Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=154204&book=5525#93392e
معاوية بن صخر أبي سفيان بن حرب
ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الرحمن، الأموي خال المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين، أسلم يوم الفتح.
وروي عنه أنه قال: أسلمت يوم القضية وكتمت إسلامي خوفاً من أبي، وصحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروى عنه أحاديث، وروى عن أخته أم حبيبة، وولاه عمر بن الخطاب الشام، وأقره عثمان بن عفان عليها، وبنى بها الخضراء وسكنها أربعين سنة.
عن ابن عباس، أن معاوية أخبره أنه رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصر من شعره بمشقص. فقلنا لابن عباس: ما بلغنا هذا إلا عن معاوية. فقال: ما كان معاوية على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متهماً.
عن معاوية بن أبي سفيان، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الرجل يسألني الشيء فأمنعه حتى تشفعوا فتؤجروا ". وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اشفعوا تؤجروا ".
قال أبو نعيم الحافظ: معاوية بن أبي سفيان، واسم أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية ين عبد شمس، يكنى أبا عبد الرحمن، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وأمها صفية بنت أمية بن حارثة بن الأوقص من بني سليم، وأمها بنت نوفل بن عبد مناف.
كان من الكتبة الحسبة الفصحة، أسلم قبيل الفتح، وقيل: عام القضية وهو ابن ثمان عشرة، عده ابن عباس من الفقهاء وقال: كان فقيهاً؛ توفي للنصف من رجب سنة ستين؛ وسنه نحو ثمانين سنة، وقيل: ثمان وسبعين.
كان أبيض طويلاً، أجلح، أبيض الرأس واللحية، أصابته لقوة في آخر عمره، وكان يقول: رحم الله عبداً دعا لي بالعافية وقد رميت في أحسني وما يبدو مني، ولولا
هواي في يزيد لأبصرت رشدي؛ ولما اعتل قال: وددت أني لا أعمر فوق ثلاث؛ فقيل: إلى رحمة الله ومغفرته. فقال: إلى ما شاء وقضى، قد علم أني لم آل، وما كره الله غير.
وكان عنده قميص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإزاره ورداؤه وشعره، فأوصاهم عند موته فقال: كفنوني في قميصه، وأدرجوني في ردائه، وآزروني بإزاره، واحشوا منخري وشدقي بشعره، وخلوا بيني وبين رحمة أرحم الراحمين.
كان حليماً وقوراً، ولي العمالة من قبل الخلفاء عشرين سنةً، واستولى على الإمارة بعد قتل علي عشرين سنةً، فكانت الجماعة عليه عشرين سنة، من سنة أربعين إلى سنة ستين.
فلما نزل به الموت قال: ليتني كنت رجلاً من قريش بذي طوى وأني لم أل من هذا الأمر شيئاً وكان يقول لا حلم إلا التجربة وقال ابن عباس ما رأيت رجلاً هو أخلق للملك من معاوية، لم يكن بالضيق الحصر. وقال ابن عمر: ما رأيت أحداً كان أسود من معاوية. وكان يقول: ما رأيت أطمع منه.
قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا معاوية، إذا ملكت فأسجح " فملك الناس كلهم عشرين سنة يسوسهم بالملك، يفتح الله به الفتوح، ويغزوا الروم، ويقسم الفيء والغنيمة، ويقيم الحدود، والله لايضيع أجر من أحسن عملاً.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رجوعه من صفين: لا تكرهوا إمارة معاوية، والله لئن فقدتموه لكأني أنظر إلى الرؤوس تندر عن كواهلها كالحنظل.
قال أبو بكر الخطيب: أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وكان يقول: أسلمت عام القضية، ولقيت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضعت عنده إسلامي، واستكتبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولاه عمر بن الخطاب الشام
بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان، فلم يزل عليها مدة خلافة عمر، وأقره عثمان بن عفان على عمله، ولما قتل علي بن أبي طالب سار معاوية من الشام إلى العراق فنزل بمسكن ناحية حربى إلى أن وجه إليه الحسن بن علي فصالحه، وقدم معاوية الكوفة، فبايع له الحسن بالخلافة، وسمي عام الجماعة.
عن إسماعيل بن علي، قال: وكانت صفته - يعني معاوية - فيما حدثني البربري عن ابن أبي السري؛ طويلاً أبيض، جميلاً، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، يخضب بالحناء والكتم.
عن إبراهيم بن قارط، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو على المنبر بالمدينة يقول: أين فقهاؤكم يا أهل المدينة؟ إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن هذه القصة، ثم وضعها على رأٍسه فلم أر على عروس ولا على غيرها أجمل منها على معاوية ثم قال: لعن الله الواصلة والموصولة، والنامصة والمنموصة، والواشمة والموشومة.
عن صالح بن حسان، قال: رأى بعض متفرسي العرب معاوية وهو صبي صغير، فقال: إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه.
وعن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف، قال: نظر أبو سفيان يوماً إلى معاوية وهو غلام، فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه. فقالت هند: قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة.
وكانت هند تحمل معاوية وهو صغير، وتقول: " من الرجز "
إن بني معرق كريم ... محبب في أهله حليم
ليس بفحاش ولا لئيم ... ولا بطحرور لا سؤوم
صخر بني فهر به زعيم ... لا يخلف الظن ولا يخيم
قال: فلما ولى عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان ما ولاه من الشام خرج إليه معاوية، فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيت ابنك صار تابعاً لابني. فقالت: إن اضطرب حبل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني.
قال الزبير بن بكار: وركب البحر غازياً بالمسلمين في خلافة عثمان بن عفان إلى قبرص.
قال معاوية بن أبي سفيان: لما كان عام الحديبية وصدت قريش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البيت، ودافعوه بالراح، وكتبوا بينهم القضية وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي هند بنت عتبة فقالت: إياك أن تخالف أباك، وأن تقطع أمراً دونه فيقطع عنك القوت، وكان أبي يومئذ غائباً في سوق حباشة.
قال: فأسلمت وأخفيت إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحديبية وإني مصدق به، وأنا على ذلك أكتمه من أبي سفيان، ودخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرة القضية وأنا مسلم مصدق به؛ وعلم أبو سفيان بإسلامي فقال لي يوماً: لكن أخوك خير منك، وهو على ديني. فقلت: لم آل نفسي خيراً.
قال: فدخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح فأظهرت إسلامي ولقيته فرحب بي، وكتبت له.
قال محمد بن عمر:
وشهد معاوية بن أبي سفيان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنائم حنين مئة من الإبل وأربعين أوقية وزنها بلال.
عن جابر، قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتاني جبريل فقال: أتخذ معاوية كاتباً ".
عن عائشة، قالت: لما كان يوم أم حبيبة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دق الباب داق، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انظروا من هذا " قالوا: معاوية. قال: " ائذنوا له " فدخل وعلى أذنه قلم لم يخط به، فقال: " ما هذا القلم على أذنك يا معاوية؟ " قال: قلم أعددته لله ولرسوله. فقال: " جزاك الله عن نبيك خيراً، والله ما استكتبتك إلا بوحي من الله، وما أفعل من صغيرة ولا كبيرة إلا بوحي من الله عز وجل، كيف بك لو قمصك الله قميصاً - يعني الخلافة -؟ " فقامت أم حبيبة فجلست بين يديه فقالت: يا رسول الله، وإن الله مقمص أخي قميصاً؟ قال: " نعم، ولكن فيه هنات وهنات وهنات " فقالت: يا رسول الله، فأدع الله له. فقال: " اللهم اهده بالهدى، وجنبه الردى، واغفر له في الآخرة والأولى ".
عن يزيد بن عبد الله الطبري، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت علي بن أبي طالب بخطب على منبر الكوفة وهو يقول: والله لأخرجنها من عنقي ولأضعنها في رقابكم، ألا إن خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم أنا، ما قلت ذلك من قبل نفسي، ولأخرجن ما في عنقي لمعاوية بن أبي سفيان، لقد استكتبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا جالس بين يديه، فأخذ القلم فجعله في يده، فلم أجد من ذلك في قلبي إذ علمت أن ذلك لم يكن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان من الله عز وجل، ألا إن المسلم من سلم من قصتي وقصته.
عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هبط علي جبريل ومعه قلم من ذهب إبريز فقال لي: إن العلي الأعلى يقرئك السلام وهو يقول لك: حبيبي، قد أهديت القلم من فوق عرشي إلى معاوية بن أبي سفيان، فأوصله إليه، ومره أن يكتب آية الكرسي بخطه بهذا القلم، ويشكله ويعجمه، ويعرضه عليك، فإني قد كتبت له من الثواب بعدد كل من قرأ آية الكرسي من ساعة يكتبها إلى يوم القيامة ". فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يأتيني بأبي عبد الرحمن؟ " فقام أبو بكر الصديق ومضى حتى أخذ بيده وجاءا جميعاً إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلموا عليه، فرد السلام، ثم قال لمعاوية: " أدن مني يا أبا عبد الرحمن، أدن مني يا أبا عبد الرحمن ". فدنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدفع إليه القلم، ثم قال له: "
يا معاوية، هذا قلم قد أهداه إليك ربك من فوق عرشه لتكتب به آية الكرسي بخطك، وتشكله وتعجمه وتعرضه علي، فأحمد الله واشكره على ما أعطاك، فإن الله قد كتب لك من الثواب بعدد من قرأ آية الكرسي من ساعة تكتبها إلى يوم القيامة ".
قال: فأخذ القلم من يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضعه فوق أذنه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم إنك تعلم أني قد أوصلته إليه، اللهم إنك تعلم أني قد أوصلته إليه ثلاثاً ".
قال: فجثا معاوية بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يزل يحمد الله على ما أعطاه من الكرامة ويشكره حتى أتي بطرس ومحبرة، فأخذ القلم ولم يزل يخط به آية الكرسي أحسن ما يكون من الخط، حتى كتبها وشكلها وعرضها على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا معاوية، إن الله قد كتب لك من الثواب بعدد كل من يقرأ آية الكرسي من ساعة كتبتها إلى يوم القيامة ".
نجز الجزء الرابع والعشرون ويتلوه في الخامس والعشرين تتمة معاوية بن أبي سفيان اختصره على نهج ابن منظور الفقير إلى رحمة ربه إبراهيم بن حسين بن صالح، عقا الله عنه وفرغ منه صبيحة الإثنين لتسع بقين من ذي الحجة الحرام وذلك سنة تسع وأربعمئة وألف من هجرة سيد الأنام الحمد لله رب العالمين كما هو أهله، وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل.
