محمد بن واسع بن جابر بن الأخنس
ابن عايد بن خارجة بن زياد بن شمس، من ولد عمرو بن نصر بن الأزد أبو عبد الله؛ ويقال: أبو بكر الأزدي البصري قال محمد بن واسع: قدمت مكة فلقيت بها أخي سالم بن عبد الله، فحدثني عن أبيه، عن جده، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيءٍ قديرٌ؛ كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة " قال: فقدمت خراسان فلقيت قتيبة بن مسلم، فقلت: إني أتيتك بهديةٍ، فكان يركب في موكبه فيأتي السوق، فيقولها، ثم يرجع.
قال عبد الواحد بن زيد: خرجت أنا، ومحمد بن واسع، ومالك بن دينار، نؤم بيت المقدس، فلما كنا بين الرصافة وحمص سمعنا منادياً ينادي بين تلك الرمال: يا محفوظ، يا مستور، اعقل في ستر من أنت، فإن كنت لا تعقل فاحذر الدنيا، وإن كنت لا تحسن أن تحذرها فاجعلها شوكةً، وانظر أين تضع رجلك.
وكان أبو عبد الله أحد المعدودين في العبادة ممن يستنصر به ويرجى مشهده، وكان غزا مع قتيبة بن مسلم، فأصابتهم شدةٌ حتى خافوا الهلاك، فقال قتيبة: انظروا محمد بن واسع؛ فطلب فوجدوه في صحراء، قائماً على ركبتيه يدعو ويشير بأصبعه، فأخبر قتيبة بذلك، فقال قتيبة: احملوا على القوم، فإن الله لا يضيع جيشاً فيهم محمد؛ فقال بعض رؤساء العسكر: إنا لم نر عند هذا الرجل الذي طلبت كثير قوةٍ، إنما كان يدعو ويشير بأصبعه؛ فقال: لأصبعه الذي أشار أحب إلي من ألف فارسٍ.
قال أبو جعفر جبير: رأى رجلٌ من أهل البصرة كأن منادياً ينادي من السماء: خير رجلٍ بالبصرة محمد بن واسع.
قال صالح المري:
قال لي مالك بن دينار: اغد علي يا صالح إلى الجبان، فإني قد وعدت نفراً من إخواني بأبي جهير مسعود الضرير، نسلم عليه؛ قال صالح المري: وكان أبو جهيرٍ هذا رجلاً قد انقطع إلى زاويةٍ يتعبد فيها، ولم يكن يدخل البصرة إلا يوم جمعة وقت الصلاة، ثم يرجع من ساعته؛ قال: فغدوت لموعد مالك، وإذا معه محمد بن واسع وثابت البناني وحبيب، فلما رأيتهم قلت: هذا يوم سرورٍ؛ فانطلقنا نريد أبا جهير، فكان مالك إذا مر بموضعٍ نظيفٍ قال: يا ثابت صل ها هنا لعله أن يشهد لك غداً؛ فكان ثابت يصلي، ثم انطلقنا حتى انتهينا إلى موضعه، فسألنا عنه فقالوا: الآن يخرج إلى الصلاة؛ فخرج رجلٌ إن شئت قلت: قد نشر من قبره، فوثب رجلٌ فأخذ بيده حتى أقامه عند باب المسجد، فأذن ثم أمهل يسيراً، ثم دخل المسجد فصلى ما شاء الله، ثم أقام الصلاة، فصلينا معه، فلما قضى صلاته جلس كهيئة المهموم، فتوافر القوم في السلام عليه، فتقدم محمد بن واسع فسلم عليه، فرد عليه والسلام، فقال: من أنت؟ لا أعرف صوتك؛ قال: أنا من أهل البصرة؛ قال: ما اسمك، يرحمك الله؟ قال: أنا محمد بن واسع؛ قال: مرحباً وأهلاً، أنت الذي يقول هؤلاء القوم وأومى بيده إلى البصرة: إنك أفضلهم؟ لله أنت إن قمت بشكر ذلك، اجلس؛ فجلس؛ فقام ثابت البناني، فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال: من أنت، يرحمك الله؟ قال: أنا ثابت البناني قال: مرحباً بك يا ثابت، أنت الذي يزعم أهل هذه القرية أنك من أطولهم صلاةً؟ اجلس، ولقد كنت أتمناك على ربي؛ فقام إليه حبيب أبو محمد، فسلم عليه، فرد عليه السلام، وقال: من أنت، يرحمك الله؟ قال: أنا حبيب أبو محمد؛ فقال: مرحباً بك يا أبا محمد، أنت الذي يزعم هؤلاء القوم أنك لم تسأل الله شيئاً إلا أعطاك؟ فهلا سألته أن يخفي لك ذلك؟ اجلس يرحمك الله؛ وأخذ بيده فأجلسه إلى جنبه؛ فقام إليه مالك بن دينار،
