صخر بْن حرب بْن أمية والد مُعَاوِيَة أَبُو سُفْيَان الأموي الْقُرَشِيّ،
لَهُ صحبة.
لَهُ صحبة.
صخر بن حرب بن أمية
ابن عبد شمس بن عبد مناف. أبو سفيان وأبو حنظلة الأموي أسلم يوم الفتح، وشهد اليرموك، وكان القاضي يومئذ.
عن عبد الله بن عباس قال: حدثني أبو سفيان حرب مِن فيه قال: كنا قوماً تجاراً، فكانت الحرب قد حضرتنا حتى نهكت أموالنا. فلما كانت الهدنة، هدنة الحديبية، بيننا وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم نأمن أن وجدنا أمناً، فخرجت تاجراً
إلى الشام مع رهط من قريش. فوالله، ما علمت امرأة بمكة ولا رجلاً إلا قد حمّلني بضاعة، وكان وجه متجرنا من الشام عزَّةَ من أرض فلسطين. فخرجنا حتى قدمناها، وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس، وأخرجهم منها، وردّ عليه صليبه الأعظم، وقد كان استلبوه إياه. فلما بلغه ذلك، وكان منزله بحمص من أرض الشام، فخرج منها يمشي متشكراً إلى بيت المقدس ليصلي فيه، فبسط له البسط، وتطرح له عليها الرياحين حتى انتهى إلى إيلياء، فصلى بها، فأصبح ذات ليلة وهو مهموم، يقلب طرفه إلى السماء فقالت له بطارقته: أيها الملك، لقد أصحبت مهموماً، فقال: أجل، فقالوا: وما ذاك؟ فقال: أُريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر، فقالوا: فوالله ما نعلم أمة من الأمم تختتن إلا اليهود، وهم تحت يدك وفي سلطانك، فإن كان قد وقع هذا في نفسك منهم فابحث في مملكتك كلها فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه، فتستريح من هذا الهم. فإنهم في ذلك من رأيهم يُديرونه إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل ن العرب قد دفع إليهم فقال: أيها الملك، هذا رجل من العرب، من أهل الشاء والإبل يحدثك عن حدث كان ببلاده، فسله عنه، فلما انتهى إليها قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده؟ فقال:
كان رجل من العرب من قريش خرج يزعم أنه نبيّ، وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم من مواطن، فخرجت من بلادي، وهم عن ذلك. فلما أخبره الخبر قال: جرِّدوه، فإذا هو مختون، فقال: هذا والله الذي رأيت، لاماتقولون، أعطه ثوبه. انطلق لشأنك. ثم دعا صاحب شرطته وقال له: قلب في الشام ظهراً وبطناً حتى تأتيني برجل من قوم هذا لنسأله عن شأنه. فوالله إني وأصحابي لبغرّة إذ هجم علينا فسألنا: ممن أنتم؟ فأخبرناه، فساقنا إليه جميعاً. فلما انتهينا إليه - قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف، يريد هرقل ح فلما انتهينا إليه قال: أيّكم أمسّ به رحماً فقلت: أنا. فقال: أدنوه مني، فأجلسني بين يديه ثم أمر بأصحابي فأجلسهم خلفي وقال: إن كذبٍ فردُّوا عليه - قال أبو سفيان: ولقد عرفت أن لو كذبت ما ردوا علي، ولكني كنت امرأ سيداً أتكرم وأستحي من الكذب،
وعرفت أن أدنى ما يكون أن يرووه عني ثم يتحدثوا به عني بمكة، فلم أكذبه - فقال: أخبروني عن هذا الرجل الذي خرج فيكم، فزهدت له شأنه، وصغرت له أمره، فوالله ما التفت إلى ذلك مني وقال: أخبروني عما أسألك عنه من أمره، فقلت: سلني عما بد لك. قال: يكف نسبه فيكم؟ فقلت: محضاً، من أوسطنا نسباً. قال: فأخبروني: هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله، فهو يتشبّه به؟ فقلت: لا. قال: فأخبرني: هل كان له فيكم مثلك فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ قلت: لا. قال: فأخبروني عن أتباعه! مَن هم؟ فقلت: الأحداث والضعفاء والمساكين، فأما أشراف قومه وذوو الأسنان منهم فلا. قال: فأخبروني عمن يصحبه: أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قلت: قلّما صحبه رجل ففارقه. قال: فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه. فقلت: سِجال، يُدال علينا وندال عليه. قال: فأخبرني هل يغدِر؟ فلم أجد شيئاً أغمز فيه إلا هي. قلت: لا، ونحن منه في مدّة، ولا نأمن غدر، فوالله ما التفت إليها مني، وأعاد علي الحديث فقال: زعمت أنه من أمحضكم نسباً، وكذلك يأخذ الله النبي، إذا أخذه لا يأخذه إلا من أوسط قومه. وسألتك: هل كان من هل بيته يقول مثل قوله فهو يتشبّه به؟ فقلت: لا. وسألتك: هل كان له ملك فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملك؟ فقلت: لا. وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الأحداث والمساكين والضعفاء، وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان. وسألتك عمن يتبعه: أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت أنه قلَّ من يصحبه فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان، لا تدخل قلباً فتخرج منه. وسألتك: كيف الحرب بينكم، فزعمت أنها سجال، يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك تكون حرب الأنبياء، ولهم تكون العاقبة. وسألتك: هل يغدِر؟ فزعمت أنه لا يغدر. فلئن كنت صدقتني ليغلبني على ما ملكت قدماي هاتان، ولوددتُ أني عنده فأغسل قدميه. الحق لشأنك، فقمت وأنا أضرب بإحدى يديّ على الأخرى أقول: يا آل عباد الله، لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة. أصبح ملوك بني الأصفر يخافونه في سلطانهم.
أبو كبشة وَجز بن غالب بن عامر بن الحارث - وهو غُبْشان - ووَجْز أبو كبشة أول من عبد الشعري، وكان وجز يقول: إن الشعري يقطع السماء عرضاً ولا أرى في السماء شيئاً، شمساً ولا قمراً، ولا نجماً يقطع السماء عرضاً غيرها. والعرب تسمي الشعرى العَبُور، لأنها تعبر الماء عرضاً. وجز هو أبو كبشة الذي قريش تنسب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، لأنه جده من قِبَل أمه. لأن آمنة بنت وهب وأم وهب قيلة بنت أبي قيلة. واسم أبي قيلة وجز بن غالب، والعرب تظن أن أحداً لا يعمل شيئاً إلا بعرق ينزعه شبهه. فلما خالف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دين قريش، وهدى الله به من الضلالة قال مشركو قريش: نزعة أبي كبشة، لأن أبا كبشة خالف الناس بعبادة الشعرى، فكانوا ينسبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه. وكان أبو كبشة سيداً في خزاعة، لم يعيّروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به من تقصير كان فيه، ولكن لما خالف دينهم نسبوه لخلاف أبي كبشة، فقالوا: خالف كما خالف أبو كبشة.
وأم أبي سفيان صفية بنت حَزْن بن بُجَير بن الهُزَم بن رُوَيبة بن عبد الله بن هلال بن عامر.
وشهد أبو سفيان مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطائف. ورُمي يومئذ فذهبت إحى عينيه. وشهد يوم حنين فأعطاه سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنائم حنين مئة من الإبل وأربعين أوقية، وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية، فقال أبو سفيان: فداك أبي وأمي والله إنك لكريم، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت. فجزاك الله خيراً وتوفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو سفيان عامله على نجران. وكان أبو سفيان ذهب بصره في آخر عمره. ونزل المدينة آخر عمره. ومات بها سنة اثنتين وثلاثين. وقيل: سنة إحدى وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
وولدَ حرب بن أمية با سفيان، والفارعة، وفاختة بني حرب. واسم أبي سفيان صخر. ولم يزل أبو سفيان على الشرك حتى أسلم يوم فتح مكة. وهو كان في عير قريش التي أقبلت من الشام. وخرج سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعترض لها حتى ورد بدراً. وساحل
أبو سفيان بالعير، وهو كان رأس المشركين يوم أحد، وهو كان رئيس الأحزاب يوم الخندق. ولم يزل أبو سفيان بعد انصرافه عن الخندق بمكة لم يلق سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جمع إلى أن فتح صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة. وأسلم أبو سفيان، وشهد الطائف مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورُمي يومئذ، فذهبت إحدى عينيه، وشهد يوم حنين. ولم أصيبت عينه يوم الطائف مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعينه في يده: أيما أحبّ إليك: عين في الجنة أو أدعو الله أن يردها عليك؟ قال: بل عين في الجنة. ورمى بها، وأصيبت عينه الأخرى يوم اليرموك تحت راية يزيد ابنه. وقيل: توفي سنة أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع. وولد قبل الفيل بعشر سنين. وكان ربعاً، عظيم الهامة.
وعن مجاهد " فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفّرِ " قال: أبو سفيان. وقال مالك: أبو سفيان، وأبو جهل وابنه، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن ربيعة. وقيل بدل وابنه: وأمية بن خلف.
وعن سعيد " إِنَّ الذيْنَ كَفَرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالَهُمْ " قال: نزلت في أبي سفيان.
