني فراشه برقعة بخطه يعاتبني عَلَى ما جرى عنه ويستدعيني، فصرت إليه وإذا هو جالس والخلق عنده، فلما صرت مع دسته قام لي قائما وعانقني وَقَالَ لي: أرى هَذَا وقتا ينتفع فيه بقيامي لك وجلس وأجلسني معه عَلَى طرف الدست. فقبلت يده وهنأته ودعوت له، ومضيت ساعة فإذا قد
استدعاه المعتضد فقام وأمرني ألا أبرح فجلست وامتدت العيون إلي وخوطبت فِي الوقت بأجل خطاب وعوظمت، ثم عاد عُبَيْد اللَّه ضاحكا وأخذ بيدي إلى دار الخلوة وَقَالَ: ويحك إن الخليفة استدعاني بسببك وذلك أنه كوتب بخبرنا وخبر قيامي لك فِي مجلس الوزارة، فلما استدعاني الآن بدأ ينكر عَلِيّ وَقَالَ: تبذل مجلس الوزارة بالقيام لتاجر، ولو كان هَذَا لصاحب طرف كان محظورا أو ولي عهد كان كثيرا، واحذر تتجاوز ذلك، فقلت: يا أمير المؤمنين! لم يذهب عَلَى حق المجلس وتوفية الرتبة حقها، ولكن لي عذر، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسمعه ثم ينفذ حكمه فيّ، أخبرته بخبري معك واستتاري عندك، فَقَالَ: أما الآن فقد عذرتك ولكن لا تعاود، فانصرفت؛ ثم قَالَ لي عُبَيْد اللَّه: يا أَبَا عَبْد اللَّه! إني قد شهرتك شهرة إن لم يكن معك مائة ألف دينار معدة للنكبة هلكت، فيجب أن تحصلها لك لهذه الحال فقط، ثم يحصل لك نعمة بعدها تسعك وعقبك، فقلت: أنا عَبْد الوزير وخادمه ومؤمله، فَقَالَ: هاتوا فلانا الكاتب! فجاء فقال: أحضر التاجر الساعة نسعر مائة ألف كر من غلات السلطان بالسواد [عليهم] ما تساوي وعرفني، فخرج وعاد بعد ساعة وَقَالَ: قد قررت ذلك معهم، فَقَالَ له: بع عَلَى أَبِي عَبْد اللَّه هذه المائة الألف الكر ينقصان دينار واحد مما قررت به السعر مع التجار وبعه له عليهم بالسعر المقرر معهم وطالبهم أن يعجلوا له فضل ما بين السعرين اليوم وأجرهم بالثمن إلى أن يستلموا الغلات وأكتب إلى النواحي بتقبيضهم إياها، قَالَ: ففعل ذلك وقمت من المجلس وقد وصل إليّ مائة ألف دينار فِي بعض يوم وما عملت شيئا، ثم قَالَ لي: اجعل هذه أصلًا لنعمتك ومعدة لنكبة ولا يسألنك أحد من الخلق شيئا إلا أخذت رقعته ووافقته عَلَى أجرة ذلك وخاطبني ، قَالَ: كنت أعرض عليه فِي كل يوم ما يصل إليّ بما فيه ألوف دنانير وأتوسط الأمور الكبار وأداخل فِي المكاسب الجليلة حتى بلغت النعمة إلى هَذَا الحد، وكنت ربما عرضت عليه رقعة فيقول: كم ضمن لك عليها، فأقول: كذا
وكذا، فيقول: هَذَا غلط هَذَا يساوي كذا وكذا، ارفجع فاستزد، فأقول: إني أستحيي، فيقول: عرفهم أني لا أقضي لك ذلك إلا بهذا القدر وأني رسمت لك هَذَا المال، قَالَ: فأرجع فأستزيد ما يقوله لي فأزاد.