فسلم عليه، فرد عليه؛ وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا مالك بن دينار؛ قال: بخٍ بخٍ، أبو يحيى، إن كنت كما يقولون أنت الذي يزعم هؤلاء القوم أنك أزهدهم؟ اجلس، فالآن تمت أمنيتي على ربي في عاجل الدنيا؛ قال صالح: فقمت إليه لأسلم عليه؛ وأقبل على القوم، فقال: انظروا كيف تكونون غداً بين يدي الله في مجمع القيامة؛ قال: فسلمت عليه، فرد علي؛ فقال: من أنت يرحمك الله؟ قلت: أنا صالح المري؛ قال: أنت الفتى القارئ، أنت أبو بشر؟ قلت: نعم؛ قال: اقرأ يا صالح، فلقد كنت أحب أن أسمع قراءتك؛ قال صالح: فحضرني والله ما كنت قد فقدته، فابتدأت فقرأت، فما استتممت الاستعاذة حتى خر مغشياً عليه، ثم أفاق إفاقةً فقال: عد في قراءتك يا صالح، فإني لم أقطع نفسي منها؛ قال صالح: ورأيت شيئاً عجباً لم أره من أحدٍ من المتعبدين؛ كان إذا سمع القرآن فتح فاه؛ قال: فعدت فقرأت: " " وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثوراً " فصاح صيحةً، ثم انكب لوجهه، وانكشف بعض جسده، فجعل يخور كما يخور الثور، ثم هدأ، فدنونا منه ننظر فإذا هو قد خرجت نفسه كأنه خشبةٌ؛ فخرجنا فسألنا: هل له أحدٌ؟ قالوا: عجوزٌ تخدمه تأتيه الأيام؛ فبعثنا إليها فجاءت فقالت: ما له؟ قلنا: قرئ عليه القرآن فمات قالت: حق له، من ذا الذي قرأ عليه؟ لعله صالح القارئ؟ قلنا: نعم، وما يدريك من صالح؟ قالت: لا أعرفه غير أني كثيراً ما كنت أسمعه يقول: إن قرأ علي صالح قتلني قلنا: هو الذي قرأ عليه؛ قالت: هو الذي قتل حبيبي؛ فهيأناه ودفناه، رحمه الله.
كان محمد بن واسع إذا صلى المغرب يلتزق بالقبلة يصلي؛ فحدث خياطٌ قريبٌ منه قال: كان يقول في دعائه: أستغفرك من كل مقام سوءٍ، ومقعد سوءٍ، ومدخل سوءٍ، ومخرج سوءٍ، وعمل سوءٍ، وقول سوءٍ، ونبز سوءٍ، أستغفرك منه فاغفر لي، وأتوب إليك منه فتب علي، وألقي إليك بالسلام قبل أن يكون لزاماً.
قال مالك بن دينار: القراء ثلاثةٌ، قارئٌ للدنيا، وقارئٌ للرحمن عز وجل، وقارئٌ للملوك وأبناء الملوك؛ وإن محمد بن واسع من قراء الرحمن.
حدث جليس لوهب بن منبه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرى النائم، فقلت له: يا رسول الله أين الأبدال من أمتك؟ فأوحى بيده قبل الشام؛ فقلت: يا رسول الله: أما بالعراق منهم أحد؟ قال: " بلى، محمد بن واسع ".
قال مطر: لا نزال بخيرٍ ما بقي لنا أشياخنا مالك وثابت وابن واسع.
قال عبد الواحد بن زيد: كنت جالساً مع ثابت ومالك وأبان وحوشب وفرقد، فذكروا العذاب وما يخافون من قربه ونزوله، فبينا هم كذلك إذ أقبل محمد بن واسع، فقال بعضهم لبعض: ما ذام هذا بين أظهركم فإنا نرجوه.
قال جعفر بن سليمان: كنت إذا أحسست من قلبي قسوةً أتيت محمد بن واسع، فنظرت إليه نظرةً؛ قال: فكنت إذا رأيت وجهه رأيت وجه ثكلى؛ وسمعته يقول: أخوك من وعظك برؤيته قبل أن يعظك بكلامه.
قيل لمحمد بن واسع: لم لا تجلس متكئاً؟ قال: تلك جلسة الآمنين وقيل لمحمد: إنك ترضى بالدون فقال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا.
قال رجلٌ لمحمد بن واسع: إني لأحبك لله؛ قال: أحبك الذي أحببتني له، اللهم إني أعوذ بك أن أحب لك وأنت لي مبغضٌ.
قال أبو الطيب موسى بن سيار: صحبت محمد بن واسع من مكة إلى البصرة، فكان يصلي الليل أجمع في المحمل جالساً يومئ برأسه إيماءً؛ وكان يأمر الخادم يكون خلفه، ويرفع صوته حتى لا يفطن له؛ وكان ربما عرس من الليل، فينزل فيصلي، فإذا أصبح أيقظ أصحابه رجلاً رجلاً، يجيء إليه فيقول: الصلاة الصلاة، فإذا قاموا قال لنا: إن كان الماء قريباً فتوضؤوا، وإن كان الماء فيه بعدٌ وفي الماء الذي معكم قلةٌ فتيمموا، وأبقوا هذا للشفه.
وكان محمد بن واسع يصوم الدهر ويخفي ذلك.
مر محمد بن واسع بقومٍ فقالوا: إن هذا أزهد من في الدنيا؛ فقال محمد لهم: وما قدر الدنيا حتى يحمد من زهد فيها.
قال محمد بن واسع: كل يومٍ منا إلى الموت منقلة؛ وسمع قوماً يقولون: مات فلان وترك الدنيا؛ قال: لقد أعظم هؤلاء الدنيا وما ترك.
أريد محمد بن واسع على القضاء، فأبى، فعاتبته امرأته، فقالت: لك عيالٌ وأنت محتاجٌ؛ قال: ما دمت ترينني أصبر على الخل والبقل فلا تطمعي في هذا مني.