وعن أبي سفيان أن أمية بن أبي الصلت كان معه بغزة - أو قال: بإيلياء - فلما قفلنا قال لي أمية: يا أبا سفيان، هل لك أن نتقدم عن الرفقة فنتحدث؟ قلت: نعم. قال: ففعلنا. فقال له: يا أبا سفيان، إيهٍ عن عتبة بن ربيعة قال: كريم الطرفين ويجتنب المظالم والمحارم. قلت: نعم. قال: وشريف مِسَنّ. قال: السنّ والشرف أزريا به. فقلت له: كذبت، ما ازداد سنّاً إلا ازداد شرفاً. قال: يا أبا سفيان، إنها لكلمة ما سمعت أحداً يقولها لي منذ تنصّرت، لا تعجل علي حتى أخبرك، قال: هات. قال: إني كنت أجد في كتبي نبياً يبعث من حرّتنا هذه، فكنت أظن بك، كنت لا أشك أني هو. فلما دارست أهل
العراق إذ هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحداً يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة. فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس له حين جاوز الأربعين، ولم يوح إليه. قال أبو سفيان: فضرب الدهر ضربه، وأوحي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية بن أبي الصلت فقلت له كالمستهزىء به: يا أمية، قد خرج النبي الذي كنت تنتظر، قال: أما إنه حق فاتبعه. قلت: ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني إلا استحياء من نُسَيّات ثقيف. إني كنت أحدثهن أني هو، ثم يرونني تابعاً لغلام من بني عبد مناف، ثم قال أمية: وكأني بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه، فيحكم فيك ما يريد.
بلغ معاوية أن ابن الزبير يشتمه أبا سفيان فقال: بئس لعمر الله ما يقول في عمه. لكني لا أقول في أبي عبد الله رحمة الله عليه إلا خيراً، أن كان لامرأ صالحاً. خرج أبو سفيان إلى بادية له مردفاً هنداً، وخرجت أسير أمامهما وأنا غلام على حمارة لي إذ لحقنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبو سفيان: انزل يا معاوية حتى يركب محمد، فنزلت عن الحمارة، وركبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسار أمامهما هنيهة ثم التفت إليهما فقال: يا أبا سفيان بن حرب ويا هند بنة عتبة، والله لتموتن ثم لتبعثن ثم ليدخلن المحسن الجنة والمسيىء النار. ون ما أقول لكم لَحقّ، وإنكم لأول ن أنذرتم، ثم قرأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حم تَنْزِلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحيم " حتى بلغ " قَالَتا أَتَيْنَا طَائِعِينَ " فقال له أبو سفيان: أفرغت يا محمد؟ قال: نعم، ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحمارة وركبتها، وأقبلت هند على أبي سفيان وقالت: ألهذا الساحر الكذاب أنزلت ابني؟ قال: لا، والله ما هو بساحرا ولا كذاب.
حدث أبو ميسرة أن غلاماً من بني المغيرة شدّ فاطمة بن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي جويرية - فنادت: يا آل عبد مناف فخرج أبو سفيان يشتد أول الناس.
وعن ثابت البُناني قال: إنما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أوذي وهو بمكة فدخل دار أبي سفيان أمن، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
عن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبد الله بن جبير. قال: ووضعهم موضعاً وقال: إن رأيتمونا تخطّفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم. قال: فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل، وقد بدت أسواقن وجلاجلهن، رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمةَ، أي قومِ الغنيمةَ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنمية. فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، فذلك قوله: يدعوهم الرسول في أخراهم. فلم يبق مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير اثني عشر رجلاً، فأصابوا منها سبعين رجلاً وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أصاب من المشركين يم بدر أربعين ومئة، سبعين اسيراً وسبعين قتيلاً، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، أفي القوم محمد؟ ثلاثاً. قال: فنهاهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجيبوه ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي حقافة، أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وقد كُفيتموهم، فما مالك عمر رضي الله عنه نفسه أن قال: كذبتَ والله يا عدو الله، إن الذي عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك فقال: يم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مُثلة، لم آمر بها ولم تسؤني، ثم أخذ يرتجز:
اعل هُبَل اعل هُبَل
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا تجيبونه؟ " قالوا: يا رسول الله: ما نقول؟ قال: " الله أعلى وأجلّ ". قال: أن لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الا تجيبونه؟ " قالوا: يا رسلو الله، وما نقول؟ قال: " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم ".
وعن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب
أن رجلاً قال لحذيفة: نشكو إلى الله صحبتكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنكم أدركتموه ولم ندركه، ورأيتموه ولم نره، فقال حذيفة: ونحن نشكو إلى الله عز وجلّ إيمانكم به ولم تروه، والله لا ندري يا بن أخي لو أدركَته كيف كنت تكون. لقد رأيتَنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة وقد نزل أبو سفيان وأصحابه بالعرصة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَن رجل يذهب فيعلم لنا عِلم القوم أدخله الله الجنة؟ ثم قال: مَن رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة؟ فوالله ما قام منا أحد، فقال: مَن رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم جعله الله رفيقي يوم القيامة؟ فوالله ما قام منا أحد، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ابعث حذيفة، فقلت: دونك والله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا حذيفة، فقلت: لبيك، بأبي أنت وأمي، فقال: هل أنت ذاهب؟ فقتل: والله، ما بي أن أقتل، ولكين أخشى أن أؤسر، فقال: إنك لن تؤسر، فقلت: مُرني يا رسول الله بما شئت، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهب حتى تدخل بين ظهراني القوم، فائت قريشاً فقل: يا معشر قريش، إنما يريد الناس إذا كان غداً أن يقولوا: أين قريش؟ أي قادة الناس؟ أين رؤوس الناس؟ فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتل فيكم، ثم ائت بني كنانة، فقل: يا معشر كنانة، إنما يريد الناس إذا كان غداً أن يقولوا: أين بني كنانة؟ أين رماة الخندق؟ فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتال فيكم، ثم أئت قيساً فقل: يا معشر قيس، إنما يريد الناس إذا كان غداً أن يقولوا: أين قيس؟ أين أحلاس الخيل: أين الفرسان؟ فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتال فيكم، وقال لي لا تحدث شيئاً في سلاحك حتى تأتيني فتراني، فانطلقت حتى دخلت بين ظهراني القوم، فجعلت أصطلي معهم على نيرانهم، وجعلت ابث ذلك
الحديث الذي أمرني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا كان وجه السحر قام أبو سفيان فدعا اللات والعزى وأشرك. ثم قال: لينظر رجال مَن جليسه؟ ومعي رجل منهم يصطلي على النار، قال: فوثبت إليه، فأخذت بيده مخافة أن يأخذني، فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان ابن فلان، فقلت: أولى، فلما دنا الصبح نادّوا: أين قريش؟ أين رؤوس الناس؟ فقالوا: أيْهات، هذا الذي أُتينا به البارحة. أين بنو كنانة؟ أين الرماة؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أتينا به البارحة. أين قيس؟ أين أحلاس الخيل؟ أين الفرسان؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أُتينا به البارحة، فتخاذلوا. وبعث الله عليهم الريح، فما تركت لهم بناء إلا هدمته، ولا إناء إلا أكفأته، حتى لقد رأيت أبا سفيان وثبت على جمل له معقول فجعل يستحثه ولا يستطيع أني قوم. فولا ما أمرني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سلاحي لرميته أدنى من تلك. قال: فجئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلت أخبره عن أبي سفيان. قال: فجعل يضحك حتى جعلت أنظر إلى أنيابه.
قال مجاهد في قول الله عزّ وجلّ " عَسَى اللهُ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً " قال: مصاهرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي سفيان بن حرب.
قال الزبير: وتزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم حبيبة بنت أبي سفيان. زوجه إياها النجاشي، فقيل لأي سفيان وهو يومئذ مشرك يحارب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن محمداً قد نكح ابنتك قال: ذاك الفحل لا يُقرَع أنفه.
وعن ابن عباس قال:
لما نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمرّ الظهران قال العباس بن عبد المطلب - وقد خرج مع
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة -: يا صباح قريش، والله لئن بغَتَها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بلادها فدخل مكة عَنوة إنه لهلاك قريش آخر الدهر، فجلس على بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيضاء وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطاباً أو صاحب لبن أو داخلاً يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليأتوه فيستأمنوه، فخرجت، فوالله إن لأطوف بالأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حِزام وبُديل بن ورقاء وقد خرجوا يتحسسون الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فسمعت أبا سفيان وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً، فقال بديل بن ورقاء: هذه والله نيران خزاعة، حشَّتها الحرب، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذلَ، فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة وهو أبو سفيان، فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم، فقال: لبيك، فداك أبي وأمي، فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس قد دلف إليكم بما لا قِبَل لكم به، في عشرة آلاف من المسلمين، قال: فكيف الحيلة، فداك أبي وأمي؟ فقلت: تركب في عجز هذه البلغة، فأستأمن لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه والله لئن ظفر بك ليضربَنّ عنقك، فردفني، فخرجت أركض به بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكلما مررت بنارٍ من نيران المسلمين فنظروا إلي قالوا: عّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حى مررت بنار عمر بن الخطاب فنظر فرآه خلفي فقال عمر: أبو سفيان؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد، ثم اشتد نحو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وركضتُ البغلة حتى اقتحمت على باب القبة، وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء، فدخل عمر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله، إن قد أمنته، ثم جلست إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما كثر فيه عمر قلت: فهلا يا عمر، فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال عمر: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما ذاك إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهب به،
فقد آمنّاه حتى تغدو به علي بالغداة. فرجع به إلى منزله. فلما أصبح غدا به على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ويحك يا أبا سفيان!. ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟! فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأرحمك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً بعد، فقال: ويحكم يا أبا سفيان! أولم يأنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟! فقال: بابي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمكَ! أما والله هذه فإن في النفس منها شيئاً. فقال العباس: فقلت: ويلك تشهد بشهادة الحق قبل - والله - أن تضرب عنقك. فتشهد. فقال رسول الله للعباس حين تشهد أبو سفيان: انصرف به يا عباس فاحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود الله، فقلت له: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون له في قومه فقال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن.