وعن سعيد بن المسيب قال: دخل أبو سفيان بن حرب على عثمان بن عفان فقال: يا أمير المؤمنين! كيف رضاك عن معاوية؟ قال: كيف لا أرضى وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: هنيئاً لك يا معاوية، لقد أصبحت أنت أميناً على خبر السماء.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
الأمناء عند الله ثلاثة: جبريل، وأنا، ومعاوية.
قال الخطيب: هذا الحديث بهذا الإسناد باطل.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائتمن الله على وحيه ثلاثة: جبريل في السماء: ومحمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأرض؛ ومعاوية بن أبي سفيان.
قال ابن عدي: وهذا باطل بهذا الإسناد.
وعن ابن عباس وحيان بن عبد الله الأنصاري قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأمناء عند الله سبعة. قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: القلم، واللوح، وإسرافيل، وميكائيل، وجبريل، وأنا، ومعاوية بن أبي سفيان، فإذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل للقلم: إلى من أديت الوحي؟ فيقول: إلى اللوح، فيقول الله للوح: إلى من أديت الوحي؟ فيقول: إلى إسرافيل. فيقول الله لإسرافيل: إلى من أديت الوحي؟ فيقول: إلى ميكائيل. فيقول الله لميكائيل: إلى من أديت الوحي؟ فيقول: الله أعلم إلى جبريل. فيقول الله لجبريل: إلى من أديت الوحي؟ فيقول: إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فيقول الله لمحمد: من ائتمنت على الوحي؟ فأقول: معاوية، كذا أخبرني جبريل عنك يا رب أنك قلت: إنه أمين في الدنيا والآخرة. فيقول الله: صدق القلم، وصدق اللوح، وصدق إسرافيل، وصدق ميكائيل، وصدق جبريل، وصدق محمد، وصدقت أنا، إن معاوية أمين في الدنيا والآخرة.
قال: هذا على إنكاره غير متصل الإسناد.
وعن قيس بن أبي حازم قال: جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال: سل عنها علي بن أبي طالب فهو أعلم. فقال: أريد جوابك يا أمير المؤمنين فيها. فقال: ويحك! لقد كرهت رجلاً كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغره بالعلم غراً ولقد قال له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي. ولقد كان عمر بن الخطاب يسأله فيأخذ عنه، وكان إذا أشكل على عمر شيء قال: ها هنا علي. قم لا أقام الله رجليك. ومحا أسمه من الديوان، فبلغ ذلك علياً فقال: جزاه الله خيراً، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأذني وإلا صمتا يقول له: أنت يا معاوية أحد أمناء الله، اللهم علمه الكتاب ومكن له في البلاد.
وعن واثلة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله ائتمن على وحيه جبريل وأنا معاوية، وكاد أن يبعث معاوية نبياً من كثرة حلمه وائتمانه على كلام ربي فغفر لمعاوية ذنوبه ووفاه حسابه، وعلمه كتابه، وجعله هادياً مهدياً وهدى به.
وعن العرباض بن سارية السلمي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يدعو نا إلى السحور في شهر رمضان وهو يقول: هلموا إلى الغداء المبارك. قال: وسمعته يقول: اللهم علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب.
وعن مسلمة بن مخلد: أنه قال لعمرو بن العاص ورأى معاوية يأكل فقال: إن ابن عمك هذا لمخضد! ثم قال: أما إني أقول ذلك وقد سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم علمه الكتاب، ومكن له في البلاد، وقه العذاب.
وعن الزهري: أن معاوية كان يكتب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إليه فأعجبه كتابه فقال: اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب.
وعن عروة بن رويم قال: دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاوية فقال: اللهم أهده وأهد به، وعلمه والكتاب والحساب، وقه العذاب.
وعن ربيعة بن يزيد: أن بعثاً من أهل الشام كانوا مرابطين بآمد، وكان على حمص عمير بن سعد، فعزله عثمان وولى معاوية، فبلغ ذلك أهل حمص، فشق عليهم، فقال عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لمعاوية: اللهم أجعله هادياً مهدياً، وأهده وأهد به.
وفي رواية: وأهده وأهد على يديه.
قال: تكون بيعة ببيت المقدس بيعة هدى. فكانت بيعة معاوية.
وعن عبد الله بن بسر قال: أستشار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر وعمر في أمر أراده، فقالا: الله ورسوله أعلم.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أدعوا لي معاوية. فلما وقف عليه قال: أحضروه أمركم، حملوه أمركم، أشهدوه أمركم فإنه قوي.
زاد في آخر: معناه فإنه قوي أمين.
وعن ابن عمر قال: كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجلان من أصحابه فقال: لو كان معاوية عندنا لشاورناه في بعض أمرنا. فكأنهما دخلهما من ذلك شيء! فقال: إنه أوحي إلي أن أشاور ابن أبي سفيان في بعض أمري.
وعن موسى بن طلحة قال:
بعثني أبي أدعو له معاوية، فوجدته مشغولاً بالنساء، فقال: قل له: أفرغ ثم آتيك. فرجعت إلى أبي فأخبرته فقال: أرجع فقل له: أعجل. فرجعت فإذا هو قد أقبل، فرجعت إلى أبي فقلت: هو ذا قد جاء مقبلاً. فلما رآه قال: أما إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنه لموفق الأمر أو رشيد الأمر.
وعن رويم قال: جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله صارعني؛ فقام إليه معاوية فقال: يا أعرابي! أنا أصارعك. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لن يغلب معاوية أبداً. فصرع الأعرابي. قال: فلما كان يوم صفين قال علي: لو ذكرت هذا الحديث ما قاتلت معاوية.
وعن أبي هريرة قال: أردف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاوية فقال له: يا معاوية! ما يليني منك؟ قال: وجهي. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقاه الله النار. ثم قال: يا معاوية! ما يليني منك؟ قال: صدري قال: حشاه الله علماً وإيماناً ونوراً. ثم قال: يا معاوية! ما يليني منك؟ قال: بطني. قال: عصمه الله يما عصم به الأولياء. ثم قال: يا معاوية! ما يليني منك؟ قال: كلي. قال: غفر الله لك، ووقاك الحساب، وعلمك الكتاب، وجعلك هادياً مهدياً، وهداك وهدى بك.
وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: معاوية أحلم أمتي وأجودها.
وعن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية جلوس عنده، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل الرطب وهم يأكلون معه، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلقمهم، قال معاوية: يا رسول الله! تأكل وتلقمنا!؟ قال: نعم، هكذا نأكل في الجنة، ويلقم بعضنا بعضاً.
وعن أبي موسى الأشعري قال: دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أم حبيبة ورأس معاوية في حجرها تفليه، فقال لها: أتحبينه؟ قالت: وما لي لا أحب أخي؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فإن الله ورسوله يحبانه.
وعن أبي الدرداء قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أم حبيبة ومعاوية عندنا نائم على السرير، فقال: من هذا يا أم حبيبة؟ فقالت: أخي معاوية يا رسول الله. قال: فتحبينه؟ فقالت: إي والله إني لأحبه. فقال: يا أم حبيبة! فإني أحب معاوية وأحب من يحب معاوية، وجبريل وميكائيل يحبان معاوية، والله أشد حباً لمعاوية من جبريل وميكائيل.
وعن ابن عباس قال: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بورقة آس أخضر، مكتوب عليها لا إله إلا الله، حب معاوية بن أبي سفيان فرض مني على عبادي.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشاك في فضلك يا معاوية تنشق الأرض عنه يوم القيامة وفي عنقه طوق من نار، له ثلاث مئة شعبة، على كل شعبة شيطان يكلح في وجهه مقدار عمر الدنيا.
وعن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ليلين بعض مدائن الشام رجل عزيز منيع هو مني وأنا منه. فقال له رجل: من هو يا رسول الله؟ قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقضيب كان بيده في قفا معاوية: هو هذا.
هذا الحديث منكر الإسناد.
وعن عبد الرحمن بن عوف الجرشي قال: ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشام، قال رجل من القوم: كيف لنا بالشام يا رسول الله وفيها الروم ذات القرون؟ فقال: أجل إن فيها لأقواماً أنتم أحقر في أعينهم من القردان في أستاه الإبل. قال: ثم ذكر الشام أيضاً فقال: لعل أن يكفيناها غلام من غلمان قريش. وبيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عصا، فأهوى بها إلى منكب معاوية.
وفي حديث بمعناه: وفي يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عصا فضرب بها كتف معاوية وقال: لعل هذا إذاً كافيناها هو.
عن ابن عمر قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع زوجته أم حبيبة في قبة من أدم، فأقبل معاوية فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أم حبيبة! هذا أخوك قد أقبل، أما إنه يبعث يوم القيامة عليه رداء من نور الإيمان.
وعن سعد بن أبي وقاص يقول لحذيفة: ألست شاهد يوم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاوية: يحشر يوم القيامة معاوية بن أبي سفيان وعليه حلة من نور، ظاهرها من الرحمة، وباطنها من الرضا، يفتخر بها في الجمع، لكتابة الوحي بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال حذيفة: نعم.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يخرج معاوية من قبره وعليه رداء من السندس والإستبرق، مرصع بالدر والياقوت، عليه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب.
وعن أبي بكر قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الركن والمقام، رافعاً يديه إلى السماء حتى رأيت بياض إبطيه وهو يقول: اللهم حرم بدن معاوية على النار، اللهم حرم النار على معاوية.
وعن مكحول قال: دفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معاوية سهمين فقال: هذه السهمان سهم الإسلام، خذها فتلقني بهما في الجنة. فلما مات معاوية جعلا معه في قبره. ولما حلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه بمنى دفع إلى معاوية من شعره فصانه، فلما مات معاوية جعل شعر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عينيه.
وعن يعيش بن هشام قال: كنت عند مالك بن أنس، فجاءه رسول أمير المؤمنين فقال له: أمير المؤمنين يقول لك: لا تحدث هذا الحديث. فقال مالك بن أنس: " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " الآية، لأحدثن به الساعة ثم لا أحدث به أبداً:
حدثني نافع عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهدي له سفرجل، فأعطي أصحابه سفرجلة سفرجلة، وأعطي معاوية ثلاث سفرجلات، قال: ألقني بهن في الجنة.
وعن أبي هريرة قال: قدم جعفر بن أبي طالب من بعض أسفاره ومعه شيء من السفرجل، فأهداه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ في منزل أبي بكر الصديق - إذ دخل معاوية بن أبي سفيان فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجعفر: أني لك هذا؟ فقال: أهداه إلي رجل شاب حسن الهيئة في بعض أسفاري، فأحببت أن أهديه إليك يا رسول الله. فأكل منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذ منه واحدة وأعطاها معاوية وقال: هاك، توافيني في الجنة مثلها. وقال: يا معاوية! من مثلك؟! أخذت اليوم من هدايا ثلاثة كلهم في الجنة، وأنت رابعهم؛ يا جعفر! هل تدري من المهدي إليك السفرجل؟ قال: لا. قال: ذاك جبريل وهو سيد الملائكة، وأنا سيد الأنبياء، وجعفر سيد الشهداء، وأنت يا معاوية سيد الأمناء.
