عبد اللَّه أمير المؤمنين القائم بأمر اللَّه بْن أَحْمَد القادر بالله بن إسحاق ابن جَعْفَر المقتدر باللَّه بْن أَحْمَدَ المعتضد باللَّه بْن أَبِي أَحْمَد الموفق بْن جَعْفَر المتوكل عَلَى اللَّه بْن المعتصم باللَّه بن الرشيد، يكنى أبا جعفر :
سمعت علي بن المحسن التنوخي يذكر أن مولده يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وأمه أم ولد تسمى قطر الندى أرمنية أدركت خلافته، وماتت في رجب من سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. بويع بالخلافة للقائم بأمر اللَّه بعد موت أبيه القادر باللَّه في يوم الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة سنة
اثنتين وعشرين وأربعمائة. وكان القادر باللَّه جعله ولي عهده من بعده، ولقبه القائم بأمر اللَّه، وخطب له بذلك في حياته.
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّه التّمّار، حدّثنا محمّد بن المظفر، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ النَّاقِدَ.
وَأَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْعُطَارِدِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدّثنا محمّد ابن جَابِرٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مِنَّا الْقَائِمُ، وَمِنَّا الْمَنْصُورُ، وَمِنَّا السَّفَّاحُ، وَمِنَّا الْمَهْدِيُّ، فَأَمَّا الْقَائِمُ فَتَأْتِيهِ الْخِلافَةُ لَمْ يُهْرَقْ فِيهَا مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، وَأَمَّا الْمَنْصُورُ فَلا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ، وَأَمَّا السَّفَّاحُ فَهُوَ يَسْفَحُ الْمَالَ وَالدَّمَ، وَأَمَّا المهديّ فيملأ الأَرْضُ عَدْلا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا»
. ولَم يزل أمر القائم بأمر الله مستقيمًا إلى أن قُبض عليه في سنة خمسين وأربعمائة، وكان السبب في ذلك؛ أن أرسلان التركي المعروف بالبساسيري كان قد عظم أمره واستفحل شأنه، لعدم نظرائه من مقدمي الأتراك المسمين بالأصفهسلارية، واستولى على البلاد، وانتشر ذكره، وطار اسمه، وتهيبته أمراء العرب والعجم، ودعي له على كثير من المنابر العراقية، وبالأهواز ونواحيها، وجبَى الأموال، وخرب الضياع، ولم يكن الخليفة القائم بأمر اللَّه يقطع أمرًا دونه، ولا يحل ويعقد إلا عن رأيه، ثم صح عند الخليفة سوء عقيدته وشهد عنده جماعة من الأتراك أن البساسيري عرفهم- وهو إذ ذاك بواسط- عزمه على نَهب دار الخليفة، والقبض على الخليفة، فكاتب الخليفة أبا طالب مُحَمَّد بن ميكال المعروف بطغرلبك أمير الغز، وهو بنواحي الري يستنهضه على المسير إلى العراق وانفض أكثر من كان مع البساسيري وعادوا إلى بغداد، ثم أجمع رأيهم على أن قصدوا دار البساسيري وهي بالجانب الغربي في الموضع المعروف بدرب صالِح بقرب الحريم الطاهري فأحرقوها وهدموا أبنيتها، ووصل طغرلبك إلى بغداد في شهر رمضان من سنة سبع وأربعين وأربعمائة، ومضى البساسيري على الفرات إلى الرحبة، وتلاحق به خلق كثير من الأتراك البغداديين، وكاتب صاحب مصر يذكر له كونه في طاعته، وأنه على إقامة الدعوة له بالعراق، فأمده بالأموال وولاه الرحبة، وأقام طغرلبك ببغداد سنة إلى أن خرج منها إلى الموصل وأوقع بأهل سنجار،