قال رجل لمحمد بن واسع: أوصني؛ قال: أوصيك أن تكون ملكاً في الدنيا والآخرة؛ فقال الرجل: وكيف أكون ملكاً؟ قال: أزهد في الدنيا.
قال مالك بن دينار: إني لأغبط الرجل يكون عيشه كفافاً، فيقنع به؛ قال محمد بن واسع: أغبط من ذلك عندي من يصبح جائعاً ويمسي جائعاً وهو عن الله راضٍ.
قال ابن شوذب: قسم أميرٌ من أمراء البصرة على قراء أهل البصرة، فبعث إلى مالك بن دينار، فقبل، فأتى محمد بن واسع فقال: يا مالك قبلت جوائز السلطان؟ قال: فقال: يا أبا بكر سل جلسائي؛ فقالوا: يا أبا بكر اشترى بها رقاباً فأعتقهم؛ فقال له محمد: أنشدك الله أقلبك الساعة له على ما كان عليه قبل أن يجيزك؟ قال: اللهم لا؛ قال: أترى أي شيءٍ دخل عليك؟ فقال مالك لجلسائه: إنما مالكٌ حمارٌ حمارٌ، إنما يتعبد الله مثل محمد بن واسع.
قال محمد بن واسع: إذا أقبل العبد بقلبه إلى الله تبارك وتعالى أقبل الله إليه بقلوب المؤمنين.
وقال محمد بن واسع: يكفي من الدعاء الورع اليسير، كما يكفي القدر من الملح.
دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم بخراسان، وعليه جبة صوفٍ، فقال له قتيبة: ما يدعوك إلى لبس هذه؟ فسكت؛ فقال قتيبة: أكلمك فلا تجيبني؟ فقال: أكره أن أقول: زهداً؛ فأزكي نفسي أو: فقراً؛ فأشكو ربي.
وقيل له: كيف أصبحت؟ فقال: قريباً أجلي، بعيداً أملي، سيئاً عملي.
قال محمد بن واسع: ليس أحدٌ أفضل من أحدٍ إلا بالعاقبة، ولو اكن للذنوب ريحٌ ما جلس إلينا أحدٌ.
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت موفوراً بالنعم، ورب يتحبب إلينا بالنعم، وهو عنا غني ونتبغض إليه بالمعاصي ونحن إليه فقراء.
كان بين ابن محمد بن واسع وبين رجلٍ شيءٌ، فشكاه إلى أبيه، فأرسل محمد إلى ابنه فقال له: وأي بني أنت؟ والله ما اشتريت أمك إلا بثلاث مئة درهم وما أبوك فلا كثر الله في المسلمين مثله.
قال سعيد ابن عامر: ونحن نقول: كثر الله في المسلمين مثله.
قال محمد بن واسع: ما بقي من لذة الدنيا إلا الصلاة في الجماعة ولقاء الإخوان.
قال محمد بن واسع: لم يبق من العيش إلا ثلاث خصالٍ؛ مجالسة رجلٍ عاقلٍ تصيب في مجالسته خيراً، إن زغت عن الطريق قومك؛ وكفافٌ من المعيشة ليس لله عليك فيه تبعةٌ، ولا لأحدٍ عليك فيه منةٌ؛ وصلاة جماعةٍ تكفي سهوها وتستوجب فضلها.
وقال محمد: إن من الناس ناساً غرهم الستر وفتننهم الثناء، فإن قدرت أن لا يغلب جهل غيرك بك علمك بنفسك فافعل.
قال واصل مولى أبي عيينة:
كنت مع محمد بن واسع بمرو، فأتاه عطاء بن مسلم ومعه ابنه عثمان؛ فقال عطاء لمحمد: أي عملٍ في الدنيا أفضل؟ قال: صحبة الأصحاب، ومحادثة الإخوان إذا اصطحبوا على البر والتقوى فحينئذٍ يذهب الله بالخلاف من بينهم، ولا خير في صحبة الأصحاب، ومحادثة الإخوان، إذا كانوا عبيد بطونهم، لأنهم إذا كانوا كذلك ثبط بعضهم بعضاً عن الآخرة.
قال عطاء: يا أبا عبد الله بينا أنا قائمٌ أصلي وأنا غلامٌ إذ أتاني رجلٌ على فرسٍ؛ فقال: يا غلام، عليك بالبر والتقوى فإن البر والتقى يهديان إلى الإيمان، وإياك والكذب والفجور، فإن الكذب والفجور يهديان إلى النار؛ ثم قال: يا بن أخي اصحب أولياء الله فإن أولياء الله هم الألباء العقلاء الحذرون المسارعون في رضوان الله المراقبون الله، فإذا رأيت أهل هذه الصفة فاقرب منهم، فهم أولياء الله؛ فقلت: كيف أعرف أهل النفاق والكذب والفجور؟ قال: أولئك قومٌ إذا رأيتهم يأباهم قلبك، ولا يقبلهم عقلك، إذا سمعت كلامهم سمعت كلاماً خلو الإرادة، ولا منفعة له، وإياك أن تصحب أهل الخلاف؛ قلت: ومن أهل الخلاف؟ قال: المفارقون للسنة والكتاب؛ أولئك عبيد أهوائهم، تراهم مصطحبين وقلوبهم تلعن بعضهم بعضاً، فاحذر هؤلاء واجتنبهم، وعليك بالصلاة، وانته عن محارم الله، وتقرب إلى الله بالنوافل، فإنك إذا كنت كذلك كنت شاكراً عالماً غنياً؛ ثم التفت فلم أر شيئاً.
