مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْحَنَفِيَّة مَشْهُور فِي التَّهْذِيب
محمد بن علي بن أبي طالب
ابن الحنفية أبو القاسم، ويقال: أبو عبد الله الهاشمي، المعروف بابن الحنفية وفد على معاوية وعلي عبد الملك بن مروان.
قال محمد بن الحنفية: قدمت على معاوية بن أبي سفيان فسألني عن العمرى فقلت: جعلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن أعطيها، قال: تقولون ذلك؟ قلت: نعم؛ قال: فإني أشهد أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أعمر عمرى فهي له يرثها من عقبه من يرثه ".
وحدث محمد بن الحنفية، عن علي، قال: كنت رجلاً مذاءً فكرهت أن أسأله يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: " منه الوضوء ".
قال أبو عاصم: صرع محمد بن علي مروان يوم الجمل وجلس على صدر مروان، فلما وفد محمد علي عبد الملك قال له: أتذكر يوم جلست على صدر مروان؟ قال: عفواً يا أمير المؤمنين؛ قال: أم والله ما ذكرت ذلك وأنا أريد أن أكافئك به ولكن أردت أن تعلم أني قد علمت.
وأم محمد بن علي: خولة بنت جعفر بن مسلمة بن قيس بن ثعلبة بن يربوع بن فلان بن حنيفة؛ وسمته الشيعة المهدي، فقال كثير: من الوافر
هو المهدي أخبرناه كعبٌ ... أخو الأحبار في الحقب الخوالي
فقيل لكثير: لقيت كعب الأحبار؟ قال: لا؛ قيل: فلم قلت: أخبرناه كعبٌ؟ قال: بالوهم.
وقال كثير أيضاً: من الوافر
ألا إن الأئمة من قريشٍ ... ولاة الحق أربعةٌ سواء
علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبطٌ سبط إيمانٍ وبر ... وسبط غيبته كربلاء
وسبطٌ لا تراه العين حتى ... يقود الخيل يقدمها لواء
تغيب لا يرى عنهم زماناً ... برضوى عنده عسلٌ وماء
وكانت شيعة محمد بن علي يزعمون أنه لم يمت؛ وله يقول السيد: من الوافر
ألا قل للوصي فدتك نفسي ... أطلت بذلك الجبل المقاما
أضر بمعشرٍ والوك منا ... وسموك الخليفة والإماما
وعادوا فيك أهل الأرض طراً ... مقامك عنهم ستين عاما
وما ذاق ابن خولة طعم موتٍ ... ولا وارت له أرضٌ عظاما
لقد أمسى بمورق شعب رضوى ... تراجعه الملائكة الكراما
وإن له به لمقيل صدقٍ ... وأنديةً تحدته كراما
هدانا الله إذا حرتم لأمرٍ ... به وعليه نلتمس التماما
تمام مودة المهدي حتى ... تروا راياتنا تترى نظاما
وقال السيد في ذلك أيضاً: من الكامل
يا شعب رضوى ما لمن بك لا يرى ... وبنا إليه من الصبابة أولق
حتى متى وإلى متى وكم المدا ... يا بن الوصي وأنت حي ترزق
وكانت أم محمد بن علي من سبي اليمامة، وولد في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، وكان عبد الله بن الحسن يذكر أن أبا بكرٍ أعطى علياً أم محمد بن الحنفية.
قالت أسماء بنت أبي بكر: رأيت أم محمد بن الحنفية سنديةً سوداء، وكانت أمةً لبني حنيفة ولم تك منهم وإنما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق ولم يصالحهم علي أنفسهم.
قال ابن الحنفية: كانت رخصةً لعلي، قال: يا رسول الله: إن ولد لي بعدك أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: " نعم " فكنى محمد بن الحنفية أبا القاسم وسماه باسمه؛ وقيل: كانت كنيته أبو عبد الله.
وروى محمد بن علي عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن ولد لك غلام فسمه باسمي وكنه بكنيتي وهو رخصة لك دون الناس ".
وروى أيضاً عن أبيه علي قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سيولد لك ولدٌ قد نحلته اسمي وكنيتي ".
وقع بين علي وطلحة كلامٌ، فقال له طلحة: لا كجرأتك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سميت باسمه وكنيت بكنيته وقد نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجمعهما أحد من أمته بعده؛ فقال علي: إن الجريء من اجترأ على الله وعلى رسوله، اذهب يا فلان فادع لي فلاناً وفلاناً لنفرٍ من قريش؛ قال: فجاؤوا فقال: بم تشهدون؟ قالوا: نشهد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنه سيولد لك بعدي غلام فقد نحلته اسمي وكنيتي ولا يحل لأحدٍ من أمتي بعده ".
قال محمد بن الحنفية: الحسن والحسين خيرٌ مني، وأنا أعلم بحديث أبي منهما.
وفي آخر غيره: ولقد علما أنه كان يستخليني دونهما، وإني صاحب البغلة الشهباء.
قال إبراهيم بن الجنيد الختلي: لا يعلم أحد السند عن علي، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر ولا أصح مما أسند محمد بن الحنفية.
كتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان يتهدده ويتوعده ويحلف له ليحملن إليه مئة ألفٍ في البر ومئة ألفٍ في البحر أو يؤدي إليه الجزية؛ فسقط في روعه، فكتب إلى الحجاج: أن أكتب إلى ابن الحنفية فتهدده وتوعده ثم أعلمني ما يرد عليك؛ فكتب الحجاج إلى ابن الحنفية بكتابٍ شديدٍ يتهدده ويتوعده فيه بالقتل، فكتب إليه ابن الحنفية: إن لله تعالى ثلاث مئة وستين لحظةً إلى خلقه، وأنا أرجو أن ينظر الله إلي نظرةً يمنعني بها منك؛ فبعث الحجاج بكتابه إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى ملك الروم بنسخته، فقال ملك الروم: ما خرج هذا منك ولا أنت كتبت به، ما خرج إلا من بيت نبوة.
سأل رجل ابن عمر في مسألة فقال له: سل محمد بن الحنفية ثم أخبرني ما يقول؛ فسأله عنها فأخبره فقال ابن عمر: أهل بيتٍ مفهمون.
قال عبد الواحد بن أيمن: بعثني أبي إلى محمد بن علي فرأيته مكحول العينين، فجئت فقلت لأبي: بعثتني إلى رجل كذا وكذا وقعت فيه فقال: يا بني ذاك خير الناس.
وقع بين الحسين بن علي وبين محمد بن الحنفية كلامٌ جلس كل واحد منهما عن صاحبه، فكتب إليه محمد بن الحنفية: أبي وأبوك علي بن أبي طالب، وأمي امرأةٌ من بني حنيفة لا ينكر شرفها في قومها، ولكن أمك فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت أحق بالفضل مني فصر إلي حتى ترضاني؛ فلبس الحسين رداءه ونعله فصار إليه فترضاه.
قال الرزهي: قال رجل لمحمد بن الحنفية: ما بال أبيك كان يرمي بك في مرامٍ لا يرمي فيها الحسن والحسين؟ فقال لأنهما كانا خديه وكنت يده، فكان يتوقى بيده عن خديه.
وكان محمد بن علي يمشط رأس أمه ويذوبها يعني من الذؤابة.
وفي حديث: كان يغلف رأس أمه ويمشطها وينومها.
وعن محمد بن الحنفية، قال: ليس بالحليم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً حتى يجعل الله من أمره فرجاً، أو قال: مخرجاً.
سأل رجل محمد بن الحنفية فقال له: أجد غماً لا أعرف له سبباً، وقد ضاق قلبي؟ فقال محمد: غم لم تعرف له سبباً، عقوبة ذنبٍ لم تفعله فقال الرجل: فما معنى ذلك؟ فقال: المعنى في ذلك أن القلب يهم بالمعصية فلا تساعده الجوارح فيعاقب بالغم دون الجوارح.
قال محمد بن الحنفية: من كرمت نفسه عليه لم يكن للدنيا عنده قدر.
قيل لابن الحنفية: من أعظم الناس قدراً؟ قال: من لم ير الدنيا كلها لنفسه خطراً.
قال محمد بن الحنفية: إن الله جعل الجنة ثمناً لأنفسكم فلا تبيعوها بغيرها.
قال ابن الحنفية:
من أحب رجلاً لله أثابه الله ثواب من أحب رجلاً من أهل الجنة، وإن كان الذي أحبه من أهل النار، لأنه أحبه على خصلةٍ حسنةٍ رآها منه؛ ومن أبغض رجلاً لله
أثابه الله ثواب من أبغض رجلاً من أهل النار، وإن كان الذي أبغضه من أهل الجنة، لأنه أبغضه على خصلةٍ سيئةٍ رآها منه.
قيل لمحمد بن علي بن الحنفية: إن رجلاً من قريش يقع فيك؛ قال: بحسبي من نعم الله عز وجل على أن نجى غيري مني ولم ينجني من غيري.
قال محمد بن الحنفية: أيها الناس، اعلموا أن حوائج الناس إليكم نعم من الله عليكم فلا تملوها فتحول نقماً، واعلموا أن أفضل المال ما أفاد ذخراً وأورث ذكراً وأوجب أجراً، ولو رأيتم المعروف رجلاً لرأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين ويفوق العالمين.
قال محمد بن الحنفية: الكمال في ثلاث؛ الفقه في الدين، والصبر على النوائب، وحسن تقعير المعيشة.