وَعاد إِلَى بَغْدَاد فأقام بها مدة، ثُمَّ رجع إلى الموصل وخرج منها متوجهًا إلى نصيبين ومعه أخوه إِبْرَاهِيم إينال، وذلك في سنة خمسين وأربعمائة، فخالف عليه أخوه إِبْرَاهِيم وانصرف بجيش عظيم معه يقصد الري، وكان البساسيري راسل إِبْرَاهِيم يشير عليه بالعصيان لأخيه، ويطمعه في الملك والتفرد به، ويعده بمعاضدته ومظافرته عليه، فسار طغرلبك في أثر أخيه إِبْرَاهِيم وترك عساكره وراءه فتفرقت، غير أن وزيره المعروف بالكندري، وربيبه أنو شروان، وزوجته خاتون، وردوا بغداد بِمن بقي معهم من العسكر في شوال من سنة خمسين وأربعمائة واستفاض الخبر باجتماع طغرلبك مع أخيه إِبْرَاهِيم بِهمذان، وأنَّ إِبْرَاهِيم استظهر على طغرلبك وحصره في مدينة همذان، فعزمت خاتون وابنها أنو شروان والكندري على المسير إلى همذان لإنجاد طغرلبك، واضطرب أمر بغداد اضطرابًا شديدًا، وأرجف المرجفون باقتراب البساسيري، فبطل عزم الكندري عَلَى المسير، فهمت خاتون بالقبض عَلَيْهِ وعلى ابنها لتركهما مساعدتها عَلَى إنجاد زوجها، ففرَّا إلى الجانب الغربي من بغداد، وقطعا الجسر وراءهما، وانتهبت دارهما، واستولى من كَانَ مَعَ خاتون من الغز عَلَى ما تضمنتا من العين والثياب والسلاح، وغير ذَلِكَ من صنوف الأموال، ونفذت خاتون بِمن ضوى إليها وهم جُمهور- العسكر متوجهة نحو همذان، وخرج الكندري وأنو شروان يؤمان طريق الأهواز، فلما كان يوم الجمعة السادس من ذي القعدة تحقق الناس كون البساسيري بالأنبار، ونهضنا إلى صلاة الجمعة بجامع المنصور فلم يحضر الإمام، وأذن المؤذنون بالظهر، ثم نزلوا من المأذنة فأخبروا أنَّهم رأوا عسكر البساسيري حذاء شارع دار الرقيق، فبادرت إلى أبواب الجامع فرأيت من الأتراك البغداديين أصحاب البساسيري نفرًا يسيرًا يسكنون الناس، ويغدون إلى الكرخ فصلى الناس في هذا اليوم بِجامع المنصور ظهرًا أربعًا من غير خطبة، ثم ورد من الغد وهو يوم السبت نحو مائة فارس من عسكر البساسيري، ثم دخل البساسيري بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه الرايات المصرية، فضرب مضاربه على شاطئ دجلة، ونزل هناك والعسكر معه، وأجمع أهل الكرخ والعوام من أهل الجانب الغربي على مضافرة البساسيري، وكان قد جمع العيارين وأهل الرساتيق وكافة الدعار وأطمعهم في نهب دار الخلافة. والناس إذ ذاك في ضر وجهد، قد توالت عليهم سنون مجدبة. والأسعار عالية والأقوات عزيزة، وأقام البساسيري بموضعه والقتال في كل يوم يجرى بين الفريقين في السفن بدجلة، فلما كَانَ يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة دعي لصاحب مصر فِي الخطبة بجامع
المنصور، وزيد فِي الأذان حي عَلَى خير العمل، وشرع البساسيري فِي إصلاح الجسر، فعقده بباب الطاق، وعبر عسكره عَلَيْهِ، وأنزله بالزاهر، وكف الناس عَنِ المحاربة أيامًا، وحضرت الجمعة يوم العشرين من ذي القعدة فدعي لصاحب مصر فِي جامع الرصافة، كما دعي لَهُ فِي جامع المنصور. وخندق الخليفة حول داره ونهر معلى خنادق، وأصلح ما استرم من سور الدار؛ فلما كان من يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي القعدة حشر البساسيري وأهل الجانب الغربي عمومًا، وأهل الكرخ خصوصًا، ونهض بِهم إلى حرب الخليفة، فتحاربوا يومين قتل بينهما قتلى كثيرة، واستهل هلال