فخرجت به حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي فمرّت عليه القبائل، فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سُليم، فيقول: ما لي ولسُليم. وتمر به القبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي ولأسلم، وتمر جهينة فيقول: مالي ولجهينة، حتر مرّ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخضراء، إذ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار في الحديد لا يُرى منهم إلا الحدّق، فقال: يا ابا الفضل، من هؤلاء؟ فقلت: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار، فقال: يا أبا الفضل، لقد اصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقلت: ويحك! إنها النبوة. قال: فنعم إذن. قلت: إلحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعاً حتى جاء مكة، فصرخ في المسجد! يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به. قالوا: فمه، فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقالوا: ويحك: وما دارك وما تغني عنا؟! قال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أعلق عليه داره فهو آمن.
وفي حديث آخر: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس بعدما خرج: " احبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ". قال العباس: فعدلت به في مضيف الوادي إلى خطم الجبل. فلما حبست أبا سفيان قال: غدراً يا بني هاشم؟! فقال العباس: إن أهل النبوة لا يغدرون، ولكن لي إليك حاجة. فقال أبو سفيان؛ فهلا بدأت بها أوّلاً، فقلتَ: إن لي إليك حاجة فكان أفرخ لروعي؟ قال العباس: لم أكن أراك تذهب هذا المذهب.
وعبأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، ومرت القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها. فكان أول من قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالدُ بن الوليد في بني سُليم، وهم ألف، فيه لواء يحمله عباس بن مرداس، ولواء يحمله خُفاف بن نُدبة، وراية يحملها الحجاج بن عِلاط. قال أبو سفيان: من هؤلاء، قال العباس: خالد بن الوليد. قال: الغلام؟ قال: نعم. فلما حاذى خالد بالعباس وإلى جنبه أبو سفيان كبروا ثلاثاً ثم مضَوا. ثم مر على إثره الزبير بن العوام في خمس مئة، منهم مهاجرون وأفناء الناس، ومعه راية سوداء. فلما حاذى أبا سفيان كبر ثلاثاً، وكبر أصحابه، فقال: من هذا؟ قال: الزبير بن العوام. قال: ابن أخيك؟ قال: نعم. ومرت بنو غفار في ثلاث مئة، يحمل رايتهم أبو ذر الغفاري - ويقال: إيماء بن رَحْضة - فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. قال: يا أبا الفضل، من هؤلاء؟ قال: بنو غفار: قال: ما لي ولبني غفار. ثم مضت أسلم في أربع مئة فيها لواءان، يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب، والآخر ناجية بن الأعجم. فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. فقال: من هؤلاء؟ قال: اسلم. قال: يا ابا الفضل، مالي ولأسلم، وما كان بيننا وبينها تِرَة قط. قال العباس: هم قوم مسلمون، دخلوا في الإسلام. ثم مرت بنو كعب بن عَمرو في خمس مئة، يحمل رايتهم بشر بن سفيان. قال: من هؤلاء؟ قال: بنو كعب بن عمرو. قال: نعم، هؤلاء حلفاء محمد. فلما حاذَوه كبّروا ثلاثاً. ثم مرت مزينة في ألف، فيها ثلاثة ألوية، وفيها مئة فرس، يحمل ألويتها النعمان بن مَقرِّن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو. فلما حاذوه كبروا، فقال: من هؤلاء؟ قال: مزينة. قال: يا أبا الفضل، مالي ولمزينة، قد جاءتني تُقعقع من شواهقها. ثم مرت جهينة في ثمان مئة مع قادتها، فيها أربعة ألوية: لواء من أبي رَوْعة معبد بن خالد، ولواء من سويد بن صخر،
ولواء مع رافع بن مَكِيث، ولواء مع عبد الله بن بدر. قال: فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. ثم مرت كنانة، بنو ليث وضمرة وسعد بن بكر في مئتين يحمل لواءهم أبو واقد الليثي. فلما حاذوه كبروا ثلاثاً، فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم، أهل شؤم، والله. هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم. أما والله ما شُوورت فيه، ولا علمته، ولقد كنت له كارهاً حيث بلغني، ولكنه أمرٌ حُمّ. قال العباس: قد خار الله لك في غزو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكم ودخلتم في الإسلام كافة.
وفي حديث آخر قال:
مرت بنو ليث وحدها، وهم مئتان وخمسون، يحمل لواءها الصعب بن جثامة. فلما مر كبروا ثلاثاً، فقال: من هؤلاء قال: بنو ليث. ثم مرت أشجع وهم آخر من مرّ، وهم ثلاث مئة، معهم لواءان: لواء يحمله مَعْقِل بن سنان، ولواء من نُعَيم بن مسعود، فقال أبو سفيان: هؤلاء كانوا شدَّ العرب على محمد، فقال العباس: أدخل الله الإسلام قلوبهم، فهذا من فضل الله، فسكت ثم قال: ما مضى بعد محمد؟ قال العباس: لم يمض بعد. لو رأيت الكتيبة التي فيها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأيت الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحد به طاقة. قال: أظن - والله - يا أبا الفضل، ومن له بهؤلاء طاقة؟ فلما طلعت كتيبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخضراء طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون. كل ذلك يقول: ما مرّ محمد؟ فيقول العباس: لا حتى مرّ يسير على ناقته القصواء بين أبي بكر وأُسيد بن حَضير وهو يحدثهما، فقال العباس: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطن من الأنصار راية ولواء، في الحديد، لا يُرى منهم إلا الحدق، لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها زجل - وعليه الحديد - بصوت عال، وهو يَزعها، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل، من هذا المتكلم؟ قال: عمر بن الخطاب. فقال: لقد أمر أمْرُ بن عدي بعدّ - والله - قلةٍ وذلّة، فقال العباس: يا أبا سفيان، إن الله يرفع من يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام. ويقال: في الكتيبة، ألفا دارع واعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رايته سعد ابن عبادة فهو أمام الكتيبة كلما مرّ سعد براية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نادى: يا ابا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً. فأقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا حاذى بأبي سفيان، ناداه: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه حين
مر بنا قال: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً. وإني أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس، وأفضل الناس. قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول الله، ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صولة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله فيه قريشاً. قال: وأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد، ورأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اللواء لم يخرج من سعد حين صار لابنه، فأبى سعد أن يسلم اللواء إلا بالأمارة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه بعمامته، فعرها سعد، فدفع اللواء إلى ابنه قيس.
وعن أبي الوليد سعيد بن مينا قال:
لما نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح بمرّ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أبا سفيان يحضركم فانتشروا له، فخرجوا فاصابه عمر بن الخطاب فجاء به ملبَّباً، فقال العباس: يا بن الخطاب، ما حملك على الذي صنعت، لقد علمتَ أنه قد دار بيني وبينه لَوْث، ولولا ذلك ما جاء، فقال عمر: لولا أنك عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمت ما أقول لك، دونكه، فجاء به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخلاّه. فلما ولّى راجعاً قال: اجعل لي شيئاً آتِ به قومي، قال: تؤمِن من دخل دارك. فانطلق يسير والناس متفرقون في الأراك والسَّمُر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس: الحق صاحبك، فإني لا آمن أن يكون قد أحسّ في قلبه قلة القوم، أو رآهم متفرقين في السَّمُر والأراك، فيرجع إلى قومه فيخبرهم بذلك، فيرجع كافراً. فانطلق العباس يسير حتى إذا كان حيث ينظر إليه قال: أبا سفيان، قف. فإن لي إليك حاجة. قال: فأخبرني بها أقضها لك. قال: قف حتى أنتهي إليك. قال: غدراً يا بني هاشم؟ قال: ستعمل في آخر يومك أنا لسنا نغدِر، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس فساروا، وأقبل خالد بن الوليد في كتيبة.، فقال أبو سفيان: ابن أخي هذا يا عباس؟ قال: لا، ولكن هذا خالد بن الوليد. ثم جاءت كتيبة أخرى
فقالوا أبو سفيان: ابن أخيك هذا؟ قال: لا، ولكن فلان. ثم جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جماعة الناس، فقال أبو سفيان: إني لأظن هذا ابن أخيك؟ فقال: أجل، إي والله، لقد علمت ما حملك على الذي صنعت، إنما أردت أن تريني هؤلاء قال: أجل، إني حسبت أن يكون في نفسك قلة القوم وهم متفرقون في السَّمُر والأراك، فترجع إلى قومك فتخبرهم بذلك، ثم ترجع كافراً، فقال: أجل والله، لقد كان ذلك في نفسي، فوالله ما زالت أرى الكتائب والقبائل حتى رأيت أن جبال مكة ستسير معهم. فهذا حين أيقنت. فانطلق حتى انتهى إلى الأبطح، وعكرمة أبي جهل واقف في الناس، فقال: يا أبا سفيان، ما وراءك؟ فقال: مالا يدان والله لك به ولا قومك، فقال: إني لأظنك قد صبوت، فقال: وقد كان بعض ذلك، فقال: لعنك الله من رئيس قوم، فوالله لقد هممت أن أبدأ بك. فانطلق، فجاءت العجوز هند كاشفة عن ساقها تقول: أبا سفيان، ما وراءك؟ فقال: يا بنت عم، الخيل، فقالت: ثكل قِبن من وافد قوم، قتلت فلاناً - فسمت ابناً لها - وأكلت لحم معاوية. ونادى مناديه: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فدخلوا داره حتى ملأوها عليه، حتى لاذوا بالحيطان، وأقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس، وبعث خالد بن الوليد من قِبل اليمين، فالتفوا، وصرخ صارخ لقريش: لا قريش، هلكت قريش بعد اليوم، فشار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر مناديه: مَن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن.
قال يزيد الرقاشي: لما أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي سفيان عرض عليه الإسلام، فقال له أبو سفيان: وتحملني على بغلتك، وتكسوني بردتك، وتتخذ معاوية كاتباً - وأراه قال: وتزوج أم حبيبة - ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؟ كل ذلك يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم. فأسلم. فسرحة ومشى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى انتهى إلى مكة، فالتقى القوم فاقتتلوا، ونفذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل المسجد، فجعل يطعن بسية قوسه في عين الصنم، ويقول: " جَاءَ الحقُّ وزهق الباطلُ إن الباطلَ كان زهُوقاً ".