لما جاء نعي معاوية بن أبي سفيان إلى المدينة كان بها يومئذ الحسين بن علي ومحمد بن الحنفية وابن الزبير، وكان ابن عباس بمكة، فخرج الحسين وابن الزبير إلى مكة وأقام ابن الحنفية بالمدينة حتى سمع بدنو جيش مسرفٍ أيام الحرة، فرحل إلى مكة فأقام مع ابن عباس؛ فلما جاء نعي يزيد بن معاوية وبايع ابن الزبير لنفسه ودعا الناس إليه دعا ابن عباس ومحمد بن الحنفية إلى البيعة له فأبيا يبايعان له، وقالا: حتى تجتمع لك البلاد ويأتسق لك الناس؛ فأقاما على ذلك مرةً يكاشرهما ومرةً يلين لهما؛ ثم غلط عليهما فوقع منهم كلامٌ وشر؛ فلم يزل الأمر يغلط حتى خافا منه خوفاً شديداً؛ ومعهما النساء والذرية؛ فأساء جوارهم وحصرهم وآذاهم، وقصد محمد بن الحنفية فأظهر شتمه وعيبه وأمره وبني هاشم أن يلزموا شعبهم بمكة، وجعل عليهم الرقباء وقال: فما تقول؟ والله لتبايعن أو لأحرقنكم بالنار فخافوا على أنفسهم.
قال أبو عامر: فرأيت محمد بن الحنفية محبوساً في زمزم والناس يمتنعون من الدخول عليه، فقلت: لأدخلن عليه، فدخلت فقلت: ما بالك وهذا الرجل؟ قال: دعاني إلى
البيعة فقلت: إنما أنا من المسلمين فإذا اجتمعوا عليك فأنا كأحدهم، فلم يرض بهذا مني فاذهب إلى ابن عباس فأقره عني السلام وقل: يقول لك ابن عمك: ما ترى؟ قال أبو عامر: فدخلت على ابن عباس وهو ذاهب البصر، فقال: من أنت؟ فقلت: أنصاري؛ فقال: رب أنصاري هو أشد علينا من عدونا فقلت: لا تخف، أنا ممن لك كله؛ قال: هات؛ فأخبرته بقول ابن الحنفية فقال: قل له: لا تعطه ولا نعمة عين إلا ما قلت ولا تزده عليه؛ فرجعت إلى ابن الحنفية فأبلغتها؛ قال ابن عباس: فهم ابن الحنفية أن يقدم إلى الكوفة، وبلغ ذلك المختار فثقل عليه قدومه فقال: إن في المهدي علامة، يقدم بلدكم هذا فيضربه رجلٌ في السوق ضربةً بالسيف لا تضره ولا تحيك فيه فبلغ ذلك ابن الحنفية فأقام يعني خاف أن يجرب فيه فيموت، فقيل له: لو بعثت إلى شيعتك بالكوفة فأعلمتهم ما أنتم فيه؛ فبعث أبا الطفيل عامر بن واثلة إلى شيعتهم بالكوفة فقدم عليهم فقال: إنا لا نأمن ابن الزبير على هؤلاء القوم وأخبرهم بما هم فيه من الخوف فقطع المختار بعثاً إلى مكة فانتدب منهم أربعة آلاف فعقد لأبي عبد الله الجدلي عليهم وقال له: سر فإن وجدت بني هاشم في الحياة فكن لهم أنت ومن معك عضداً، وانقد لما أمروك به؛ وإن وجدت ابن الزبير قد قتلهم فاعترض أهل مكة حتى تصل إلى ابن الزبير ثم لا تدع من آل الزبير شغراً ولا ظفراً؛ وقال: يا شرط والله لقد أكرمكم الله بهذا المسير ولكم بهذا الوجه عشر حجج وعشر عمرٍ، وسار القوم ومعهم السلاح حتى أشرفوا على مكة فجاء المستغيث: اعجلوا فما أراكم تدركونهم؛ فقال الناس: لو أن أهل القوة عجلوا فانتدب منهم ثمان مئة رأسهم عطية بن سعد بن جنادة العوفي حتى دخلوا مكة فكبروا تكبيرةً سمعها ابن الزبير فهرب ودخل دار الندوة، ويقال: تعلق بأستار الكعبة، وقال: أنا عائذ الله.
قال عطية:
ثم ملنا إلى ابن عباس وابن الحنفية وأصحابهما في دورٍ قد جمع لهم الحطب فأحيط بهم حتى بلغ رؤوس الجدر، لو أن ناراً تقع فيه ما رؤي منهم أحد حتى تقوم الساعة؛ فأخرناه
عن الأبواب وعجل علي بن عبد الله بن عباس وهو رجل فأسرع في الحطب يريد الخروج فأدمى ساقيه؛ وأقبل أصحاب ابن الزبير فكنا صفين نحن وهم في المسجد نهارنا ونهارهم لا ننصرف إلا إلى صلاةٍ حتى أصبحنا، وقدم أبو عبد الله الخيل في الناس، فقلنا لابن عباس وابن الحنفية: ذرونا نرح الناس من ابن الزبير؛ فقالا: هذا بلدٌ حرمه الله ما أحله لأحدٍ إلا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعةً ما أحله لأحدٍ قبله ولا يحله لأحدٍ بعده فامنعونا وأجيرونا؛ قال: فتحملوا وإن منادياً لينادي في الجبل: ما غنمت سريةٌ بعد نبيها ما غنمت هذه السرية؛ إن السرايا تغنم الذهب والفضة، وإنما غنمتم دماءنا؛ فخرجوا بهم حتى أنزلوهم منى فأقاموا بها ما شاء الله أن يقيموا ثم خرجوا إلى الطائف فأقاموا ما أقاموا؛ وتوفي عبد الله بن عباس بالطائف سنة ثمان وستين وصلى عليه محمد بن الحنفية، وبقينا مع ابن الحنفية فلما كان الحج وحج ابن الزبير من مكة فوافى عرفة في أصحابه ووافى محمد بن الحنفية من الطائف في أصحابه فوقف بعرفة ووافى نجدة بن عامر الحنفي تلك السنة في أصحابه من الخوارج فوقف ناحيةً وحجت بنو أمية على لواء، فوقفوا بعرفة فيمن معهم. قالوا: وحج عامئذٍ محمد بن الحنفية في الخشبية معه وهم أربعة آلاف نزلوا في الشعب الأيسر من منى.
قال محمد بن جبير بن مطعم: قال: خفت الفتنة فمشيت إليهم جميعاً فجئت محمد بن علي في الشعب فقلت: يا أبا القاسم اتق الله فإنا في مشعرٍ حرام وبلدٍ حرام والناس وفد الله إلى هذا البيت، فلا تفسد عليهم حجهم؛ فقال: والله ما أريد ذلك وما أحول بين أحدٍ وبين هذا البيت، ولا نوى أحدٌ من الحاج من قتلٍ، ولكني رجلٌ أدفع عن نفسي من ابن الزبير وما يريد مني، وما أطلب هذا الأمر إلا أن لا يختلف علي فيه اثنان، ولكن ائت ابن الزبير فكلمه وعليك بنجدة فكلمه.
قال: فجئت ابن الزبير فكلمته بنحو ما كلمت به ابن الحنفية فقال: أنا رجلٌ قد اجتمع علي وبايعني الناس، وهؤلاء أهل خلافٍ؛ فقلت: إن خيراً لك الكف؛ فقال: أفعل.
ثم جئت نجدة الحروري فأجده في أصحابه وأجد عكرمة غلام ابن عباس عنده فقلت: استأذن لي على صاحبك فأذن لي فدخلت فعظمت عليه، وكلمته بما كلمت به الرجلين، فقال: أما أن أبتدئ أحداً بقتالٍ فلا، ولكن من بدأنا بقتالٍ قاتلناه؛ قلت: فإني رأيت الرجلين لا يريدان قتالك.
ثم جئت شيعة بني أمية فكلمتهم بنحوٍ مما كلمت به القوم فقالوا: نحن على لوائنا لا نقاتل أحداً إلا أن يقاتلنا فلم أر في تلك الألوية أسكن ولا أسلم دفعةً من أصحاب ابن الحنفية.
قال محمد بن جبير: وقفت تلك العشية إلى جنب محمد بن الحنفية، فلما غابت الشمس التفت إلي فقال: يا أبا سعيد ادفع فدفع ودفعت معه؛ فكان أول من دفع.
لما فتن عبد الله بن الزبير أرسل إلى من كان بحضرته من بني هاشم فجمعهم في شعب أبي طالب وأراد أن يحرقهم بالنار ذلك ناساً من أهل الكوفة فخرجوا ينصرونهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق إلى ابن الحنفية سمعوا هاتفاً يقول: من الرجز
يا أيها الركب إلى المهدي ... على عناجيج من المطي
أعناقها كالقضب الخطي ... لتنصروا عاقبة النبي
محمداً خير بني علي
فدخلوا على محمد بن الحنفية فأخبروه بما سمعوا من الهاتف فقال: ذلك بعض مسلمي الجن.
لما قدم المختار مكة كان أشد الناس على ابن الزبير وجعل يلقي إلى الناس أن ابن الزبير كان يطلب هذا الأمر لابن الحنفية ثم ظلمه إياه، وجعل يذكر ابن الحنفية وورعه وحاله، وأنه بعثه إلى الكوفة يدعو له، وأنه كتب له كتاباً فهو لا يعدوه إلى غيره، ويقرأ ذلك الكتاب على من يثق به، وجعل يدعو الناس إلى البيعة لمحمد بن
الحنفية فيبايعونه له سراً؛ فسئل قومٌ ممن بايعه في أمره وقالوا: أعطينا هذا الرجل عهودنا أن زعم أنه رسول ابن الحنفية، وابن الحنفية بمكة ليس منا ببعيد ولا مستتر، فلو شخص منا قوم إليه فسألوه عما جاءنا به هذا الرجل فإن كان صادقاً نصرناه وأعناه على أمره؛ فشخص منهم قوم فلقوا ابن الحنفية بمكة فأعلموه أمر المختار وما دعاهم إليه؛ فقال: نحن حيث ترون محبسون، وما أحب أن لي سلطان الدنيا بقتل مؤمنٍ بغير حق، ولوددت أن الله انتصر لنا ممن شاء من خلقه فاحذروا الكذابين وانظروا لأنفسكم ودينكم؛ فانصرفوا على هذا، وكتب المختار كتاباً على لسان محمد بن الحنفية إلى إبراهيم بن الأشتر وجاء فاستأذن عليه، وقيل: المختار أمين آل محمد ورسولهم فأذن له وحياه ورحب به وأجلسه معه على فراشه، فتكلم المختار وكان مفوهاً فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إنكم أهل بيت قد أكرمكم الله بنصرة آل محمد وقد ركب منهم ما قد علمت ومنعوا حقهم وصاروا إلى ما رأيت وقد كتب إليك المهدي كتاباً وهؤلاء الشهود عليه، فقال يزيد بن أنس الأسدي وأحمر بن سميط البجلي وعبد الله بن كامل وأبو عمرة كيسان مولى بجيلة: نشهد أن هذا كتابه، قد شهدناه حين دفعه إليه؛ فقبضه إبراهيم وقرأه ثم قال: أنا أول من يجيب قد أمرنا بطاعتك ومؤازرتك فقل ما بدا لك وادع إلى ما شئت.