ذي الحجة، فدلف البساسيري في يوم الثلاثاء ومن معه نحو دار الخلافة، وأضرم النار في الأسواق بنهر معلى وما يليه، ولم يكن بقي بالجانب الغربي إلا نفر ذو عدد، وعبر الخلق للانتهاب، وأحاطوا بدار الخلافة، فنهب ما لا يقدر قدره، ووجه الخليفة إلى قريش بن بدران البدوي العقيلي- وكان ضافر البساسيري وأقبل معه- فأذم قريش الخليفة في نفسه، ولقيه قريش فقبل الأرض بين يديه دفعات، وخرج الخليفة معه من الدار راكبًا وبين يديه راية سوداء، وعلى الخليفة قباء أسود وسيف ومنطقة، وعلى رأسه عمامة تحتها قلنسوة والأتراك في أعراضه وبين يديه، وضرب قريش للخليفة خيمة إزاء بيته بالجانب الشرقي، فدخلها الخليفة وأحدق بِها خدمه، وماشى البساسيري وزير الخليفة أبا القاسم بن المسلمة، ويد البساسيري قابضة على كم الوزير. وقبض على قاضي القضاة أَبِي عبد اللَّه الدامغاني وجماعة معه، وحملوا إلى الحريم الطاهري، وقيد الوزير وقاضي القضاة، فلما كان يوم الجمعة الرابع من ذي الحجة لم يخطب بجامع الخليفة وخطب في سائر الجوامع لصاحب مصر، وفي هذا اليوم انقطعت دعوة الخليفة من بغداد، ولما كان يوم الأربعاء تاسع ذي الحجة- وهو يوم عرفة- أخرج الخليفة من الموضع الذي كان به وحمل إلى الأنبار، ومنها إلى حديثة عانة على الفرات، فحبس هناك وكان صاحب الحديثة والمتولي خدمة الخليفة بنفسه هناك مهارش البدوي، وحكي عنه حسن الطريقة، وجميل المعتقد. فلما كان يوم الإثنين الثامن والعشرين من ذي الحجة شهر الوزير على جمل وطيف به في محال الجانب الغربي، ثم صلب حيًّا بباب خراسان إزاء الترب، وجعل في فكيه كلوبان من الحديد، وعلق على جذع فمات بعد صلاة العصر من هذا اليوم، وأطلق قاضي القضاة أبو عبد اللَّه الدامغاني بمال قرر عليه، وخرجت من بغداد يوم النصف من صفر سنة إحدى وخمسين، فلم يزل الخليفة في محبسه بحديثة عانة إلى أن ظفر طغرلبك بأخيه
إِبْرَاهِيم إينال وقتله ثم كاتب قريشا في إطلاق الخليفة وإعادته إلى داره، وذكر لنا أن البساسيري عزم على ذلك لما بلغه أن طغرلبك متوجه إلى العراق، وأطلع البساسيري أبا منصور عبد الملك بن مُحَمَّد بن يوسف على ذلك، وجعله السفير بينه وبين الخليفة فيه وشرط أن يضمن الخليفة للبساسيري صرف طغرلبك عن وجهه، وأحسب أن طغرلبك كاتب مهارشًا في أمر الخليفة، فأخرجه من محبسه وعبر به الفرات وسار به إلى البرية قصد تكريت في نفر من بني عمه، وأغذ السير حتى وصل به إلى دجلة ثم عبر به وصار في صحبته قصد الجبل، وقد بلغه أن طغرلبك بشهرزور، فلما قطع أكثر الطريق عرف أن طغرلبك قد حصل ببغداد، فعاد سائرًا حتى وصل إلى النهروان، فأقام الخليفة هناك ووجه إليه طغرلبك مضارب ورحالًا وأثاثًا، ثم خرج لتلقيه، فانتهى إلينا ونحن بدمشق في يوم عيد الأضحى من سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، أن الخليفة تخلص من محبسه، وانتهى إلينا لسبع بقين من ذي الحجة خبر حصوله ببغداد في داره، وكتب إليّ من بغداد من ذكر أن الخليفة حصل في داره في يوم الخامس والعشرين من ذي القعدة. وأسرى طغرلبك إلى البساسيري عسكرًا من الغز وهو في بلد بني مزيد بسقي الفرات. فحاربوه إلى أن ظفر به وقتل، وحمل رأسه إلى بغداد فطيف به وعلق إزاء دار الخلافة في اليوم الخامس عشر من ذي الحجة سنة إحدى وخمسين.