مر محمد بن واسع بعثمان البتي فقال: إن هذا يقول فيه أهل البصرة منذ أربعين سنة: إنه خيرهم، وما وقر في قلبه من ذلك شيءٌ.
قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى، حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدنانير والدراهم.
كتب محمد بن واسع إلى رجلٍ من إخوانه: سلامٌ عليك، أما بعد؛ فإن استطعت أن تبيت حين تبيت وأنت نقي الكف من الدم الحرام، خميص البطن من الطعام الحرام، خفيف الظهر من المال الحرام، فافعل؛ فإن فعلت فلا سبيل عليك، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، والسلام عليك.
قال عبد العزيز بن أبي رواد: رأيت في يد محمد بن واسع قرحةً؛ قال: فكأنه رأى ما شق علي منها؛ فقال: أتدري ماذا لله علي في هذه القرحة من نعمة؟ مئة شكرٍ قال: إذ لم يجعلها على حدقتي، ولا على طرف لساني ولا على طرف ذكري؛ فهانت علي قرحته.
فقد محمد بن واسع رجلاً من أصحابه ثم لقيه فكأنه ذهب يعتذر، فقال له محمد: لا عليك مني كان الاكتفاء إذا كانت القلوب بنعمةٍ.
وكان محمد بن واسع عليةٌ، إذا كان الليل دخل ثم أغلقها عليه.
قال محمد بن واسع: أربعةٌ من الشقاء؛ طول الأمل، وقسوة القلب، وجمود العين، والبخل.
وقال: ليس لملولٍ صديقٌ، ولا لحاسدٍ راحةٌ، وإياك والإشارة على المعجب برأيه، فإنه لا يقبل.
رؤي محمد بن واسع يبيع حماراً له بسوق مرو؛ فقال له رجلٌ: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه.
قال الربيع: رأيت محمد بن واسع بهراة يماكس بقالاً؛ فقال: ترك المكاس غبنٌ، ومن رضي بالغبن فقد ضيع ماله.
شتم عمر بن يزيد الأسيدي محمد بن واسع، وهو ساكتٌ لا يرد عليه شيئاً؛ فلما سكت قال له: يا مغرور، توشك أن تندم.
أراد ابن هبيرة محمد بن واسع على القضاء، فقال: لتجلسن أو لأضربنك مئة سوطٍ؛ فقال: إن تفعل فمسلطٌ، وذليل الدنيا خيرٌ من ذليل الآخرة.
قال محمد بن واسع: لقم الغضب وسف التراب خيرٌ من الدنو من السلطان.
وأراده بعض الأمراء على بعض الأمر فأبى، فقال له: إنك لأحمقٌ فقال محمد: ما زلت يقال لي هذا مذ أنا صغيرٌ.
استعمل بعض الأمراء بالبصرة عبد الله بن محمد بن واسع على الشرطة، فأتاه محمد بن واسع؛ فقيل له: محمدٌ بالباب فقال القوم: ظنوا به؛ فقال بعضهم: جاء يشكر الأمير على استعمال ابنه؛ فقال: لا ولكنه جاء يطلب لابنه الإعفاء؛ فأذن له، فدخل، فقال: أيها الأمير، بلغني أنك استعملت ابني، وإني لأحب أن تسترنا، سترك الله؛ قال: قد أعفيناه.
أتى محمد بن واسع رجلاً في حاجةٍ قال: أتيتك في حاجةٍ رفعتها إلى الله قبلك، فإن يأذن الله في قضائها قضيتها، وكنت محموداً؛ وإن لم يأذن في قضائها لم تقضها، وكنت معذوراً؛ قال: فقضى حاجته.
قال عمارة بن مهران:
قال لي محمد بن واسع: ما أعجب إلي منزلك؛ قلت: وما يعجبك من منزلي، وهو عند القبور؟ قال: وما عليك، يقلون الأذى ويذكرونك الآخرة.
قال أبو عاصم: كنت أمشي مع محمد بن واسع، فأتينا على المقابر، فدمعت عيناه، ثم قال لي: يا أبا عاصم، لا يغررك ما ترى من جمودهم، فكأنك بهم قد وثبوا من هذه الأجداث، فمن بين مسرورٍ ومغمومٍ.
لما احتضر محمد بن واسع جعل إخوانه يقولون: أبشر يا أبا عبد الله، فإنا نرجو لك؛ فبكى، ثم قال: يذهب بي إلى النار أو يعفو الله.
قال فضالة بن دينار: حضرت محمد بن واسع، وقد سجي للموت، فجعل يقول: مرحباً بملائكة ربي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وشممت رائحةً طيبةً لم أشم مثلها؛ ثم شخص ببصره، فمات.
توفي محمد بن واسع سنة عشرين ومئة؛ وقيل: سنة ثلاثٍ وعشرين؛ وقيل: سنة سبعٍ وعشرين. قال مالك بن دينار: رأيت محمد بن واسع في الجنة، ورأيت محمد بن سيرين في الجنة، فقلت: أين الحسن؟ قالوا: عند سدرة المنتهى.