ثم كان إبراهيم يركب إليه في كل يوم فيدع ذلك في صدور الناس؛ وورد الخبر على ابن الزبير فشكر لمحمد بن الحنفية وجعل أمر المختار يغلط كل يوم ويكثر تبعه وجعل يتتبع قتلة الحسين ومن أعان عليه فيقتلهم، ثم بعث إبراهيم بن الأشتر في عشرين ألفاً إلى عبيد الله بن زياد فقتله، وبعث برأسه إلى المختار فجعله المختار في جونةٍ وبعث به إلى محمد بن الحنفية وعلي بن الحسين وسائر بني هاشم.
فلما رأى علي بن الحسين رأس عبيد الله ترحم على الحسين وقال: أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين وهو يتغذى وأتينا برأس عبيد الله ونحن نتغدى، ولم يبق من بني هاشم أحد إلا قام بخطبةٍ في الثناء على المختار والدعاء له وجميل القول فيه.
وكان ابن الحنفية يكره أمر المختار وما يبلغه عنه، ولا يحب كثيراً مما يأتي به؛ وكان ابن عباس يقول: أصاب بثأرنا ووصلنا فكان يظهر الجميل فيه للعامة؛ فلما اتسق الأمر للمختار كتب: لمحمد بن علي من المختار بن أبي عبيد الطالب بثأر آل محمد، أما
بعد: فإن الله لم ينتقم من قوم حتى يعذر إليهم، وإن الله قد أهلك الفسقة وأتباع الفسقة، وقد بقيت بقايا فأرجو أن يلحق الله آخرهم بأولهم.
قال سعيد بن الحسن: قال محمد بن الحنفية: رحم الله من كف يده ولسانه، وجلس في بيته فإن ذنوب بني أمية أسرع إليهم من سيوف المسلمين.
قال وردان: كنت في العصابة الذين انتدبوا إلى محمد بن علي بن الحنفية وكان ابن الزبير يمنعه أن يدخل مكة حتى يبايعه، وأراد الشام فمنعه عبد الملك بن مروان أن يدخلها حتى يبايعه، فأبى، فسرنا معه ولو أمرنا بالقتال لقاتلنا معه، فجمعنا يوماً فقسم فينا شيئاً وهو يسير، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: الحقوا برحالكم واتقوا الله، وعليكم بما تعرفون ودعوا ما تنكرون، وعليكم بخاصة أنفسكم ودعوا أمر العامة واستقروا على أمرنا كما استقرت السماء والأرض، فإن أمرنا إذا جاء كان كالشمس الضاحية.
وقال محمد بن الحنفية: ترون أمرنا؟ لهو أبين من هذه الشمس، سفلا تعجلوا ولا تقتلوا أنفسكم.
قال الأسود بن قيس:
لقيت بخراسان رجلاً من عنزة قال: ألا أعرض عليك خطبة ابن الحنفية؟ قلت: بلى؛ قال: انتهيت إليه وهو في رهطٍ يحدثهم قلت: السلام عليك يا مهدي؛ قال: وعليك السلام؛ قلت: إن لي إليك حاجةً؛ قال: أسر هي أم علانية؟ قلت: بل سر؛ فحدث القوم ساعة ثم قام فقمت معه، ودخلت معه بيته؛ قال: قل بحاجتك؛ فحمدت الله، وأثنيت عليه، وشهدت أن لا إله إلا الله، وشهدت أن محمداً رسول الله، ثم قلت: أما بعد: فوالله ما كنتم أقرب قريشٍ إلينا قرابةً فنحبكم على قرابتكم ولكن كنتم أقرب قريشٍ إلى نبينا قرابةً، فلذلك أحببناكم على قرابتكم من نبينا، فما زال بنا حبكم حتى ضربت عليه الأعناق وأبطلت الشهادات، وشردنا في البلاد وأؤذينا حتى لقد هممت أن أذهب في الأرض
قفراً فأعبد الله حتى ألقاه، لولا أن يخفى علي أمر آل محمد، ولقد هممت أن أخرج مع قومٍ شهادتنا وشهادتهم واحدةً على أمرائنا، فيخرجون ويقاتلون ونغنم يعني الخوارج وقد كانت تبلغنا عنك أحاديث من وراء وراء فأحببت أن أشافهك الكلام فلا أسأل عنك أحداً، وكنت أوثق الناس في نفسي وأحبه إلى أن أقتدي به، فأرى برأيك وكيف المخرج، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
قال: فحمد الله محمد بن علي وأثنى عليه وتشهد فقال: أما بعد، فإياكم وهذه الأحاديث فإنها عيبٌ عليكم، وعليكم بكتاب الله فإنه هدي أولكم وبه هدي آخركم، ولعمري لئن أوذيتم لقد أوذي من كان خيراً منكم، أما قيلك: لقد هممت أن أذهب في الأرض قفراً فأعبد الله حتى ألقاه وأجتنب أمور الناس لولا أن يخفى علي أمر آل محمد، فلا تفعل فإن تلك البدعة الرهبانية، ولعمري لأمر آل محمدٍ أبين من طلوع هذه الشمس؛ وأما قيلك: لقد هممت أن أخرج مع أقوامٍ شهادتنا وشهادتهم واحدةٌ على أمرائنا فيخرجون ويقاتلون ونغنم: فلا تفعل، لا تفارق الأمة، اتق هؤلاء القوم بتقيتهم يعني بني أمية ولا تقاتل معهم.
قال: قلت: وما تقيتهم؟ قال: تحضرهم وجهك عند دعوتهم، فيدفع الله بذلك عنك من دمك وذنبك، وتصيب من مال الله الذي أنت أحق به منهم؛ قال: قلت: أرأيت إن أطاف بي قتال ليس منه بد؟ قال: تبايع بإحدى يديك الأخرى لله وتقاتل لله، فإن الله سيدخل أقواماً بسرائرهم الجنة، وسيدخل أقواماً بسرائرهم النار، وإني أذكرك الله أن تبلغ عني ما لم تسمع مني، أو أن تقول عني ما لم أقل؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وعن أبي الطفيل: أن محمد بن الحنفية قال له: الزم هذا المكان وكن حمامةً من حمام الحرم حتى يأتي أمرنا إذا جاء فليس به خفاء، كما ليس بالشمس إذا طلعت خفاء، وما يدريك
إن قال لك الناس: تأتي من المشرق، ويأتي الله بها من المغرب، وما يدريك إن قال لك الناس: تأتي من المغرب، ويأتي الله بها من المشرق، وما يدريك لعلنا سنؤتى بها كما يؤتى بالعروس.
قال ابن الحنفية: سمعت أبا هريرة يقول: لا حرج إلا في دم امرئٍ مسلم؛ قال: فقيل لابن الحنفية: تطعن على أبيك؟ قال: إني لست أطعن على أبي، بايعه أولو الأمر فنكث ناكثٌ فقالته ومرق مارقٌ فقاتله، وإن ابن الزبير يحسدني على مكاني هذا، ود أني ألحد في الحرم كما ألحد.
وفي حديث: إنا أهل بيتٍ لا نبتز هذه الأمة أمرها ولا نأتيها من غير وجهها، وإن علياً قد كان يرى أنه له، ولكنه لم يقاتل حتى جرت له بيعةٌ.
وعن محمد بن علي، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا فعلوها حرمت علي دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله " فقال رجلٌ لمحمد: إنك لتزري على أبيك فقال: لست أزري على أبي، إن أبي بايعه أهل الأمر فنكث ناكثٌ فقاتله ومرق مارقٌ فقاتله، ولست كأبي، ليست لي بيعةٌ في أعناق الناس فأقاتل، وقد كان قيل له: ألا تخرج؟ وفي حديث: قال ابن الحنفية: لو أن الناس بايعوني إلا رجلٌ لم يشتد سلطاني إلا به ما قتلته.
وعن ابن الحنفية قال: رحم الله امرءاً أغنى نفسه وكف يده وأمسك لسانه وجلس في بيته، له ما احتسب وهو مع من أحب، ألا إن الأعمال بني أمية أسرع فيهم من سيوف المسلمين، ألا إن لأهل الحق دولةً يأتي بها الله إذا شاء، فمن أدرك ذلك منكم ومنا كان عندنا في السنام الأعلى، ومن يمت فما عند الله خيرٌ وأبقى.
قال المنهال بن عمرو:
جاء رجل إلى محمد بن الحنفية فسلم عليه، فرد عليه السلام فقال: كيف أنت؟ فحرك يده، فقال: كيف أنتم؟ أما آن لكم أن تعرفوا كيف نحن؟ إنما مثلنا في هذه الأمة مثل بني إسرائيل في آل فرعون؛ كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وإن هؤلاء يذبحون أبنائنا وينكحون نساءنا بغير أمرنا، فزعمت العرب أن لها فضلاً على العجم، فقالت العجم: وما ذاك؟ قالوا: كان محمد عربياً، قالوا: صدقتم؛ قالوا: وزعمت قريش أن لها فضلاً على العرب؛ فقالت العرب: وبم ذلك؟ قالوا: كان محمد قرشياً؛ فإن كان القوم صدقوا فلنا فضل على الناس.