سمعت علي بن المحسن التنوخي يذكر أن مولده يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وأمه أم ولد تسمى قطر الندى أرمنية أدركت خلافته، وماتت في رجب من سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. بويع بالخلافة للقائم بأمر اللَّه بعد موت أبيه القادر باللَّه في يوم الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة سنة
اثنتين وعشرين وأربعمائة. وكان القادر باللَّه جعله ولي عهده من بعده، ولقبه القائم بأمر اللَّه، وخطب له بذلك في حياته.
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّه التّمّار، حدّثنا محمّد بن المظفر، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ النَّاقِدَ.
وَأَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْعُطَارِدِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدّثنا محمّد ابن جَابِرٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مِنَّا الْقَائِمُ، وَمِنَّا الْمَنْصُورُ، وَمِنَّا السَّفَّاحُ، وَمِنَّا الْمَهْدِيُّ، فَأَمَّا الْقَائِمُ فَتَأْتِيهِ الْخِلافَةُ لَمْ يُهْرَقْ فِيهَا مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، وَأَمَّا الْمَنْصُورُ فَلا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ، وَأَمَّا السَّفَّاحُ فَهُوَ يَسْفَحُ الْمَالَ وَالدَّمَ، وَأَمَّا المهديّ فيملأ الأَرْضُ عَدْلا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا»
. ولَم يزل أمر القائم بأمر الله مستقيمًا إلى أن قُبض عليه في سنة خمسين وأربعمائة، وكان السبب في ذلك؛ أن أرسلان التركي المعروف بالبساسيري كان قد عظم أمره واستفحل شأنه، لعدم نظرائه من مقدمي الأتراك المسمين بالأصفهسلارية، واستولى على البلاد، وانتشر ذكره، وطار اسمه، وتهيبته أمراء العرب والعجم، ودعي له على كثير من المنابر العراقية، وبالأهواز ونواحيها، وجبَى الأموال، وخرب الضياع، ولم يكن الخليفة القائم بأمر اللَّه يقطع أمرًا دونه، ولا يحل ويعقد إلا عن رأيه، ثم صح عند الخليفة سوء عقيدته وشهد عنده جماعة من الأتراك أن البساسيري عرفهم- وهو إذ ذاك بواسط- عزمه على نَهب دار الخليفة، والقبض على الخليفة، فكاتب الخليفة أبا طالب مُحَمَّد بن ميكال المعروف بطغرلبك أمير الغز، وهو بنواحي الري يستنهضه على المسير إلى العراق وانفض أكثر من كان مع البساسيري وعادوا إلى بغداد، ثم أجمع رأيهم على أن قصدوا دار البساسيري وهي بالجانب الغربي في الموضع المعروف بدرب صالِح بقرب الحريم الطاهري فأحرقوها وهدموا أبنيتها، ووصل طغرلبك إلى بغداد في شهر رمضان من سنة سبع وأربعين وأربعمائة، ومضى البساسيري على الفرات إلى الرحبة، وتلاحق به خلق كثير من الأتراك البغداديين، وكاتب صاحب مصر يذكر له كونه في طاعته، وأنه على إقامة الدعوة له بالعراق، فأمده بالأموال وولاه الرحبة، وأقام طغرلبك ببغداد سنة إلى أن خرج منها إلى الموصل وأوقع بأهل سنجار،
