يوسف بن الحسين بن علي أبو يعقوب
الرازي الصوفي، صاحب ذي النون المصري زاهد معروف موصوف.
قال: قلت لأحمد بن حنبل: حدثني، فقال: ما تصنع بالحديث يا صوفي؟ فقلت: لا بد حدثني، فقال: حدثنا مروان الفزاري، عن هلال بن سويد أبي المعلى، عن أنس قال: أهدي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طائران، فقدم إليه أحدهما، فلما أصبح قال: عندكم من غداء؟ فقدم إليه الآخر، فقال: من أين ذا؟ فقال بلال: خبأته لك يا رسول الله، فقال: يا بلال، لا تخف من ذي العرش إقلالاً، إن الله يأتي برزق كل غد.
وفي رواية: أهدي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوائر ثلاثة، فأكل منها طيراً، واستخبأ خادمه طيرين، فرده إليه من الغد، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألم أنهك أن ترفع شيئاً لغد؟ إن الله يأتي برزق كل غد.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: يوسف بن الحسين، أبو يعقوب الرازي، إمام وقته، لم يكن من المشايخ على طريقته في تذليل النفس، وإسقاط الجاه. صحب ذا النون المصري، ورافق أبا سعيد الخراز في بعض أسفاره، وأبا تراب النخشبي.
قال أبو القاسم القشيري: كان نسيج وحده في إسقاط التصنع، وكان عالماً أديباً. مات سنة أربع وثلاثمائة.
قال يوسف بن الحسين: لأن ألقى الله بجميع المعاصي أحب غلي من أن ألقاه بذرة من التصنع. وقال: إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص فاعلم أنه لا يجيء منه شيء.
وكتب إلى الجنيد: إذا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك، إن ذقتها، لا تذوق بعدها خيراً أبداً. وقال: رأيت آفات الصوفية في صحبة الأحداث، ومعاشرة الأضداد، ورفقة النسوان. وقال: كنت أيام السياحة في أرض الشام أمسك بيدي عكازة مكتوباً عليها: من السريع
سر في بلاد الله سياحا ... وابك على نسك نوّاحاً
وامس بنور الله في أرضه ... كفى بنور الله مصباحا
وكتب على مخلاته: من الهزج
فلا يومك ينساك ... ولا رزقك يعدوك
ومن يطمع في الناس ... يكن للناس مملوكا
وكن سعيك لله ... فإن الله يكفيك
وقال: قيل لي: إن ذا النون المصري يعرف اسم الله عز وجل الأعظم، فدخلت إلى مصر، فذهبت إليه، فبصرني وأنا طويل اللحية، ومعي ركوة طويلة، فاستبشع منظري، ولم يلتفت إلي.
قال أبو الحسين الرازي:
وكان يوسف بن الحسين يقال: إنه أعلم أهل زمانه بالكلام، وعلم الصوفية. فلما كان بعد أيام جاء إلى ذي النون رجل صاحب كلام، فناظر ذا النون، فلم يقم ذو النون بالحجج عليه، فاجتذبته إلي، وناظرته، فقطعته، فعرف ذو النون مكاني، فقام إلي وعانقني وجلس بين يدي، وهو شيخ وأنا شاب، وقال: اعذرني فلم أعرفك، فعذرته، وخدمته سنة واحدة، فلما كان على رأس السنة قلت له: يا أستاذ، إني قد خدمتك، وقد وجب حقي عليك، وقيل لي: إنك تعرف اسم الله الأعظم، وقد عرفتني، ولا تجد له موضعاً مثلي، فأحب أن تعلمني إياه. قال: فسكت عني ذو النون، ولم يجبني، وكأنه أومأ إلي أنه يخبرني، وتركني ستة أشهر بعد ذلك، ثم أخرج إلي من بيته طبقاً ومكبة مشدوداً في منديل وكان ذو النون يسكن في الجيزة فقال: تعرف فلاناً صديقنا من الفسطاط؟ قلت: نعم، قال: فأحب أن تؤدي هذا إليه. قال: فأخذت الطبق وهو مشدود، وجعلت أمشي طول الطريق وأنا متفكر فيه: مثل ذي النون يوجه إلى فلان
بهدية! ترى أيش هي؟ قال: فلم أصبر إلى أن بلغت الجسر، فحللت المنديل، وشلت المكبة، فإذا فأرة، قفزت من الطبق، ومرت. فاغتظت غيظاً شديداً، وقلت: ذو النون يسخر بي، ويوجه مع مثلي فأرة إلى فلان!؟ فرجعت على ذلك الغيظ، فلما رآني عرف ما في وجهي، وقال: يا أحمق، إنما جربناك، ائتمنتك على فأرة فخنتني، أفاأتمنك على اسم الله الأعظم؟! وقال: مر عني فلا أراك شيئاً آخر.