ابن عايد بن خارجة بن زياد بن شمس، من ولد عمرو بن نصر بن الأزد أبو عبد الله؛ ويقال: أبو بكر الأزدي البصري قال محمد بن واسع: قدمت مكة فلقيت بها أخي سالم بن عبد الله، فحدثني عن أبيه، عن جده، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيءٍ قديرٌ؛ كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة " قال: فقدمت خراسان فلقيت قتيبة بن مسلم، فقلت: إني أتيتك بهديةٍ، فكان يركب في موكبه فيأتي السوق، فيقولها، ثم يرجع.
قال عبد الواحد بن زيد: خرجت أنا، ومحمد بن واسع، ومالك بن دينار، نؤم بيت المقدس، فلما كنا بين الرصافة وحمص سمعنا منادياً ينادي بين تلك الرمال: يا محفوظ، يا مستور، اعقل في ستر من أنت، فإن كنت لا تعقل فاحذر الدنيا، وإن كنت لا تحسن أن تحذرها فاجعلها شوكةً، وانظر أين تضع رجلك.
وكان أبو عبد الله أحد المعدودين في العبادة ممن يستنصر به ويرجى مشهده، وكان غزا مع قتيبة بن مسلم، فأصابتهم شدةٌ حتى خافوا الهلاك، فقال قتيبة: انظروا محمد بن واسع؛ فطلب فوجدوه في صحراء، قائماً على ركبتيه يدعو ويشير بأصبعه، فأخبر قتيبة بذلك، فقال قتيبة: احملوا على القوم، فإن الله لا يضيع جيشاً فيهم محمد؛ فقال بعض رؤساء العسكر: إنا لم نر عند هذا الرجل الذي طلبت كثير قوةٍ، إنما كان يدعو ويشير بأصبعه؛ فقال: لأصبعه الذي أشار أحب إلي من ألف فارسٍ.
قال أبو جعفر جبير: رأى رجلٌ من أهل البصرة كأن منادياً ينادي من السماء: خير رجلٍ بالبصرة محمد بن واسع.
قال صالح المري:
قال لي مالك بن دينار: اغد علي يا صالح إلى الجبان، فإني قد وعدت نفراً من إخواني بأبي جهير مسعود الضرير، نسلم عليه؛ قال صالح المري: وكان أبو جهيرٍ هذا رجلاً قد انقطع إلى زاويةٍ يتعبد فيها، ولم يكن يدخل البصرة إلا يوم جمعة وقت الصلاة، ثم يرجع من ساعته؛ قال: فغدوت لموعد مالك، وإذا معه محمد بن واسع وثابت البناني وحبيب، فلما رأيتهم قلت: هذا يوم سرورٍ؛ فانطلقنا نريد أبا جهير، فكان مالك إذا مر بموضعٍ نظيفٍ قال: يا ثابت صل ها هنا لعله أن يشهد لك غداً؛ فكان ثابت يصلي، ثم انطلقنا حتى انتهينا إلى موضعه، فسألنا عنه فقالوا: الآن يخرج إلى الصلاة؛ فخرج رجلٌ إن شئت قلت: قد نشر من قبره، فوثب رجلٌ فأخذ بيده حتى أقامه عند باب المسجد، فأذن ثم أمهل يسيراً، ثم دخل المسجد فصلى ما شاء الله، ثم أقام الصلاة، فصلينا معه، فلما قضى صلاته جلس كهيئة المهموم، فتوافر القوم في السلام عليه، فتقدم محمد بن واسع فسلم عليه، فرد عليه والسلام، فقال: من أنت؟ لا أعرف صوتك؛ قال: أنا من أهل البصرة؛ قال: ما اسمك، يرحمك الله؟ قال: أنا محمد بن واسع؛ قال: مرحباً وأهلاً، أنت الذي يقول هؤلاء القوم وأومى بيده إلى البصرة: إنك أفضلهم؟ لله أنت إن قمت بشكر ذلك، اجلس؛ فجلس؛ فقام ثابت البناني، فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال: من أنت، يرحمك الله؟ قال: أنا ثابت البناني قال: مرحباً بك يا ثابت، أنت الذي يزعم أهل هذه القرية أنك من أطولهم صلاةً؟ اجلس، ولقد كنت أتمناك على ربي؛ فقام إليه حبيب أبو محمد، فسلم عليه، فرد عليه السلام، وقال: من أنت، يرحمك الله؟ قال: أنا حبيب أبو محمد؛ فقال: مرحباً بك يا أبا محمد، أنت الذي يزعم هؤلاء القوم أنك لم تسأل الله شيئاً إلا أعطاك؟ فهلا سألته أن يخفي لك ذلك؟ اجلس يرحمك الله؛ وأخذ بيده فأجلسه إلى جنبه؛ فقام إليه مالك بن دينار،