وعن ابن شهاب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم فتح مكة: من دخل دارك يا أبا سفيان ودارك يا حكيم وكف يده فهو آمن. ودار أبي سفيان بأعلى مكة، ودارُ حكيم بأسفل مكة.
وعن سعيد بن المسيب قال: لما كان ليلة دخل الناس مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبو سفيان لهند: أترين هذا من الله؟ قال: ثم أصبح فغدا أبو سفيان إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قلت لهند: أترين هذا من الله؟ نعم، هو من الله، فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد الله ورسوله، والذي يحلف به أبو سفيان ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله وهند.
وعن ابن عباس قال:
رأى أبو سفيان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي والناس يطؤون عقبيه فقال بينه وبين نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ضرب بيده في صدره فقال: إذن يخزيك الله. قال: أتوب إلى الله وأستغفر الله، فما تفوهت به.
وفي حديث آخر بمعناه: فقال: ما أيقنت أنك نبيّ حتى الساعة، إن كنتُ لأحدث نفسي بذلك.
وعن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملتحفاً بثوب من بعض بيوت نسائه، وأبو سفيان جالس في المسجد، فقال أبو سفيان: ما أدري بم يغلبنا محمد، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ضرب في ظهره وقال: بالله يغلبك، فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا نبي الله، ثلاث أسالك أن تعطيَنيهِنّ، قال: وما هنّ؟ قال: عندي أحسن الحرب
وأجملهن أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها. قال: نعم. قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك. قال: نعم، " قال " وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين. قال: نعم. قال أبو زُمَيل: ولولا أنه طلب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أعطاه ذلك، لأنه لم يكن يُسأل شيئاً إلا قال نعم.
وعن ابن المسيب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبى يوم حنين ستة آلاف بين غلام وامرأة، فجعل عليهم أبا سفيان بن حرب.
وعن عبد الله بن يزيد الهذلي قال: كان بين أبي سفيان وبين معقل بن خويلد في سَلَبِ رجل يوم حنين كلام. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا معقل اجتنب مغاضبة قريش.
حدث أبو الهيثم عمن أخبره أنه سمع أبا سفيان بن حرب يمازح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت ابنته أم حبيبة ويقول: والله، إن هو إلا أن تركتك فتركتك العرب إن انتطحت جماء ولا ذات قرن، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحك ويقول: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة؟! وعن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يدخل النار من تزوج إلي أو تزوجي إليه.
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" شرط من ربي شروط ألا أصاهر إلى أحد، ولا يصاهر إلى أحد إلا كانوا رفقائي في الجنة، فاحفظوني في أصهاري وأصحابي، فمن حفظني فيهم كان عليهم من الله حافظ، ومن لم يحفظني فيهم تخلَّ الله عزّ وجل منه. ومن تخلّى الله منه هلك ".
قال محمد بن عمر الواقدي: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد غنم يوم حنين فضة كبيرة، أربعة آلاف أوقية،
فجمعت الغنائم بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء أبو سفيان بن حرب، وبين يديه الفضة، فقال: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريش مالاً، فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: أعطني من هذا المال يا رسول الله، قال: يا بلال، زن لأبي سفيان أربعين أوقية، وأعطوه مئة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني يزيد أعطه. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زنوا ليزيد أربعين أوقية، وأعطوه مئة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني معاوية يا رسول الله، قال: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطوه مئة من الإبل. قال أبو سفيان: إنك لكريم، فداك أبي وأمي، والله لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيراً.
قال عبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيره: كان من إعطاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أصحاب المئين من المؤلفة قلوبهم، من قريش وسائر العرب من بني عبد شمس أبو سفيان بن حرب مئة بعير، وأعطى ابنه معاوية مئة بعير.
وعن إسماعيل بن أمية قال: أفاض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن يمينه أبو سفيان بن حرب وعن يساره الحارث بن هشام، وبين يديه يزيد ومعاوية ابنا أبي سفيان على فرسين.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احفظوني في أصحابي، فمن حفظني في أصاحبي رافقني، وورد على حوضي، ومن لم يحفظني فيهم لم يرد على حوضي، ولم يرني إلا من بعيد ".
عن سفيان الثوري في قوله تعالى: " وَسَلامٌ على عبادهِ الذينَ اطصفَى " قال: هم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن سويد بن غفلة قال:
دخل أبو سفيان بن حرب " على علي والعباس فقال: يا علي وأنت يا عباس ": ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش، في تيم؟! أما والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً، فقال علي: يا أبا سفيان، طالما غششت الإسلام.
كان أبو سفيان بن حرب قاضي الجماعة يوم اليرموك يسير فيهم، ويقول: الله، الله، عباد الله انصروا الله ينصركم، اللهم، هذ1يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.
قال عبد الله بن الزبير: كنت مع أبي عام اليرموك. فلما تعبأ المسلمون للقتال لبس الزبير لأمته، ثم جلس على فرسه، ثم قال لموليين له: احبسا عبد الله بن الزبير معكما في الرحل، فإنه غلام صغير، ثم توجه، ودخل في الناس. فلما اقتتل الناس والروم نظرتُ إلى ناس وقوف على تل لا يقاتلون مع الناس. فأخذت فرساً للزبير خلّفه في الرحل، فركبته، ثم ذهبت إلى أولئك الناس، فوقفت معهم وقلت: أنظر ما يصنع الناس. قال: فإذا أبو سفيان بن حرب في مشيخة من قريش من مهاجرة الفتح وقوفاً لايقاتلون. فلما رأوني رأوا غلاماً حدثاً لم يتقوني. قال: فجعلوا - والله - إذا مال المسلمون وركبهم الروم يقولون: إيهٍ بَلْ أصفر، وإذا مالت الروم وركبهم المسلمون قالوا: يا ويح بَلَ أصفر، فجعلت أعجب من قولهم. فلما هزم الله الروم، ورجع الزبير جعلت أخبره خبرهم. قال: فجعل يضحك ويقول: قاتلهم الله، أبَوا إلا ضغناً وماذا لهم في أن يظهر علينا الروم، ولَنحن خير لهم منهم؟! وعن جويرية بنت أسماء أن عمر بن الخطاب قدم مكة فجعل يجتاز في سككها. فيقول لأهل المنزل: قُمّوا أفنيتكم. فمر بأبي سفيان فقال: يا أبا سفيان، قموا فناءكم، فقال: نعم
يا أمير المؤمنين، يجيء مُهّاننا، ثم إن عمر أجتاز بعد ذلك فرأى الفناء كما كان، فقال: يا ابا سفيان، ألم آمرك أن تقموا أفناءكم، قال: بلى، يا أمير المؤمنين، ونحن نفعل إذا جاء مهاننا. قال: فعلاه بالدِّرَّة بين أذنيه، فضربه، فسمعت هند فقالت: أتضربه؟! أما والله لرُب يوم لو ضربته لاقشعر بك بطن مكة، فقال عمر: صدقت، ولكن الله رفع بالإسلام أقواماً، ووضع به آخرين.
وعنه قال: أغلظ أبو بكر يوماً لأبي سفيان أبو قحافة له: يا أبا بكر لأبي سفيان تقول هذه المقالة؟! قال: يا أبه، إن الله رفع بالإسلام بيوتاً، ووضع بيوتاً. فكان بيتي فيما رفع، وبيت أبي سفيان فيما وضع الله.
قدم عمر بن الخطاب مكة، فوقف على الردم فقال له أهل مكة: إن أبا سفيان قد سدّ علينا مجرى السيل بأحجار وضعها هناك، فقال: عليَّ بأبي سفيان، فجاء فقال: لا أبرح حتى تنقل هذه الحجارة، حجراً حجراً بنفسك، فجعل ينقلها، فلما رأى ذلك عمر قال: الحمد لله الذي جعل عمر يأمر أبا سفيان ببطن مكة فيطيعه.
قال زيد بن اسلم: لما ولي عمر بن الخطاب معاوية الشام خر معه بأبي سفيان بن حرب. قال: فوجّه معاوية مع أبي سفيان إلى عمر بكتاب ومال وكبل. قال: فدفع إلى عمر الكتاب والكبل، وحبس المال. قال عمر: ما أرى نضع هذا الكبل في رجل أحد قبلك. قال: فجاء بالمال، فدفعه إلى عمر.
وعن عبد الله بن عمر قال: لما هلك عمر بن الخطاب وجد عثمان بن عفان في بيت مال المسلمين ألف دينار مكتوباً عليها: عزل ليزيد بن أبي سفيان، وكان عاملاً لعمر. فأرسل عثمان إلى أبي سفيان أنا وجدنا لك في بيت مال المسلمين ألف دينار، فارسل فاقبضها، فأرسل إليه أبو سفيان فقال: لو علم ابن الخطاب لي فيها حقاً لأعطانيها، وماحبسها عني، وأبى أن يأخذها.
قال عبد العزيز بن عمران: قيل لأبي سفيان بن حرب: ما بلغ بك من الشرف ما نرى؟! قال: ما خاصمت رجلاً إلا جعلت للصلح بيني وبينه موضعاً، أو قال: موعداً.
وعن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضي الله عنها أن هنداً أم معاوية قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يدري. فقالت: هل علي في ذلك من شيء؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.
وعن سعيد قال: قال عمر بن الخطاب لأبي سفيان بن حرب: لا أحبك أبداً، رب ليلة غممتَ فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن أنس أن أبا سفيان بن حرب دخل على عثمان بعدما عمي فقال: ها هنا أحد؟ قالوا: لا، قال: اللهم، اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك ملك عاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية.