قال: وسمعت ذا النون يقول: من جهل قدره هتك ستره.
وقال: قلت لذي النون وقت مفارقتي له: من أجالس؟ فقال: عليك مجالسة من تذكرك الله رؤيته، وتقع هيبته على باطنك، ويزيد في عملك منطقه، ويزهدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله، ولا يعظك بلسان قوله.
وقال: عليك بصحبة من تسلم منه في ظاهر أمرك، وتبعثك على الخير صحبته، وتذكرك الله رؤيته.
وقال يوسف: قيل لذي النون: ما بال الحكمة لها حلاوة من أفواه الحكماء؟ قال: لقرب عهدها بالرب عز وجل.
وقيل ليوسف بن الحسين: يا أبا يعقوب، هل لك هم غد؟ قال: يا سيدي، من كثرة همومنا اليوم لا نفرغ لهم. فأجابه الجنيد: من البسيط
يكفي الحكيم من التنبيه أيسره ... فيعرف الكيف والتكوين والسببا
فكن بحيث مراد الحق منك ولا ... تزل مع القصد في التمكين منتصبا
إن السبيل إلى مرضاته نظر ... فما عليك له يرضى كما غضبا
ثم قال: من كان ظاهره عامراً فباطنه خراب، ومن كان ظاهره خراباً كان باطنه عامراً، والدليل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
قال أبو الحسين الدراج: قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد، فلما دخلت الري سألت عن منزله، فكل من أسأل يقول: أيش تفعل بذلك الزنديق؟ فضيقوا صدري، حتى عزمت على الانصراف، فبت تلك الليلة في مسجد، ثم قلتك جئت هذا البلد، فلا أقل من زيارة! فلم أزل أسأل عنه حتى دفعت إلى مسجده وهو قاعد في المحراب، بين يديه مصحف يقرأ، وإذا هو شيخ بهي، حسن الوجه واللحية، فدنوت، فسلمت، فرد السلام، وقال: من أين أنت؟ فقلت: من بغداد، قصدت زيارة الشيخ. فقال: لو أن في بعض البلدان قال لك إنسان: أقم عندي حتى أشتري لك داراً وجارية أكان يمنعك عن زيارتي؟ فقلت: يا سيدي، ما امتحنني الله بشيء من ذلك، ولو كان لا أدري كيف كنت أكون، فقال: تحسن أن تقول شيئاً؟ قلت: نعم، وقلت: من الطويل
رأيتك تبني دائماً في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدّمت ما تبني
فأطبق المصحف، ولم يزل يبكي حتى ابتل لحيته وثوبه، حتى رحمته من كثرة بكائه، ثم قال لي: يا بني، تلوم أهل الري في قولهم: يوسف بن الحسين زنديق؟ من وقت الصلاة هو ذا أقرأ القرآن، لم يقطر من عيني قطرة، وقد قامت علي القيامة بهذا البيت.
قال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه يلبث فيه على لون آخر.
وقال: ما صحبني متكبر قط إلا اعتراني داؤه، لأنه يتكبر، فإذا تكبر غضبت، فإذا غضبت أداني الغضب إلى الكبر، فإذا داؤه قد اعتراني.
وقال: في الدنيا طغيانان: طغيان العلم، وطغيان المال، والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال الزهد فيه.
وقال يوسف:
بالأدب يفهم العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة يفهم الزهد، ويوفق له، وبالزهد تترك الدنيا، وبترك الدنيا ترغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال رضى الله عز وجل.
وقيل ليوسف بن الحسين: لو تجملت قليلاً، فقال: هو ذا يطاف على بابنا بالكيزان يتبرك بنا وبدعواتنا، وأنتم تدعوني إلى التجمل! وكان كثيراً ما يقول: إلهي توبة أو مغفرة، فقد ضاقت بي أبواب المعذرة، إلهي، خطيئتي خطيئة صماء، وعاقبتي عاقبة وهماء، فلا الخطيئة أحسن الخروج منها، ولا العاقبة أهتدي للرجوع إليها، ومن شأن الكرماء الرفق بالأسراء، وأنا أسير تدبيرك. ثم يقول: من الطويل
وأذكركم في السّرّ والجهر دائماً ... وإن كان قلبي في الوثاق أسير
لتعرف نفسي قدرة الخالق الذي ... يدبّر أمر الخلق وهو شكور
وقال: الأنس مع الله نور ساطع، والأنس مع الناس سم ناقع.
وسئل عن الكرم والجود، فقال: الجود أن تتفضل بما لا يجب عليك، والكرم أن تتفضل بما يجب لك.
وقيل له: ما بال المحبين يتلذذون بالذل في المحبة؟ فأنشأ يقول: من الكامل
ذلّ الفتى في الحبّ مكرمةٌ ... وخضوعه لحبيبه شرف
وقال: كنت عند ذي النون المصري يوماً، فجاءه رجل، فقال: ما بال المحزون إذا تكامل حزنه لا تجري دموعه؟ فقال: إذا رق سلا، وإذا انجمد سجا. ثم أطرق، ورفع رأسه يقول: من الطويل
إذا رقّ قلب درّت جفونه ... دموعاً له فيها سلوٌّ من الكمد
وإن غصّ بالأشجان من طول حزنه ... علاه اصفرار اللّون في الوجه والجسد
وأحمد حال الخائفين مقامهم ... على كمدٍ يضني النفوس مع الكبد
لعمرك ما لذّ المطيعون لذةٌ ... ألذّ وأحلى من مناجاة منفرد
قال أبو عبد الرحمن السلمي: واعتل يوسف بن الحسين الرازي، فدخل عليه بعض إخوانه، فقال له: مالك أيها الشيخ، وما الذي تجد؟ ألا ندعو لك بعض هؤلاء الأطباء؟ فأنشأ يقول: من الطويل
بقلبي سقامٌ ما يداوى مريضه ... خفيّ على العوّاد باقٍ على الدهر
كان مرحوم الرازي يتكلم في يوسف بن الحسين، فانتبه ليلة وهو يبكي، فقيل له: مالك؟ قال: رأيت كتاباً نزل من السماء، فلما قرب من الخلق إذا فيه مكتوب بخط جليل: هذه براءة ليوسف بن الحسين مما قيل فيه. فجاء إله، فاعتذر.
وكان يوسف بن الحسين يقول: اللهم إنك تعلم أني نصحت الناس قولاً، وخنت نفسي فعلاً، فهب لي خيانة نفسي بنصيحتي للناس.
وكان يتمثل كثيراً بهذا البيت: من الوافر
سأعطيك الرّضى وأموت غمّاً ... وأسكت لا أغمّك بالعتاب
كان آخر كلام يوسف بن الحسين: إليه دعوت الخلق إليك بجهدي، وقصرت نفسي بالواجب لك علي مع معرفتي بك، وعلمي فيك، فهبني لمن شئت من خلقك. قال: فمات، فرئي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا عبد السوء، فعلت وعصيت! فقلت: يا سيدي، لم أبلغ هذا عنك، بلغت أنك كريم، والكريم إذا قدر عفا. فقال تعالى: تملقت لي بقولك: هبني لمن شئت من خلقك، اذهب فقد وهبتك لك.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ورئي يوسف بن الحسين في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقيل: بماذا؟ فقال: لأني ما خلطت جداً بهزل.
قال عبد الله بن عطاء: مات يوسف بن الحسين سنة أربع وثلاثمائة.
الرازي الصوفي، صاحب ذي النون المصري زاهد معروف موصوف.
قال: قلت لأحمد بن حنبل: حدثني، فقال: ما تصنع بالحديث يا صوفي؟ فقلت: لا بد حدثني، فقال: حدثنا مروان الفزاري، عن هلال بن سويد أبي المعلى، عن أنس قال: أهدي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طائران، فقدم إليه أحدهما، فلما أصبح قال: عندكم من غداء؟ فقدم إليه الآخر، فقال: من أين ذا؟ فقال بلال: خبأته لك يا رسول الله، فقال: يا بلال، لا تخف من ذي العرش إقلالاً، إن الله يأتي برزق كل غد.
وفي رواية: أهدي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوائر ثلاثة، فأكل منها طيراً، واستخبأ خادمه طيرين، فرده إليه من الغد، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألم أنهك أن ترفع شيئاً لغد؟ إن الله يأتي برزق كل غد.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: يوسف بن الحسين، أبو يعقوب الرازي، إمام وقته، لم يكن من المشايخ على طريقته في تذليل النفس، وإسقاط الجاه. صحب ذا النون المصري، ورافق أبا سعيد الخراز في بعض أسفاره، وأبا تراب النخشبي.
قال أبو القاسم القشيري: كان نسيج وحده في إسقاط التصنع، وكان عالماً أديباً. مات سنة أربع وثلاثمائة.
قال يوسف بن الحسين: لأن ألقى الله بجميع المعاصي أحب غلي من أن ألقاه بذرة من التصنع. وقال: إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص فاعلم أنه لا يجيء منه شيء.
وكتب إلى الجنيد: إذا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك، إن ذقتها، لا تذوق بعدها خيراً أبداً. وقال: رأيت آفات الصوفية في صحبة الأحداث، ومعاشرة الأضداد، ورفقة النسوان. وقال: كنت أيام السياحة في أرض الشام أمسك بيدي عكازة مكتوباً عليها: من السريع
سر في بلاد الله سياحا ... وابك على نسك نوّاحاً
وامس بنور الله في أرضه ... كفى بنور الله مصباحا
وكتب على مخلاته: من الهزج
فلا يومك ينساك ... ولا رزقك يعدوك
ومن يطمع في الناس ... يكن للناس مملوكا
وكن سعيك لله ... فإن الله يكفيك
وقال: قيل لي: إن ذا النون المصري يعرف اسم الله عز وجل الأعظم، فدخلت إلى مصر، فذهبت إليه، فبصرني وأنا طويل اللحية، ومعي ركوة طويلة، فاستبشع منظري، ولم يلتفت إلي.
قال أبو الحسين الرازي:
وكان يوسف بن الحسين يقال: إنه أعلم أهل زمانه بالكلام، وعلم الصوفية. فلما كان بعد أيام جاء إلى ذي النون رجل صاحب كلام، فناظر ذا النون، فلم يقم ذو النون بالحجج عليه، فاجتذبته إلي، وناظرته، فقطعته، فعرف ذو النون مكاني، فقام إلي وعانقني وجلس بين يدي، وهو شيخ وأنا شاب، وقال: اعذرني فلم أعرفك، فعذرته، وخدمته سنة واحدة، فلما كان على رأس السنة قلت له: يا أستاذ، إني قد خدمتك، وقد وجب حقي عليك، وقيل لي: إنك تعرف اسم الله الأعظم، وقد عرفتني، ولا تجد له موضعاً مثلي، فأحب أن تعلمني إياه. قال: فسكت عني ذو النون، ولم يجبني، وكأنه أومأ إلي أنه يخبرني، وتركني ستة أشهر بعد ذلك، ثم أخرج إلي من بيته طبقاً ومكبة مشدوداً في منديل وكان ذو النون يسكن في الجيزة فقال: تعرف فلاناً صديقنا من الفسطاط؟ قلت: نعم، قال: فأحب أن تؤدي هذا إليه. قال: فأخذت الطبق وهو مشدود، وجعلت أمشي طول الطريق وأنا متفكر فيه: مثل ذي النون يوجه إلى فلان
بهدية! ترى أيش هي؟ قال: فلم أصبر إلى أن بلغت الجسر، فحللت المنديل، وشلت المكبة، فإذا فأرة، قفزت من الطبق، ومرت. فاغتظت غيظاً شديداً، وقلت: ذو النون يسخر بي، ويوجه مع مثلي فأرة إلى فلان!؟ فرجعت على ذلك الغيظ، فلما رآني عرف ما في وجهي، وقال: يا أحمق، إنما جربناك، ائتمنتك على فأرة فخنتني، أفاأتمنك على اسم الله الأعظم؟! وقال: مر عني فلا أراك شيئاً آخر.
قال: وسمعت ذا النون يقول: من جهل قدره هتك ستره.
وقال: قلت لذي النون وقت مفارقتي له: من أجالس؟ فقال: عليك مجالسة من تذكرك الله رؤيته، وتقع هيبته على باطنك، ويزيد في عملك منطقه، ويزهدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله، ولا يعظك بلسان قوله.
وقال: عليك بصحبة من تسلم منه في ظاهر أمرك، وتبعثك على الخير صحبته، وتذكرك الله رؤيته.
وقال يوسف: قيل لذي النون: ما بال الحكمة لها حلاوة من أفواه الحكماء؟ قال: لقرب عهدها بالرب عز وجل.
وقيل ليوسف بن الحسين: يا أبا يعقوب، هل لك هم غد؟ قال: يا سيدي، من كثرة همومنا اليوم لا نفرغ لهم. فأجابه الجنيد: من البسيط
يكفي الحكيم من التنبيه أيسره ... فيعرف الكيف والتكوين والسببا
فكن بحيث مراد الحق منك ولا ... تزل مع القصد في التمكين منتصبا
إن السبيل إلى مرضاته نظر ... فما عليك له يرضى كما غضبا
ثم قال: من كان ظاهره عامراً فباطنه خراب، ومن كان ظاهره خراباً كان باطنه عامراً، والدليل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
قال أبو الحسين الدراج: قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد، فلما دخلت الري سألت عن منزله، فكل من أسأل يقول: أيش تفعل بذلك الزنديق؟ فضيقوا صدري، حتى عزمت على الانصراف، فبت تلك الليلة في مسجد، ثم قلتك جئت هذا البلد، فلا أقل من زيارة! فلم أزل أسأل عنه حتى دفعت إلى مسجده وهو قاعد في المحراب، بين يديه مصحف يقرأ، وإذا هو شيخ بهي، حسن الوجه واللحية، فدنوت، فسلمت، فرد السلام، وقال: من أين أنت؟ فقلت: من بغداد، قصدت زيارة الشيخ. فقال: لو أن في بعض البلدان قال لك إنسان: أقم عندي حتى أشتري لك داراً وجارية أكان يمنعك عن زيارتي؟ فقلت: يا سيدي، ما امتحنني الله بشيء من ذلك، ولو كان لا أدري كيف كنت أكون، فقال: تحسن أن تقول شيئاً؟ قلت: نعم، وقلت: من الطويل
رأيتك تبني دائماً في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدّمت ما تبني
فأطبق المصحف، ولم يزل يبكي حتى ابتل لحيته وثوبه، حتى رحمته من كثرة بكائه، ثم قال لي: يا بني، تلوم أهل الري في قولهم: يوسف بن الحسين زنديق؟ من وقت الصلاة هو ذا أقرأ القرآن، لم يقطر من عيني قطرة، وقد قامت علي القيامة بهذا البيت.
قال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه يلبث فيه على لون آخر.
وقال: ما صحبني متكبر قط إلا اعتراني داؤه، لأنه يتكبر، فإذا تكبر غضبت، فإذا غضبت أداني الغضب إلى الكبر، فإذا داؤه قد اعتراني.
وقال: في الدنيا طغيانان: طغيان العلم، وطغيان المال، والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال الزهد فيه.
وقال يوسف:
بالأدب يفهم العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة يفهم الزهد، ويوفق له، وبالزهد تترك الدنيا، وبترك الدنيا ترغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال رضى الله عز وجل.
وقيل ليوسف بن الحسين: لو تجملت قليلاً، فقال: هو ذا يطاف على بابنا بالكيزان يتبرك بنا وبدعواتنا، وأنتم تدعوني إلى التجمل! وكان كثيراً ما يقول: إلهي توبة أو مغفرة، فقد ضاقت بي أبواب المعذرة، إلهي، خطيئتي خطيئة صماء، وعاقبتي عاقبة وهماء، فلا الخطيئة أحسن الخروج منها، ولا العاقبة أهتدي للرجوع إليها، ومن شأن الكرماء الرفق بالأسراء، وأنا أسير تدبيرك. ثم يقول: من الطويل
وأذكركم في السّرّ والجهر دائماً ... وإن كان قلبي في الوثاق أسير
لتعرف نفسي قدرة الخالق الذي ... يدبّر أمر الخلق وهو شكور
وقال: الأنس مع الله نور ساطع، والأنس مع الناس سم ناقع.
وسئل عن الكرم والجود، فقال: الجود أن تتفضل بما لا يجب عليك، والكرم أن تتفضل بما يجب لك.
وقيل له: ما بال المحبين يتلذذون بالذل في المحبة؟ فأنشأ يقول: من الكامل
ذلّ الفتى في الحبّ مكرمةٌ ... وخضوعه لحبيبه شرف
وقال: كنت عند ذي النون المصري يوماً، فجاءه رجل، فقال: ما بال المحزون إذا تكامل حزنه لا تجري دموعه؟ فقال: إذا رق سلا، وإذا انجمد سجا. ثم أطرق، ورفع رأسه يقول: من الطويل
إذا رقّ قلب درّت جفونه ... دموعاً له فيها سلوٌّ من الكمد
وإن غصّ بالأشجان من طول حزنه ... علاه اصفرار اللّون في الوجه والجسد
وأحمد حال الخائفين مقامهم ... على كمدٍ يضني النفوس مع الكبد
لعمرك ما لذّ المطيعون لذةٌ ... ألذّ وأحلى من مناجاة منفرد
قال أبو عبد الرحمن السلمي: واعتل يوسف بن الحسين الرازي، فدخل عليه بعض إخوانه، فقال له: مالك أيها الشيخ، وما الذي تجد؟ ألا ندعو لك بعض هؤلاء الأطباء؟ فأنشأ يقول: من الطويل
بقلبي سقامٌ ما يداوى مريضه ... خفيّ على العوّاد باقٍ على الدهر
كان مرحوم الرازي يتكلم في يوسف بن الحسين، فانتبه ليلة وهو يبكي، فقيل له: مالك؟ قال: رأيت كتاباً نزل من السماء، فلما قرب من الخلق إذا فيه مكتوب بخط جليل: هذه براءة ليوسف بن الحسين مما قيل فيه. فجاء إله، فاعتذر.
وكان يوسف بن الحسين يقول: اللهم إنك تعلم أني نصحت الناس قولاً، وخنت نفسي فعلاً، فهب لي خيانة نفسي بنصيحتي للناس.
وكان يتمثل كثيراً بهذا البيت: من الوافر
سأعطيك الرّضى وأموت غمّاً ... وأسكت لا أغمّك بالعتاب
كان آخر كلام يوسف بن الحسين: إليه دعوت الخلق إليك بجهدي، وقصرت نفسي بالواجب لك علي مع معرفتي بك، وعلمي فيك، فهبني لمن شئت من خلقك. قال: فمات، فرئي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا عبد السوء، فعلت وعصيت! فقلت: يا سيدي، لم أبلغ هذا عنك، بلغت أنك كريم، والكريم إذا قدر عفا. فقال تعالى: تملقت لي بقولك: هبني لمن شئت من خلقك، اذهب فقد وهبتك لك.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ورئي يوسف بن الحسين في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقيل: بماذا؟ فقال: لأني ما خلطت جداً بهزل.
قال عبد الله بن عطاء: مات يوسف بن الحسين سنة أربع وثلاثمائة.