قال أبو هريرة: فو الله لا زلت أحبه بعد ذلك مما سمعت من فضله من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن عمر قال: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة. فطلع معاوية، ثم قال الغد مثل ذلك، فطلع معاوية، فقمت إليه، فأقبلت بوجهه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله! هو هذا؟ قال: نعم يا معاوية، أنت مني وأنا منك لتزاحمني على باب الجنة كهاتين. وقال بأصبعه السبابة والوسطى يحركهما.
حدث عمرو بن يحيى عن جده: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمداً المصطفى نبي الرحمة، كان ذات يوم جالساً بين أصحابه إذ قال: يدخل عليكم من باب المسجد في هذا اليوم رجل من أهل الجنة يفرحني الله به. فقال أبو هريرة: فتطاولت لها، فإذا نحن بمعاوية بن أبي سفيان قد دخل، فقلت: يا رسول
الله! هذا هو؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم يا أبا هريرة، هو هو. يقولها ثلاثاً، ثم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا هريرة! إن في جهنم كلاباً زرق الأعين، على أعرافها شعر كأمثال أذناب الخيل، لو أذن الله تبارك وتعالى لكلب منها أن يبلغ السماوات السبع في لقمة واحدة لهان ذلك عليه، يسلط يوم القيامة على من لعن معاوية بن أبي سفيان.
قال: هذا منقطع.
وعن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة يدعى بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعاوية فيوقفان بين يدي الله، فيطوق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطوق ياقوت أحمر، ويسور بثلاثة أسورة من لؤلؤ، فيأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطوق، فيطوق معاوية ثم يسوره بثلاثة أسورة، فيقول الله: يا محمد! تتسخى علي وأنا السخي، وأنا الذي لا أبخل! فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هي وسيدي، كنت ضمنت لمعاوية في دار الدنيا ضماناً فأوفيته ما ضمنت له بين يديك يا رب. فتبسم الرب إليهما ثم يقول: خذ بيد صاحبك وأنطلقا إلى الجنة جميعاً.
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لا أفتقد أحداً من أصحابي غير معاوية بن أبي سفيان، فإني لا أراه ثمانين عاماً أو سبعين عاماً، فإذا كان بعد ثمانين عاماً أو سبعين عاماً يقبل علي على ناقة من المسك الأذفر، حشوها من رحمة الله، قوائمها من الزبرجد فأقول: معاوية؟ فيقول: لبيك يا محمد فأقول: أين كنت من ثمانين عاماً؟ فيقول: في روضة تحت عرش ربي، يناجيني وأناجيه ويحييني وأحييه ويقول: هذا عوض مما كنت تشتم في دار الدنيا.
هذا حديث موضوع، باطل إسناداً ومتناً.
وعن أم حبيبة قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخي معاوية راقداً على فراشه، قالت: فذهبت لأنحيه، قال: دعيه، كأني أنظر إليه في الجنة يتكئ على أريكته.
وعن ابن عباس: في هذه الآية: " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " قال: كانت المودة التي جعل الله تعالى بينهم تزويج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين.
قال البيهقي: كذا في رواية الكلبي، وذهب علماؤنا إلى أن هذا حكم لا يتعدى أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهن يصرن أمهات المؤمنين في التحريم، ولا يتعدى هذا التحريم إلى إخوتهن ولا إلى أخواتهن، ولا إلى بناتهن، والله أعلم.
وعن عياض الأنصاري - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحفظوني في أصحابي وأصهاري، فمن حفظني فيهم حفظه الله في الدنيا والآخرة، ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله منه، ومن تخلى الله منه أوشك أن يأخذه.
وعن أنس بن مالك قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعوا لي أصحابي وصهري.
وعن أنس بن مالك قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن صلى العصر إلى بيت أم حبيبة فقال: يا أنس! صر إلى منزل فاطمة. وأعطاني أربع موزات فقال لي: يا أنس! واحدة للحسن، وواحدة للحسين، وأثنتين لفاطمة، وصر إلي. ففعلت، وصرت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت أم حبيبة: يا رسول الله! تفاضل أصحابك من قريش، ويفتخرون على أخي بما بايعوك تحت الشجرة! فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يفتخرن أحد على أحد، فلقد بايع كما بايعوا. وخرج مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرجت معه فقعد على باب المسجد، فطلع أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الناس، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: يا أبا بكر! قال: لبيك يا رسول الله. قال: تحفظ من أول من بايعني ونحن تحت الشجرة؟ قال أبو بكر: أنا
يا رسول الله، وعمر، وعلي بن أبي طالب. فرفع عثمان رأسه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا بكر! إذا غبت أنا فعثمان، وإذا غاب عثمان فأنا. فضحك أبو بكر وقال: عثمان يا رسول الله، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثم من؟ قال: هؤلاء الذين كانوا وكنا. قال: وأين معاوية؟ قال: لم يكن معنا بالحضرة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي بعثني بالحق نبياً لقد بايع معاوية بن أبي سفيان كما بايعتم. قال أبو بكر: ما علمنا يا رسول الله. قال: إنه في وقت ما قبض الله تعالى قبضة من الذر قال: في الجنة ولا أبالي، كنت أنت يا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، ومعاوية بن أبي سفيان في تلك القبضة؛ ولقد بايع كما بايعتم، ونصح كما نصحتم، وغفر الله له كما غفر لكم، وأباحه الجنة كما أباحكم.
وعن أبي هريرة قال:
خرجت من بيتي هارباً بجوعي، فقلت: أمضي إلى منزل أبي بكر، قلت: عثمان أطيب لقمة؛ فأنا مار إلى منزل عثمان إذ رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على باب الزبير بن العوام يأكل طعاماً فقلت: أشهد، لأعارضن بوجهي وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعارضت بوجهي وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي: أقبل يا أبا هريرة، إني لأعرف من ضعف أسبابك ما أعرف، وبين يدي طعام طيب، أدن فكل. فدنوت فإذا هو يأكل البطيخ بالرطب، فو الله لقد أكلت بيدي وأكل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، وأكل الزبير بن العوام بيده ومعاوية لا يمد يده ولا يهوي إلى الطعام، إلا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى رطبة طيبة أخذها ووضع عليها قطعة بطيخ ووضعها في في معاوية وقال: كل على رغم أنف الراغمين. فطالت علي ليلتي حتى أصبحت، فجئت إلى الزبير فقلت: أرأيت ما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعاوية؟ قال: هو أوصاه بذلك. فقلت له: كيف كان؟ قال: جئت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله عندي طعام طيب، وقد أحببت أن تأكل منه. فأخذ بيد معاوية وقال له: هو ذا، نصير إلى منزل الزبير بن العوام، فيضع بين أيدينا طعاماً طيباً فبحقي عليك، لا تأكل حتى أطعمك بيدي.
قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: لا يصح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضل معاوية بن أبي سفيان شيء، وأصح ما روي في فضل معاوية حديث ابن عباس. أنه كان كاتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأخرجه مسلم في صحيحه؛ وبعده حديث العرباض: اللهم علمه الكتاب؛ وبعده حديث ابن أبي عميرة: اللهم أجعله هادياً مهدياً.
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: بينا أنا راقد في كنيسة يوحنا - وهي يؤمئذ مسجد يصلى فيها - إذ أنتبهت في نومي، فإذا أنا بأسد يمشي بين يدي، فوثبت إلى سلاحي، فقال الأسد: مه إنما أرسلت إليك برسالة لتبلغها. قلت: ومن أرسلك؟ قال: الله أرسلني إليك لتبلغ معاوية السلام وتعلمه أنه من أهل الجنة. فقال له: ومن معاوية؟ قال: معاوية بن أبي سفيان.
وفي رواية: أرسلني إليك الله لأن تعلم معاوية الرحال أنه من أهل الجنة. قلت: من معاوية؟ قال: ابن أبي سفيان.
لما قدم وفد بني حنيفة على عبد الملك بن مروان قال عبد الملك: هل فيكم من حضر قتل مسيلمة؟ فقال رجل منهم: نعم. فأنشأ يحدثه بالوقعة التي كانت بينهم. قال عبد الملك: فمن ولي قتل مسيلمة؟ قال: رجل أصبح الوجه، كذا وكذا. فقال عبد الملك: قضيت والله لمعاوية. قال خالد: وكان معاوية يدعي ذلك.
كان أبو هريرة يحمل الإداوة فمرض، فأخذها معاوية فحملها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع رأسه مرة أو مرتين فقال: يا معاوية! إن وليت أمراً فاتق الله وأعدل. قال: فما زلت أظن أني مبتلي بالعمل لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أبتليت.
وعن الحسن قال: سمعت معاوية يخطب وهو يقول: صببت يوماً على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضوءه، فرفع
رأسه إلي فقال: أما إنك ستلي أمر أمتي بعدي، فإذا كان ذلك فأقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم. فما زلت أرجوها حتى قمت مقامي.
وعن عبد الملك بن عمير قال: قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لي: يا معاوية! إن ملكت فأحسن.
ولما قدم عمر الجابية نزع شرحبيل، وأمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، وبقي الشام على أميرين: أبو عبيدة بن الجراج ويزيد بن أبي سفيان؛ ثم توفي أبو عبيدة في طاعون عمواس وأستخلف عياض بن غنم، ثم توفي يزيد بن أبي سفيان، فأمر معاوية بن أبي سفيان مكانه، ثم نعاه عمر لأبي سفيان فقال: يا أبا سفيان! أحتسب يزيد. قال: من أمرت مكانه؟ قال: معاوية. قال: وصلتك يا أمير المؤمنين رحم. فكان على الشام معاوية وعمير بن سعد حتى قتل عمر.
فأقر عمر معاوية وولي عمرو بن العاص فلسطين والأردن، ومعاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولي سعيد بن عامر بن حذيم حمص، ثم جمع الشام كلها لمعاوية، وأقر عثمان معاوية على الشام.
ولما عزيت هند على يزيد بن أبي سفيان قيل: إن الله تعالى قد جعل معاوية خلفاً من يزيد وغيره. فقالت: أو مثل معاوية يجعل خلفاً من أحد؟! فو الله لو أن العرب
أجتمعت متوافرة ثم رمي به فيها لخرج من أي أعراضها شاء.