توفي أبو سفيان سنة إحدى وثلاثين. وقيل: في سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل سنة ثلاث وثلاثين. وقيل: سنة أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان.
ابن عبد شمس بن عبد مناف. أبو سفيان وأبو حنظلة الأموي أسلم يوم الفتح، وشهد اليرموك، وكان القاضي يومئذ.
عن عبد الله بن عباس قال: حدثني أبو سفيان حرب مِن فيه قال: كنا قوماً تجاراً، فكانت الحرب قد حضرتنا حتى نهكت أموالنا. فلما كانت الهدنة، هدنة الحديبية، بيننا وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم نأمن أن وجدنا أمناً، فخرجت تاجراً
إلى الشام مع رهط من قريش. فوالله، ما علمت امرأة بمكة ولا رجلاً إلا قد حمّلني بضاعة، وكان وجه متجرنا من الشام عزَّةَ من أرض فلسطين. فخرجنا حتى قدمناها، وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس، وأخرجهم منها، وردّ عليه صليبه الأعظم، وقد كان استلبوه إياه. فلما بلغه ذلك، وكان منزله بحمص من أرض الشام، فخرج منها يمشي متشكراً إلى بيت المقدس ليصلي فيه، فبسط له البسط، وتطرح له عليها الرياحين حتى انتهى إلى إيلياء، فصلى بها، فأصبح ذات ليلة وهو مهموم، يقلب طرفه إلى السماء فقالت له بطارقته: أيها الملك، لقد أصحبت مهموماً، فقال: أجل، فقالوا: وما ذاك؟ فقال: أُريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر، فقالوا: فوالله ما نعلم أمة من الأمم تختتن إلا اليهود، وهم تحت يدك وفي سلطانك، فإن كان قد وقع هذا في نفسك منهم فابحث في مملكتك كلها فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه، فتستريح من هذا الهم. فإنهم في ذلك من رأيهم يُديرونه إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل ن العرب قد دفع إليهم فقال: أيها الملك، هذا رجل من العرب، من أهل الشاء والإبل يحدثك عن حدث كان ببلاده، فسله عنه، فلما انتهى إليها قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده؟ فقال:
كان رجل من العرب من قريش خرج يزعم أنه نبيّ، وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم من مواطن، فخرجت من بلادي، وهم عن ذلك. فلما أخبره الخبر قال: جرِّدوه، فإذا هو مختون، فقال: هذا والله الذي رأيت، لاماتقولون، أعطه ثوبه. انطلق لشأنك. ثم دعا صاحب شرطته وقال له: قلب في الشام ظهراً وبطناً حتى تأتيني برجل من قوم هذا لنسأله عن شأنه. فوالله إني وأصحابي لبغرّة إذ هجم علينا فسألنا: ممن أنتم؟ فأخبرناه، فساقنا إليه جميعاً. فلما انتهينا إليه - قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف، يريد هرقل ح فلما انتهينا إليه قال: أيّكم أمسّ به رحماً فقلت: أنا. فقال: أدنوه مني، فأجلسني بين يديه ثم أمر بأصحابي فأجلسهم خلفي وقال: إن كذبٍ فردُّوا عليه - قال أبو سفيان: ولقد عرفت أن لو كذبت ما ردوا علي، ولكني كنت امرأ سيداً أتكرم وأستحي من الكذب،
وعرفت أن أدنى ما يكون أن يرووه عني ثم يتحدثوا به عني بمكة، فلم أكذبه - فقال: أخبروني عن هذا الرجل الذي خرج فيكم، فزهدت له شأنه، وصغرت له أمره، فوالله ما التفت إلى ذلك مني وقال: أخبروني عما أسألك عنه من أمره، فقلت: سلني عما بد لك. قال: يكف نسبه فيكم؟ فقلت: محضاً، من أوسطنا نسباً. قال: فأخبروني: هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله، فهو يتشبّه به؟ فقلت: لا. قال: فأخبرني: هل كان له فيكم مثلك فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ قلت: لا. قال: فأخبروني عن أتباعه! مَن هم؟ فقلت: الأحداث والضعفاء والمساكين، فأما أشراف قومه وذوو الأسنان منهم فلا. قال: فأخبروني عمن يصحبه: أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قلت: قلّما صحبه رجل ففارقه. قال: فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه. فقلت: سِجال، يُدال علينا وندال عليه. قال: فأخبرني هل يغدِر؟ فلم أجد شيئاً أغمز فيه إلا هي. قلت: لا، ونحن منه في مدّة، ولا نأمن غدر، فوالله ما التفت إليها مني، وأعاد علي الحديث فقال: زعمت أنه من أمحضكم نسباً، وكذلك يأخذ الله النبي، إذا أخذه لا يأخذه إلا من أوسط قومه. وسألتك: هل كان من هل بيته يقول مثل قوله فهو يتشبّه به؟ فقلت: لا. وسألتك: هل كان له ملك فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملك؟ فقلت: لا. وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الأحداث والمساكين والضعفاء، وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان. وسألتك عمن يتبعه: أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت أنه قلَّ من يصحبه فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان، لا تدخل قلباً فتخرج منه. وسألتك: كيف الحرب بينكم، فزعمت أنها سجال، يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك تكون حرب الأنبياء، ولهم تكون العاقبة. وسألتك: هل يغدِر؟ فزعمت أنه لا يغدر. فلئن كنت صدقتني ليغلبني على ما ملكت قدماي هاتان، ولوددتُ أني عنده فأغسل قدميه. الحق لشأنك، فقمت وأنا أضرب بإحدى يديّ على الأخرى أقول: يا آل عباد الله، لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة. أصبح ملوك بني الأصفر يخافونه في سلطانهم.
أبو كبشة وَجز بن غالب بن عامر بن الحارث - وهو غُبْشان - ووَجْز أبو كبشة أول من عبد الشعري، وكان وجز يقول: إن الشعري يقطع السماء عرضاً ولا أرى في السماء شيئاً، شمساً ولا قمراً، ولا نجماً يقطع السماء عرضاً غيرها. والعرب تسمي الشعرى العَبُور، لأنها تعبر الماء عرضاً. وجز هو أبو كبشة الذي قريش تنسب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، لأنه جده من قِبَل أمه. لأن آمنة بنت وهب وأم وهب قيلة بنت أبي قيلة. واسم أبي قيلة وجز بن غالب، والعرب تظن أن أحداً لا يعمل شيئاً إلا بعرق ينزعه شبهه. فلما خالف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دين قريش، وهدى الله به من الضلالة قال مشركو قريش: نزعة أبي كبشة، لأن أبا كبشة خالف الناس بعبادة الشعرى، فكانوا ينسبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه. وكان أبو كبشة سيداً في خزاعة، لم يعيّروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به من تقصير كان فيه، ولكن لما خالف دينهم نسبوه لخلاف أبي كبشة، فقالوا: خالف كما خالف أبو كبشة.
وأم أبي سفيان صفية بنت حَزْن بن بُجَير بن الهُزَم بن رُوَيبة بن عبد الله بن هلال بن عامر.
وشهد أبو سفيان مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطائف. ورُمي يومئذ فذهبت إحى عينيه. وشهد يوم حنين فأعطاه سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنائم حنين مئة من الإبل وأربعين أوقية، وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية، فقال أبو سفيان: فداك أبي وأمي والله إنك لكريم، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت. فجزاك الله خيراً وتوفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو سفيان عامله على نجران. وكان أبو سفيان ذهب بصره في آخر عمره. ونزل المدينة آخر عمره. ومات بها سنة اثنتين وثلاثين. وقيل: سنة إحدى وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
وولدَ حرب بن أمية با سفيان، والفارعة، وفاختة بني حرب. واسم أبي سفيان صخر. ولم يزل أبو سفيان على الشرك حتى أسلم يوم فتح مكة. وهو كان في عير قريش التي أقبلت من الشام. وخرج سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعترض لها حتى ورد بدراً. وساحل
أبو سفيان بالعير، وهو كان رأس المشركين يوم أحد، وهو كان رئيس الأحزاب يوم الخندق. ولم يزل أبو سفيان بعد انصرافه عن الخندق بمكة لم يلق سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جمع إلى أن فتح صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة. وأسلم أبو سفيان، وشهد الطائف مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورُمي يومئذ، فذهبت إحدى عينيه، وشهد يوم حنين. ولم أصيبت عينه يوم الطائف مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعينه في يده: أيما أحبّ إليك: عين في الجنة أو أدعو الله أن يردها عليك؟ قال: بل عين في الجنة. ورمى بها، وأصيبت عينه الأخرى يوم اليرموك تحت راية يزيد ابنه. وقيل: توفي سنة أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع. وولد قبل الفيل بعشر سنين. وكان ربعاً، عظيم الهامة.
وعن مجاهد " فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفّرِ " قال: أبو سفيان. وقال مالك: أبو سفيان، وأبو جهل وابنه، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن ربيعة. وقيل بدل وابنه: وأمية بن خلف.
وعن سعيد " إِنَّ الذيْنَ كَفَرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالَهُمْ " قال: نزلت في أبي سفيان.