ولما قتل المختار بن أبي عبيد في سنة ثمانٍ وستين ودخلت سنة تسع وستين أرسل عبد الله بن الزبير عروة بن الزبير إلى محمد بن الحنفية: إن أمير المؤمنين يقول لك: إني غير تاركك أبداً حتى تبايعني أو أعيدك في الحبس وقد قتل الله الكذاب الذي كنت تدعي نصرته، وأجمع أهل العراقين علي فبايع وإلا فهو الحرب بيني وبينك إن امتنعت؛ فقال ابن الحنفية لعروة: ما أسرع أخاك على قطع الرحم والاستخفاف بالحق وأغفله عن تعجيل عقوبة الله، ما يشك أخوك في الخلود، وإلا فقد كان أحمد للمختار وهديه مني، والله ما بعثت المختار داعياً ولا ناصراً، والمختار كان أشد انقطاعاً منه إلينا، فإن كان كذاباً فطال ما قربه على كذبه، وإن كان على غير ذلك فهو أعلم به، وما عندي خلافٌ؛ ولو كان خلافٌ ما أقمت في جواره ولخرجت إلى من يدعوني، فأبيت ذلك عليه؛ ولكن ها هنا والله لأخيك قرنٌ يطلب ما يطلب أخوك، كلاهما يقاتلان على الدماء عبد الملك بن مروان؛ والله لكأنك بجيوشه قد أحاطت برقبة أخيك، وإني لأحسب أن جوار عبد الملك خيرٌ لي من جوار أخيك، ولقد كتب لي يعرض علي ما قبله ويدعوني إليه؛ قال عروة: فما يمنعك من ذلك؟ قال: أستخير الله، وذلك أحب إلى صاحبك؛ قال: أذكر ذلك له؛ فقال بعض أصحاب محمد بن الحنفية: والله ما أطعتنا لضربنا عنقه؛ فقال ابن الحنفية: وعلام أضرب عنقه؟ جاءنا برسالةٍ من أخيه وجاورنا فجرى بيننا
وبينه كلامٌ فرددناه إلى أخيه؛ والذي قلتم غدرٌ وليس في الغدر خيرٌ، لو فعلت الذي يقولون لكان القتال بمكة، وأنتم تعلمون أن رأيي: لو اجتمع الناس كلهم علي إلا إنسانٌ واحدٌ لما قاتلته؛ فانصرف عروة فأخبر ابن الزبير بكل ما قال له محمد بن الحنفية، وقال: والله ما أرى أن تعرض له، دعه فليخرج عنك ويغيب وجهه فعبد الملك أمامه لا يتركه يحل بالشام حتى يبايعه، وابن الحنفية لا يبايعه أبداً حتى يجتمع الناس عليه، فإن صار إليه كفاكه؛ إما حبسه وإما قتله فتكون أنت قد برئت من ذلك.
وفي حديث: أنه لما اجتمع الناس على عبد الملك وبايع ابن عمر قال ابن عمر لابن الحنفية: ما بقي شيء فبايع؛ فكتب ابن الحنفية إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين من محمد بن علي، أما بعد: فإني لما رأيت الأمة قد اختلفت اعتزلتهم، فلما أفضى هذا الأمر إليك وبايعك الناس كنت كرجلٍ منهم أدخل في صالح ما دخلوا فيه، فقد بايعتك وبايعت الحجاج لك، وبعثت إليك ببيعتي ورأيت الناس قد اجتمعوا عليك ونحن نحب أن تؤمنا وتعطينا ميثاقاً على الوفاء، فإن الغدر لا خير فيه، فإن أبيت فإن أرض الله واسعةٌ.
فلما قرأ عبد الملك الكتاب قال قبيصة بن ذؤيب وروح بن زنباع: ما لك عليه سبيل، ولو أراد فتقاً لقدر عليه ولقد سلم وبايع فنرى أن تكتب إليه بالعهد والميثاق بالأمان له ولأصحابه ففعل، وكتب إليه: إنك عندنا محمودٌ، أنت أحب إلينا وأقرب بنا رحماً من ابن الزبير فلك العهد والميثاق وذمة الله وذمة رسوله أن لا تهاج ولا أحدٌ من أصحابك بشيء تكرهه، ارجع إلى بلدك واذهب حيث شئت ولست أدع صلتك وعونك ما حييت؛ وكتب إلى الحجاج يأمره بحسن جواره وإكرامه؛ فرجع ابن الحنفية إلى المدينة.
خرج الحجاج بن يوسف ومحمد بن الحنفية من عند عبد الملك بن مروان فقال الحجاج لمحمد بن الحنفية: بلغني أن أباك كان إذا فرغ من القنوت يقول كلاماً حسناً
أحببت أن أعرفه فنحفظه؛ قال: لا؛ قال: سبحان الله ما أوحش لقاءكم وأفظع لفظكم وأشد خنزوانتكم ما تعدون الناس إلا عبيداً، ولقد خضتم الفتنة خوضاً، وفللتم المهاجرين والأنصار؛ فنظر إليه ابن الحنفية وأنكر لفظه فوقف، وسار الحجاج ورجع ابن الحنفية إلى باب عبد الملك فقال للآذن: استأذن لي؛ فقال: ألم تكن عنده وخرجت آنفاً، فما ردك وقد ارتفع أمير المؤمنين؟ قال: لست أبرح حتى ألقاه؛ فكره لآذن غضب الخليفة فأعلمه فقال: لقد رده أمرٌ، ائذن له؛ فلما دخل عليه تحلحل عن مجلسه كما كان يفعل؛ فقال: يا أمير المؤمنين هذا الحجاج أسمعني كلاماً تكمشت له وذكر أبي بكلامٍ تقمعت له وما أحرت حرفاً؛ قال: فما قال لك حتى أعمل على حسبه؟ قال: وكأنما تفقأ في وجهه الرمان، فخبره عما سأله عنه؛ فقال لصاحب شرطه: علي بالحجاج الساعة؛ فأتاه حين خلع ثيابه فحمله حملاً عنيفاً، وانصرف ابن الحنفية، فجاء الحجاج فوقفه بالباب طويلاً، ثم أذن له، فدخل عليه فسلم عليه، فقال له عبد الملك: من الرجز
لا أنعم الله بعمرٍو عيناً ... تحية السخط إذا التقينا
يا لكع وهراوة النفار، ما أنت ومحمد بن الحنفية؟ قال: يا أمير المؤمنين ما كان إلا خيرٌ قال: كذبت والله لهو أصدق منك وأبر، ذكرته وذكرت أباه فوالله ما بين لابتيها أفضل من أبيه؛ ما جرى بينك وبينه؟ قال: سألته يا أمير المؤمنين عن شيءٍ بلغني أن أباه كان يقوله بعد القنوت، فقال: لا أعرفه، فعلمت أن ذلك مقتاً منه لنا ولدولتنا فأجبته بالذي بلغك؛ قال له عبد الملك: أسأت ولؤمت، والله لولا أبوه وابن عمه كنا حبارى ضلالاً، وما أنبت الشعر على رؤوسنا إلا الله وهم، وما أعزنا بما ترى إلا رحمهم وريحهم الطيبة، والله لا كلمتك كلمةً أبداً أو تجيئني بالرضى منه، وتسل سخيمته.
قال: فمضى الحجاج من فوره فألفاه وهو يتغدى مع أصحابه، فاستأذن فأبى أن يأذن له، فقال بعض أصحابه: إنه أتى برسالةٍ من أمير المؤمنين؛ فأذن له، فقال: إن أمير المؤمنين أرسلني أن أستل سخيمتك وأقسم أن لا يكلمني أبداً حتى آتيه برضاك، وأنا
أحب برحمك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عفوت عما كان وغفرت ذنباً إن كان؛ قال: قد فعلت على شريطةٍ فتفعلها؟ قال: نعم، قال: على صرم الدهر ثم انصرف الحجاج ودخل على عبد الملك فقال: ما صنعت؟ قال: قد جئت برضاه وسللت سخيمته وأجاب إلى ما أحب وهو أهل ذاك؛ قال: فأي شيءٍ آخر ما كان بينك وبينه؟ قال: رضي علي شريطة صرم الدهر فقال: شنشنةٌ أعرفها من أخزم، انصرف.
فلما كان من الغد دخل ابن الحنفية على عبد الملك فقال له: أتاك الحجاج؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: فرضيت وأجبته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: ثم مال إليه فقال: هل تحفظ ما سألك عنه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، وما منعني أن أبثه إياه إلا مقتي له فإنه من بقية ثمود فضحك عبد الملك، ثم دعا بدواةٍ وقرطاس وكتب بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم، كان أمير المؤمنين رضي الله عنه إذا فرغ من وتره رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم حاجتي العظمى التي إن قضيتها لم يضرني ما منعتني، وإن منعتني لم ينفعني ما أعطيتني، فكاك الرقاب فك رقبتي من النار، رب ما أنا إن تقصد قصدي بغضبٍ منك يدوم علي، فوعزتك ما يزين ملكك إحساني ولا يقبحه إساءتي ولا ينقص من خزائنك غناي، ولا يزيد فيها فقري، يا من هو هكذا اسمع دعائي وأجب ندائي وأقلني عثرتي وارحم غربتي ووحشتي ووحدتي في قبري، هاأنذا يا رب برمتي، ويأخذ بتلابيبه ثم يركع؛ فقال عبد الملك: حسنٌ والله، رضي الله عنه.
توفي محمد بن الحنفية سنة ثمانين بين الشام والمدينة.
قال أبو حمزة: قضينا نسكنا حتى قتل ابن الزبير ورجعنا إلى المدينة مع محمد فمكث ثلاثة أيام ثم توفي.
وقيل: توفي سنة إحدى وثمانين وسنه خمسٌ وستون سنةً؛ وقيل: سنة اثنتين وثمانين؛ وقيل: سنة ثلاث وثمانين؛ وقيل: سنة اثنتين وتسعين أو ثلاث.