وعزى عمر أبا سفيان بابنه يزيد، فقال له أبو سفيان: من جعلت على عمله؟ قال: جعلت أخاه معاوية؛ وأبناك مصلحان، ولا يحل لنا أن ننزع مصلحاً.
وعن إسماعيل بن أمية: أن عمر بن الخطاب أفرد معاوية بالشام ورزقه ثمانين ديناراً في كل شهر.
وقيل: إن الذي أفرد معاوية بالشام عثمان بن عفان.
ذكر معاوية عند عمر بن الخطاب فقال: دعونا من ذم فتى قريش وابن سيدها، من يضحك في الغضب، ولا ينال على الرضا، ومن لا يأخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه.
ولما خرج عمر إلى الشام وقرب من دمشق تلقاه معاوية في موكب له رز، وعمر على حمار إلى جانبه عبد الرحمن بن عوف على حمار آخر، فلم يرهما معاوية فطواهما، فقيل له: خلفت أمير المؤمنين وراءك، فرجع، فلما رآه نزل عن دابته، فأعرض عنه عمر، ومشى حتى تعلق نفسه بأرنبته، فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين! أجهدت الرجل، فقال: عمر: يا معاوية: نعم. فرفع عمر صوته فقال: ولم ويلك؟! فقال: إني في بلاد لا يمتنع فيها من جواسيس العدو، ولا بد لهم مما يرهبهم من آلة السلطان، فإن أمرتني أقمت عليه، وإن نهيتني عنه أنتهيت. فقال عمر: يا معاوية! والله ما بلغني عنك أمر أكرهه فأعاتبك عليه إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس، فإن كان ما قلت حقاً إنه لرأي أديب، وإن كان باطلاً إنها لخدعة أريب، لا آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين! لأحسن الفتى المصدر فيما أوردته فيه! فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه.
وعن أسلم مولى عمر قال: قدم علينا معاوية بن أبي سفيان وهو أبيض - أو أبض - الناس وأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر وكان عمر ينظر إليه، فيعجب له، ثم يضع أصبعه على متنه ثم يرفعها عن مثل الشراك فيقول: بخ بخ! نحن إذاً خير الناس أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة! فقال معاوية: يا أمير المؤمنين! سأحدثك: إنا بأرض الحمامات والريف. فقال عمر: سأحدثك: ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام ونضيجه حتى نضرت الشمس متنيك، وذو الحاجات وراء الباب!. قال: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحاً كأنه ريح طيب فقال: يعمد أحدكم يخرج حاجاً تفلاً، حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمة، أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما! فقال معاوية: إنما لبستهما لأن أدخل فيهما على عشيرتي - أو قومي - والله لقد بلغني أذاك هنا وبالشام، والله يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه. ونزع معاوية الثوبين ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.
كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب.
وعن عمر أنه قال: تعجبون من دهاء هرقل وكسرى وتدعون معاوية!.
دخل معاوية على عمر بن الخطاب وعليه حلة خضراء، فنظر إليها أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما رأى ذلك عمر وثب إليه ومعه الدرة، فجعل ضرباً لمعاوية ومعاوية يقول: الله الله يا أمير المؤمنين! فيم فيم؟ قال: فلم يكلمه حتى رجع فجلس في مجلسه فقال له القوم: لم ضربت الفتى يا أمير المؤمنين؟! ما في قومك مثله. فقال: والله ما رأيت إلا خيراً وما بلغني إلا خير، ولكني رأيته.. وأشار بيده، فأحببت أن أضع منه.
وفي سنة تسع عشرة فتحت قيسارية؛ أميرها معاوية بن أبي سفيان وسعيد بن عامر بن حذيم، كل أمير على جنده، فهزم الله المشركين، وقتل منهم مقتلة عظيمة.
وغزا معاوية قبرس سنة خمس وعشرين ومعه أمرأته فاختة ابنة قرظة.
وقيل: إن قبرس وإصطخر كانا في عام واحد، سنة ثمان وعشرين وأمير قبرس معاوية بن أبي سفيان.
وكان عام المضيق من قسطنطينية سنة ثنتين وثلاثين، وأميرها معاوية. وفي سنة ثلاث وثلاثين غزا معاوية ملطية وإفريطية، وحصن المرأة من أرض الروم.
ولما أستخلف عثمان أفراد معاوية بالشام جميعاً. فأستقضى فضالة بن عبيد بن نافذ الأنصاري. وشخص أبو سفيان ابن حرب إلى معاوية بالشام ومعه ابناه عتبة وعنبسة؛ فكتبت هند إلى معاوية: قد قدم عليك أبوك وأخواك فاحمل أباك على فرس، وأعطه أربعة آلاف درهم. ففعل معاوية ذلك؛ فقال أبو سفيان: أشهد بالله أن هذا لعن
رأي هند. فلما قتل عثمان كتبت نائلة ابنة الفرافصة إلى معاوية كتاباً تصف فيه كيف دخل على عثمان وكيف قتل، وبعثت إليه بقميصه الذي قتل وهو عليه، فيه دمه، فقرأ معاوية الكتاب على أهل الشام، وأمر بقميص عثمان فطيف به في أجناد الشام ونعى إليهم عثمان، وأخبرهم بما أتي إليه واستحل من حرمته؛ وحرضهم على الطلب بدمه فبايعوه على الطلب بدم عثمان، وبويع علي بن أبي طالب بالمدينة، فقال له عبد الله بن العباس والحسن بن علي: اكتب إلى معاوية فأقره على عمله ولا تحركه، وأطمعه فإنه سيطمع، ويكفيك عهد الله وميثاقه أن لا أعزله. فقالا: لا تعطه عهداً ولا ميثاقاً. وبلغ ذلك معاوية فقال: والله لا ألي له شيئاً أبداً ولا أبايعه ولا أقدم عليه. وأظهر بالشام أن الزبير بن العوام قادم عليهم وأنه يبايع له. فلما بلغه خروج الزبير وطلحة إلى الجمل أمسك عن ذكره؛ فلما بلغه قتل الزبير قال: يرحم الله أبا عبد الله، أما إنه لو قدم علينا لبايعنا له، وكان أهلاً أن نقدمه لها. فلما أنصرف علي من البصرة أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية، فكلمه وعظم عليه أمر علي وسابقته في الإسلام، ومكانه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجتماع الناس عليه؛ وأراده على الدخول في طاعته والبيعة له. فأبى، وجرى بينه وبين جرير كلام كثير. فأنصرف جرير إلى علي فأخبره بذلك، فذلك حين أجمع علي على الخروج إلى صفين، وبعث معاوية أبا مسلم الخولاني إلى علي بأشياء يطلبها منه، ويسأله أن يدفع إليه قتلة عثمان حتى يقتلهم به، فإنه إن لم يفعل ذلك أنهج للقوم - يعني أهل الشام - بصائرهم لقتاله. فأبى علي أن يفعل. فرجع أبو مسلم إلى معاوية، فأخبره بما رأى من علي وأصحابه.
وجرت بين علي ومعاوية كتب ورسائل كثيرة، ثم أجمع علي على الخروج من الكوفة يريد معاوية بالشام. وبلغ ذلك معاوية، فخرج في أهل الشام يريد علياً، فالتقوا بصفين لسبع ليال بقين من المحرم سنة سبع وثلاثين، فلما كان هلال صفر نشبت الحرب بينهم، فاقتتلوا أيام صفين قتالاً شديداً حتى هر الناس القتال وكرهوا الحرب، فرفع أهل الشام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه. وكان ذلك مكيدة من
عمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتاباً على أن يوافوا رأس الحول أذرح، ويحكموا حكمين ينظران في أمور الناس فيرضون بحكمهما، فحكم علي أبا موسى الأشعري وحكم معاوية عمرو بن العاص، وتفرق الناس. فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، واختلف عليه أصحابه، فخرج عليه الخوارج من أصحابه ومن كان معه وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حكم إلا لله. ورجع معاوية إلى الشام بالألفة واجتماع الكلمة عليه، ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين.
واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر، ثم خالفه عمرو بن العاص في العلانية، فقدم أبا موسى فتكلم وخلع علياً ومعاوية، ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع علياً وأقر معاوية. فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين، وبعث معاوية على الحج سنة تسع وثلاثين يزيد بن شجرة، وبعث علي في هذه السنة على الموسم عبيد الله بن العباس فاجتمعا بمكة فسأل كل واحد منهما صاحبه أن يسلم إليه؛ فأتيا جميعاً واصطلحا على أن يصلي بالناس ويحج بهم تلك السنة شيبة بن عثمان العبدري. وكان معاوية يبعث الغارات فيقتلون من كان في طاعة علي، ومن أعان على قتل عثمان؛ فبعث بسر بن أرطاة العامري إلى المدينة واليمن ومكة يستعرض الناس، فقتل باليمن عبد الرحمن وقثماً ابني عبيد الله بن عباس. ثم قتل علي بن أبي طالب في شهر رمضان سنة أربعين، فحج بالناس تلك السنة المغيرة بن شعبة بكتاب افتعله من معاوية بن أبي سفيان. وصالح الحسن بن علي معاوية وسلم له الأمر، وبايعه الناس جميعاً، فسمي عام الجماعة.
واستعمل معاوية المغيرة بن شعبة تلك السنة على الكوفة على صلاتها وحربها؛ واستعمل على الخراج عبد الله بن دراج مولاه، واستعمل على البصرة عبد الله بن عامر بن
كريز، واستعمل على المدينة أخاه عتبة بن أبي سفيان، ثم عزله واستعمل مروان بن الحكم سنة اثنتين وأربعين، واستعمل عمرو بن العاص على مصر، وأقر فضالة بن عبيد على قضائه بالشام، وكان يولي الحج كل سنة رجلاً من أهل بيته، ويولي الصوائف والمشاتي بأرض الروم كل سنة رجلاً. وحج بالناس معاوية سنة خمسين ومر بالمدينة وولى يزيد بن معاوية الموسم، فحج بالناس سنة إحدى وخمسين، ثم أعتمر معاوية في رجب سنة ست وخمسين، وقدم المدينة، فكان بينه وبين الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير ما كان من الكلام في البيعة ليزيد بن معاوية وقال: إني أتكلم بكلام فلا تردوا علي شيئاً فأقتلكم؛ فخطب الناس وأظهر أنهم قد بايعوا، وسكت القوم، فلم يقروا ولم ينكروا خوفاً منه.
ورحل معاوية من المدينة على هذا، وأدعى معاوية زياد بن أبي سفيان فولاه الكوفة بعد المغيرة بن شعبة فكتب إليه في حجر بن عدي وأصحابه، وحملهم إليه، فقتله معاوية بالشام بمرج عذراء، وضم معاوية البصرة إلى زياد، ومات زياد فولى معاوية الكوفة والبصرة ابنه عبيد الله بن زياد.