وَعاد إِلَى بَغْدَاد فأقام بها مدة، ثُمَّ رجع إلى الموصل وخرج منها متوجهًا إلى نصيبين ومعه أخوه إِبْرَاهِيم إينال، وذلك في سنة خمسين وأربعمائة، فخالف عليه أخوه إِبْرَاهِيم وانصرف بجيش عظيم معه يقصد الري، وكان البساسيري راسل إِبْرَاهِيم يشير عليه بالعصيان لأخيه، ويطمعه في الملك والتفرد به، ويعده بمعاضدته ومظافرته عليه، فسار طغرلبك في أثر أخيه إِبْرَاهِيم وترك عساكره وراءه فتفرقت، غير أن وزيره المعروف بالكندري، وربيبه أنو شروان، وزوجته خاتون، وردوا بغداد بِمن بقي معهم من العسكر في شوال من سنة خمسين وأربعمائة واستفاض الخبر باجتماع طغرلبك مع أخيه إِبْرَاهِيم بِهمذان، وأنَّ إِبْرَاهِيم استظهر على طغرلبك وحصره في مدينة همذان، فعزمت خاتون وابنها أنو شروان والكندري على المسير إلى همذان لإنجاد طغرلبك، واضطرب أمر بغداد اضطرابًا شديدًا، وأرجف المرجفون باقتراب البساسيري، فبطل عزم الكندري عَلَى المسير، فهمت خاتون بالقبض عَلَيْهِ وعلى ابنها لتركهما مساعدتها عَلَى إنجاد زوجها، ففرَّا إلى الجانب الغربي من بغداد، وقطعا الجسر وراءهما، وانتهبت دارهما، واستولى من كَانَ مَعَ خاتون من الغز عَلَى ما تضمنتا من العين والثياب والسلاح، وغير ذَلِكَ من صنوف الأموال، ونفذت خاتون بِمن ضوى إليها وهم جُمهور- العسكر متوجهة نحو همذان، وخرج الكندري وأنو شروان يؤمان طريق الأهواز، فلما كان يوم الجمعة السادس من ذي القعدة تحقق الناس كون البساسيري بالأنبار، ونهضنا إلى صلاة الجمعة بجامع المنصور فلم يحضر الإمام، وأذن المؤذنون بالظهر، ثم نزلوا من المأذنة فأخبروا أنَّهم رأوا عسكر البساسيري حذاء شارع دار الرقيق، فبادرت إلى أبواب الجامع فرأيت من الأتراك البغداديين أصحاب البساسيري نفرًا يسيرًا يسكنون الناس، ويغدون إلى الكرخ فصلى الناس في هذا اليوم بِجامع المنصور ظهرًا أربعًا من غير خطبة، ثم ورد من الغد وهو يوم السبت نحو مائة فارس من عسكر البساسيري، ثم دخل البساسيري بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه الرايات المصرية، فضرب مضاربه على شاطئ دجلة، ونزل هناك والعسكر معه، وأجمع أهل الكرخ والعوام من أهل الجانب الغربي على مضافرة البساسيري، وكان قد جمع العيارين وأهل الرساتيق وكافة الدعار وأطمعهم في نهب دار الخلافة. والناس إذ ذاك في ضر وجهد، قد توالت عليهم سنون مجدبة. والأسعار عالية والأقوات عزيزة، وأقام البساسيري بموضعه والقتال في كل يوم يجرى بين الفريقين في السفن بدجلة، فلما كَانَ يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة دعي لصاحب مصر فِي الخطبة بجامع
المنصور، وزيد فِي الأذان حي عَلَى خير العمل، وشرع البساسيري فِي إصلاح الجسر، فعقده بباب الطاق، وعبر عسكره عَلَيْهِ، وأنزله بالزاهر، وكف الناس عَنِ المحاربة أيامًا، وحضرت الجمعة يوم العشرين من ذي القعدة فدعي لصاحب مصر فِي جامع الرصافة، كما دعي لَهُ فِي جامع المنصور. وخندق الخليفة حول داره ونهر معلى خنادق، وأصلح ما استرم من سور الدار؛ فلما كان من يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي القعدة حشر البساسيري وأهل الجانب الغربي عمومًا، وأهل الكرخ خصوصًا، ونهض بِهم إلى حرب الخليفة، فتحاربوا يومين قتل بينهما قتلى كثيرة، واستهل هلال ذي الحجة، فدلف البساسيري في يوم الثلاثاء ومن معه نحو دار الخلافة، وأضرم النار