ابن الحنفية أبو القاسم، ويقال: أبو عبد الله الهاشمي، المعروف بابن الحنفية وفد على معاوية وعلي عبد الملك بن مروان.
قال محمد بن الحنفية: قدمت على معاوية بن أبي سفيان فسألني عن العمرى فقلت: جعلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن أعطيها، قال: تقولون ذلك؟ قلت: نعم؛ قال: فإني أشهد أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أعمر عمرى فهي له يرثها من عقبه من يرثه ".
وحدث محمد بن الحنفية، عن علي، قال: كنت رجلاً مذاءً فكرهت أن أسأله يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: " منه الوضوء ".
قال أبو عاصم: صرع محمد بن علي مروان يوم الجمل وجلس على صدر مروان، فلما وفد محمد علي عبد الملك قال له: أتذكر يوم جلست على صدر مروان؟ قال: عفواً يا أمير المؤمنين؛ قال: أم والله ما ذكرت ذلك وأنا أريد أن أكافئك به ولكن أردت أن تعلم أني قد علمت.
وأم محمد بن علي: خولة بنت جعفر بن مسلمة بن قيس بن ثعلبة بن يربوع بن فلان بن حنيفة؛ وسمته الشيعة المهدي، فقال كثير: من الوافر
هو المهدي أخبرناه كعبٌ ... أخو الأحبار في الحقب الخوالي
فقيل لكثير: لقيت كعب الأحبار؟ قال: لا؛ قيل: فلم قلت: أخبرناه كعبٌ؟ قال: بالوهم.
وقال كثير أيضاً: من الوافر
ألا إن الأئمة من قريشٍ ... ولاة الحق أربعةٌ سواء
علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبطٌ سبط إيمانٍ وبر ... وسبط غيبته كربلاء
وسبطٌ لا تراه العين حتى ... يقود الخيل يقدمها لواء
تغيب لا يرى عنهم زماناً ... برضوى عنده عسلٌ وماء
وكانت شيعة محمد بن علي يزعمون أنه لم يمت؛ وله يقول السيد: من الوافر
ألا قل للوصي فدتك نفسي ... أطلت بذلك الجبل المقاما
أضر بمعشرٍ والوك منا ... وسموك الخليفة والإماما
وعادوا فيك أهل الأرض طراً ... مقامك عنهم ستين عاما
وما ذاق ابن خولة طعم موتٍ ... ولا وارت له أرضٌ عظاما
لقد أمسى بمورق شعب رضوى ... تراجعه الملائكة الكراما
وإن له به لمقيل صدقٍ ... وأنديةً تحدته كراما
هدانا الله إذا حرتم لأمرٍ ... به وعليه نلتمس التماما
تمام مودة المهدي حتى ... تروا راياتنا تترى نظاما
وقال السيد في ذلك أيضاً: من الكامل
يا شعب رضوى ما لمن بك لا يرى ... وبنا إليه من الصبابة أولق
حتى متى وإلى متى وكم المدا ... يا بن الوصي وأنت حي ترزق
وكانت أم محمد بن علي من سبي اليمامة، وولد في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، وكان عبد الله بن الحسن يذكر أن أبا بكرٍ أعطى علياً أم محمد بن الحنفية.
قالت أسماء بنت أبي بكر: رأيت أم محمد بن الحنفية سنديةً سوداء، وكانت أمةً لبني حنيفة ولم تك منهم وإنما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق ولم يصالحهم علي أنفسهم.
قال ابن الحنفية: كانت رخصةً لعلي، قال: يا رسول الله: إن ولد لي بعدك أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: " نعم " فكنى محمد بن الحنفية أبا القاسم وسماه باسمه؛ وقيل: كانت كنيته أبو عبد الله.
وروى محمد بن علي عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن ولد لك غلام فسمه باسمي وكنه بكنيتي وهو رخصة لك دون الناس ".
وروى أيضاً عن أبيه علي قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سيولد لك ولدٌ قد نحلته اسمي وكنيتي ".
وقع بين علي وطلحة كلامٌ، فقال له طلحة: لا كجرأتك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سميت باسمه وكنيت بكنيته وقد نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجمعهما أحد من أمته بعده؛ فقال علي: إن الجريء من اجترأ على الله وعلى رسوله، اذهب يا فلان فادع لي فلاناً وفلاناً لنفرٍ من قريش؛ قال: فجاؤوا فقال: بم تشهدون؟ قالوا: نشهد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنه سيولد لك بعدي غلام فقد نحلته اسمي وكنيتي ولا يحل لأحدٍ من أمتي بعده ".
قال محمد بن الحنفية: الحسن والحسين خيرٌ مني، وأنا أعلم بحديث أبي منهما.
وفي آخر غيره: ولقد علما أنه كان يستخليني دونهما، وإني صاحب البغلة الشهباء.
قال إبراهيم بن الجنيد الختلي: لا يعلم أحد السند عن علي، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر ولا أصح مما أسند محمد بن الحنفية.
كتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان يتهدده ويتوعده ويحلف له ليحملن إليه مئة ألفٍ في البر ومئة ألفٍ في البحر أو يؤدي إليه الجزية؛ فسقط في روعه، فكتب إلى الحجاج: أن أكتب إلى ابن الحنفية فتهدده وتوعده ثم أعلمني ما يرد عليك؛ فكتب الحجاج إلى ابن الحنفية بكتابٍ شديدٍ يتهدده ويتوعده فيه بالقتل، فكتب إليه ابن الحنفية: إن لله تعالى ثلاث مئة وستين لحظةً إلى خلقه، وأنا أرجو أن ينظر الله إلي نظرةً يمنعني بها منك؛ فبعث الحجاج بكتابه إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى ملك الروم بنسخته، فقال ملك الروم: ما خرج هذا منك ولا أنت كتبت به، ما خرج إلا من بيت نبوة.
سأل رجل ابن عمر في مسألة فقال له: سل محمد بن الحنفية ثم أخبرني ما يقول؛ فسأله عنها فأخبره فقال ابن عمر: أهل بيتٍ مفهمون.
قال عبد الواحد بن أيمن: بعثني أبي إلى محمد بن علي فرأيته مكحول العينين، فجئت فقلت لأبي: بعثتني إلى رجل كذا وكذا وقعت فيه فقال: يا بني ذاك خير الناس.
وقع بين الحسين بن علي وبين محمد بن الحنفية كلامٌ جلس كل واحد منهما عن صاحبه، فكتب إليه محمد بن الحنفية: أبي وأبوك علي بن أبي طالب، وأمي امرأةٌ من بني حنيفة لا ينكر شرفها في قومها، ولكن أمك فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت أحق بالفضل مني فصر إلي حتى ترضاني؛ فلبس الحسين رداءه ونعله فصار إليه فترضاه.
قال الرزهي: قال رجل لمحمد بن الحنفية: ما بال أبيك كان يرمي بك في مرامٍ لا يرمي فيها الحسن والحسين؟ فقال لأنهما كانا خديه وكنت يده، فكان يتوقى بيده عن خديه.
وكان محمد بن علي يمشط رأس أمه ويذوبها يعني من الذؤابة.
وفي حديث: كان يغلف رأس أمه ويمشطها وينومها.
وعن محمد بن الحنفية، قال: ليس بالحليم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً حتى يجعل الله من أمره فرجاً، أو قال: مخرجاً.
سأل رجل محمد بن الحنفية فقال له: أجد غماً لا أعرف له سبباً، وقد ضاق قلبي؟ فقال محمد: غم لم تعرف له سبباً، عقوبة ذنبٍ لم تفعله فقال الرجل: فما معنى ذلك؟ فقال: المعنى في ذلك أن القلب يهم بالمعصية فلا تساعده الجوارح فيعاقب بالغم دون الجوارح.
قال محمد بن الحنفية: من كرمت نفسه عليه لم يكن للدنيا عنده قدر.
قيل لابن الحنفية: من أعظم الناس قدراً؟ قال: من لم ير الدنيا كلها لنفسه خطراً.
قال محمد بن الحنفية: إن الله جعل الجنة ثمناً لأنفسكم فلا تبيعوها بغيرها.
قال ابن الحنفية:
من أحب رجلاً لله أثابه الله ثواب من أحب رجلاً من أهل الجنة، وإن كان الذي أحبه من أهل النار، لأنه أحبه على خصلةٍ حسنةٍ رآها منه؛ ومن أبغض رجلاً لله
أثابه الله ثواب من أبغض رجلاً من أهل النار، وإن كان الذي أبغضه من أهل الجنة، لأنه أبغضه على خصلةٍ سيئةٍ رآها منه.
قيل لمحمد بن علي بن الحنفية: إن رجلاً من قريش يقع فيك؛ قال: بحسبي من نعم الله عز وجل على أن نجى غيري مني ولم ينجني من غيري.
قال محمد بن الحنفية: أيها الناس، اعلموا أن حوائج الناس إليكم نعم من الله عليكم فلا تملوها فتحول نقماً، واعلموا أن أفضل المال ما أفاد ذخراً وأورث ذكراً وأوجب أجراً، ولو رأيتم المعروف رجلاً لرأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين ويفوق العالمين.
قال محمد بن الحنفية: الكمال في ثلاث؛ الفقه في الدين، والصبر على النوائب، وحسن تقعير المعيشة.