كان كعب يحدث فجاء معاوية فقال: ما هذه الأحاديث يا كعب ابن أم كعب؟ قال: نعم والله يا معاوية، إن لله داراً فيها سبعون ألف دار، على عمود من ياقوت ليس فيها صدع ولا وصل، ولا يسكنها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو محكم في نفسه، أو إمام مقسط. فانظر من أيهم أنت يا معاوية. قال: فأدبر معاوية يبكي ويقول: وأني لمعاوية بالقسط!.
قال مقسم بن بجرة: حججت فقدمت المدينة حين قتل عثمان، وقد بويع لعلي بن أبي طالب، فسمعت علياً يقول: أما الهجين ابن النابغة - يعني عمرو بن العاص - فهو
أهون علي من عصاي هذه - وفي يده مخصرة - فقال عبد الله بن عباس: لا تقل في أبي عبد الله إلا خيراً. قال: وأما ابن عمي معاوية فأقره على الشام، وأزيده إن شاء.
هذا غريب، والمحفوظ: ما روي عن ابن عباس قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحج، قال: فخرجت إلى مكة فأقمت للناس الحج، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم، ثم قدمت المدينة وقد بويع لعلي، فقال: سر إلى الشام فقد وليتكها. فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني أمية، وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علي. فقال له علي: ولم؟ قال: لقرابة ما بيني وبينك، وإن كل من حمل عليك حمل علي، ولكن اكتب إلى معاوية فمنه وعده. فأبى علي وقال: والله لا كان هذا أبدا.
قال الشعبي: لما قتل عثمان رضي الله عنه أرسلت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي عنها إلى أهل عثمان: أرسلوا إلي بثياب عثمان التي قتل فيها. فبعثوا إليها بقميصه مضرج بالدم، وبالخصلة الشعر التي نتفت من لحيته فعقدت الشعر في زر القميص، ثم دعت النعمان بن بشير فبعثت به إلى معاوية، فمضى بالقميص وبكتابها إلى معاوية. فصعد معاوية المنبر، وجمع الناس، ونشر القميص، وذكر ما صنع بعثمان، ودعا إلى الطلب بدمه. فقام أهل الشام فقالوا: هو ابن عمك وأنت وليه، ونحن الطالبون معك بدمه. فبايعوا له.
وعن الحسن قال: لقد تصنع معاوية للخلافة في ولاية عمر بن الخطاب.
قال أبو صالح: كان الحادي يحدو بعثمان ويقول:
إن الأمير بعده علي ... وفي الزبير خلف مرضي
فقال كعب: بل هو صاحب البغلة الشهباء - يعني معاوية. فبلغ ذلك معاوية فأتاه فقال: يا أبا إسحاق! تقول هذا وها هنا علي والزبير وأصحاب محمد؟! قال: أنت صاحبها.
زاد في رواية: ولكن والله لا تصل إليك حتى تكذب بحديثي هذا. فوقعت في نفس معاوية.
وروي عن ذي قربات قال: لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل: يا ذا قربات، من بعده؟ قال: الأمين - يعني أبا بكر - قيل: فمن بعده؟ قال: قرن من حديد - يعني عمر - قيل: فمن بعده؟ قال: يعني عثمان - قيل: فمن بعده؟ قال: الوضاح الأزهر المنصور - يعني معاوية.
قال البغوي: رواه عثمان بن عبد الرحمن - وهو ضعيف - عن سعيد بن عبد العزيز، قال: ولا أحسب سعيد بن عبد العزيز أدرك ذا قربات. ولا أحسب ذا قربات سمع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً.
وعن عمر قال: إياكم والفرقة بعدي، فإن فعلتم فأعلموا أن معاوية بالشام، وستعلمون إذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبرها دونكم.
وعن عمر: أنه قال لأهل الشورى: إن اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام، وبعده عبد الله بن أبي ربيعة من اليمين، فلا يريان لكم فضلاً إلا سابقتكم.
وعن عبد الملك الحمطي قال: اجتمع أهل الشام بعد قتل عثمان، فأرسلوا وفوداً إلى عبد الله بن عمر، وعلى الشام يومئذ معاوية بن أبي سفيان وما يرجوها - يعني الخلافة - قال: فلما قدموا على عبد الله بن عمر وقد اجتمع أهل الشام على - إن رضي - أن يبايعوه، فقال عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أجلب فليس منا. فمعاذ الله أن أختار الدنيا على الآخرة. فلما كرهها عبد الله بن عمر ويئسوا منه بايعوا معاوية.
وعن زهدم الجرمي قال: كنا في سمر ابن عباس فقال: إني لمحدثكم بحديث ليس سر ولا علانية؛ إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان - يعني عثمان - قلت لعلي: اعتزل، فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج؛ فعصاني، وايم الله، ليتأمرن عليكم معاوية، وذلك أن الله يقول: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً " لتحملنكم قريش على سنة فارس والروم، وليتمنن عليكم النصارى واليهود والمجوس، فمن أخذ منكم يومئذ بما يعرف نجا، ومن ترك وأنتم تاركون كنتم كقرن من القرون هلك فيمن هلك.
وعن الحكم بن عمير الثمالي - وكانت أمه مريم بنت أبي سفيان بن حرب: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه ذات يوم: يا أبا بكر! كيف بك إذا وليت؟، قال: لا يكون ذاك أبداً. قال: فأنت يا عمر؟، قال: حجراً إذا لقيت شراً. قال: فأنت يا عثمان؟، قال: آكل وأطعم وأقسم ولا أظلم. قال: فأنت يا علي؟، قال: أقسم التمرة وأحمي الجمرة، وآكل القوت. قال: أما إنكم كلكم سيلي، وسيرى الله عملكم. قال: فأنت يا معاوية؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أنت رأس الخطم، ومفتاح
العظم، خفتاً خفتاً، يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، وتتخذ السيئة حسنة، والحسنة قبيحة؛ أجلك يسير وجرمك عظيم إلا أن يرحمك ربك عز وجل.
قال ابن شهاب الزهري: لما بلغ معاوية وأهل الشام قتل طلحة والزبير، وهزيمة أهل البصرة، وظهور علي عليه السلام دعا أهل الشام معاوية للقتال معه على الشورى والطلب بدم عثمان. فبايع معاوية أهل الشام على ذلك أميراً غير خليفة. فخرج علي على رأس أربعة عشر شهراً من مقتل عثمان بأهل العراق يأم معاوية وأهل الشام. وخرج معاوية بأهل الشام، فالتقوا بصفين، فاقتتلوا بها قتالاً شديداً لم تقتتل هذه الأمة مثله قط، وغلب أهل العراق على قتلى أهل حمص، وفيهم عبد الله ابن عمر بن الخطاب وذو الكلاع وحوشب وجابس بن سعد الطائي؛ وغلب أهل الشام على قتلي أهل العالية وفيهم عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص وابنا بديل الخزاعي.
وكان علي أراد أن يبعث إلى معاوية بالشام رسولاً وكتاباً، فقال له جرير بن عبد الله البجلي: ابعثني إليه فإنه لم يزل لي مستنصحاً وواداً، فآتيه فأدعوه على أن يسلم هذا الأمر لك ويجامعك على الحق، وأن يكون أميراً من أمرائك، وعاملاً من عمالك ما عمل بطاعة الله، واتبع ما في كتاب الله؛ وأدعوا أهل الشام إلى طاعتك وولايتك، وإن جلهم قومي، وقد رجوت أن لا يعصوني. فقال له الأشتر: لا تبعثه ولا تصدقه فإني لأظن هواه هواهم ونيته نيتهم. فقال له: دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا. فبعثه علي إلى معاوية، فقال له حين أراد أن يوجهه: إن حولي من قد علمت من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل الدين والرأي، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيك:
من خير ذي يمن. فأت معاوية بكتابي، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون، وإلا فانبذ إليه على سواء، وأعلمه أني لا أرضى به أميراً، وأن العامة لا ترضى به خليفة.
فانطلق جرير حتى نزل بمعاوية فدخل عليه، فقام جرير فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا معاوية، فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين، وأهل الحجاز واليمن، ومصر وعمان والبحرين واليمامة، فلم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها: لو سال عليها سيل من أوديته غرقها، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة أمير المؤمنين علي. ودفع إليه كتابه، وكانت نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوا عليه، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك رضي فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على أتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولي، ويصله جهنم وساءت مصيراً، وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي، وكان نقضهما كردهما، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إلي فيك العافية، إلا أن تعرض للبلاء، فإن تعرضت له قاتلتك، واستعنت الله عليك، وقد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله. فأما تلك التي تريدها يا معاوية فهي خدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان؛ واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تعرض فيهم الشورى، وقد أرسلت إليك وإلى من
قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة. فبايع ولا قوة إلا بالله.
فلما قرأ معاوية الكتاب وعنده جماعة قام جرير خطيباً فحمد الله وأثنى على رسوله ثم قال: أيها الناس! إن أمر عثمان قد أعيا من شهده فما ظنكم بمن غاب عنه؟ وإن الناس بايعوا علياً غير واتر ولا موتور، وكان طلحة والزبير ممن بايعه ثم نقضا بيعته على غير حدث، ألا وإن الدين لا يحتمل الفتن، وإن العرب لا تحتمل السيف وقد كانت بالبصرة أمس ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس بعدها، وقد بايعت العامة علياً، ولو أنا ملكنا أمورنا لم نختر لها غيره، فمن خالف هذا استعتب. فادخل يا معاوية فيما دخل الناس فيه، فإن قلت: استعملني عثمان ثم لم يعزلني، فإن هذا أمر لو جاز لم يقم لله دين، وكان لكل امرئ ما في يديه، ولكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول، وجعل تلك الأمور موطأة، وحقوقاً ينسخ بعضها بعضا.
فقال معاوية: أنظر وأنتظر وأستطلع رأي أهل الشام. وأمر معاوية منادياً فنادى: الصلاة جامعة. فلما اجتمع الناس صعد المنبر فخطب، فحمد الله وقال: الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركاناً، والشرائع للإيمان برهاناً يتوقد قابسه في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده فأحلها الشام، ورضيهم لها ورضيها لهم بما سبق من مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها، والقوام بأمره، الذابين عن دينه وحرماته، ثم جعلهم لهذه الأمة نظاماً، وفي أعلام الخير عظاماً، يردع الله به الناكثين، ويجمع ألفة المؤمنين، والله نستعين على ما تشعث من أمور المسلمين وتباعد بينهم بعد القرب والألفة؛ اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائمناً
ويخيفون آمننا، ويريدون هراقة دمائنا وإخافة سبيلنا، وقد يعلم الله أنا لا نريد لهم عقاباً، ولا نهتك لهم حجاباً: غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوباً لن ننزعه طوعاً، ما جاوب الصدى، وسقط الندى، وعرف الهدى؛ حملهم على خلافنا البغي والحسد، فالله نستعين عليهم. أيها الناس! قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني لم أقم رجلاً منكم على خزاية قط، وإني ولي عثمان وابن عمه، وقد قال الله عز وجل في كتابه: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً " وقد علمتم أنه قتل مظلوماً، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان.
فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلب بدمه. فأجابوه إلى ذلك وبايعوه ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم أو يدركوا بثأره أو يفني الله أرواحهم قبل ذلك.
وكان علي استشار الناس فأشاروا عليه بالمقام بالكوفة، غير الأشتر، وعدي بن حاتم، وشريح بن هانئ الحارثي، وهانئ بن عروة المرادي، فإنهم قالوا لعلي: إن الذين أشاروا عليك بالمقام بالكوفة إنما خوفوك حرب الشام، وليس في حربهم شيء أخوف من الموت وإياه نريد. فدعا علي الأشتر وعدياً وشريحاً وهانئاً فقال: إن استعدادي لحرب الشام، وجرير بن عبد الله عند القوم صرف لهم عن غي إن أرادوه، ولكني قد أرسلت رسولاً، فوقت لرسولي وقتاً لا يقيم بعده، والرأي مع الأناة فاتئدوا، ولا أكره لكم الأعذار.
فأبطأ جرير على علي حتى أيس منه. وإن جريراً لما أبطأ عليه معاوية بالبيعة لعلي كلمه في ذلك وقال له: إن هذا الأمر له ما بعده. فدعا معاوية ثقاته واستشارهم فقال له عقبة - وكان نظير معاوية -: استعن في هذا الأمر بعمرو بن العاص فإنه من عرفت، وقد اعتزل عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اتباعاً. فكتب إليه معاوية وعمرو بفلسطين: أما بعد فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط الشام مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة، وقد قدم علي جرير بن عبد الله ببيعة علي،
فاقدم علي على بركة الله، فإني قد حبست نفسي، ولا غناء بنا عن رأيك. وإن معاوية قال لجرير: قد رأيت أن أكتب إلى صاحبك أن يجعل لي مصر والشام حياته، فإن حضرته الوفاة لم يجعل لأحد من بعده في عنقي بيعة وأسلم له هذا الأمر، وأكتب إليه بالخلافة. فقال جرير: اكتب ما شئت وأكتب معه إليه. فكتب معاوية بذلك، فلما أتى علياً كتابه عرف أنما هي خديعة منه. وكتب علي إلى جرير: أما بعد فإن معاوية إنما أراد بما طلب أن لا تكون في عنقه بيعة، وأن يختار من أمره ما أحب، وأراد أن يريثك حتى يذوق أهل الشام. وقد كان المغيرة بن شعبة أشار علي وأنا بالمدينة أن أستعمل معاوية على الشام فأبيت ذلك، ولم يكن الله ليراني أن أتخذ المضلين عضداً؛ فإن بايعك وإلا فأقبل. وفشا كتاب معاوية في الناس. فكتب إليه الوليد بن عقبة: من الطويل
معاوي إن الشام شامك فاعتصم ... بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا
وحام عليها بالقنابل والقنا ... ولاتك محشوش الذراعين وانيا
فإن علياً ناظر ما تجيبه ... فأهد له حرباً تشيب النواصيا
وإلا فسلم إن في الأمر راحة ... لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا
وإن كتاباً يا بن حرب كتبته ... على طمع جان عليك الدواهيا
سألت علياً فيه مالا تناله ... ولو نلته لم يبق إلا لياليا
إلى أن ترى منه التي ليس بعدها ... بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا
ومثل علي تعتريه بخدعة ... وقد كان ما جربت من قبل كافيا
ولو نشبت أظفاره فيك مرة ... حذاك ابن هند بعض ما كنت حاذيا
جاء أبو مسلم الخولاني وأناس معه إلى معاوية فقالوا له: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله إني لأعلم أن علياً أفضل مني، وإنه لأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً وأنا ابن عمه؟ وإنما أطلب بدم عثمان، فأتوه فقولوا له فليدفع إلي قتلة عثمان، وأسلم له. فأتوا علياً فكلموه بذلك، فلم يدفعهم إليهم.
ثم إن علياً كتب إلى معاوية: أما بعد: فقد رأيت الدنيا وتصرفها بأهلها؛ ومن يقس شأن الدنيا بالآخرة يجد بينهما بالآخرة يجد بينهما بوناً بعيداً؛ ثم إنك يا معاوية قد ادعيت أمراً لست من أهله، لا في قديم ولا في حديث، ولست تدعي أمراً بيناً، ولا لك عليه شاهد من كتاب الله عز وجل، ولا عهد من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه؟ من أمر دنيا دعتك فأجبتها، وقادتك فاتبعتها وأمرتك فأطعتها! فأي شيء من هذا الأمر وجدته ينجيك؟! ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية؟ وولاة هذا الأمر؟ بغير قديم حسن، ولا شرف باسق؟ فلا تمكنن الشيطان من بغيته، مع أني أعلم أن الله ورسوله صادقين فيما قالا، فأعوذ بالله من لزوم الشقاء، فإنك يا معاوية مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذاً، وجرى منك مجرى. اللهم أحكم بيننا وبين من خالفنا بالحق فأنت خير الحاكمين.
فكتب إليه معاوية: أما بعد يا علي فدعني من أحاديثك واكفف عني من
أساطيرك، فبالكذب غررت من قبلك، وبالخداع استدرجت من عندك، وتوشك أمورك أن تكشف فيعرفوها ويعلموا باطلها، وإن الباطل كان مضمحلاً.
فكتب إليه علي: أما بعد، فطالما دعوت أنت وكثير من أوليائك أولياء الشيطان الحق أساطير، وحاولتم إطفاءه بأفواهكم، ونبذتموه وراء ظهوركم، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ولعمري ليتمن الله نوره بكرهك؛ فعقب من دنياك المنقطعة ما طاب لك، فكأن أجلك قد انقضى، وعملك قد هوى، والسلام على من اتبع الهدى.
ثم إن معاوية بعث إلى عتبة بن أبي سفيان - وكان من أسد قريش رأياً - فقال: إنا قد حبسنا جريراً حتى طمع فينا علي، وإنما حبسته لننظر ما يصنع أهل الشام، فإن تابعوني نبذت إليهم بالحرب، وإن حالفوني بعثت إليهم بالسلم؛ واعلم أن اختلاف القلوب على قدر اختلاف الصور، فلو أصبت رجلاً مصقعاً - يعني خطيباً بليغاً - جمعت أهل الشام على قلب واحد. فقال عتبة: لا يكون إلا يمانياً، وهما رجلان: أحدهما لك والآخر عليك؛ فأما الذي لك فشرحبيل بن السمط، له صحبة وهو عدو لجرير؛ وأما الذي عليك فالأشعث بن قيس، وشرحبيل خير لك من الأشعث لعلي. فعرف معاوية أن قد أتاه بالرأي. وكتب معاوية إلى شرحبيل يسأله القدوم عليه، وهيأ له رجالاً يخبرونه أن علياً قتل عثمان، منهم يزيد بن أسد البجلي، وبسر بن أرطاة، وأبو الأعور السلمي.
فلما جاء كتاب معاوية إلى شرحبيل استشار أهل اليمن - وكان شرحبيل من أهل حمص - فاختلفوا عليه، فقال له عبد الرحمن بن غنم: يا شرحبيل! إن الله أراد بك خيراً، قد هاجرت إلى يومك هذا، ولن ينقطع عنك المزيد من الله عز وجل حتى ينقطع من الناس، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. إنه قد فشت القالة عن معاوية بقوله إن علياً قتل عثمان، فإن يك فعل فقد بايعه المهاجرون والأنصار، وهم الحكام على الناس، وإن لم يكن فعل فعلى ما يصدق معاوية على علي وهو من قد علمت
فلا تهلكن نفسك وقومك. فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية. فقدم عليه فقال: إن جريراً قدم علينا يدعونا إلى بيعة علي، وعلي خير الناس لولا أنه قتل عثمان، وقد حبست عليك نفسي، وإنما أنا رجل من أهل الشام، أرضى بما رضوا وأكره ما كرهوا. فقال شرحبيل: أخرج فأنظر في ذلك.
فخرج شرحبيل، فلقيه النفر الذين وطأهم له معاوية، فأخبروه أن علياً قتل عثمان فقبل ذلك، فعاد إلى معاوية فقال له: يا معاوية! أبى الناس إلا أن علياً قتل عثمان، فلئن بايعت علياً ليخرجنك من الشام. فقال معاوية: ما أنا إلا رجل منكم، وما كنت لأخالف عليكم. قال: فاردد الرجل إلى صاحبه. فعرف معاوية أن شرحبيل قد ناصح، وأن أهل الشام معه.
ثم إن شرحبيل أتى حصين بن نمير في منزله، فبعث حصين إلى جرير: إن رأيت أن تأتينا فإن شرحبيل عندنا. فأتاهم جرير فقال له شرحبيل: إنك أتيتنا بأمر ملفف لتلقينا في لهوات الأسد، فأردت أن تخلط الشام بالعراق، وقد أطريت علياً وهو القاتل عثمان، والله سائلك عما قلت يوم القيامة. فقال جرير: أما قولك أني جئت بأمر ملفف، فكيف يكون ملففاً وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وقاتلوا معه طلحة والزبير؟ وأما قولك أني ألقيك في لهوات الأسد ففي لهواته ألقيت نفسك؛ وأما خلط الشام بالعراق فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل؛ وأما قولك أن علياً قتل عثمان فو الله ما في يديك من ذلك إلا قذف بالغيب من مكان بعيد، وإن ذلك لباطل، ولكنك ملت إلى الدنيا وأهلها، وأمر كان في نفسك.
فبلغ معاوية قولهما، فبعث إلى شرحبيل فقال له: إنه قد كان من إجابتك إلى الحق ما قد وقع فيه أجرك على الله، وقبله عنك صالح الناس، وإن هذا الأمر لا يتم إلا برضى العامة، فسر في مدائن الشام، فادعهم إلى ذلك وأخبرهم بما أنت عليه.