في الأسواق بنهر معلى وما يليه، ولم يكن بقي بالجانب الغربي إلا نفر ذو عدد، وعبر الخلق للانتهاب، وأحاطوا بدار الخلافة، فنهب ما لا يقدر قدره، ووجه الخليفة إلى قريش بن بدران البدوي العقيلي- وكان ضافر البساسيري وأقبل معه- فأذم قريش الخليفة في نفسه، ولقيه قريش فقبل الأرض بين يديه دفعات، وخرج الخليفة معه من الدار راكبًا وبين يديه راية سوداء، وعلى الخليفة قباء أسود وسيف ومنطقة، وعلى رأسه عمامة تحتها قلنسوة والأتراك في أعراضه وبين يديه، وضرب قريش للخليفة خيمة إزاء بيته بالجانب الشرقي، فدخلها الخليفة وأحدق بِها خدمه، وماشى البساسيري وزير الخليفة أبا القاسم بن المسلمة، ويد البساسيري قابضة على كم الوزير. وقبض على قاضي القضاة أَبِي عبد اللَّه الدامغاني وجماعة معه، وحملوا إلى الحريم الطاهري، وقيد الوزير وقاضي القضاة، فلما كان يوم الجمعة الرابع من ذي الحجة لم يخطب بجامع الخليفة وخطب في سائر الجوامع لصاحب مصر، وفي هذا اليوم انقطعت دعوة الخليفة من بغداد، ولما كان يوم الأربعاء تاسع ذي الحجة- وهو يوم عرفة- أخرج الخليفة من الموضع الذي كان به وحمل إلى الأنبار، ومنها إلى حديثة عانة على الفرات، فحبس هناك وكان صاحب الحديثة والمتولي خدمة الخليفة بنفسه هناك مهارش البدوي، وحكي عنه حسن الطريقة، وجميل المعتقد. فلما كان يوم الإثنين الثامن والعشرين من ذي الحجة شهر الوزير على جمل وطيف به في محال الجانب الغربي، ثم صلب حيًّا بباب خراسان إزاء الترب، وجعل في فكيه كلوبان من الحديد، وعلق على جذع فمات بعد صلاة العصر من هذا اليوم، وأطلق قاضي القضاة أبو عبد اللَّه الدامغاني بمال قرر عليه، وخرجت من بغداد يوم النصف من صفر سنة إحدى وخمسين، فلم يزل الخليفة في محبسه بحديثة عانة إلى أن ظفر طغرلبك بأخيه
إِبْرَاهِيم إينال وقتله ثم كاتب قريشا في إطلاق الخليفة وإعادته إلى داره، وذكر لنا أن البساسيري عزم على ذلك لما بلغه أن طغرلبك متوجه إلى العراق، وأطلع البساسيري أبا منصور عبد الملك بن مُحَمَّد بن يوسف على ذلك، وجعله السفير بينه وبين الخليفة فيه وشرط أن يضمن الخليفة للبساسيري صرف طغرلبك عن وجهه، وأحسب أن طغرلبك كاتب مهارشًا في أمر الخليفة، فأخرجه من محبسه وعبر به الفرات وسار به إلى البرية قصد تكريت في نفر من بني عمه، وأغذ السير حتى وصل به إلى دجلة ثم عبر به وصار في صحبته قصد الجبل، وقد بلغه أن طغرلبك بشهرزور، فلما قطع أكثر الطريق عرف أن طغرلبك قد حصل ببغداد، فعاد سائرًا حتى وصل إلى النهروان، فأقام الخليفة هناك ووجه إليه طغرلبك مضارب ورحالًا وأثاثًا، ثم خرج لتلقيه، فانتهى إلينا ونحن بدمشق في يوم عيد الأضحى من سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، أن الخليفة تخلص من محبسه، وانتهى إلينا لسبع بقين من ذي الحجة خبر حصوله ببغداد في داره، وكتب إليّ من بغداد من ذكر أن الخليفة حصل في داره في يوم الخامس والعشرين من ذي القعدة. وأسرى طغرلبك إلى البساسيري عسكرًا من الغز وهو في بلد بني مزيد بسقي الفرات. فحاربوه إلى أن ظفر به وقتل، وحمل رأسه إلى بغداد فطيف به وعلق إزاء دار الخلافة في اليوم الخامس عشر من ذي الحجة سنة إحدى وخمسين.