وعن أبي سفيان أن أمية بن أبي الصلت كان معه بغزة - أو قال: بإيلياء - فلما قفلنا قال لي أمية: يا أبا سفيان، هل لك أن نتقدم عن الرفقة فنتحدث؟ قلت: نعم. قال: ففعلنا. فقال له: يا أبا سفيان، إيهٍ عن عتبة بن ربيعة قال: كريم الطرفين ويجتنب المظالم والمحارم. قلت: نعم. قال: وشريف مِسَنّ. قال: السنّ والشرف أزريا به. فقلت له: كذبت، ما ازداد سنّاً إلا ازداد شرفاً. قال: يا أبا سفيان، إنها لكلمة ما سمعت أحداً يقولها لي منذ تنصّرت، لا تعجل علي حتى أخبرك، قال: هات. قال: إني كنت أجد في كتبي نبياً يبعث من حرّتنا هذه، فكنت أظن بك، كنت لا أشك أني هو. فلما دارست أهل
العراق إذ هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحداً يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة. فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس له حين جاوز الأربعين، ولم يوح إليه. قال أبو سفيان: فضرب الدهر ضربه، وأوحي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية بن أبي الصلت فقلت له كالمستهزىء به: يا أمية، قد خرج النبي الذي كنت تنتظر، قال: أما إنه حق فاتبعه. قلت: ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني إلا استحياء من نُسَيّات ثقيف. إني كنت أحدثهن أني هو، ثم يرونني تابعاً لغلام من بني عبد مناف، ثم قال أمية: وكأني بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه، فيحكم فيك ما يريد.
بلغ معاوية أن ابن الزبير يشتمه أبا سفيان فقال: بئس لعمر الله ما يقول في عمه. لكني لا أقول في أبي عبد الله رحمة الله عليه إلا خيراً، أن كان لامرأ صالحاً. خرج أبو سفيان إلى بادية له مردفاً هنداً، وخرجت أسير أمامهما وأنا غلام على حمارة لي إذ لحقنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبو سفيان: انزل يا معاوية حتى يركب محمد، فنزلت عن الحمارة، وركبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسار أمامهما هنيهة ثم التفت إليهما فقال: يا أبا سفيان بن حرب ويا هند بنة عتبة، والله لتموتن ثم لتبعثن ثم ليدخلن المحسن الجنة والمسيىء النار. ون ما أقول لكم لَحقّ، وإنكم لأول ن أنذرتم، ثم قرأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حم تَنْزِلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحيم " حتى بلغ " قَالَتا أَتَيْنَا طَائِعِينَ " فقال له أبو سفيان: أفرغت يا محمد؟ قال: نعم، ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحمارة وركبتها، وأقبلت هند على أبي سفيان وقالت: ألهذا الساحر الكذاب أنزلت ابني؟ قال: لا، والله ما هو بساحرا ولا كذاب.
حدث أبو ميسرة أن غلاماً من بني المغيرة شدّ فاطمة بن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي جويرية - فنادت: يا آل عبد مناف فخرج أبو سفيان يشتد أول الناس.
وعن ثابت البُناني قال: إنما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أوذي وهو بمكة فدخل دار أبي سفيان أمن، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
عن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبد الله بن جبير. قال: ووضعهم موضعاً وقال: إن رأيتمونا تخطّفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم. قال: فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل، وقد بدت أسواقن وجلاجلهن، رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمةَ، أي قومِ الغنيمةَ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنمية. فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، فذلك قوله: يدعوهم الرسول في أخراهم. فلم يبق مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير اثني عشر رجلاً، فأصابوا منها سبعين رجلاً وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أصاب من المشركين يم بدر أربعين ومئة، سبعين اسيراً وسبعين قتيلاً، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، أفي القوم محمد؟ ثلاثاً. قال: فنهاهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجيبوه ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي حقافة، أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وقد كُفيتموهم، فما مالك عمر رضي الله عنه نفسه أن قال: كذبتَ والله يا عدو الله، إن الذي عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك فقال: يم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مُثلة، لم آمر بها ولم تسؤني، ثم أخذ يرتجز:
اعل هُبَل اعل هُبَل
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا تجيبونه؟ " قالوا: يا رسول الله: ما نقول؟ قال: " الله أعلى وأجلّ ". قال: أن لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الا تجيبونه؟ " قالوا: يا رسلو الله، وما نقول؟ قال: " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم ".
وعن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب
أن رجلاً قال لحذيفة: نشكو إلى الله صحبتكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنكم أدركتموه ولم ندركه، ورأيتموه ولم نره، فقال حذيفة: ونحن نشكو إلى الله عز وجلّ إيمانكم به ولم تروه، والله لا ندري يا بن أخي لو أدركَته كيف كنت تكون. لقد رأيتَنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة وقد نزل أبو سفيان وأصحابه بالعرصة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَن رجل يذهب فيعلم لنا عِلم القوم أدخله الله الجنة؟ ثم قال: مَن رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة؟ فوالله ما قام منا أحد، فقال: مَن رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم جعله الله رفيقي يوم القيامة؟ فوالله ما قام منا أحد، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ابعث حذيفة، فقلت: دونك والله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا حذيفة، فقلت: لبيك، بأبي أنت وأمي، فقال: هل أنت ذاهب؟ فقتل: والله، ما بي أن أقتل، ولكين أخشى أن أؤسر، فقال: إنك لن تؤسر، فقلت: مُرني يا رسول الله بما شئت، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهب حتى تدخل بين ظهراني القوم، فائت قريشاً فقل: يا معشر قريش، إنما يريد الناس إذا كان غداً أن يقولوا: أين قريش؟ أي قادة الناس؟ أين رؤوس الناس؟ فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتل فيكم، ثم ائت بني كنانة، فقل: يا معشر كنانة، إنما يريد الناس إذا كان غداً أن يقولوا: أين بني كنانة؟ أين رماة الخندق؟ فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتال فيكم، ثم أئت قيساً فقل: يا معشر قيس، إنما يريد الناس إذا كان غداً أن يقولوا: أين قيس؟ أين أحلاس الخيل: أين الفرسان؟ فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتال فيكم، وقال لي لا تحدث شيئاً في سلاحك حتى تأتيني فتراني، فانطلقت حتى دخلت بين ظهراني القوم، فجعلت أصطلي معهم على نيرانهم، وجعلت ابث ذلك
الحديث الذي أمرني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا كان وجه السحر قام أبو سفيان فدعا اللات والعزى وأشرك. ثم قال: لينظر رجال مَن جليسه؟ ومعي رجل منهم يصطلي على النار، قال: فوثبت إليه، فأخذت بيده مخافة أن يأخذني، فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان ابن فلان، فقلت: أولى، فلما دنا الصبح نادّوا: أين قريش؟ أين رؤوس الناس؟ فقالوا: أيْهات، هذا الذي أُتينا به البارحة. أين بنو كنانة؟ أين الرماة؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أتينا به البارحة. أين قيس؟ أين أحلاس الخيل؟ أين الفرسان؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أُتينا به البارحة، فتخاذلوا. وبعث الله عليهم الريح، فما تركت لهم بناء إلا هدمته، ولا إناء إلا أكفأته، حتى لقد رأيت أبا سفيان وثبت على جمل له معقول فجعل يستحثه ولا يستطيع أني قوم. فولا ما أمرني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سلاحي لرميته أدنى من تلك. قال: فجئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلت أخبره عن أبي سفيان. قال: فجعل يضحك حتى جعلت أنظر إلى أنيابه.
قال مجاهد في قول الله عزّ وجلّ " عَسَى اللهُ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً " قال: مصاهرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي سفيان بن حرب.
قال الزبير: وتزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم حبيبة بنت أبي سفيان. زوجه إياها النجاشي، فقيل لأي سفيان وهو يومئذ مشرك يحارب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن محمداً قد نكح ابنتك قال: ذاك الفحل لا يُقرَع أنفه.
وعن ابن عباس قال:
لما نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمرّ الظهران قال العباس بن عبد المطلب - وقد خرج مع
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة -: يا صباح قريش، والله لئن بغَتَها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بلادها فدخل مكة عَنوة إنه لهلاك قريش آخر الدهر، فجلس على بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيضاء وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطاباً أو صاحب لبن أو داخلاً يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليأتوه فيستأمنوه، فخرجت، فوالله إن لأطوف بالأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حِزام وبُديل بن ورقاء وقد خرجوا يتحسسون الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فسمعت أبا سفيان وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً، فقال بديل بن ورقاء: هذه والله نيران خزاعة، حشَّتها الحرب، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذلَ، فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة وهو أبو سفيان، فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم، فقال: لبيك، فداك أبي وأمي، فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس قد دلف إليكم بما لا قِبَل لكم به، في عشرة آلاف من المسلمين، قال: فكيف الحيلة، فداك أبي وأمي؟ فقلت: تركب في عجز هذه البلغة، فأستأمن لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه والله لئن ظفر بك ليضربَنّ عنقك، فردفني، فخرجت أركض به بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكلما مررت بنارٍ من نيران المسلمين فنظروا إلي قالوا: عّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حى مررت بنار عمر بن الخطاب فنظر فرآه خلفي فقال عمر: أبو سفيان؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد، ثم اشتد نحو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وركضتُ البغلة حتى اقتحمت على باب القبة، وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء، فدخل عمر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله، إن قد أمنته، ثم جلست إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما كثر فيه عمر قلت: فهلا يا عمر، فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال عمر: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما ذاك إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهب به،
فقد آمنّاه حتى تغدو به علي بالغداة. فرجع به إلى منزله. فلما أصبح غدا به على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ويحك يا أبا سفيان!. ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟! فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأرحمك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً بعد، فقال: ويحكم يا أبا سفيان! أولم يأنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟! فقال: بابي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمكَ! أما والله هذه فإن في النفس منها شيئاً. فقال العباس: فقلت: ويلك تشهد بشهادة الحق قبل - والله - أن تضرب عنقك. فتشهد. فقال رسول الله للعباس حين تشهد أبو سفيان: انصرف به يا عباس فاحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود الله، فقلت له: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون له في قومه فقال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن.
فخرجت به حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي فمرّت عليه القبائل، فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سُليم، فيقول: ما لي ولسُليم. وتمر به القبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي ولأسلم، وتمر جهينة فيقول: مالي ولجهينة، حتر مرّ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخضراء، إذ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار في الحديد لا يُرى منهم إلا الحدّق، فقال: يا ابا الفضل، من هؤلاء؟ فقلت: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار، فقال: يا أبا الفضل، لقد اصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقلت: ويحك! إنها النبوة. قال: فنعم إذن. قلت: إلحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعاً حتى جاء مكة، فصرخ في المسجد! يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به. قالوا: فمه، فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقالوا: ويحك: وما دارك وما تغني عنا؟! قال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أعلق عليه داره فهو آمن.