قال: وأنبأنا التنوخي عن أبيه قَالَ: حدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سمعتُ القاضي أَبَا عمر يَقُول:
عرض إسماعيل القاضي وأنا معه عَلَى عُبَيْد اللَّه بْن سليمان رقاعا فِي حوائج الناس، فوقع فيها فعرض أخرى فخشى أن يكون قد ثقل عليه فَقَالَ له: إن جاز أن يتطول الوزير أعزه اللَّه بهذا التوقيع فوقع، وعرض أخرى وَقَالَ: إن أمكن الوزير أن يجيب إلى هَذَا فوقع، ثم عرض أخرى وَقَالَ: إن سهل عَلَى الوزير أن يوقع فوقع، وعرض أخرى وقال شيئا من هذا الجنس، فَقَالَ له عُبَيْد اللَّه: يا أَبَا إسحاق! كم تقول إن أمكن وإن جاز وإن سهل، من قَالَ لك إنه يجلس هَذَا المجلس ثم يتعذر عليه فعل شيء عَلَى وجه الأمور فقد كذبك هات رقاعك كلها فِي موضع واحد، قَالَ فأخرجها إسماعيل من كمه وطرحها لحضرته فوقع فيها فكانت مع ما وقع فيه قبل الكلام وبعده نحو ستين رقعة.
قَرَأْتُ فِي كتاب «أخبار الوزراء» لمحمد بْن عبدوس الجهشياري قَالَ: كان عُبَيْد الله ابن سليمان يرعى يسير الحرمة ويحافظ عَلَى قليل الخدمة، وكان ممن خدمه فِي نكبته رجل يعرف بيعقوب الصائغ وكان عاميا ساقطا وكان يحتمل سقوطه ونقصه وتحركه ويرفع منه حتى قلده الحسبة بالخضرة وكان لها إذ ذاك مقدار، فلما عزم عُبَيْد اللَّه عَلَى الشخوص إلى الجبل جلس يوما للنظر فيما يحمل معه من خزانته ومن يشخص معه لخدمته، ويعقوب الصائغ حاضر للخاصية التي كانت له به، فأمر ما يحمل معه، فلما انتهى إلى فصل منه قَالَ له يعقوب بغباوته: ويحمل كفن وحنوط، فتطير عُبَيْد اللَّه وقطب وأعرض عنه ثم أخذ يأمر وينهي، فلما انتهى إلى فصل من كلامه أعاد يعقوب الصائغ القول فَقَالَ: يحمل كفن وحنوط، فأعرض عبيد الله
ضجرا ثم عاد فأمر ونهى فلما أمسك قَالَ له الصائغ ثالثة، كفن وحنوط، فأظهر عُبَيْد اللَّه الضجر ثم قَالَ له: يا هَذَا أتخاف عَلَى مثلي إن مات أن يصلب أو يطرح عَلَى قارعة الطريق بغير كفن، إن تعذر الكفن كفنوني فِي ثيابي.
وقال الجهشياري: حكى مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أَبِي البغل قَالَ: كنت مع عُبَيْد اللَّه بْن سليمان وقد ركب بنهاوند ليروض جسمه فخرج إلى الصحراء فسار فيها ثم انصرف راجعا وكان رجع من أبوابها وكان له حاجب يقال له خفيف، كان غليظا غبيا، فَقَالَ له: تستأذننا فِي الطريق ندخل من حيث خرجنا، فَقَالَ له عُبَيْد اللَّه: أما أنا فلا.
أنبأنا ذاكر بن كامل الحذاء عن أبي غالب شجاع بْن فارس الذهلي أن أَبَا الحَسَن هلال بْن المحسن الكاتب بخطه قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إسحاق قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَد عبيد الله ابن طاهر قَالَ: كان أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْد اللَّه بْن سليمان بْن وهب وأبوه صديقين لي فلما أفضت وزارة المعتضد باللَّه إلى عُبَيْد اللَّه خدمة الناس فلحقني فِي بعض أيام قصدي له حجاب قليل فكتبت إليه:
آن بلغت الذي كنا نؤمله ... واستحكمت يعني وأرتاح الآفي
أنكرت منك أمورا كنت أعهدها ... من حسن بدؤ وإكرام وألطاف
واستصعب الإذن إلا أن تعرفه ... أولا فمطرح فِي مدرج الشافي
ولست بالباب إن عزت مداخله ... ولج آذنه يوما بوقاف
فإني لي الضيم أني لا ألائمه ... وأنني خلف من خير أسلاف
لولا يد سبقت لي منك صالحة ... ألفيتني فِي محل القاطع الجافي
لكنني رهن معروف سبقت به ... حتى أجازيك الحسنى بأضعاف
فلما كان من غد جاءني معتذرا.
أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الحذاء عن أبي غالب الذهلي قال: أنبأنا هلال بْن المحسن إذنا قَالَ: أنشدني والدي علي بْن المحسن إذنا، أنشدني أَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِنْجِيٍّ الْكَاتِبُ قَالَ: أنشدني الوزير أَبُو عَلِيّ الْحُسَيْن بْن القَاسِم بْن عُبَيْد اللَّه قَالَ:
أنشدني الوزير أَبُو الحسين القَاسِم بْن عُبَيْد اللَّه قَالَ: أنشدني الوزير أبو القاسم
عُبَيْد اللَّه بْن سليمان لنفسه:
كفاية اللَّه خير من توقينا ... وعادة اللَّه فِي الماضين تكفينا
كاد الأعادي فلا واللَّه ما تركوا ... قولا وفعلا وتلقينا وتهجينا
ولم نزد نحن فِي سر ولا علن ... شيئا عَلَى قولنا يا ربنا اكفينا
فكان ذاك ورد الله حاسدنا ... بغيظه لم ينل تقديره فينا
ذكر الصولي أن مولد عُبَيْد اللَّه بْن سليمان بْن وهب سنة ست وعشرين ومائتين.
قَرَأْتُ فِي كتاب «التاريخ» لأبي جعفر مُحَمَّد بْن جرير الطبري قَالَ: وفيها يعني سنة ثمان وثمانين ومائتين فِي يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر توفي عبيد الله بن سليمان الوزير ودفن فِي داره وصلى عليه ابنه أَبُو الْحُسَيْن، فكانت مدة تقلده الوزارة للمعتضد عشر سنين وشهرين وعشرة أيام.
حدثنا عَبْد الرحمن بن عمر الواعظ قال: أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ قراءة عليه عن ابن نصر المؤتمن بن أحمد الساجي قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عَلِيّ العميري قراءة عليه عن إسحاق بْن إِبْرَاهِيم القراب قَالَ: سَمِعْت أَبَا الفضل بْن أَبِي عمران الصوفي يَقُول: سَمِعْت مُحَمَّد بْن موسى، سَمِعْت مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن عثمان دخل عَبْد اللَّه بْن المعتز عَلَى القَاسِم بْن عُبَيْد اللَّه وقد أصيب بأبيه فأنشأ يَقُول:
إني معزيك لا أني عَلَى ثقة ... من الخلود ولكن سنة الدين
فما المعزى بباق بعد صاحبه ... ولا المعزى وإن عاشا إلى حين
فلما درج فِي أكفانه فِأنشأ يَقُول:
قد استوى الناس ومات الكمال ... وقال صرف الدهر: أين الرجال
هَذَا أَبُو الْقَاسِمِ فِي قبره ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال
فلما حملته الرجال عَلَى أعناقها أنشأ يَقُول:
وما كان ريح المسك ريح حنوطه ... ولكنه هَذَا الثناء المخلف
وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف
فلما وضع فتقدم للصلاة عليه أنشأ يَقُول:
قضوا ما قضوا من أمرهم ثم قدموا ... إماما لهم والنعش بين يديه
فصلوا عليه خاشعين كأنهم ... وقوف خضوع للسلام عليه
تقدم ذكر والده، ولي الوزارة للمعتضد باللَّه، وهو ولي عمه المعتمد عَلَى اللَّه فِي أواخر صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين واستولى عَلَى جميع أموره، وكان يكفيه ويجلسه
بين يديه، فلما توفى المعتمد وولى المعتضد الخلافة أقر عُبَيْد اللَّه عَلَى وزارته إلى حين وفاته.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن موسى بْن الفرات الكاتب: كان عُبَيْد اللَّه نسيج وحده وواحد دهره سياسة وتدبيرا وضبطا لأمور المملكة.
أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الحذاء عن أَبِي سعد بْن الطيوري قَالَ: أنبأنا أَبُو القاسم علي بْن المحسن بْن علي التنوخي إذنا عن أبيه قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن عمر الحارثي قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي وكان يخدم في دار الموفق [و] المعتضد بعده أن المعتضد أراد أن يشهد عَلَى نفسه العدول فِي كتاب صدره هَذَا؛ فأشهد على نفسه الشهود شهدوا جميعا أن أمير المؤمنين عَبْد اللَّه أَبَا العباس المعتضد باللَّه أشهدهم عَلَى نفسه فِي صحة منه وجواز أمر، وعرضت النسخة عَلَى عُبَيْد اللَّه بْن سليمان فضرب عليها وَقَالَ: هَذَا لا يحسن كتبه عن الخليفة، اكتبوا: فِي سلامة من جسمه وإصابة من رأيه.
قال: وأنبأنا التنوخي عن أبيه قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن عياش قَالَ: حَدَّثَنِي شيخ من شيوخنا- ذكره وقد غاب عني اسمه- قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عبد الله ابن أَبِي عون قَالَ:
استقر عندي عُبَيْد اللَّه بْن سليمان فدخلت عليه يوما فِي حجرة كنت أفردته فيها من داري، فقام إليّ فقلت له ممازحا كما جرى عَلَى لساني: يا سيدي! إخبا لي هَذَا القيام إلى وقت انتفع به، قَالَ: فلما كان بعد مدة انتقل من عندي، فما مضت الأيام يسيرة حتى ولى الوزارة فَقَالَ لي أهلي: لو قصدته، وكان حالي إذ ذاك صغيرة، فقلت لهم: لا أفعل وأنا فِي ستر وقصدي له الآن كأنه اقتضاء لثمن معروف أستدعيه لنفسي، ما أرضى لنفسي بهذا، ولو كان لي عنده خير لابتدأني، وبت ليلتي مفكرا وكان يوم الخلع، فلما كان فِي السحر جاءني فراشه برقعة بخطه يعاتبني عَلَى ما جرى عنه ويستدعيني، فصرت إليه وإذا هو جالس والخلق عنده، فلما صرت مع دسته قام لي قائما وعانقني وَقَالَ لي: أرى هَذَا وقتا ينتفع فيه بقيامي لك وجلس وأجلسني معه عَلَى طرف الدست. فقبلت يده وهنأته ودعوت له، ومضيت ساعة فإذا قد
استدعاه المعتضد فقام وأمرني ألا أبرح فجلست وامتدت العيون إلي وخوطبت فِي الوقت بأجل خطاب وعوظمت، ثم عاد عُبَيْد اللَّه ضاحكا وأخذ بيدي إلى دار الخلوة وَقَالَ: ويحك إن الخليفة استدعاني بسببك وذلك أنه كوتب بخبرنا وخبر قيامي لك فِي مجلس الوزارة، فلما استدعاني الآن بدأ ينكر عَلِيّ وَقَالَ: تبذل مجلس الوزارة بالقيام لتاجر، ولو كان هَذَا لصاحب طرف كان محظورا أو ولي عهد كان كثيرا، واحذر تتجاوز ذلك، فقلت: يا أمير المؤمنين! لم يذهب عَلَى حق المجلس وتوفية الرتبة حقها، ولكن لي عذر، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسمعه ثم ينفذ حكمه فيّ، أخبرته بخبري معك واستتاري عندك، فَقَالَ: أما الآن فقد عذرتك ولكن لا تعاود، فانصرفت؛ ثم قَالَ لي عُبَيْد اللَّه: يا أَبَا عَبْد اللَّه! إني قد شهرتك شهرة إن لم يكن معك مائة ألف دينار معدة للنكبة هلكت، فيجب أن تحصلها لك لهذه الحال فقط، ثم يحصل لك نعمة بعدها تسعك وعقبك، فقلت: أنا عَبْد الوزير وخادمه ومؤمله، فَقَالَ: هاتوا فلانا الكاتب! فجاء فقال: أحضر التاجر الساعة نسعر مائة ألف كر من غلات السلطان بالسواد [عليهم] ما تساوي وعرفني، فخرج وعاد بعد ساعة وَقَالَ: قد قررت ذلك معهم، فَقَالَ له: بع عَلَى أَبِي عَبْد اللَّه هذه المائة الألف الكر ينقصان دينار واحد مما قررت به السعر مع التجار وبعه له عليهم بالسعر المقرر معهم وطالبهم أن يعجلوا له فضل ما بين السعرين اليوم وأجرهم بالثمن إلى أن يستلموا الغلات وأكتب إلى النواحي بتقبيضهم إياها، قَالَ: ففعل ذلك وقمت من المجلس وقد وصل إليّ مائة ألف دينار فِي بعض يوم وما عملت شيئا، ثم قَالَ لي: اجعل هذه أصلًا لنعمتك ومعدة لنكبة ولا يسألنك أحد من الخلق شيئا إلا أخذت رقعته ووافقته عَلَى أجرة ذلك وخاطبني ، قَالَ: كنت أعرض عليه فِي كل يوم ما يصل إليّ بما فيه ألوف دنانير وأتوسط الأمور الكبار وأداخل فِي المكاسب الجليلة حتى بلغت النعمة إلى هَذَا الحد، وكنت ربما عرضت عليه رقعة فيقول: كم ضمن لك عليها، فأقول: كذا
وكذا، فيقول: هَذَا غلط هَذَا يساوي كذا وكذا، ارفجع فاستزد، فأقول: إني أستحيي، فيقول: عرفهم أني لا أقضي لك ذلك إلا بهذا القدر وأني رسمت لك هَذَا المال، قَالَ: فأرجع فأستزيد ما يقوله لي فأزاد.
قال: وأنبأنا التنوخي عن أبيه قَالَ: حدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سمعتُ القاضي أَبَا عمر يَقُول:
عرض إسماعيل القاضي وأنا معه عَلَى عُبَيْد اللَّه بْن سليمان رقاعا فِي حوائج الناس، فوقع فيها فعرض أخرى فخشى أن يكون قد ثقل عليه فَقَالَ له: إن جاز أن يتطول الوزير أعزه اللَّه بهذا التوقيع فوقع، وعرض أخرى وَقَالَ: إن أمكن الوزير أن يجيب إلى هَذَا فوقع، ثم عرض أخرى وَقَالَ: إن سهل عَلَى الوزير أن يوقع فوقع، وعرض أخرى وقال شيئا من هذا الجنس، فَقَالَ له عُبَيْد اللَّه: يا أَبَا إسحاق! كم تقول إن أمكن وإن جاز وإن سهل، من قَالَ لك إنه يجلس هَذَا المجلس ثم يتعذر عليه فعل شيء عَلَى وجه الأمور فقد كذبك هات رقاعك كلها فِي موضع واحد، قَالَ فأخرجها إسماعيل من كمه وطرحها لحضرته فوقع فيها فكانت مع ما وقع فيه قبل الكلام وبعده نحو ستين رقعة.
قَرَأْتُ فِي كتاب «أخبار الوزراء» لمحمد بْن عبدوس الجهشياري قَالَ: كان عُبَيْد الله ابن سليمان يرعى يسير الحرمة ويحافظ عَلَى قليل الخدمة، وكان ممن خدمه فِي نكبته رجل يعرف بيعقوب الصائغ وكان عاميا ساقطا وكان يحتمل سقوطه ونقصه وتحركه ويرفع منه حتى قلده الحسبة بالخضرة وكان لها إذ ذاك مقدار، فلما عزم عُبَيْد اللَّه عَلَى الشخوص إلى الجبل جلس يوما للنظر فيما يحمل معه من خزانته ومن يشخص معه لخدمته، ويعقوب الصائغ حاضر للخاصية التي كانت له به، فأمر ما يحمل معه، فلما انتهى إلى فصل منه قَالَ له يعقوب بغباوته: ويحمل كفن وحنوط، فتطير عُبَيْد اللَّه وقطب وأعرض عنه ثم أخذ يأمر وينهي، فلما انتهى إلى فصل من كلامه أعاد يعقوب الصائغ القول فَقَالَ: يحمل كفن وحنوط، فأعرض عبيد الله
ضجرا ثم عاد فأمر ونهى فلما أمسك قَالَ له الصائغ ثالثة، كفن وحنوط، فأظهر عُبَيْد اللَّه الضجر ثم قَالَ له: يا هَذَا أتخاف عَلَى مثلي إن مات أن يصلب أو يطرح عَلَى قارعة الطريق بغير كفن، إن تعذر الكفن كفنوني فِي ثيابي.
وقال الجهشياري: حكى مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أَبِي البغل قَالَ: كنت مع عُبَيْد اللَّه بْن سليمان وقد ركب بنهاوند ليروض جسمه فخرج إلى الصحراء فسار فيها ثم انصرف راجعا وكان رجع من أبوابها وكان له حاجب يقال له خفيف، كان غليظا غبيا، فَقَالَ له: تستأذننا فِي الطريق ندخل من حيث خرجنا، فَقَالَ له عُبَيْد اللَّه: أما أنا فلا.
أنبأنا ذاكر بن كامل الحذاء عن أبي غالب شجاع بْن فارس الذهلي أن أَبَا الحَسَن هلال بْن المحسن الكاتب بخطه قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إسحاق قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَد عبيد الله ابن طاهر قَالَ: كان أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْد اللَّه بْن سليمان بْن وهب وأبوه صديقين لي فلما أفضت وزارة المعتضد باللَّه إلى عُبَيْد اللَّه خدمة الناس فلحقني فِي بعض أيام قصدي له حجاب قليل فكتبت إليه:
آن بلغت الذي كنا نؤمله ... واستحكمت يعني وأرتاح الآفي
أنكرت منك أمورا كنت أعهدها ... من حسن بدؤ وإكرام وألطاف
واستصعب الإذن إلا أن تعرفه ... أولا فمطرح فِي مدرج الشافي
ولست بالباب إن عزت مداخله ... ولج آذنه يوما بوقاف
فإني لي الضيم أني لا ألائمه ... وأنني خلف من خير أسلاف
لولا يد سبقت لي منك صالحة ... ألفيتني فِي محل القاطع الجافي
لكنني رهن معروف سبقت به ... حتى أجازيك الحسنى بأضعاف
فلما كان من غد جاءني معتذرا.
أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الحذاء عن أبي غالب الذهلي قال: أنبأنا هلال بْن المحسن إذنا قَالَ: أنشدني والدي علي بْن المحسن إذنا، أنشدني أَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِنْجِيٍّ الْكَاتِبُ قَالَ: أنشدني الوزير أَبُو عَلِيّ الْحُسَيْن بْن القَاسِم بْن عُبَيْد اللَّه قَالَ:
أنشدني الوزير أَبُو الحسين القَاسِم بْن عُبَيْد اللَّه قَالَ: أنشدني الوزير أبو القاسم
عُبَيْد اللَّه بْن سليمان لنفسه:
كفاية اللَّه خير من توقينا ... وعادة اللَّه فِي الماضين تكفينا
كاد الأعادي فلا واللَّه ما تركوا ... قولا وفعلا وتلقينا وتهجينا
ولم نزد نحن فِي سر ولا علن ... شيئا عَلَى قولنا يا ربنا اكفينا
فكان ذاك ورد الله حاسدنا ... بغيظه لم ينل تقديره فينا
ذكر الصولي أن مولد عُبَيْد اللَّه بْن سليمان بْن وهب سنة ست وعشرين ومائتين.
قَرَأْتُ فِي كتاب «التاريخ» لأبي جعفر مُحَمَّد بْن جرير الطبري قَالَ: وفيها يعني سنة ثمان وثمانين ومائتين فِي يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر توفي عبيد الله بن سليمان الوزير ودفن فِي داره وصلى عليه ابنه أَبُو الْحُسَيْن، فكانت مدة تقلده الوزارة للمعتضد عشر سنين وشهرين وعشرة أيام.
حدثنا عَبْد الرحمن بن عمر الواعظ قال: أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ قراءة عليه عن ابن نصر المؤتمن بن أحمد الساجي قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عَلِيّ العميري قراءة عليه عن إسحاق بْن إِبْرَاهِيم القراب قَالَ: سَمِعْت أَبَا الفضل بْن أَبِي عمران الصوفي يَقُول: سَمِعْت مُحَمَّد بْن موسى، سَمِعْت مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن عثمان دخل عَبْد اللَّه بْن المعتز عَلَى القَاسِم بْن عُبَيْد اللَّه وقد أصيب بأبيه فأنشأ يَقُول:
إني معزيك لا أني عَلَى ثقة ... من الخلود ولكن سنة الدين
فما المعزى بباق بعد صاحبه ... ولا المعزى وإن عاشا إلى حين
فلما درج فِي أكفانه فِأنشأ يَقُول:
قد استوى الناس ومات الكمال ... وقال صرف الدهر: أين الرجال
هَذَا أَبُو الْقَاسِمِ فِي قبره ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال
فلما حملته الرجال عَلَى أعناقها أنشأ يَقُول:
وما كان ريح المسك ريح حنوطه ... ولكنه هَذَا الثناء المخلف
وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف
فلما وضع فتقدم للصلاة عليه أنشأ يَقُول:
قضوا ما قضوا من أمرهم ثم قدموا ... إماما لهم والنعش بين يديه
فصلوا عليه خاشعين كأنهم ... وقوف خضوع للسلام عليه