لما جاء نعي معاوية بن أبي سفيان إلى المدينة كان بها يومئذ الحسين بن علي ومحمد بن الحنفية وابن الزبير، وكان ابن عباس بمكة، فخرج الحسين وابن الزبير إلى مكة وأقام ابن الحنفية بالمدينة حتى سمع بدنو جيش مسرفٍ أيام الحرة، فرحل إلى مكة فأقام مع ابن عباس؛ فلما جاء نعي يزيد بن معاوية وبايع ابن الزبير لنفسه ودعا الناس إليه دعا ابن عباس ومحمد بن الحنفية إلى البيعة له فأبيا يبايعان له، وقالا: حتى تجتمع لك البلاد ويأتسق لك الناس؛ فأقاما على ذلك مرةً يكاشرهما ومرةً يلين لهما؛ ثم غلط عليهما فوقع منهم كلامٌ وشر؛ فلم يزل الأمر يغلط حتى خافا منه خوفاً شديداً؛ ومعهما النساء والذرية؛ فأساء جوارهم وحصرهم وآذاهم، وقصد محمد بن الحنفية فأظهر شتمه وعيبه وأمره وبني هاشم أن يلزموا شعبهم بمكة، وجعل عليهم الرقباء وقال: فما تقول؟ والله لتبايعن أو لأحرقنكم بالنار فخافوا على أنفسهم.
قال أبو عامر: فرأيت محمد بن الحنفية محبوساً في زمزم والناس يمتنعون من الدخول عليه، فقلت: لأدخلن عليه، فدخلت فقلت: ما بالك وهذا الرجل؟ قال: دعاني إلى
البيعة فقلت: إنما أنا من المسلمين فإذا اجتمعوا عليك فأنا كأحدهم، فلم يرض بهذا مني فاذهب إلى ابن عباس فأقره عني السلام وقل: يقول لك ابن عمك: ما ترى؟ قال أبو عامر: فدخلت على ابن عباس وهو ذاهب البصر، فقال: من أنت؟ فقلت: أنصاري؛ فقال: رب أنصاري هو أشد علينا من عدونا فقلت: لا تخف، أنا ممن لك كله؛ قال: هات؛ فأخبرته بقول ابن الحنفية فقال: قل له: لا تعطه ولا نعمة عين إلا ما قلت ولا تزده عليه؛ فرجعت إلى ابن الحنفية فأبلغتها؛ قال ابن عباس: فهم ابن الحنفية أن يقدم إلى الكوفة، وبلغ ذلك المختار فثقل عليه قدومه فقال: إن في المهدي علامة، يقدم بلدكم هذا فيضربه رجلٌ في السوق ضربةً بالسيف لا تضره ولا تحيك فيه فبلغ ذلك ابن الحنفية فأقام يعني خاف أن يجرب فيه فيموت، فقيل له: لو بعثت إلى شيعتك بالكوفة فأعلمتهم ما أنتم فيه؛ فبعث أبا الطفيل عامر بن واثلة إلى شيعتهم بالكوفة فقدم عليهم فقال: إنا لا نأمن ابن الزبير على هؤلاء القوم وأخبرهم بما هم فيه من الخوف فقطع المختار بعثاً إلى مكة فانتدب منهم أربعة آلاف فعقد لأبي عبد الله الجدلي عليهم وقال له: سر فإن وجدت بني هاشم في الحياة فكن لهم أنت ومن معك عضداً، وانقد لما أمروك به؛ وإن وجدت ابن الزبير قد قتلهم فاعترض أهل مكة حتى تصل إلى ابن الزبير ثم لا تدع من آل الزبير شغراً ولا ظفراً؛ وقال: يا شرط والله لقد أكرمكم الله بهذا المسير ولكم بهذا الوجه عشر حجج وعشر عمرٍ، وسار القوم ومعهم السلاح حتى أشرفوا على مكة فجاء المستغيث: اعجلوا فما أراكم تدركونهم؛ فقال الناس: لو أن أهل القوة عجلوا فانتدب منهم ثمان مئة رأسهم عطية بن سعد بن جنادة العوفي حتى دخلوا مكة فكبروا تكبيرةً سمعها ابن الزبير فهرب ودخل دار الندوة، ويقال: تعلق بأستار الكعبة، وقال: أنا عائذ الله.
قال عطية:
ثم ملنا إلى ابن عباس وابن الحنفية وأصحابهما في دورٍ قد جمع لهم الحطب فأحيط بهم حتى بلغ رؤوس الجدر، لو أن ناراً تقع فيه ما رؤي منهم أحد حتى تقوم الساعة؛ فأخرناه
عن الأبواب وعجل علي بن عبد الله بن عباس وهو رجل فأسرع في الحطب يريد الخروج فأدمى ساقيه؛ وأقبل أصحاب ابن الزبير فكنا صفين نحن وهم في المسجد نهارنا ونهارهم لا ننصرف إلا إلى صلاةٍ حتى أصبحنا، وقدم أبو عبد الله الخيل في الناس، فقلنا لابن عباس وابن الحنفية: ذرونا نرح الناس من ابن الزبير؛ فقالا: هذا بلدٌ حرمه الله ما أحله لأحدٍ إلا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعةً ما أحله لأحدٍ قبله ولا يحله لأحدٍ بعده فامنعونا وأجيرونا؛ قال: فتحملوا وإن منادياً لينادي في الجبل: ما غنمت سريةٌ بعد نبيها ما غنمت هذه السرية؛ إن السرايا تغنم الذهب والفضة، وإنما غنمتم دماءنا؛ فخرجوا بهم حتى أنزلوهم منى فأقاموا بها ما شاء الله أن يقيموا ثم خرجوا إلى الطائف فأقاموا ما أقاموا؛ وتوفي عبد الله بن عباس بالطائف سنة ثمان وستين وصلى عليه محمد بن الحنفية، وبقينا مع ابن الحنفية فلما كان الحج وحج ابن الزبير من مكة فوافى عرفة في أصحابه ووافى محمد بن الحنفية من الطائف في أصحابه فوقف بعرفة ووافى نجدة بن عامر الحنفي تلك السنة في أصحابه من الخوارج فوقف ناحيةً وحجت بنو أمية على لواء، فوقفوا بعرفة فيمن معهم. قالوا: وحج عامئذٍ محمد بن الحنفية في الخشبية معه وهم أربعة آلاف نزلوا في الشعب الأيسر من منى.
قال محمد بن جبير بن مطعم: قال: خفت الفتنة فمشيت إليهم جميعاً فجئت محمد بن علي في الشعب فقلت: يا أبا القاسم اتق الله فإنا في مشعرٍ حرام وبلدٍ حرام والناس وفد الله إلى هذا البيت، فلا تفسد عليهم حجهم؛ فقال: والله ما أريد ذلك وما أحول بين أحدٍ وبين هذا البيت، ولا نوى أحدٌ من الحاج من قتلٍ، ولكني رجلٌ أدفع عن نفسي من ابن الزبير وما يريد مني، وما أطلب هذا الأمر إلا أن لا يختلف علي فيه اثنان، ولكن ائت ابن الزبير فكلمه وعليك بنجدة فكلمه.
قال: فجئت ابن الزبير فكلمته بنحو ما كلمت به ابن الحنفية فقال: أنا رجلٌ قد اجتمع علي وبايعني الناس، وهؤلاء أهل خلافٍ؛ فقلت: إن خيراً لك الكف؛ فقال: أفعل.
ثم جئت نجدة الحروري فأجده في أصحابه وأجد عكرمة غلام ابن عباس عنده فقلت: استأذن لي على صاحبك فأذن لي فدخلت فعظمت عليه، وكلمته بما كلمت به الرجلين، فقال: أما أن أبتدئ أحداً بقتالٍ فلا، ولكن من بدأنا بقتالٍ قاتلناه؛ قلت: فإني رأيت الرجلين لا يريدان قتالك.
ثم جئت شيعة بني أمية فكلمتهم بنحوٍ مما كلمت به القوم فقالوا: نحن على لوائنا لا نقاتل أحداً إلا أن يقاتلنا فلم أر في تلك الألوية أسكن ولا أسلم دفعةً من أصحاب ابن الحنفية.
قال محمد بن جبير: وقفت تلك العشية إلى جنب محمد بن الحنفية، فلما غابت الشمس التفت إلي فقال: يا أبا سعيد ادفع فدفع ودفعت معه؛ فكان أول من دفع.
لما فتن عبد الله بن الزبير أرسل إلى من كان بحضرته من بني هاشم فجمعهم في شعب أبي طالب وأراد أن يحرقهم بالنار ذلك ناساً من أهل الكوفة فخرجوا ينصرونهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق إلى ابن الحنفية سمعوا هاتفاً يقول: من الرجز
يا أيها الركب إلى المهدي ... على عناجيج من المطي
أعناقها كالقضب الخطي ... لتنصروا عاقبة النبي
محمداً خير بني علي
فدخلوا على محمد بن الحنفية فأخبروه بما سمعوا من الهاتف فقال: ذلك بعض مسلمي الجن.
لما قدم المختار مكة كان أشد الناس على ابن الزبير وجعل يلقي إلى الناس أن ابن الزبير كان يطلب هذا الأمر لابن الحنفية ثم ظلمه إياه، وجعل يذكر ابن الحنفية وورعه وحاله، وأنه بعثه إلى الكوفة يدعو له، وأنه كتب له كتاباً فهو لا يعدوه إلى غيره، ويقرأ ذلك الكتاب على من يثق به، وجعل يدعو الناس إلى البيعة لمحمد بن
الحنفية فيبايعونه له سراً؛ فسئل قومٌ ممن بايعه في أمره وقالوا: أعطينا هذا الرجل عهودنا أن زعم أنه رسول ابن الحنفية، وابن الحنفية بمكة ليس منا ببعيد ولا مستتر، فلو شخص منا قوم إليه فسألوه عما جاءنا به هذا الرجل فإن كان صادقاً نصرناه وأعناه على أمره؛ فشخص منهم قوم فلقوا ابن الحنفية بمكة فأعلموه أمر المختار وما دعاهم إليه؛ فقال: نحن حيث ترون محبسون، وما أحب أن لي سلطان الدنيا بقتل مؤمنٍ بغير حق، ولوددت أن الله انتصر لنا ممن شاء من خلقه فاحذروا الكذابين وانظروا لأنفسكم ودينكم؛ فانصرفوا على هذا، وكتب المختار كتاباً على لسان محمد بن الحنفية إلى إبراهيم بن الأشتر وجاء فاستأذن عليه، وقيل: المختار أمين آل محمد ورسولهم فأذن له وحياه ورحب به وأجلسه معه على فراشه، فتكلم المختار وكان مفوهاً فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إنكم أهل بيت قد أكرمكم الله بنصرة آل محمد وقد ركب منهم ما قد علمت ومنعوا حقهم وصاروا إلى ما رأيت وقد كتب إليك المهدي كتاباً وهؤلاء الشهود عليه، فقال يزيد بن أنس الأسدي وأحمر بن سميط البجلي وعبد الله بن كامل وأبو عمرة كيسان مولى بجيلة: نشهد أن هذا كتابه، قد شهدناه حين دفعه إليه؛ فقبضه إبراهيم وقرأه ثم قال: أنا أول من يجيب قد أمرنا بطاعتك ومؤازرتك فقل ما بدا لك وادع إلى ما شئت.
ثم كان إبراهيم يركب إليه في كل يوم فيدع ذلك في صدور الناس؛ وورد الخبر على ابن الزبير فشكر لمحمد بن الحنفية وجعل أمر المختار يغلط كل يوم ويكثر تبعه وجعل يتتبع قتلة الحسين ومن أعان عليه فيقتلهم، ثم بعث إبراهيم بن الأشتر في عشرين ألفاً إلى عبيد الله بن زياد فقتله، وبعث برأسه إلى المختار فجعله المختار في جونةٍ وبعث به إلى محمد بن الحنفية وعلي بن الحسين وسائر بني هاشم.
فلما رأى علي بن الحسين رأس عبيد الله ترحم على الحسين وقال: أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين وهو يتغذى وأتينا برأس عبيد الله ونحن نتغدى، ولم يبق من بني هاشم أحد إلا قام بخطبةٍ في الثناء على المختار والدعاء له وجميل القول فيه.
وكان ابن الحنفية يكره أمر المختار وما يبلغه عنه، ولا يحب كثيراً مما يأتي به؛ وكان ابن عباس يقول: أصاب بثأرنا ووصلنا فكان يظهر الجميل فيه للعامة؛ فلما اتسق الأمر للمختار كتب: لمحمد بن علي من المختار بن أبي عبيد الطالب بثأر آل محمد، أما
بعد: فإن الله لم ينتقم من قوم حتى يعذر إليهم، وإن الله قد أهلك الفسقة وأتباع الفسقة، وقد بقيت بقايا فأرجو أن يلحق الله آخرهم بأولهم.
قال سعيد بن الحسن: قال محمد بن الحنفية: رحم الله من كف يده ولسانه، وجلس في بيته فإن ذنوب بني أمية أسرع إليهم من سيوف المسلمين.
قال وردان: كنت في العصابة الذين انتدبوا إلى محمد بن علي بن الحنفية وكان ابن الزبير يمنعه أن يدخل مكة حتى يبايعه، وأراد الشام فمنعه عبد الملك بن مروان أن يدخلها حتى يبايعه، فأبى، فسرنا معه ولو أمرنا بالقتال لقاتلنا معه، فجمعنا يوماً فقسم فينا شيئاً وهو يسير، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: الحقوا برحالكم واتقوا الله، وعليكم بما تعرفون ودعوا ما تنكرون، وعليكم بخاصة أنفسكم ودعوا أمر العامة واستقروا على أمرنا كما استقرت السماء والأرض، فإن أمرنا إذا جاء كان كالشمس الضاحية.
وقال محمد بن الحنفية: ترون أمرنا؟ لهو أبين من هذه الشمس، سفلا تعجلوا ولا تقتلوا أنفسكم.
قال الأسود بن قيس:
لقيت بخراسان رجلاً من عنزة قال: ألا أعرض عليك خطبة ابن الحنفية؟ قلت: بلى؛ قال: انتهيت إليه وهو في رهطٍ يحدثهم قلت: السلام عليك يا مهدي؛ قال: وعليك السلام؛ قلت: إن لي إليك حاجةً؛ قال: أسر هي أم علانية؟ قلت: بل سر؛ فحدث القوم ساعة ثم قام فقمت معه، ودخلت معه بيته؛ قال: قل بحاجتك؛ فحمدت الله، وأثنيت عليه، وشهدت أن لا إله إلا الله، وشهدت أن محمداً رسول الله، ثم قلت: أما بعد: فوالله ما كنتم أقرب قريشٍ إلينا قرابةً فنحبكم على قرابتكم ولكن كنتم أقرب قريشٍ إلى نبينا قرابةً، فلذلك أحببناكم على قرابتكم من نبينا، فما زال بنا حبكم حتى ضربت عليه الأعناق وأبطلت الشهادات، وشردنا في البلاد وأؤذينا حتى لقد هممت أن أذهب في الأرض
قفراً فأعبد الله حتى ألقاه، لولا أن يخفى علي أمر آل محمد، ولقد هممت أن أخرج مع قومٍ شهادتنا وشهادتهم واحدةً على أمرائنا، فيخرجون ويقاتلون ونغنم يعني الخوارج وقد كانت تبلغنا عنك أحاديث من وراء وراء فأحببت أن أشافهك الكلام فلا أسأل عنك أحداً، وكنت أوثق الناس في نفسي وأحبه إلى أن أقتدي به، فأرى برأيك وكيف المخرج، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
قال: فحمد الله محمد بن علي وأثنى عليه وتشهد فقال: أما بعد، فإياكم وهذه الأحاديث فإنها عيبٌ عليكم، وعليكم بكتاب الله فإنه هدي أولكم وبه هدي آخركم، ولعمري لئن أوذيتم لقد أوذي من كان خيراً منكم، أما قيلك: لقد هممت أن أذهب في الأرض قفراً فأعبد الله حتى ألقاه وأجتنب أمور الناس لولا أن يخفى علي أمر آل محمد، فلا تفعل فإن تلك البدعة الرهبانية، ولعمري لأمر آل محمدٍ أبين من طلوع هذه الشمس؛ وأما قيلك: لقد هممت أن أخرج مع أقوامٍ شهادتنا وشهادتهم واحدةٌ على أمرائنا فيخرجون ويقاتلون ونغنم: فلا تفعل، لا تفارق الأمة، اتق هؤلاء القوم بتقيتهم يعني بني أمية ولا تقاتل معهم.
قال: قلت: وما تقيتهم؟ قال: تحضرهم وجهك عند دعوتهم، فيدفع الله بذلك عنك من دمك وذنبك، وتصيب من مال الله الذي أنت أحق به منهم؛ قال: قلت: أرأيت إن أطاف بي قتال ليس منه بد؟ قال: تبايع بإحدى يديك الأخرى لله وتقاتل لله، فإن الله سيدخل أقواماً بسرائرهم الجنة، وسيدخل أقواماً بسرائرهم النار، وإني أذكرك الله أن تبلغ عني ما لم تسمع مني، أو أن تقول عني ما لم أقل؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وعن أبي الطفيل: أن محمد بن الحنفية قال له: الزم هذا المكان وكن حمامةً من حمام الحرم حتى يأتي أمرنا إذا جاء فليس به خفاء، كما ليس بالشمس إذا طلعت خفاء، وما يدريك
إن قال لك الناس: تأتي من المشرق، ويأتي الله بها من المغرب، وما يدريك إن قال لك الناس: تأتي من المغرب، ويأتي الله بها من المشرق، وما يدريك لعلنا سنؤتى بها كما يؤتى بالعروس.
قال ابن الحنفية: سمعت أبا هريرة يقول: لا حرج إلا في دم امرئٍ مسلم؛ قال: فقيل لابن الحنفية: تطعن على أبيك؟ قال: إني لست أطعن على أبي، بايعه أولو الأمر فنكث ناكثٌ فقالته ومرق مارقٌ فقاتله، وإن ابن الزبير يحسدني على مكاني هذا، ود أني ألحد في الحرم كما ألحد.
وفي حديث: إنا أهل بيتٍ لا نبتز هذه الأمة أمرها ولا نأتيها من غير وجهها، وإن علياً قد كان يرى أنه له، ولكنه لم يقاتل حتى جرت له بيعةٌ.
وعن محمد بن علي، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا فعلوها حرمت علي دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله " فقال رجلٌ لمحمد: إنك لتزري على أبيك فقال: لست أزري على أبي، إن أبي بايعه أهل الأمر فنكث ناكثٌ فقاتله ومرق مارقٌ فقاتله، ولست كأبي، ليست لي بيعةٌ في أعناق الناس فأقاتل، وقد كان قيل له: ألا تخرج؟ وفي حديث: قال ابن الحنفية: لو أن الناس بايعوني إلا رجلٌ لم يشتد سلطاني إلا به ما قتلته.
وعن ابن الحنفية قال: رحم الله امرءاً أغنى نفسه وكف يده وأمسك لسانه وجلس في بيته، له ما احتسب وهو مع من أحب، ألا إن الأعمال بني أمية أسرع فيهم من سيوف المسلمين، ألا إن لأهل الحق دولةً يأتي بها الله إذا شاء، فمن أدرك ذلك منكم ومنا كان عندنا في السنام الأعلى، ومن يمت فما عند الله خيرٌ وأبقى.
قال المنهال بن عمرو:
جاء رجل إلى محمد بن الحنفية فسلم عليه، فرد عليه السلام فقال: كيف أنت؟ فحرك يده، فقال: كيف أنتم؟ أما آن لكم أن تعرفوا كيف نحن؟ إنما مثلنا في هذه الأمة مثل بني إسرائيل في آل فرعون؛ كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وإن هؤلاء يذبحون أبنائنا وينكحون نساءنا بغير أمرنا، فزعمت العرب أن لها فضلاً على العجم، فقالت العجم: وما ذاك؟ قالوا: كان محمد عربياً، قالوا: صدقتم؛ قالوا: وزعمت قريش أن لها فضلاً على العرب؛ فقالت العرب: وبم ذلك؟ قالوا: كان محمد قرشياً؛ فإن كان القوم صدقوا فلنا فضل على الناس.
ولما قتل المختار بن أبي عبيد في سنة ثمانٍ وستين ودخلت سنة تسع وستين أرسل عبد الله بن الزبير عروة بن الزبير إلى محمد بن الحنفية: إن أمير المؤمنين يقول لك: إني غير تاركك أبداً حتى تبايعني أو أعيدك في الحبس وقد قتل الله الكذاب الذي كنت تدعي نصرته، وأجمع أهل العراقين علي فبايع وإلا فهو الحرب بيني وبينك إن امتنعت؛ فقال ابن الحنفية لعروة: ما أسرع أخاك على قطع الرحم والاستخفاف بالحق وأغفله عن تعجيل عقوبة الله، ما يشك أخوك في الخلود، وإلا فقد كان أحمد للمختار وهديه مني، والله ما بعثت المختار داعياً ولا ناصراً، والمختار كان أشد انقطاعاً منه إلينا، فإن كان كذاباً فطال ما قربه على كذبه، وإن كان على غير ذلك فهو أعلم به، وما عندي خلافٌ؛ ولو كان خلافٌ ما أقمت في جواره ولخرجت إلى من يدعوني، فأبيت ذلك عليه؛ ولكن ها هنا والله لأخيك قرنٌ يطلب ما يطلب أخوك، كلاهما يقاتلان على الدماء عبد الملك بن مروان؛ والله لكأنك بجيوشه قد أحاطت برقبة أخيك، وإني لأحسب أن جوار عبد الملك خيرٌ لي من جوار أخيك، ولقد كتب لي يعرض علي ما قبله ويدعوني إليه؛ قال عروة: فما يمنعك من ذلك؟ قال: أستخير الله، وذلك أحب إلى صاحبك؛ قال: أذكر ذلك له؛ فقال بعض أصحاب محمد بن الحنفية: والله ما أطعتنا لضربنا عنقه؛ فقال ابن الحنفية: وعلام أضرب عنقه؟ جاءنا برسالةٍ من أخيه وجاورنا فجرى بيننا
وبينه كلامٌ فرددناه إلى أخيه؛ والذي قلتم غدرٌ وليس في الغدر خيرٌ، لو فعلت الذي يقولون لكان القتال بمكة، وأنتم تعلمون أن رأيي: لو اجتمع الناس كلهم علي إلا إنسانٌ واحدٌ لما قاتلته؛ فانصرف عروة فأخبر ابن الزبير بكل ما قال له محمد بن الحنفية، وقال: والله ما أرى أن تعرض له، دعه فليخرج عنك ويغيب وجهه فعبد الملك أمامه لا يتركه يحل بالشام حتى يبايعه، وابن الحنفية لا يبايعه أبداً حتى يجتمع الناس عليه، فإن صار إليه كفاكه؛ إما حبسه وإما قتله فتكون أنت قد برئت من ذلك.
وفي حديث: أنه لما اجتمع الناس على عبد الملك وبايع ابن عمر قال ابن عمر لابن الحنفية: ما بقي شيء فبايع؛ فكتب ابن الحنفية إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين من محمد بن علي، أما بعد: فإني لما رأيت الأمة قد اختلفت اعتزلتهم، فلما أفضى هذا الأمر إليك وبايعك الناس كنت كرجلٍ منهم أدخل في صالح ما دخلوا فيه، فقد بايعتك وبايعت الحجاج لك، وبعثت إليك ببيعتي ورأيت الناس قد اجتمعوا عليك ونحن نحب أن تؤمنا وتعطينا ميثاقاً على الوفاء، فإن الغدر لا خير فيه، فإن أبيت فإن أرض الله واسعةٌ.
فلما قرأ عبد الملك الكتاب قال قبيصة بن ذؤيب وروح بن زنباع: ما لك عليه سبيل، ولو أراد فتقاً لقدر عليه ولقد سلم وبايع فنرى أن تكتب إليه بالعهد والميثاق بالأمان له ولأصحابه ففعل، وكتب إليه: إنك عندنا محمودٌ، أنت أحب إلينا وأقرب بنا رحماً من ابن الزبير فلك العهد والميثاق وذمة الله وذمة رسوله أن لا تهاج ولا أحدٌ من أصحابك بشيء تكرهه، ارجع إلى بلدك واذهب حيث شئت ولست أدع صلتك وعونك ما حييت؛ وكتب إلى الحجاج يأمره بحسن جواره وإكرامه؛ فرجع ابن الحنفية إلى المدينة.
خرج الحجاج بن يوسف ومحمد بن الحنفية من عند عبد الملك بن مروان فقال الحجاج لمحمد بن الحنفية: بلغني أن أباك كان إذا فرغ من القنوت يقول كلاماً حسناً
أحببت أن أعرفه فنحفظه؛ قال: لا؛ قال: سبحان الله ما أوحش لقاءكم وأفظع لفظكم وأشد خنزوانتكم ما تعدون الناس إلا عبيداً، ولقد خضتم الفتنة خوضاً، وفللتم المهاجرين والأنصار؛ فنظر إليه ابن الحنفية وأنكر لفظه فوقف، وسار الحجاج ورجع ابن الحنفية إلى باب عبد الملك فقال للآذن: استأذن لي؛ فقال: ألم تكن عنده وخرجت آنفاً، فما ردك وقد ارتفع أمير المؤمنين؟ قال: لست أبرح حتى ألقاه؛ فكره لآذن غضب الخليفة فأعلمه فقال: لقد رده أمرٌ، ائذن له؛ فلما دخل عليه تحلحل عن مجلسه كما كان يفعل؛ فقال: يا أمير المؤمنين هذا الحجاج أسمعني كلاماً تكمشت له وذكر أبي بكلامٍ تقمعت له وما أحرت حرفاً؛ قال: فما قال لك حتى أعمل على حسبه؟ قال: وكأنما تفقأ في وجهه الرمان، فخبره عما سأله عنه؛ فقال لصاحب شرطه: علي بالحجاج الساعة؛ فأتاه حين خلع ثيابه فحمله حملاً عنيفاً، وانصرف ابن الحنفية، فجاء الحجاج فوقفه بالباب طويلاً، ثم أذن له، فدخل عليه فسلم عليه، فقال له عبد الملك: من الرجز
لا أنعم الله بعمرٍو عيناً ... تحية السخط إذا التقينا
يا لكع وهراوة النفار، ما أنت ومحمد بن الحنفية؟ قال: يا أمير المؤمنين ما كان إلا خيرٌ قال: كذبت والله لهو أصدق منك وأبر، ذكرته وذكرت أباه فوالله ما بين لابتيها أفضل من أبيه؛ ما جرى بينك وبينه؟ قال: سألته يا أمير المؤمنين عن شيءٍ بلغني أن أباه كان يقوله بعد القنوت، فقال: لا أعرفه، فعلمت أن ذلك مقتاً منه لنا ولدولتنا فأجبته بالذي بلغك؛ قال له عبد الملك: أسأت ولؤمت، والله لولا أبوه وابن عمه كنا حبارى ضلالاً، وما أنبت الشعر على رؤوسنا إلا الله وهم، وما أعزنا بما ترى إلا رحمهم وريحهم الطيبة، والله لا كلمتك كلمةً أبداً أو تجيئني بالرضى منه، وتسل سخيمته.
قال: فمضى الحجاج من فوره فألفاه وهو يتغدى مع أصحابه، فاستأذن فأبى أن يأذن له، فقال بعض أصحابه: إنه أتى برسالةٍ من أمير المؤمنين؛ فأذن له، فقال: إن أمير المؤمنين أرسلني أن أستل سخيمتك وأقسم أن لا يكلمني أبداً حتى آتيه برضاك، وأنا
أحب برحمك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عفوت عما كان وغفرت ذنباً إن كان؛ قال: قد فعلت على شريطةٍ فتفعلها؟ قال: نعم، قال: على صرم الدهر ثم انصرف الحجاج ودخل على عبد الملك فقال: ما صنعت؟ قال: قد جئت برضاه وسللت سخيمته وأجاب إلى ما أحب وهو أهل ذاك؛ قال: فأي شيءٍ آخر ما كان بينك وبينه؟ قال: رضي علي شريطة صرم الدهر فقال: شنشنةٌ أعرفها من أخزم، انصرف.
فلما كان من الغد دخل ابن الحنفية على عبد الملك فقال له: أتاك الحجاج؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: فرضيت وأجبته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: ثم مال إليه فقال: هل تحفظ ما سألك عنه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، وما منعني أن أبثه إياه إلا مقتي له فإنه من بقية ثمود فضحك عبد الملك، ثم دعا بدواةٍ وقرطاس وكتب بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم، كان أمير المؤمنين رضي الله عنه إذا فرغ من وتره رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم حاجتي العظمى التي إن قضيتها لم يضرني ما منعتني، وإن منعتني لم ينفعني ما أعطيتني، فكاك الرقاب فك رقبتي من النار، رب ما أنا إن تقصد قصدي بغضبٍ منك يدوم علي، فوعزتك ما يزين ملكك إحساني ولا يقبحه إساءتي ولا ينقص من خزائنك غناي، ولا يزيد فيها فقري، يا من هو هكذا اسمع دعائي وأجب ندائي وأقلني عثرتي وارحم غربتي ووحشتي ووحدتي في قبري، هاأنذا يا رب برمتي، ويأخذ بتلابيبه ثم يركع؛ فقال عبد الملك: حسنٌ والله، رضي الله عنه.
توفي محمد بن الحنفية سنة ثمانين بين الشام والمدينة.
قال أبو حمزة: قضينا نسكنا حتى قتل ابن الزبير ورجعنا إلى المدينة مع محمد فمكث ثلاثة أيام ثم توفي.
وقيل: توفي سنة إحدى وثمانين وسنه خمسٌ وستون سنةً؛ وقيل: سنة اثنتين وثمانين؛ وقيل: سنة ثلاث وثمانين؛ وقيل: سنة اثنتين وتسعين أو ثلاث.