وفي حديث آخر: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس بعدما خرج: " احبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ". قال العباس: فعدلت به في مضيف الوادي إلى خطم الجبل. فلما حبست أبا سفيان قال: غدراً يا بني هاشم؟! فقال العباس: إن أهل النبوة لا يغدرون، ولكن لي إليك حاجة. فقال أبو سفيان؛ فهلا بدأت بها أوّلاً، فقلتَ: إن لي إليك حاجة فكان أفرخ لروعي؟ قال العباس: لم أكن أراك تذهب هذا المذهب.
وعبأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، ومرت القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها. فكان أول من قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالدُ بن الوليد في بني سُليم، وهم ألف، فيه لواء يحمله عباس بن مرداس، ولواء يحمله خُفاف بن نُدبة، وراية يحملها الحجاج بن عِلاط. قال أبو سفيان: من هؤلاء، قال العباس: خالد بن الوليد. قال: الغلام؟ قال: نعم. فلما حاذى خالد بالعباس وإلى جنبه أبو سفيان كبروا ثلاثاً ثم مضَوا. ثم مر على إثره الزبير بن العوام في خمس مئة، منهم مهاجرون وأفناء الناس، ومعه راية سوداء. فلما حاذى أبا سفيان كبر ثلاثاً، وكبر أصحابه، فقال: من هذا؟ قال: الزبير بن العوام. قال: ابن أخيك؟ قال: نعم. ومرت بنو غفار في ثلاث مئة، يحمل رايتهم أبو ذر الغفاري - ويقال: إيماء بن رَحْضة - فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. قال: يا أبا الفضل، من هؤلاء؟ قال: بنو غفار: قال: ما لي ولبني غفار. ثم مضت أسلم في أربع مئة فيها لواءان، يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب، والآخر ناجية بن الأعجم. فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. فقال: من هؤلاء؟ قال: اسلم. قال: يا ابا الفضل، مالي ولأسلم، وما كان بيننا وبينها تِرَة قط. قال العباس: هم قوم مسلمون، دخلوا في الإسلام. ثم مرت بنو كعب بن عَمرو في خمس مئة، يحمل رايتهم بشر بن سفيان. قال: من هؤلاء؟ قال: بنو كعب بن عمرو. قال: نعم، هؤلاء حلفاء محمد. فلما حاذَوه كبّروا ثلاثاً. ثم مرت مزينة في ألف، فيها ثلاثة ألوية، وفيها مئة فرس، يحمل ألويتها النعمان بن مَقرِّن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو. فلما حاذوه كبروا، فقال: من هؤلاء؟ قال: مزينة. قال: يا أبا الفضل، مالي ولمزينة، قد جاءتني تُقعقع من شواهقها. ثم مرت جهينة في ثمان مئة مع قادتها، فيها أربعة ألوية: لواء من أبي رَوْعة معبد بن خالد، ولواء من سويد بن صخر،
ولواء مع رافع بن مَكِيث، ولواء مع عبد الله بن بدر. قال: فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. ثم مرت كنانة، بنو ليث وضمرة وسعد بن بكر في مئتين يحمل لواءهم أبو واقد الليثي. فلما حاذوه كبروا ثلاثاً، فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم، أهل شؤم، والله. هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم. أما والله ما شُوورت فيه، ولا علمته، ولقد كنت له كارهاً حيث بلغني، ولكنه أمرٌ حُمّ. قال العباس: قد خار الله لك في غزو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكم ودخلتم في الإسلام كافة.
وفي حديث آخر قال:
مرت بنو ليث وحدها، وهم مئتان وخمسون، يحمل لواءها الصعب بن جثامة. فلما مر كبروا ثلاثاً، فقال: من هؤلاء قال: بنو ليث. ثم مرت أشجع وهم آخر من مرّ، وهم ثلاث مئة، معهم لواءان: لواء يحمله مَعْقِل بن سنان، ولواء من نُعَيم بن مسعود، فقال أبو سفيان: هؤلاء كانوا شدَّ العرب على محمد، فقال العباس: أدخل الله الإسلام قلوبهم، فهذا من فضل الله، فسكت ثم قال: ما مضى بعد محمد؟ قال العباس: لم يمض بعد. لو رأيت الكتيبة التي فيها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأيت الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحد به طاقة. قال: أظن - والله - يا أبا الفضل، ومن له بهؤلاء طاقة؟ فلما طلعت كتيبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخضراء طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون. كل ذلك يقول: ما مرّ محمد؟ فيقول العباس: لا حتى مرّ يسير على ناقته القصواء بين أبي بكر وأُسيد بن حَضير وهو يحدثهما، فقال العباس: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطن من الأنصار راية ولواء، في الحديد، لا يُرى منهم إلا الحدق، لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها زجل - وعليه الحديد - بصوت عال، وهو يَزعها، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل، من هذا المتكلم؟ قال: عمر بن الخطاب. فقال: لقد أمر أمْرُ بن عدي بعدّ - والله - قلةٍ وذلّة، فقال العباس: يا أبا سفيان، إن الله يرفع من يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام. ويقال: في الكتيبة، ألفا دارع واعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رايته سعد ابن عبادة فهو أمام الكتيبة كلما مرّ سعد براية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نادى: يا ابا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً. فأقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا حاذى بأبي سفيان، ناداه: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه حين
مر بنا قال: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً. وإني أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس، وأفضل الناس. قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول الله، ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صولة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله فيه قريشاً. قال: وأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد، ورأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اللواء لم يخرج من سعد حين صار لابنه، فأبى سعد أن يسلم اللواء إلا بالأمارة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه بعمامته، فعرها سعد، فدفع اللواء إلى ابنه قيس.
وعن أبي الوليد سعيد بن مينا قال:
لما نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح بمرّ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أبا سفيان يحضركم فانتشروا له، فخرجوا فاصابه عمر بن الخطاب فجاء به ملبَّباً، فقال العباس: يا بن الخطاب، ما حملك على الذي صنعت، لقد علمتَ أنه قد دار بيني وبينه لَوْث، ولولا ذلك ما جاء، فقال عمر: لولا أنك عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمت ما أقول لك، دونكه، فجاء به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخلاّه. فلما ولّى راجعاً قال: اجعل لي شيئاً آتِ به قومي، قال: تؤمِن من دخل دارك. فانطلق يسير والناس متفرقون في الأراك والسَّمُر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس: الحق صاحبك، فإني لا آمن أن يكون قد أحسّ في قلبه قلة القوم، أو رآهم متفرقين في السَّمُر والأراك، فيرجع إلى قومه فيخبرهم بذلك، فيرجع كافراً. فانطلق العباس يسير حتى إذا كان حيث ينظر إليه قال: أبا سفيان، قف. فإن لي إليك حاجة. قال: فأخبرني بها أقضها لك. قال: قف حتى أنتهي إليك. قال: غدراً يا بني هاشم؟ قال: ستعمل في آخر يومك أنا لسنا نغدِر، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس فساروا، وأقبل خالد بن الوليد في كتيبة.، فقال أبو سفيان: ابن أخي هذا يا عباس؟ قال: لا، ولكن هذا خالد بن الوليد. ثم جاءت كتيبة أخرى
فقالوا أبو سفيان: ابن أخيك هذا؟ قال: لا، ولكن فلان. ثم جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جماعة الناس، فقال أبو سفيان: إني لأظن هذا ابن أخيك؟ فقال: أجل، إي والله، لقد علمت ما حملك على الذي صنعت، إنما أردت أن تريني هؤلاء قال: أجل، إني حسبت أن يكون في نفسك قلة القوم وهم متفرقون في السَّمُر والأراك، فترجع إلى قومك فتخبرهم بذلك، ثم ترجع كافراً، فقال: أجل والله، لقد كان ذلك في نفسي، فوالله ما زالت أرى الكتائب والقبائل حتى رأيت أن جبال مكة ستسير معهم. فهذا حين أيقنت. فانطلق حتى انتهى إلى الأبطح، وعكرمة أبي جهل واقف في الناس، فقال: يا أبا سفيان، ما وراءك؟ فقال: مالا يدان والله لك به ولا قومك، فقال: إني لأظنك قد صبوت، فقال: وقد كان بعض ذلك، فقال: لعنك الله من رئيس قوم، فوالله لقد هممت أن أبدأ بك. فانطلق، فجاءت العجوز هند كاشفة عن ساقها تقول: أبا سفيان، ما وراءك؟ فقال: يا بنت عم، الخيل، فقالت: ثكل قِبن من وافد قوم، قتلت فلاناً - فسمت ابناً لها - وأكلت لحم معاوية. ونادى مناديه: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فدخلوا داره حتى ملأوها عليه، حتى لاذوا بالحيطان، وأقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس، وبعث خالد بن الوليد من قِبل اليمين، فالتفوا، وصرخ صارخ لقريش: لا قريش، هلكت قريش بعد اليوم، فشار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر مناديه: مَن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن.
قال يزيد الرقاشي: لما أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي سفيان عرض عليه الإسلام، فقال له أبو سفيان: وتحملني على بغلتك، وتكسوني بردتك، وتتخذ معاوية كاتباً - وأراه قال: وتزوج أم حبيبة - ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؟ كل ذلك يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم. فأسلم. فسرحة ومشى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى انتهى إلى مكة، فالتقى القوم فاقتتلوا، ونفذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل المسجد، فجعل يطعن بسية قوسه في عين الصنم، ويقول: " جَاءَ الحقُّ وزهق الباطلُ إن الباطلَ كان زهُوقاً ".