فسار شرحبيل فبدأ بأهل حمص فدعاهم إلى القيام في ذلك، وقال لهم: إن علياً قتل عثمان وحرضهم عليه وخوفهم منه، وإن معاوية ولي عثمان، فقوموا معه، فأجابه أهل
حمص إلا نفر من نسائكم وقرائهم فإنهم أبوا ولزموا بيوتهم، ثم إن شرحبيل استقوى مدائن الشام بذلك، فجعل لا يأتي قوماً إلا قبلوا ما أتاهم به.
ثم إن علياً كتب إلى جرير: أما بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم مخزية. فإن اختار الحرب فانبذ إليه. فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية، فأقرأه إياه، فلما علم معاوية أن أهل الشام قد تابعوه، بعث إلى جرير أن الحق بصاحبك فقد أبى الناس إلا ما ترى. فانصرف جرير إلى علي فأخبره الخبر، وإن شرحبيل قدم على معاوية بأهل الشام فقال لمعاوية: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فبايعه وبايعه أهل الشام على ذلك، ثم إن معاوية قام فيهم خطيباً فقال: يا أهل الشام! إن علياً قتل خليفتكم، وفرق الجماعة، وأوقع بأهل البصرة، ولها ما بعدها، وقد تهيأ للمسير إليكم، وإيم الله لا يفل حدكم إلا قوم أصبر منكم، فاصبروا فإن الله مع الصابرين، وقد قال الله عز وجل: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً " فأنا ولي عثمان وابن عمه، وأنتم أعواني على ذلك، فأعدوا للحرب وتهيؤوا للقاء. فقام معاوية بن حديج السكوني، وحوشب فقالوا: يا أمير المؤمنين! قد أتتنا أمدادنا على علي فإذا شئت.
ولما ظهر أمر معاوية بالشام وتابعوه على أمره، دعا علي رجلاً فأمره أن يتجهز، وأن يسير إلى دمشق، وأمره إذا دخل إلى دمشق أناخ راحلته بباب المسجد، ثم يدخل المسجد ولا يحط عن راحلته من متاعها شيئاً، ولا يلقي عن نفسه من ثياب السفر شيئاً وقال له: إنك إذا فعلت ورأوا أثر الغربة والسفر عليك، سيسألونك من أين أقبلت؟ فقل من العراق، فإنك إذا قلت ذلك حشدوا إليك وسألوك ما الخبر وراءك؟
فقل لهم: تركت علياً قد نهد إليكم في أهل العراق. فإنهم سيحشدون إليك، ثم انظر ما يكون من أمرهم. قال: فسار الرجل حتى أتى دمشق، ثم دخل المسجد ولم يحلل عن راحلته ولم ينزع عنه شيئاً من ثيابه فلما دخل المسجد، عرفوا أنه غريب، وأنه مسافر، فسألوه: من أين أقبلت؟ فقال: من العراق. فحشدوا إليه فقالوا: ما الخبر وراءك؟ قال: تركت علياً قد حشد إليكم ونهد في أهل العراق. فكثر الناس عليه يسألونه، وبلغ ذلك معاوية، فأرسل إلى أبي الأعور السلمي: ما هذا القادم الذي قد أظهر هذا الخبر؟ انطلق حتى تكون أنت الذي تشافهه وتسأله، ثم ائتني بالخبر، فأتاه أبو الأعور فساءله فأخبره، فأتى معاوية فأخبره بأن الأمر على ما انتهى إليك؛ فقال لأبي الأعور: ناد في الناس الصلاة جامعة. فنادى في الناس فجاء الناس فقيل لمعاوية شحن الناس المسجد وامتلأ منهم فخرج معاوية فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إن علياً قد نهد إليكم في أهل العراق فما الرأي؟ فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم ولم يرفع إليه أحد طرفه، ولم يتكلم منهم متكلم، فقام ذو الكلاع الحميري فقال: يا أمير المؤمنين! عليك الرأي وعلينا ام فعال - قال: وهي بالحميرية يعني الفعال - فنزل معاوية عن المنبر وأمر أبا الأعور السلمي أن ينادي في الناس: أن اخرجوا إلى معسكركم، فإن أمير المؤمنين قد أجلكم ثلاثاً، فمن تخلف فقد أحل بنفسه.
فخرج رسول علي فرجع إليه، فأخبره الخبر، فأمر علي قنبراً فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد، وصعد علي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن رسولي الذي أرسلته إلى الشام قد قدم علي وأخبرني أن معاوية قد نهد إليكم في أهل الشام، فما الرأي؟ قال: فأضب أهل المسجد يقولون: يا أمير المؤمنين! الرأي كذا، يا أمير المؤمنين! الرأي كذا. فلم يفهم علي كلامهم من كثرة من تكلم، ولم يدر
المصيب من المخطئ. فنزل عن المنبر وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. ذهب بها ابن أكالة الأكباد - يعني معاوية.
قال الأعمش: حدثني من رأى علياً يوم صفين يصفق بيديه ويعض عليهما ويقول: يا عجباً! أعصى ويطاع معاوية!.
وعن علي قال: قنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعين ليلة دعا على حي من أحياء العرب.
وقال علي: لا أزيد على قنوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقنت أربعين ليلة يدعو على معاوية بن أبي سفيان.
وعن أبي عبيدة قال: قال معاوية: لقد وضعت رجلي في الركاب وهممت يوم صفين بالهزيمة، فما منعني إلا قول ابن الإطنابة حيث يقول: من الوافر
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإكراهي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
قال علي بن المديني: سمعت سفيان يقول: ما كانت في علي خصلة تقصر به عن الخلافة، ولا كانت في معاوية خصلة ينازع علياً بها.
قال إبراهيم بن سويد: قلت لأحمد بن حنبل: من الخلفاء؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. قلت:
فمعاوية؟ قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي رضي الله عنه، ورحم اله معاوية.
قال محمد بن سعيد: ذكر قوم معاوية عند شريك، فقال بعضهم: كان حليماً. فقال: ليس بحليم من سفه الحق وقاتل علي بن أبي طالب.
قال يزيد بن الأصم: لما وقع الصلح بين علي ومعاوية خرج علي فمشى في قتلاه فقال: هؤلاء في الجنة. ثم مشى في قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة، وليصير الأمر إلي وإلى معاوية، فيحكم لي ويغفر لمعاوية؛ هكذا خبرني حبيبي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أول من يختصم في هذه الأمة بين يدي الرب علي ومعاوية، وأول من يدخل الجنة أبو بكر وعمر.
قال ابن عباس: كنت جالساً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية إذ أقبل علي بن أبي طالب فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاوية: أتحب علياً يا معاوية؟ فقال معاوية: إي والله الذي لا إله إلا هو إني لأحبه في الله حباً شديداً. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها ستكون بينكم هنيهة. قال معاوية: ما يكون بعد ذلك يا رسول الله؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عفر الله ورضوانه، والدخول إلى الجنة. قال معاوية: رضينا بقضاء الله. فعند ذلك نزلت هذه الآية: " ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل مايريد ".
وعن عمر بن عبد العزيز قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت وجلست، فبينا أنا
جالس إذ أتي بعلي ومعاوية، فأدخلا بيتاً وأجيف عليهم الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع أن خرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة. ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول غفر لي ورب الكعبة.
قال أبو القاسم ابن أخي أبي زرعة الرازي: جاء رجل إلى عمي أبي زرعة فقال له: يا أبا زرعة! أنا أبغض معاوية. قال: لم؟ قال: لأنه قاتل علي بن أبي طالب. فقال له عمي: إن رب معاوية رب رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فأيش دخولك أنت بينهما رضي الله عنهم أجمعين؟.
سأل رجل أحمد بن حنبل عما جرى بين علي ومعاوية، فأعرض عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله! هو رجل من بني هاشم، فأقبل عليه فقال: اقرأ: " تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعلمون ".
سأل النضر أبو عمر الحسن فقال: أبو بكر أفضل أم علي؟ قال: سبحان الله! ولا سواء سبقت لعلي سوابق شركه فيها أبو بكر، وأحدث علي أحداثاً لم يشركه فيها أبو بكر، أبو بكر أفضل. قال: فعمر أفضل أم علي؟ فذكر مثل قوله الأول. قال: عمر أفضل. قال: فعلي أفضل أم عثمان؟ فذكر مثل قوله الأول ثم قال: عثمان أفضل. فطمع السائل قال: علي أفضل أم معاوية؟ قال: سبحان الله! ولا سواء، سبقت لعلي سوابق لم يشركه فيها معاوية وأحدث علي أحداثاً شركه معاوية في أحداثه، علي أفضل من معاوية.
قال مغيرة: لما جاء قتل علي إلى معاوية جعل يبكي ويسترجع، فقالت له امرأته: تبكي عليه وقد كنت تقاتله؟! فقال لها: ويحك! إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم.
قال معاوية: ما روى أحد في الأمور ترويتي قط، إذا استلقيت على قفاي ووضعت إحدى رجلي على الأخرى؛ وما باده الأمور مثل عمرو بن العاص؛ وما رميت في مصممة مثل أبي الحسن علي بن أبي طالب قط.
وعن أنس بن مالك قال:
تعاهد ثلاثة رهط من أهل العراق على قتل معاوية وعمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة: فأقبلوا بعدما بويع معاوية على الخلافة حتى قدموا إيلياء يصلون من السحر ما قدر لهم، ثم سألوا بعض من حضر المسجد من أهل الشام عن ساعة يوافون فيها خلوة أمير المؤمنين وهو لنا فارغ وقالوا: إنا رهط من أهل العراق أصابنا غرم في أعطياتنا، فنريد أن نكلم أمير المؤمنين وهو لنا فارغ. فقالوا لهم: امهلوا حتى إذا ركب دابته فاعرضوا له فكلموه، فإنه يقف عليكم حتى تفرغوا من كلامه في حاجتكم. فعجلوا ذلك، فلما خرج معاوية لصلاة الفجر كبر، فلما سجد السجدة الأولى، انبطح أحدهم على ظهر الحرسي الساجد بينه وبين أمير المؤمنين، حتى طعن معاوية في مأكمته بخنجر في يده، فانصرف معاوية وقال للناس: أتموا صلاتكم.