فسلم عليه، فرد عليه؛ وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا مالك بن دينار؛ قال: بخٍ بخٍ، أبو يحيى، إن كنت كما يقولون أنت الذي يزعم هؤلاء القوم أنك أزهدهم؟ اجلس، فالآن تمت أمنيتي على ربي في عاجل الدنيا؛ قال صالح: فقمت إليه لأسلم عليه؛ وأقبل على القوم، فقال: انظروا كيف تكونون غداً بين يدي الله في مجمع القيامة؛ قال: فسلمت عليه، فرد علي؛ فقال: من أنت يرحمك الله؟ قلت: أنا صالح المري؛ قال: أنت الفتى القارئ، أنت أبو بشر؟ قلت: نعم؛ قال: اقرأ يا صالح، فلقد كنت أحب أن أسمع قراءتك؛ قال صالح: فحضرني والله ما كنت قد فقدته، فابتدأت فقرأت، فما استتممت الاستعاذة حتى خر مغشياً عليه، ثم أفاق إفاقةً فقال: عد في قراءتك يا صالح، فإني لم أقطع نفسي منها؛ قال صالح: ورأيت شيئاً عجباً لم أره من أحدٍ من المتعبدين؛ كان إذا سمع القرآن فتح فاه؛ قال: فعدت فقرأت: " " وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثوراً " فصاح صيحةً، ثم انكب لوجهه، وانكشف بعض جسده، فجعل يخور كما يخور الثور، ثم هدأ، فدنونا منه ننظر فإذا هو قد خرجت نفسه كأنه خشبةٌ؛ فخرجنا فسألنا: هل له أحدٌ؟ قالوا: عجوزٌ تخدمه تأتيه الأيام؛ فبعثنا إليها فجاءت فقالت: ما له؟ قلنا: قرئ عليه القرآن فمات قالت: حق له، من ذا الذي قرأ عليه؟ لعله صالح القارئ؟ قلنا: نعم، وما يدريك من صالح؟ قالت: لا أعرفه غير أني كثيراً ما كنت أسمعه يقول: إن قرأ علي صالح قتلني قلنا: هو الذي قرأ عليه؛ قالت: هو الذي قتل حبيبي؛ فهيأناه ودفناه، رحمه الله.
كان محمد بن واسع إذا صلى المغرب يلتزق بالقبلة يصلي؛ فحدث خياطٌ قريبٌ منه قال: كان يقول في دعائه: أستغفرك من كل مقام سوءٍ، ومقعد سوءٍ، ومدخل سوءٍ، ومخرج سوءٍ، وعمل سوءٍ، وقول سوءٍ، ونبز سوءٍ، أستغفرك منه فاغفر لي، وأتوب إليك منه فتب علي، وألقي إليك بالسلام قبل أن يكون لزاماً.
قال مالك بن دينار: القراء ثلاثةٌ، قارئٌ للدنيا، وقارئٌ للرحمن عز وجل، وقارئٌ للملوك وأبناء الملوك؛ وإن محمد بن واسع من قراء الرحمن.
حدث جليس لوهب بن منبه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرى النائم، فقلت له: يا رسول الله أين الأبدال من أمتك؟ فأوحى بيده قبل الشام؛ فقلت: يا رسول الله: أما بالعراق منهم أحد؟ قال: " بلى، محمد بن واسع ".
قال مطر: لا نزال بخيرٍ ما بقي لنا أشياخنا مالك وثابت وابن واسع.
قال عبد الواحد بن زيد: كنت جالساً مع ثابت ومالك وأبان وحوشب وفرقد، فذكروا العذاب وما يخافون من قربه ونزوله، فبينا هم كذلك إذ أقبل محمد بن واسع، فقال بعضهم لبعض: ما ذام هذا بين أظهركم فإنا نرجوه.
قال جعفر بن سليمان: كنت إذا أحسست من قلبي قسوةً أتيت محمد بن واسع، فنظرت إليه نظرةً؛ قال: فكنت إذا رأيت وجهه رأيت وجه ثكلى؛ وسمعته يقول: أخوك من وعظك برؤيته قبل أن يعظك بكلامه.
قيل لمحمد بن واسع: لم لا تجلس متكئاً؟ قال: تلك جلسة الآمنين وقيل لمحمد: إنك ترضى بالدون فقال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا.
قال رجلٌ لمحمد بن واسع: إني لأحبك لله؛ قال: أحبك الذي أحببتني له، اللهم إني أعوذ بك أن أحب لك وأنت لي مبغضٌ.
قال أبو الطيب موسى بن سيار: صحبت محمد بن واسع من مكة إلى البصرة، فكان يصلي الليل أجمع في المحمل جالساً يومئ برأسه إيماءً؛ وكان يأمر الخادم يكون خلفه، ويرفع صوته حتى لا يفطن له؛ وكان ربما عرس من الليل، فينزل فيصلي، فإذا أصبح أيقظ أصحابه رجلاً رجلاً، يجيء إليه فيقول: الصلاة الصلاة، فإذا قاموا قال لنا: إن كان الماء قريباً فتوضؤوا، وإن كان الماء فيه بعدٌ وفي الماء الذي معكم قلةٌ فتيمموا، وأبقوا هذا للشفه.
وكان محمد بن واسع يصوم الدهر ويخفي ذلك.
مر محمد بن واسع بقومٍ فقالوا: إن هذا أزهد من في الدنيا؛ فقال محمد لهم: وما قدر الدنيا حتى يحمد من زهد فيها.
قال محمد بن واسع: كل يومٍ منا إلى الموت منقلة؛ وسمع قوماً يقولون: مات فلان وترك الدنيا؛ قال: لقد أعظم هؤلاء الدنيا وما ترك.
أريد محمد بن واسع على القضاء، فأبى، فعاتبته امرأته، فقالت: لك عيالٌ وأنت محتاجٌ؛ قال: ما دمت ترينني أصبر على الخل والبقل فلا تطمعي في هذا مني.