وعن ابن شهاب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم فتح مكة: من دخل دارك يا أبا سفيان ودارك يا حكيم وكف يده فهو آمن. ودار أبي سفيان بأعلى مكة، ودارُ حكيم بأسفل مكة.
وعن سعيد بن المسيب قال: لما كان ليلة دخل الناس مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبو سفيان لهند: أترين هذا من الله؟ قال: ثم أصبح فغدا أبو سفيان إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قلت لهند: أترين هذا من الله؟ نعم، هو من الله، فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد الله ورسوله، والذي يحلف به أبو سفيان ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله وهند.
وعن ابن عباس قال:
رأى أبو سفيان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي والناس يطؤون عقبيه فقال بينه وبين نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ضرب بيده في صدره فقال: إذن يخزيك الله. قال: أتوب إلى الله وأستغفر الله، فما تفوهت به.
وفي حديث آخر بمعناه: فقال: ما أيقنت أنك نبيّ حتى الساعة، إن كنتُ لأحدث نفسي بذلك.
وعن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملتحفاً بثوب من بعض بيوت نسائه، وأبو سفيان جالس في المسجد، فقال أبو سفيان: ما أدري بم يغلبنا محمد، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ضرب في ظهره وقال: بالله يغلبك، فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا نبي الله، ثلاث أسالك أن تعطيَنيهِنّ، قال: وما هنّ؟ قال: عندي أحسن الحرب
وأجملهن أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها. قال: نعم. قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك. قال: نعم، " قال " وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين. قال: نعم. قال أبو زُمَيل: ولولا أنه طلب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أعطاه ذلك، لأنه لم يكن يُسأل شيئاً إلا قال نعم.
وعن ابن المسيب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبى يوم حنين ستة آلاف بين غلام وامرأة، فجعل عليهم أبا سفيان بن حرب.
وعن عبد الله بن يزيد الهذلي قال: كان بين أبي سفيان وبين معقل بن خويلد في سَلَبِ رجل يوم حنين كلام. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا معقل اجتنب مغاضبة قريش.
حدث أبو الهيثم عمن أخبره أنه سمع أبا سفيان بن حرب يمازح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت ابنته أم حبيبة ويقول: والله، إن هو إلا أن تركتك فتركتك العرب إن انتطحت جماء ولا ذات قرن، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحك ويقول: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة؟! وعن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يدخل النار من تزوج إلي أو تزوجي إليه.
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" شرط من ربي شروط ألا أصاهر إلى أحد، ولا يصاهر إلى أحد إلا كانوا رفقائي في الجنة، فاحفظوني في أصهاري وأصحابي، فمن حفظني فيهم كان عليهم من الله حافظ، ومن لم يحفظني فيهم تخلَّ الله عزّ وجل منه. ومن تخلّى الله منه هلك ".
قال محمد بن عمر الواقدي: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد غنم يوم حنين فضة كبيرة، أربعة آلاف أوقية،
فجمعت الغنائم بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء أبو سفيان بن حرب، وبين يديه الفضة، فقال: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريش مالاً، فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: أعطني من هذا المال يا رسول الله، قال: يا بلال، زن لأبي سفيان أربعين أوقية، وأعطوه مئة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني يزيد أعطه. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زنوا ليزيد أربعين أوقية، وأعطوه مئة من الإبل. قال أبو سفيان: ابني معاوية يا رسول الله، قال: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطوه مئة من الإبل. قال أبو سفيان: إنك لكريم، فداك أبي وأمي، والله لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيراً.
قال عبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيره: كان من إعطاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أصحاب المئين من المؤلفة قلوبهم، من قريش وسائر العرب من بني عبد شمس أبو سفيان بن حرب مئة بعير، وأعطى ابنه معاوية مئة بعير.
وعن إسماعيل بن أمية قال: أفاض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن يمينه أبو سفيان بن حرب وعن يساره الحارث بن هشام، وبين يديه يزيد ومعاوية ابنا أبي سفيان على فرسين.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احفظوني في أصحابي، فمن حفظني في أصاحبي رافقني، وورد على حوضي، ومن لم يحفظني فيهم لم يرد على حوضي، ولم يرني إلا من بعيد ".
عن سفيان الثوري في قوله تعالى: " وَسَلامٌ على عبادهِ الذينَ اطصفَى " قال: هم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن سويد بن غفلة قال:
دخل أبو سفيان بن حرب " على علي والعباس فقال: يا علي وأنت يا عباس ": ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش، في تيم؟! أما والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً، فقال علي: يا أبا سفيان، طالما غششت الإسلام.
كان أبو سفيان بن حرب قاضي الجماعة يوم اليرموك يسير فيهم، ويقول: الله، الله، عباد الله انصروا الله ينصركم، اللهم، هذ1يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.
قال عبد الله بن الزبير: كنت مع أبي عام اليرموك. فلما تعبأ المسلمون للقتال لبس الزبير لأمته، ثم جلس على فرسه، ثم قال لموليين له: احبسا عبد الله بن الزبير معكما في الرحل، فإنه غلام صغير، ثم توجه، ودخل في الناس. فلما اقتتل الناس والروم نظرتُ إلى ناس وقوف على تل لا يقاتلون مع الناس. فأخذت فرساً للزبير خلّفه في الرحل، فركبته، ثم ذهبت إلى أولئك الناس، فوقفت معهم وقلت: أنظر ما يصنع الناس. قال: فإذا أبو سفيان بن حرب في مشيخة من قريش من مهاجرة الفتح وقوفاً لايقاتلون. فلما رأوني رأوا غلاماً حدثاً لم يتقوني. قال: فجعلوا - والله - إذا مال المسلمون وركبهم الروم يقولون: إيهٍ بَلْ أصفر، وإذا مالت الروم وركبهم المسلمون قالوا: يا ويح بَلَ أصفر، فجعلت أعجب من قولهم. فلما هزم الله الروم، ورجع الزبير جعلت أخبره خبرهم. قال: فجعل يضحك ويقول: قاتلهم الله، أبَوا إلا ضغناً وماذا لهم في أن يظهر علينا الروم، ولَنحن خير لهم منهم؟! وعن جويرية بنت أسماء أن عمر بن الخطاب قدم مكة فجعل يجتاز في سككها. فيقول لأهل المنزل: قُمّوا أفنيتكم. فمر بأبي سفيان فقال: يا أبا سفيان، قموا فناءكم، فقال: نعم
يا أمير المؤمنين، يجيء مُهّاننا، ثم إن عمر أجتاز بعد ذلك فرأى الفناء كما كان، فقال: يا ابا سفيان، ألم آمرك أن تقموا أفناءكم، قال: بلى، يا أمير المؤمنين، ونحن نفعل إذا جاء مهاننا. قال: فعلاه بالدِّرَّة بين أذنيه، فضربه، فسمعت هند فقالت: أتضربه؟! أما والله لرُب يوم لو ضربته لاقشعر بك بطن مكة، فقال عمر: صدقت، ولكن الله رفع بالإسلام أقواماً، ووضع به آخرين.
وعنه قال: أغلظ أبو بكر يوماً لأبي سفيان أبو قحافة له: يا أبا بكر لأبي سفيان تقول هذه المقالة؟! قال: يا أبه، إن الله رفع بالإسلام بيوتاً، ووضع بيوتاً. فكان بيتي فيما رفع، وبيت أبي سفيان فيما وضع الله.
قدم عمر بن الخطاب مكة، فوقف على الردم فقال له أهل مكة: إن أبا سفيان قد سدّ علينا مجرى السيل بأحجار وضعها هناك، فقال: عليَّ بأبي سفيان، فجاء فقال: لا أبرح حتى تنقل هذه الحجارة، حجراً حجراً بنفسك، فجعل ينقلها، فلما رأى ذلك عمر قال: الحمد لله الذي جعل عمر يأمر أبا سفيان ببطن مكة فيطيعه.
قال زيد بن اسلم: لما ولي عمر بن الخطاب معاوية الشام خر معه بأبي سفيان بن حرب. قال: فوجّه معاوية مع أبي سفيان إلى عمر بكتاب ومال وكبل. قال: فدفع إلى عمر الكتاب والكبل، وحبس المال. قال عمر: ما أرى نضع هذا الكبل في رجل أحد قبلك. قال: فجاء بالمال، فدفعه إلى عمر.
وعن عبد الله بن عمر قال: لما هلك عمر بن الخطاب وجد عثمان بن عفان في بيت مال المسلمين ألف دينار مكتوباً عليها: عزل ليزيد بن أبي سفيان، وكان عاملاً لعمر. فأرسل عثمان إلى أبي سفيان أنا وجدنا لك في بيت مال المسلمين ألف دينار، فارسل فاقبضها، فأرسل إليه أبو سفيان فقال: لو علم ابن الخطاب لي فيها حقاً لأعطانيها، وماحبسها عني، وأبى أن يأخذها.
قال عبد العزيز بن عمران: قيل لأبي سفيان بن حرب: ما بلغ بك من الشرف ما نرى؟! قال: ما خاصمت رجلاً إلا جعلت للصلح بيني وبينه موضعاً، أو قال: موعداً.
وعن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضي الله عنها أن هنداً أم معاوية قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يدري. فقالت: هل علي في ذلك من شيء؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.
وعن سعيد قال: قال عمر بن الخطاب لأبي سفيان بن حرب: لا أحبك أبداً، رب ليلة غممتَ فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن أنس أن أبا سفيان بن حرب دخل على عثمان بعدما عمي فقال: ها هنا أحد؟ قالوا: لا، قال: اللهم، اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك ملك عاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية.
توفي أبو سفيان سنة إحدى وثلاثين. وقيل: في سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل سنة ثلاث وثلاثين. وقيل: سنة أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان.