علي بْن عُمَر بْن أَحْمَد بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار ابن عَبْد اللَّه، أَبُو الحسن الحافظ الدارقطني:
سَمِعَ أَبَا الْقَاسِم البغوي، وَأَبَا بَكْر بْن أَبِي داود، ويحيى بْن صاعد، وبدر بْن الهيثم القاضي، وأَحْمَد بْن إِسْحَاق بْن البهلول، وعبد الوهاب بْن أَبِي حية، والفضل بْن أَحْمَد الزبيدي، وأبا عُمَر مُحَمَّد بْن يُوسُف القاضي، وأَحْمَد بْن الْقَاسِم أخا أَبِي الليث الفرائضي، وأبا سعيد العدوي، ويوسف بْن يعقوب النيسابوري، وأبا حامد بْن هارون الحضرمي، وسعيد بْن مُحَمَّد أخا زُبير الحافظ، ومُحَمَّد بْن نوح الجنديسابوري، وأحمد بْن عيسى بْن السكين البلدي، وإِسْمَاعِيل بْن الْعَبَّاس الوراق، وإِبْرَاهِيم بْن حماد القاضي، وعَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد الْجَمَّالُ، وأبا طالب أحمد ابن نصر الحافظ، وخلقا كثيرا من هذه الطبقة ومن بعدهم. حَدَّثَنَا عنه أَبُو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر البرقاني، وأبو القاسم بْن بشران، وحمزة بْن مُحَمَّد بْن طاهر، والأزهري، والخلال، والجوهري والتنوخي، وعبد العزيز الأزجي، وأبو بكر بْن بشران، والعتيقي، والقاضي أَبُو الطيب الطبري، وجماعة غيرهم.
وكان فريد عصره، وقريع دهره، ونسيج وحده، وإمام وقته. انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلل الحديث، وأسماء الرجال وأحوال الرواة، مع الصدق والأمانة، والفقه والعدالة، وقبول الشهادة، وصحة الاعتقاد، وسلامة المذهب، والاضطلاع بعلوم سوى علم الحديث، منها القراءات فإن له فيها كتابا مختصرا موجزا جمع الأصول فِي أبواب عقدها أول الكتاب.
وسمعت بعض من يعتنى بعلوم القرآن يَقُولُ: لم يسبق أَبُو الحسن إِلَى طريقته التي سلكها في عقد الأبواب المقدمة فِي أول القراءات، وصار القراء بعده يسلكون طريقته فِي تصانيفهم، ويحذون حذوه، ومنها المعرفة بمذاهب الفقهاء، فإن كتاب السنن الذي صنفه دل على أنه كان ممن اعتنى بالفقه، لأنه لا يقدر على جمع ما تضمن ذلك الكتاب إلا من تقدمت معرفته بالاختلاف فِي الأحكام. وبلغني أنه درس فقه الشافعي على أَبِي سعيد الاصطخري، وقيل بل درس الفقه على صاحب لأبي سعيد، وكتب
الحديث عَن أَبِي سعيد نفسه. ومنها أيضا المعرفة بالأدب والشعر، وقيل إنه كان يحفظ دواوين جماعة من الشعراء.
وسمعت حمزة بْن مُحَمَّد بْن طاهر الدقاق يَقُولُ: كان أَبُو الحسن الدارقطني يحفظ ديوان السيد الحميري فِي جملة ما يحفظ من الشعر. فنسب إِلَى التشيع لذلك.
وَحَدَّثَنِي الأزهري: أن أبا الحسن لما دخل مصر كان بها شيخ علوي من أهل مدينة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له مسلم بْن عبيد اللَّه، وكان عنده كتاب النسب عَن الخضر بْن داود عَن الزبير بْن بكار، وكان مسلم أحد الموصوفين بالفصاحة المطبوعين على العربية، فسأل الناس أبا الحسن أن يقرأ عليه كتاب النسب ورغبوا فِي سماعه بقراءته، فأجابهم إِلَى ذلك. واجتمع فِي المجلس من كان بمصر من أهل العلم والأدب والفضل، فحرصوا على أن يحفظوا على أَبِي الحسن لحنة، أو يظفروا منه بسقطة، فلم يقدروا على ذلك. حتى جعل مسلم يعجب ويقول له: وعربية أيضا! حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن علي الصوري قَالَ: سمعت أبا مُحَمَّد رجاء بْن مُحَمَّد بْن عيسى الأنصاري المعدل يَقُولُ: سألت أبا الحسن الدارقطني فقلت له: رأى الشيخ مثل نفسه؟ فقال لي: قَالَ اللَّه تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ
[النجم 52] فقلت له: لم أرد هذا، وإنما أردت أن أعلمه لأقول رأيت شيخا لم ير مثله، فقال لي: إن كان فِي فن واحد فقد رأيت من هو أفضل مني، وأما من اجتمع فيه ما اجتمع فِي فلا.
حَدَّثَنِي أَبُو الوليد سُلَيْمَان بْن خلف الأندلسي قَالَ: سمعت أبا ذر الهروي يَقُولُ:
سَمِعْتُ الحاكم أَبَا عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الحافظ- وسئل عَن الدارقطني- فقال:
ما رأى مثل نفسه. قَالَ لي الأزهري: كان الدارقطني ذكيا إذا ذوكر شيئا من العلم أي نوع كان وجد عنده منه نصيب وافر، ولقد حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن طلحة النعالي أنه حضر مع أَبِي الحسن فِي دعوة عند بعض الناس ليلة، فجرى شيء من ذكر الأكلة، فاندفع أَبُو الحسن يورد أخبار الأكلة وحكاياتهم ونوادرهم حتى قطع ليلته- أو أكثرها- بذلك.
سمعت القاضي أبا الطيب طاهر بْن عَبْد اللَّه الطبري يَقُولُ: كان الدارقطني أمير المؤمنين فِي الحديث، وما رأيت حافظا ورد بَغْدَاد إلا مضى إليه، وسلم له. يعني فسلم له التقدمة فِي الحفظ، وعلو المنزلة فِي العلم.
حَدَّثَنِي الصوري قَالَ: سمعتُ عَبْد الغني بْن سَعِيد الحافظ- بمصر- يَقُولُ: أحسن الناس كلاما على حديث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَةٌ؛ عليّ بن المديني في وقته، وموسى بن هارون في وقته، وعلي بن عمر الدارقطني فِي وقته.
أَخْبَرَنَا البرقاني قَالَ: كنت أسمع عَبْد الغنى بْن سعيد الحافظ كثيرا إذا حكى عَن أَبِي الحسن الدارقطني شيئا يَقُولُ: قَالَ أستاذي، وسمعت أستاذي. فقلت له فِي ذلك فقال: وهل تعلمنا هذين الحرفين من العلم إلا من أَبِي الحسن الدارقطني. قَالَ لنا البرقاني: وما رأيت بعد الدارقطني أحفظ من عَبْد الغنى بْن سعيد.
حَدَّثَنَا الأزهري قَالَ: بلغني أن الدارقطني حضر فِي حداثته مجلس إِسْمَاعِيل الصفار، فجلس ينسخ جزءا كان معه وإسماعيل يملي. فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ! فقال له الدارقطني: فهمي للإملاء خلاف فهمك، ثم قَالَ: تحفظ كم أملي الشيخ من حديث إِلَى الآن؟ فقال: لا، فقال الدارقطني: أملي ثمانية عشر حديثا. فعدت الأحاديث فوجدت كما قَالَ. ثم قَالَ أَبُو الحسن: الحديث الأول منها عَن فلان عَن فلان، ومتنه كذا. والحديث الثاني عَن فلان عَن فلان، ومتنه كذا. ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها فِي الإملاء حتى أتى على آخرها، فتعجب الناس منه- أو كما قَالَ-.
أَخْبَرَنَا البرقاني قَالَ: سمعت أبا الحسن الدارقطني يَقُولُ: كتبت بِبَغْدَادَ من أحاديث السوداني أحاديث تفرد بها، ثم مضيت إِلَى الكوفة لأسمع منه، فجئت إليه وعنده أَبُو العباس بْن عقدة فدفعت إليه الأحاديث فِي ورقة، فنظر فيها أَبُو العباس ثم رمى بها واستنكرها وأبَى أن يقرأها وقال: هؤلاء البغداديون يجيئونا بما لا نعرفه. قَالَ أَبُو الحسن: ثم قرأ أَبُو العباس عليه فمضى فِي جملة ما قرأه حديث منها، فقلت له: هذا الحديث من جملة الأحاديث، ثم مضى آخر، فقلت: وهذا أيضا من جملتها، ثم مضى ثالث فقلت: وهذا أيضا منها، وانصرفت وانقطعت عَن العود إِلَى المجلس لحمى نالتني فبينما أنا فِي الموضع الذي كنت نزلته إذا أنا بداق يدق عليَّ الباب، فقلت: من هذا؟
فقال: ابن سعيد، فخرجت وإذا بأبي العباس، فوقعت فِي صدره أقبله، وقلت: يا سيدي لم تجشمت المجيء؟ فقال: ما عرفناك إلا بعد انصرافك، وجعل يعتذر إِلَيَّ ثم قَالَ: ما الذي أخرك عَن الحضور؟ فذكرت له أني حممت. فقال: تحضر المجلس لتقرأ ما أحببت، فكنت بعد إذا حضرت أكرمني ورفعني فِي المجلس- أو كما قَالَ-.
سألت البرقاني قلت له: هل كان أَبُو الحسن الدارقطني يملى عليك العلل من حفظه؟ فقال: نعم، ثم شرح لي قصة جمع العلل. فقال: كان أبو منصور بن الكرخي يريد أن يصنف مسندا معلما، فكان يدفع أصوله إِلَى الدارقطني فيعلم له على الأحاديث المعللة، ثم يدفعها أَبُو منصور إِلَى الوراقين فينقلون كل حديث منها فِي رقعة، فإذا أردت تعليق الدارقطني على الأحاديث نظر فيها أَبُو الحسن ثم أملى عليَّ الكلام من حفظه فيقول: حَدِيثِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود الحديث الفلاني، اتفق فلان وفلان على روايته. وخالفهما فلان، ويذكر جميع ما فِي ذلك الحديث. فاكتب كلامه فِي رقعة مفردة، وكنت أقول له: لم تنظر قبل إملائك الكلام فِي الأحاديث؟ فقال: أتذكر ما فِي حفظي بنظري. ثم مات أَبُو منصور والعلل فِي الرقاع، فقلت لأبي الحسن بعد سنين من موته- إني قد عزمت أن أنقل الرقاع إِلَى الأجزاء وأرتبها على المسند، فأذن لي فِي ذلك وقرأتها عليه من كتابي ونقلها الناس من نسختي.
قَالَ أَبُو بكر البرقاني: وكنت أكثر ذكر الدارقطني والثناء عليه بحضرة أَبِي مسلم بْن مهران الحافظ، فقال لي أَبُو مسلم: أراك تفرط فِي وصفه بالحفظ، فتسأله عَن حديث الرضراض عَن ابن مسعود؟ فجئت إِلَى أَبِي الحسن وسألته عنه فقال: ليس هذا من مسائلك، وإنما قد وضعت عليه. فقلت له: نعم، فقال من الذي وضعك على هذه المسألة؟ فقلت: لا يمكنني أن أسميه، فقال: لا أجيبك أو تذكره لي، فأخبرته فأملى عليَّ أَبُو الحسن حديث الرضراض باختلاف وجوهه، وذكر خطأ البخاري فيه، فألحقته بالعلل ونقلته إليها- أو كما قَالَ-.
سمعت القاضي أبا الطيب الطبري يَقُولُ: حضرت أبا الحسن الدارقطني وقد قرأت عليه الأحاديث التي جمعها فِي الوضوء من مس الذكر فقال: لو كان أَحْمَد بْن حنبل حاضرا لاستفاد هذه الأحاديث.
حَدَّثَنِي الخلال قَالَ: كنت فِي مجلس بعض شيوخ الحديث- سماه الخلال وأنسيته- وقد حضره أَبُو الحسين بْن المظفر والقاضي أَبُو الحسن الجراحي وأبو الحسن الدارقطني وغيرهم من أهل العلم، فحلت الصلاة، فكان الدارقطني إمام الجماعة، وهناك شيوخ أكبر أسنانا منه فلم يقدم أحد غيره.
قَالَ الخلال: وغاب مستملي أَبِي الحسن الدارقطني فِي بعض مجالسه فاستمليت عليه، فروى حديث عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها أن تقول «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» فقلت: اللهم إنك عَفْوٌ- وخففت الواو- فأنكر ذلك وَقَالَ: عفو، بتشديد الواو.
حَدَّثَنِي الصوري قَالَ سمعت رجاء بْن محمّد الأنصاريّ يَقُولُ: كنا عند الدارقطني يوما والقارئ يقرأ عليه وهو قائم يصلي نافلة، فمر حديث فيه ذكر نسير ابن ذعلوق، فقال القارئ كشير بْن ذعلوق، فقال الدارقطني: سبحان اللَّه، فقال القارئ بشير بْن ذعلوق فقال الدارقطني: سبحان اللَّه، فقال القارئ يسير بْن ذعلوق، فقال الدارقطني: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ
[القلم 1] فقال القارئ نسير بْن ذعلوق ومر فِي قراءته- أو كما قَالَ-.
حَدَّثَنِي حمزة بْن مُحَمَّد بْن طاهر قَالَ: كنت عند أَبِي الحسن الدارقطني وهو قائم يتنفل، فقرأ عليه أَبُو عَبْد اللَّه بْن الكاتب حديثا لعمرو بْن شعيب فقال: عَمْرو بْن سعيد، فقال أَبُو الحسن: سبحان اللَّه، فأعاد الإسناد وَقَالَ عَمْرو بْن سعيد، ووقف، فتلا أَبُو الحسن: يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا
[هود 87] فقال ابن الكاتب: عَمْرو بْن شعيب.
حَدَّثَنِي الأزهري قَالَ: رأيت مُحَمَّد بْن أَبِي الفوارس- وقد سأل أبا الحسن الدارقطني- عَن علة حديث أو اسم فيه فأجابه، ثم قَالَ له: يا أبا الفتح ليس بين الشرق والغرب من يعرف هذا غيرى.
قرأت بخط حمزة بْن مُحَمَّد بْن طاهر الدقاق فِي أَبِي الحسن الدارقطني:
جعلناك فيما بيننا ورسولنا ... وسيطا فلم تظلم ولم تتحوب
فأنت الذي لو لاك لم يعرف الورى ... - ولو جهدوا- ما صادق من مكذب
حَدَّثَنِي العتيقي قَالَ: حضرت أبا الحسن الدارقطني- وقد جاءه أَبُو الحسين البيضاوي ببعض الغرباء وسأله أن يقرأ له شيئا- فامتنع، واعتل ببعض العلل، فقال هذا غريب، وسأله أن يملي عليه أحاديث، فأملى عليه أَبُو الحسن من حفظه مجلسا يزيد عدد أحاديثه على العشرة متون، جميعها: «نعم الشيء الهدية أمام الحاجة» وانصرف الرجل، ثم جاءه بعد وقد أهدى له شيئا، فقربه وأملى عليه من حفظه بضعة عشر حديثا متون جميعها: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» .
سمعت عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن بشران يَقُولُ: ولد الدارقطني فِي سنة ست وثلاثمائة.
حدّثنا أبو الحسن بْن الفضل قَالَ: قَالَ لي الدارقطني: فِي المحرم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة في يوم جمعة، يا أبا الحسن، اليوم دخلت فِي السنة التي توفي لي ثمانين.
قَالَ ابن الفضل: وتوفي فِي ذي القعدة من هذه السنة.
حَدَّثَنِي عَبْد العزيز بْن عَلِيّ الأزجي قَالَ: توفي الدارقطني يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
أخبرنا العتيقي قال: سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، توفي أَبُو الحسن الدارقطني يوم الأربعاء الثاني من ذي القعدة، ومولده سنة خمس وثلاثمائة.
وَقَالَ لي العتيقي مرة أخرى: توفي الدارقطني ليلة الأربعاء ودفن يوم الأربعاء الثامن من ذي الحجة سنة خمس وثمانين وقد بلغ ثمانين سنة وخمسة أيام. وقوله الأول هو الصحيح، وقد ذكر مثله مُحَمَّد بْن أَبِي الفوارس. ودفن أبو الحسن في مقبرة باب الدير، قريبا من قبر معروف الكرخي.
حَدَّثَنِي أبو نصر عليّ بْن هبة اللَّه بْن عليّ بْن جعفر بْن ماكولا قَالَ: رأيت فِي المنام ليلة من ليالي شهر رمضان كأني أسأل عَن حال أَبِي الحسن الدارقطني فِي الآخرة وما آل إليه أمره، فقيل لي: ذاك يدعى فِي الجنة الإمام.
سَمِعَ أَبَا الْقَاسِم البغوي، وَأَبَا بَكْر بْن أَبِي داود، ويحيى بْن صاعد، وبدر بْن الهيثم القاضي، وأَحْمَد بْن إِسْحَاق بْن البهلول، وعبد الوهاب بْن أَبِي حية، والفضل بْن أَحْمَد الزبيدي، وأبا عُمَر مُحَمَّد بْن يُوسُف القاضي، وأَحْمَد بْن الْقَاسِم أخا أَبِي الليث الفرائضي، وأبا سعيد العدوي، ويوسف بْن يعقوب النيسابوري، وأبا حامد بْن هارون الحضرمي، وسعيد بْن مُحَمَّد أخا زُبير الحافظ، ومُحَمَّد بْن نوح الجنديسابوري، وأحمد بْن عيسى بْن السكين البلدي، وإِسْمَاعِيل بْن الْعَبَّاس الوراق، وإِبْرَاهِيم بْن حماد القاضي، وعَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد الْجَمَّالُ، وأبا طالب أحمد ابن نصر الحافظ، وخلقا كثيرا من هذه الطبقة ومن بعدهم. حَدَّثَنَا عنه أَبُو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر البرقاني، وأبو القاسم بْن بشران، وحمزة بْن مُحَمَّد بْن طاهر، والأزهري، والخلال، والجوهري والتنوخي، وعبد العزيز الأزجي، وأبو بكر بْن بشران، والعتيقي، والقاضي أَبُو الطيب الطبري، وجماعة غيرهم.
وكان فريد عصره، وقريع دهره، ونسيج وحده، وإمام وقته. انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلل الحديث، وأسماء الرجال وأحوال الرواة، مع الصدق والأمانة، والفقه والعدالة، وقبول الشهادة، وصحة الاعتقاد، وسلامة المذهب، والاضطلاع بعلوم سوى علم الحديث، منها القراءات فإن له فيها كتابا مختصرا موجزا جمع الأصول فِي أبواب عقدها أول الكتاب.
وسمعت بعض من يعتنى بعلوم القرآن يَقُولُ: لم يسبق أَبُو الحسن إِلَى طريقته التي سلكها في عقد الأبواب المقدمة فِي أول القراءات، وصار القراء بعده يسلكون طريقته فِي تصانيفهم، ويحذون حذوه، ومنها المعرفة بمذاهب الفقهاء، فإن كتاب السنن الذي صنفه دل على أنه كان ممن اعتنى بالفقه، لأنه لا يقدر على جمع ما تضمن ذلك الكتاب إلا من تقدمت معرفته بالاختلاف فِي الأحكام. وبلغني أنه درس فقه الشافعي على أَبِي سعيد الاصطخري، وقيل بل درس الفقه على صاحب لأبي سعيد، وكتب
الحديث عَن أَبِي سعيد نفسه. ومنها أيضا المعرفة بالأدب والشعر، وقيل إنه كان يحفظ دواوين جماعة من الشعراء.
وسمعت حمزة بْن مُحَمَّد بْن طاهر الدقاق يَقُولُ: كان أَبُو الحسن الدارقطني يحفظ ديوان السيد الحميري فِي جملة ما يحفظ من الشعر. فنسب إِلَى التشيع لذلك.
وَحَدَّثَنِي الأزهري: أن أبا الحسن لما دخل مصر كان بها شيخ علوي من أهل مدينة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له مسلم بْن عبيد اللَّه، وكان عنده كتاب النسب عَن الخضر بْن داود عَن الزبير بْن بكار، وكان مسلم أحد الموصوفين بالفصاحة المطبوعين على العربية، فسأل الناس أبا الحسن أن يقرأ عليه كتاب النسب ورغبوا فِي سماعه بقراءته، فأجابهم إِلَى ذلك. واجتمع فِي المجلس من كان بمصر من أهل العلم والأدب والفضل، فحرصوا على أن يحفظوا على أَبِي الحسن لحنة، أو يظفروا منه بسقطة، فلم يقدروا على ذلك. حتى جعل مسلم يعجب ويقول له: وعربية أيضا! حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن علي الصوري قَالَ: سمعت أبا مُحَمَّد رجاء بْن مُحَمَّد بْن عيسى الأنصاري المعدل يَقُولُ: سألت أبا الحسن الدارقطني فقلت له: رأى الشيخ مثل نفسه؟ فقال لي: قَالَ اللَّه تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ
[النجم 52] فقلت له: لم أرد هذا، وإنما أردت أن أعلمه لأقول رأيت شيخا لم ير مثله، فقال لي: إن كان فِي فن واحد فقد رأيت من هو أفضل مني، وأما من اجتمع فيه ما اجتمع فِي فلا.
حَدَّثَنِي أَبُو الوليد سُلَيْمَان بْن خلف الأندلسي قَالَ: سمعت أبا ذر الهروي يَقُولُ:
سَمِعْتُ الحاكم أَبَا عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الحافظ- وسئل عَن الدارقطني- فقال:
ما رأى مثل نفسه. قَالَ لي الأزهري: كان الدارقطني ذكيا إذا ذوكر شيئا من العلم أي نوع كان وجد عنده منه نصيب وافر، ولقد حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن طلحة النعالي أنه حضر مع أَبِي الحسن فِي دعوة عند بعض الناس ليلة، فجرى شيء من ذكر الأكلة، فاندفع أَبُو الحسن يورد أخبار الأكلة وحكاياتهم ونوادرهم حتى قطع ليلته- أو أكثرها- بذلك.
سمعت القاضي أبا الطيب طاهر بْن عَبْد اللَّه الطبري يَقُولُ: كان الدارقطني أمير المؤمنين فِي الحديث، وما رأيت حافظا ورد بَغْدَاد إلا مضى إليه، وسلم له. يعني فسلم له التقدمة فِي الحفظ، وعلو المنزلة فِي العلم.
حَدَّثَنِي الصوري قَالَ: سمعتُ عَبْد الغني بْن سَعِيد الحافظ- بمصر- يَقُولُ: أحسن الناس كلاما على حديث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَةٌ؛ عليّ بن المديني في وقته، وموسى بن هارون في وقته، وعلي بن عمر الدارقطني فِي وقته.
أَخْبَرَنَا البرقاني قَالَ: كنت أسمع عَبْد الغنى بْن سعيد الحافظ كثيرا إذا حكى عَن أَبِي الحسن الدارقطني شيئا يَقُولُ: قَالَ أستاذي، وسمعت أستاذي. فقلت له فِي ذلك فقال: وهل تعلمنا هذين الحرفين من العلم إلا من أَبِي الحسن الدارقطني. قَالَ لنا البرقاني: وما رأيت بعد الدارقطني أحفظ من عَبْد الغنى بْن سعيد.
حَدَّثَنَا الأزهري قَالَ: بلغني أن الدارقطني حضر فِي حداثته مجلس إِسْمَاعِيل الصفار، فجلس ينسخ جزءا كان معه وإسماعيل يملي. فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ! فقال له الدارقطني: فهمي للإملاء خلاف فهمك، ثم قَالَ: تحفظ كم أملي الشيخ من حديث إِلَى الآن؟ فقال: لا، فقال الدارقطني: أملي ثمانية عشر حديثا. فعدت الأحاديث فوجدت كما قَالَ. ثم قَالَ أَبُو الحسن: الحديث الأول منها عَن فلان عَن فلان، ومتنه كذا. والحديث الثاني عَن فلان عَن فلان، ومتنه كذا. ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها فِي الإملاء حتى أتى على آخرها، فتعجب الناس منه- أو كما قَالَ-.
أَخْبَرَنَا البرقاني قَالَ: سمعت أبا الحسن الدارقطني يَقُولُ: كتبت بِبَغْدَادَ من أحاديث السوداني أحاديث تفرد بها، ثم مضيت إِلَى الكوفة لأسمع منه، فجئت إليه وعنده أَبُو العباس بْن عقدة فدفعت إليه الأحاديث فِي ورقة، فنظر فيها أَبُو العباس ثم رمى بها واستنكرها وأبَى أن يقرأها وقال: هؤلاء البغداديون يجيئونا بما لا نعرفه. قَالَ أَبُو الحسن: ثم قرأ أَبُو العباس عليه فمضى فِي جملة ما قرأه حديث منها، فقلت له: هذا الحديث من جملة الأحاديث، ثم مضى آخر، فقلت: وهذا أيضا من جملتها، ثم مضى ثالث فقلت: وهذا أيضا منها، وانصرفت وانقطعت عَن العود إِلَى المجلس لحمى نالتني فبينما أنا فِي الموضع الذي كنت نزلته إذا أنا بداق يدق عليَّ الباب، فقلت: من هذا؟
فقال: ابن سعيد، فخرجت وإذا بأبي العباس، فوقعت فِي صدره أقبله، وقلت: يا سيدي لم تجشمت المجيء؟ فقال: ما عرفناك إلا بعد انصرافك، وجعل يعتذر إِلَيَّ ثم قَالَ: ما الذي أخرك عَن الحضور؟ فذكرت له أني حممت. فقال: تحضر المجلس لتقرأ ما أحببت، فكنت بعد إذا حضرت أكرمني ورفعني فِي المجلس- أو كما قَالَ-.
سألت البرقاني قلت له: هل كان أَبُو الحسن الدارقطني يملى عليك العلل من حفظه؟ فقال: نعم، ثم شرح لي قصة جمع العلل. فقال: كان أبو منصور بن الكرخي يريد أن يصنف مسندا معلما، فكان يدفع أصوله إِلَى الدارقطني فيعلم له على الأحاديث المعللة، ثم يدفعها أَبُو منصور إِلَى الوراقين فينقلون كل حديث منها فِي رقعة، فإذا أردت تعليق الدارقطني على الأحاديث نظر فيها أَبُو الحسن ثم أملى عليَّ الكلام من حفظه فيقول: حَدِيثِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود الحديث الفلاني، اتفق فلان وفلان على روايته. وخالفهما فلان، ويذكر جميع ما فِي ذلك الحديث. فاكتب كلامه فِي رقعة مفردة، وكنت أقول له: لم تنظر قبل إملائك الكلام فِي الأحاديث؟ فقال: أتذكر ما فِي حفظي بنظري. ثم مات أَبُو منصور والعلل فِي الرقاع، فقلت لأبي الحسن بعد سنين من موته- إني قد عزمت أن أنقل الرقاع إِلَى الأجزاء وأرتبها على المسند، فأذن لي فِي ذلك وقرأتها عليه من كتابي ونقلها الناس من نسختي.
قَالَ أَبُو بكر البرقاني: وكنت أكثر ذكر الدارقطني والثناء عليه بحضرة أَبِي مسلم بْن مهران الحافظ، فقال لي أَبُو مسلم: أراك تفرط فِي وصفه بالحفظ، فتسأله عَن حديث الرضراض عَن ابن مسعود؟ فجئت إِلَى أَبِي الحسن وسألته عنه فقال: ليس هذا من مسائلك، وإنما قد وضعت عليه. فقلت له: نعم، فقال من الذي وضعك على هذه المسألة؟ فقلت: لا يمكنني أن أسميه، فقال: لا أجيبك أو تذكره لي، فأخبرته فأملى عليَّ أَبُو الحسن حديث الرضراض باختلاف وجوهه، وذكر خطأ البخاري فيه، فألحقته بالعلل ونقلته إليها- أو كما قَالَ-.
سمعت القاضي أبا الطيب الطبري يَقُولُ: حضرت أبا الحسن الدارقطني وقد قرأت عليه الأحاديث التي جمعها فِي الوضوء من مس الذكر فقال: لو كان أَحْمَد بْن حنبل حاضرا لاستفاد هذه الأحاديث.
حَدَّثَنِي الخلال قَالَ: كنت فِي مجلس بعض شيوخ الحديث- سماه الخلال وأنسيته- وقد حضره أَبُو الحسين بْن المظفر والقاضي أَبُو الحسن الجراحي وأبو الحسن الدارقطني وغيرهم من أهل العلم، فحلت الصلاة، فكان الدارقطني إمام الجماعة، وهناك شيوخ أكبر أسنانا منه فلم يقدم أحد غيره.
قَالَ الخلال: وغاب مستملي أَبِي الحسن الدارقطني فِي بعض مجالسه فاستمليت عليه، فروى حديث عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها أن تقول «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» فقلت: اللهم إنك عَفْوٌ- وخففت الواو- فأنكر ذلك وَقَالَ: عفو، بتشديد الواو.
حَدَّثَنِي الصوري قَالَ سمعت رجاء بْن محمّد الأنصاريّ يَقُولُ: كنا عند الدارقطني يوما والقارئ يقرأ عليه وهو قائم يصلي نافلة، فمر حديث فيه ذكر نسير ابن ذعلوق، فقال القارئ كشير بْن ذعلوق، فقال الدارقطني: سبحان اللَّه، فقال القارئ بشير بْن ذعلوق فقال الدارقطني: سبحان اللَّه، فقال القارئ يسير بْن ذعلوق، فقال الدارقطني: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ
[القلم 1] فقال القارئ نسير بْن ذعلوق ومر فِي قراءته- أو كما قَالَ-.
حَدَّثَنِي حمزة بْن مُحَمَّد بْن طاهر قَالَ: كنت عند أَبِي الحسن الدارقطني وهو قائم يتنفل، فقرأ عليه أَبُو عَبْد اللَّه بْن الكاتب حديثا لعمرو بْن شعيب فقال: عَمْرو بْن سعيد، فقال أَبُو الحسن: سبحان اللَّه، فأعاد الإسناد وَقَالَ عَمْرو بْن سعيد، ووقف، فتلا أَبُو الحسن: يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا
[هود 87] فقال ابن الكاتب: عَمْرو بْن شعيب.
حَدَّثَنِي الأزهري قَالَ: رأيت مُحَمَّد بْن أَبِي الفوارس- وقد سأل أبا الحسن الدارقطني- عَن علة حديث أو اسم فيه فأجابه، ثم قَالَ له: يا أبا الفتح ليس بين الشرق والغرب من يعرف هذا غيرى.
قرأت بخط حمزة بْن مُحَمَّد بْن طاهر الدقاق فِي أَبِي الحسن الدارقطني:
جعلناك فيما بيننا ورسولنا ... وسيطا فلم تظلم ولم تتحوب
فأنت الذي لو لاك لم يعرف الورى ... - ولو جهدوا- ما صادق من مكذب
حَدَّثَنِي العتيقي قَالَ: حضرت أبا الحسن الدارقطني- وقد جاءه أَبُو الحسين البيضاوي ببعض الغرباء وسأله أن يقرأ له شيئا- فامتنع، واعتل ببعض العلل، فقال هذا غريب، وسأله أن يملي عليه أحاديث، فأملى عليه أَبُو الحسن من حفظه مجلسا يزيد عدد أحاديثه على العشرة متون، جميعها: «نعم الشيء الهدية أمام الحاجة» وانصرف الرجل، ثم جاءه بعد وقد أهدى له شيئا، فقربه وأملى عليه من حفظه بضعة عشر حديثا متون جميعها: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» .
سمعت عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن بشران يَقُولُ: ولد الدارقطني فِي سنة ست وثلاثمائة.
حدّثنا أبو الحسن بْن الفضل قَالَ: قَالَ لي الدارقطني: فِي المحرم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة في يوم جمعة، يا أبا الحسن، اليوم دخلت فِي السنة التي توفي لي ثمانين.
قَالَ ابن الفضل: وتوفي فِي ذي القعدة من هذه السنة.
حَدَّثَنِي عَبْد العزيز بْن عَلِيّ الأزجي قَالَ: توفي الدارقطني يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
أخبرنا العتيقي قال: سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، توفي أَبُو الحسن الدارقطني يوم الأربعاء الثاني من ذي القعدة، ومولده سنة خمس وثلاثمائة.
وَقَالَ لي العتيقي مرة أخرى: توفي الدارقطني ليلة الأربعاء ودفن يوم الأربعاء الثامن من ذي الحجة سنة خمس وثمانين وقد بلغ ثمانين سنة وخمسة أيام. وقوله الأول هو الصحيح، وقد ذكر مثله مُحَمَّد بْن أَبِي الفوارس. ودفن أبو الحسن في مقبرة باب الدير، قريبا من قبر معروف الكرخي.
حَدَّثَنِي أبو نصر عليّ بْن هبة اللَّه بْن عليّ بْن جعفر بْن ماكولا قَالَ: رأيت فِي المنام ليلة من ليالي شهر رمضان كأني أسأل عَن حال أَبِي الحسن الدارقطني فِي الآخرة وما آل إليه أمره، فقيل لي: ذاك يدعى فِي الجنة الإمام.