قال رجل لمحمد بن واسع: أوصني؛ قال: أوصيك أن تكون ملكاً في الدنيا والآخرة؛ فقال الرجل: وكيف أكون ملكاً؟ قال: أزهد في الدنيا.
قال مالك بن دينار: إني لأغبط الرجل يكون عيشه كفافاً، فيقنع به؛ قال محمد بن واسع: أغبط من ذلك عندي من يصبح جائعاً ويمسي جائعاً وهو عن الله راضٍ.
قال ابن شوذب: قسم أميرٌ من أمراء البصرة على قراء أهل البصرة، فبعث إلى مالك بن دينار، فقبل، فأتى محمد بن واسع فقال: يا مالك قبلت جوائز السلطان؟ قال: فقال: يا أبا بكر سل جلسائي؛ فقالوا: يا أبا بكر اشترى بها رقاباً فأعتقهم؛ فقال له محمد: أنشدك الله أقلبك الساعة له على ما كان عليه قبل أن يجيزك؟ قال: اللهم لا؛ قال: أترى أي شيءٍ دخل عليك؟ فقال مالك لجلسائه: إنما مالكٌ حمارٌ حمارٌ، إنما يتعبد الله مثل محمد بن واسع.
قال محمد بن واسع: إذا أقبل العبد بقلبه إلى الله تبارك وتعالى أقبل الله إليه بقلوب المؤمنين.
وقال محمد بن واسع: يكفي من الدعاء الورع اليسير، كما يكفي القدر من الملح.
دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم بخراسان، وعليه جبة صوفٍ، فقال له قتيبة: ما يدعوك إلى لبس هذه؟ فسكت؛ فقال قتيبة: أكلمك فلا تجيبني؟ فقال: أكره أن أقول: زهداً؛ فأزكي نفسي أو: فقراً؛ فأشكو ربي.
وقيل له: كيف أصبحت؟ فقال: قريباً أجلي، بعيداً أملي، سيئاً عملي.
قال محمد بن واسع: ليس أحدٌ أفضل من أحدٍ إلا بالعاقبة، ولو اكن للذنوب ريحٌ ما جلس إلينا أحدٌ.
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت موفوراً بالنعم، ورب يتحبب إلينا بالنعم، وهو عنا غني ونتبغض إليه بالمعاصي ونحن إليه فقراء.
كان بين ابن محمد بن واسع وبين رجلٍ شيءٌ، فشكاه إلى أبيه، فأرسل محمد إلى ابنه فقال له: وأي بني أنت؟ والله ما اشتريت أمك إلا بثلاث مئة درهم وما أبوك فلا كثر الله في المسلمين مثله.
قال سعيد ابن عامر: ونحن نقول: كثر الله في المسلمين مثله.
قال محمد بن واسع: ما بقي من لذة الدنيا إلا الصلاة في الجماعة ولقاء الإخوان.
قال محمد بن واسع: لم يبق من العيش إلا ثلاث خصالٍ؛ مجالسة رجلٍ عاقلٍ تصيب في مجالسته خيراً، إن زغت عن الطريق قومك؛ وكفافٌ من المعيشة ليس لله عليك فيه تبعةٌ، ولا لأحدٍ عليك فيه منةٌ؛ وصلاة جماعةٍ تكفي سهوها وتستوجب فضلها.
وقال محمد: إن من الناس ناساً غرهم الستر وفتننهم الثناء، فإن قدرت أن لا يغلب جهل غيرك بك علمك بنفسك فافعل.
قال واصل مولى أبي عيينة:
كنت مع محمد بن واسع بمرو، فأتاه عطاء بن مسلم ومعه ابنه عثمان؛ فقال عطاء لمحمد: أي عملٍ في الدنيا أفضل؟ قال: صحبة الأصحاب، ومحادثة الإخوان إذا اصطحبوا على البر والتقوى فحينئذٍ يذهب الله بالخلاف من بينهم، ولا خير في صحبة الأصحاب، ومحادثة الإخوان، إذا كانوا عبيد بطونهم، لأنهم إذا كانوا كذلك ثبط بعضهم بعضاً عن الآخرة.
قال عطاء: يا أبا عبد الله بينا أنا قائمٌ أصلي وأنا غلامٌ إذ أتاني رجلٌ على فرسٍ؛ فقال: يا غلام، عليك بالبر والتقوى فإن البر والتقى يهديان إلى الإيمان، وإياك والكذب والفجور، فإن الكذب والفجور يهديان إلى النار؛ ثم قال: يا بن أخي اصحب أولياء الله فإن أولياء الله هم الألباء العقلاء الحذرون المسارعون في رضوان الله المراقبون الله، فإذا رأيت أهل هذه الصفة فاقرب منهم، فهم أولياء الله؛ فقلت: كيف أعرف أهل النفاق والكذب والفجور؟ قال: أولئك قومٌ إذا رأيتهم يأباهم قلبك، ولا يقبلهم عقلك، إذا سمعت كلامهم سمعت كلاماً خلو الإرادة، ولا منفعة له، وإياك أن تصحب أهل الخلاف؛ قلت: ومن أهل الخلاف؟ قال: المفارقون للسنة والكتاب؛ أولئك عبيد أهوائهم، تراهم مصطحبين وقلوبهم تلعن بعضهم بعضاً، فاحذر هؤلاء واجتنبهم، وعليك بالصلاة، وانته عن محارم الله، وتقرب إلى الله بالنوافل، فإنك إذا كنت كذلك كنت شاكراً عالماً غنياً؛ ثم التفت فلم أر شيئاً.
مر محمد بن واسع بعثمان البتي فقال: إن هذا يقول فيه أهل البصرة منذ أربعين سنة: إنه خيرهم، وما وقر في قلبه من ذلك شيءٌ.
قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى، حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدنانير والدراهم.
كتب محمد بن واسع إلى رجلٍ من إخوانه: سلامٌ عليك، أما بعد؛ فإن استطعت أن تبيت حين تبيت وأنت نقي الكف من الدم الحرام، خميص البطن من الطعام الحرام، خفيف الظهر من المال الحرام، فافعل؛ فإن فعلت فلا سبيل عليك، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، والسلام عليك.
قال عبد العزيز بن أبي رواد: رأيت في يد محمد بن واسع قرحةً؛ قال: فكأنه رأى ما شق علي منها؛ فقال: أتدري ماذا لله علي في هذه القرحة من نعمة؟ مئة شكرٍ قال: إذ لم يجعلها على حدقتي، ولا على طرف لساني ولا على طرف ذكري؛ فهانت علي قرحته.
فقد محمد بن واسع رجلاً من أصحابه ثم لقيه فكأنه ذهب يعتذر، فقال له محمد: لا عليك مني كان الاكتفاء إذا كانت القلوب بنعمةٍ.
وكان محمد بن واسع عليةٌ، إذا كان الليل دخل ثم أغلقها عليه.
قال محمد بن واسع: أربعةٌ من الشقاء؛ طول الأمل، وقسوة القلب، وجمود العين، والبخل.
وقال: ليس لملولٍ صديقٌ، ولا لحاسدٍ راحةٌ، وإياك والإشارة على المعجب برأيه، فإنه لا يقبل.
رؤي محمد بن واسع يبيع حماراً له بسوق مرو؛ فقال له رجلٌ: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه.
قال الربيع: رأيت محمد بن واسع بهراة يماكس بقالاً؛ فقال: ترك المكاس غبنٌ، ومن رضي بالغبن فقد ضيع ماله.
شتم عمر بن يزيد الأسيدي محمد بن واسع، وهو ساكتٌ لا يرد عليه شيئاً؛ فلما سكت قال له: يا مغرور، توشك أن تندم.
أراد ابن هبيرة محمد بن واسع على القضاء، فقال: لتجلسن أو لأضربنك مئة سوطٍ؛ فقال: إن تفعل فمسلطٌ، وذليل الدنيا خيرٌ من ذليل الآخرة.
قال محمد بن واسع: لقم الغضب وسف التراب خيرٌ من الدنو من السلطان.
وأراده بعض الأمراء على بعض الأمر فأبى، فقال له: إنك لأحمقٌ فقال محمد: ما زلت يقال لي هذا مذ أنا صغيرٌ.
استعمل بعض الأمراء بالبصرة عبد الله بن محمد بن واسع على الشرطة، فأتاه محمد بن واسع؛ فقيل له: محمدٌ بالباب فقال القوم: ظنوا به؛ فقال بعضهم: جاء يشكر الأمير على استعمال ابنه؛ فقال: لا ولكنه جاء يطلب لابنه الإعفاء؛ فأذن له، فدخل، فقال: أيها الأمير، بلغني أنك استعملت ابني، وإني لأحب أن تسترنا، سترك الله؛ قال: قد أعفيناه.
أتى محمد بن واسع رجلاً في حاجةٍ قال: أتيتك في حاجةٍ رفعتها إلى الله قبلك، فإن يأذن الله في قضائها قضيتها، وكنت محموداً؛ وإن لم يأذن في قضائها لم تقضها، وكنت معذوراً؛ قال: فقضى حاجته.
قال عمارة بن مهران:
قال لي محمد بن واسع: ما أعجب إلي منزلك؛ قلت: وما يعجبك من منزلي، وهو عند القبور؟ قال: وما عليك، يقلون الأذى ويذكرونك الآخرة.
قال أبو عاصم: كنت أمشي مع محمد بن واسع، فأتينا على المقابر، فدمعت عيناه، ثم قال لي: يا أبا عاصم، لا يغررك ما ترى من جمودهم، فكأنك بهم قد وثبوا من هذه الأجداث، فمن بين مسرورٍ ومغمومٍ.
لما احتضر محمد بن واسع جعل إخوانه يقولون: أبشر يا أبا عبد الله، فإنا نرجو لك؛ فبكى، ثم قال: يذهب بي إلى النار أو يعفو الله.
قال فضالة بن دينار: حضرت محمد بن واسع، وقد سجي للموت، فجعل يقول: مرحباً بملائكة ربي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وشممت رائحةً طيبةً لم أشم مثلها؛ ثم شخص ببصره، فمات.
توفي محمد بن واسع سنة عشرين ومئة؛ وقيل: سنة ثلاثٍ وعشرين؛ وقيل: سنة سبعٍ وعشرين. قال مالك بن دينار: رأيت محمد بن واسع في الجنة، ورأيت محمد بن سيرين في الجنة، فقلت: أين الحسن؟ قالوا: عند سدرة المنتهى.