وأخذ الرجل فأوثق منه، فدخل معاوية ودعي له الطبيب، فقال له الطبيب: إن لم يكن هذا الخنجر مسموماً فليس عليك بأس. فأعد الطبيب عقاقيره التي يشرب إن كان مسموماً، ثم أمر من يعرفها من تباعه أن يسقيه إن عقل لسانه حتى يلحس، ثم لحس الخنجر فلم يجده مسموماً، فكبر وكبر من عنده، فخرج خارجة - وهو أحد بني عدي إلى الناس من عند معاوية فقال: هذا أمر عظيم ليس بأمير المؤمنين بأس، فحمد الله وأخذ
يذكر الناس فشد عليه الحروريون الباقون بالسيف يحسبونه عمرو بن العاص، فضربه على الذؤابة فقتله، فرماه الناس بالثياب وتعاووا عليه حتى أخذوه وأوثقوه، واستل الثالث السيف فشد على أهل المسجد، فانكشف الناس، وصبر له سعيد بن مالك بن شهاب وعليه ممطر، تحته السبف مشرجاً على قائمه، فأدخل يده في الممطر يحل شرج السيف، فلم يفض لحله حتى غشيه الحروري، فنحاه لمنكبه الأيسر، فضربه الحروري ضربة خالطت سحره، ثم استل سعيد السيف فاختلف هو والحروري ضربتين، فضربه الحروري على عينه اليسرى ضربة ذهبت عينه، وضربه سعيد فطرح يمينه والسيف، ثم علاه سعيد بالسيف فقتل الحروري، ونزف سعيد فاحتمل نزيفاً، فدووي ثلاثين ليلة ثم توفي وهو يخبر من دخل عليه: أم والله لو شئت لانحزت مع الناس، ولكني تحرجت أن أوليه ظهري ومعي السيف. فدخل رجل من كلب على الذي طعن معاوية فقال: هذا طعن معاوية؟ قالوا: نعم. فامتلخ السيف فضرب عنقه، وأخذ الكلبي فسجن. وقالوا: قد اتهمت بنفسك. قال: إنما قتلته غضباً لله. فلما سئل عنه فوجد بريئاً أرسل، ودفع قاتل خارجة إلى أوليائه من بني عدي بن كعب، فقطعوا يده ورجله، وسمروا عينه، ثم حملوه حتى حلوا به العراق، فعاش كذلك حيناً، ثم تزوج امرأة فولدت له غلاماً فسمعوا به قد ولد له غلام، فقالوا: لقد عجزنا حين
يترك قاتل خارجة يولد له الغلمان. فكلموا فيه معاوية، فأذن لهم في قتله فقتلوه، وقال الحروري الذي قتل خارجة حين ذكر له أنه قتل خارجة: أما والله ما أردت إلا عمرو بن العاص. فقال عمرو حين بلغته كلمته: ولكن أراد الله خارجة.
قال الدارقطني: البرك بن عبد الله الخارجي هو الذي أراد قتل معاوية، فضربه بالسيف ففلق أليته.
وهو بضم الباء وفتح الراء.
وعن عمر قال: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وفي كذا، وليس فيها الطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء.
قال الأسود بن يزيد: قلت لعائشة رضوان الله عليها: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخلافة!؟ قالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر؛ وقد ملك فرعون أهل مصر أربع مئة سنة.
وعن هزيل بن شرحبيل قال: صعد معاوية المنبر فقال: يا أيها الناس! ومن كان أحق بهذا الأمر مني؟ وهل بقي أحد أحق بهذا الأمر مني؟.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان علي بالعراق يدعى أمير المؤمنين، وكان معاوية بالشام يدعى الأمير، فلما مات علي دعي معاوية بالشام أمير المؤمنين.
قال الليث بن سعد: بويع معاوية بإيلياء في رمضان بيعة الجماعة، ودخل الكوفة سنة أربعين، وهو عام الجماعة. وقيل كان دخوله سنة إحدى وأربعين، وبويع بأذرح، بايعه الحسن بن علي.
وقيل: إن أهل الشام بايعوا معاوية سنة سبع وثلاثين.
وكان نقش خاتم معاوية: لكل عمل ثواب. وقيل: لا قوة إلا بالله.
وكان آخر ما تكلم به معاوية: اتقوا الله فإنه لا يقين لمن لا يتقي الله.
وعن الزهري:
أن معاوية عمل سنتين ما يخرم عمل عمر، ثم إنه بعد.
وعن سعيد بن سويد قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة في الضحى، ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.
قال سفيان بن الليل: قلت للحسن بن علي لما قدم من الكوفة إلى المدينة: يا مذل المؤمنين. قال: لا تقل ذاك، فإني سمعت أبي يقول: لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك معاوية. فعلمت أن أمر الله واقع، فكرهت أن تهراق بيني وبينه دماء المسلمين.
قال الشعبي: قيل للحارث الأعور: ما حمل الحسن بن علي على أن يبايع لمعاوية وله الأمر؟ قال: إنه سمع علياً يقول: لا تكرهوا إمرة معاوية.
وعن الحارث قال: لما رجع علي من صفين علم أنه لا يملك، فتكلم بأشياء لم يكن يتكلم بها قبل ذلك، وقال أشياء لم يكن يقولها قبل ذلك، فقال: يا أيها الناس! لا تكرهوا إمارة معاوية، فو الله لو فقدتموه لقد رأيتم الرؤوس تندر من كواهلها كالحنظل.
وعن أبي الدرداء أنه قال: لا مدينة بعد عثمان ولا رخاء بعد معاوية.
ولما قدم معاوية المدينة يريد الحج دخل على عائشة فكلمها خاليين، لم يشهد كلامهما إلا ذكوان أبو عمرو مولى عائشة، فقالت له عائشة: أمنت أن أخبأ لك رجلاً يقتلك بقتلك أخي محمداً؟ قال معاوية: صدقت. فكلمها معاوية، فلما قضى كلامه تشهدت عائشة ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق، والذي سن الخلفاء بعده، وحضت معاوية على اتباع أمرهم فقالت في ذلك فلم تترك، فلما قضت مقالتها قال لها معاوية: أنت والله العالمة بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المناصحة المشفقة، البليغة الموعظة، حضضت على الخير وأمرت به، ولم تأمرينا إلا بالذي هو لنا، وأنت أهل أن تطاعي. فتكلمت هي ومعاوية كلاماً كثيراً. فلما قدم معاوية اتكأ على ذكوان، قال: والله ما سمعت خطيباً ليس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبلغ من عائشة.
ولما قدم معاوية المدينة أرسل إلى عائشة رضوان الله عليها، أن أرسلي إلي
بأنبجانية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشعره، فأرسلت به، فأخذ الأنبجانية فلبسها، وأخذ شعره، فدعا بماء فغسله فشربه وأفاض على جلده.
قال الشعبي: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك وأعلى أمرك. فما رد عليهم جواباً حتى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني والله ما وليت أمركم حين وليته إلا وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة فلم أجدها تقوم بذلك، وأردتها على عمل ابن الخطاب فكانت عنه أشد نفوراً، وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت علي، وأين مثل هؤلاء؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم! رحمة الله ورضوانه عليهم، غير أني قد سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة ولكم فيه مثل ذلك، ولكل فيه مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خيركم لكم؛ والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه، فإنها ليست بقائبة قوبها، وإن السيل إذا جاء يترى وإن قل أغثى. وإياكم والفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة، وتورث الأستئصال. وأستغفر الله لي ولكم. ثم نزل.
وعن صالح بن كيسان: أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة ابنة عثمان وندبت أباها فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم، فإن لي حاجة في هذه الدار. فانصرفوا ودخل فسكن عائشة وأمرها بالكف وقال لها: يا بنة أخي، إن الناس أعطونا سلطاناً فأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا وباعونا هذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا شحوا على حقهم، ومع كل إنسان منهم شيعة، وهو يرى مكان شيعتهم، فإن نكثنا به نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا، وأن تكوني ابنة عمر أمير المؤمنين خير من أن تكوني أمة من إماء المسلمين. ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك والسلام.
وعن أبي سعيد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه. فقام إليه رجل من الأنصار وهو يخطب بالسيف، فقال أبو سعيد: ما تصنع؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إذا رأيتم معاوية يخطب على الأعواد فاقتلوه. فقال له أبو سعيد: إنا قد سمعنا ما سمعت، ولكنا نكره أن يسل السيف على عهد عمر حتى نستأمره. فكتبوا إلى عمر في ذلك، فجاء موته قبل أن يجيء جوابه.
وعنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه.
قال حماد بن زيد: قيل لأيوب: إن عمرو بن عبيد روى عن الحسن أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا رأيتم معاوية على المنبر فاقتلوه. فقال: كذب عمرو.
وروي عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه، فإنه أمين مأمون.
في إسناده إنكار.
قال الأوزاعي: أدركت خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم سعد، وأسامة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك ورجال أكثر من سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأويله؛ ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله، منهم المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريز، في أشباه لهم لم ينزعوا يداً عن مجامعة في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن سعيد بن عبد العزيز قال: لما قتل عثمان واختلف الناس، لم تكن للناس غازية ولا صائفة حتى اجتمعت الأمة على معاوية سنة أربعين، وهي سنة الجماعة. فأغزى معاوية الصوائف وشتاهم بأرض الروم، ستة عشر صائفة، تصيف بها وتشتو، ثم تقفل وتدخل معقبتها. ثم أغزاهم معاوية ابنه يزيد في سنة خمس وخمسين، في جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البر والبحر، حتى أجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها. ثم قفل.
قال سعد بن أبي وقاص: ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب - يعني معاوية.
قدم المسور بن مخرمة وافداً على معاوية، فقضى حاجته ثم دعاه، فأخلاه فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة؟ فقال المسور: دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له. قال معاوية: لا والله لتكلمن بذات نفسك، والذي تعيب علي. قال المسور: فلم أترك
شيئاً أعيبه عليه إلا بينته له. قال معاوية - لا برئ من الذنب -: فهل تعد يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؟ فإن الحسنة بعشر أمثالها؛ أم تعد الذنوب وتترك الحسنات؟ قال المسور: لا والله ما نذكر إلا ما نرى من هذه الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم يغفرها الله؟ قال مسور: نعم. قال معاوية: فما يجعلك أحق أن ترجو المغفرة مني، فو الله لما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكني والله لا أخير بين أمرين بين الله، وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه، وأنا على دين يقبل الله فيه العمل، ويجزي فيه بالحسنات، ويجزي فيه بالذنوب، إلا أن يعفو عمن شاء، فأنا أحتسب كل حسنة عملتها بأضعافها، وإذا رأى أموراً عظاماً لا أحصيها ولا يحصيها من عمل لله في إقامة صلوات المسلمين، والجهاد في سبيل الله، والحكم بما أنزل الله؛ والأمور التي ليست تحصيها وإن عددتها لك؛ فتفكر في ذلك، قال المسور: فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر لي ما ذكر.
قال عروة: فلم نسمع المسور بعد ذلك يذكر معاوية إلا صلى عليه.
قال ثابت مولى سفيان: سمعت معاوية وهو يقول: إني لست بخيركم، وإن فيكم من هو خير مني، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم وأنعمكم لكم ولاية، وأحسنكم خلقاً.
وفي رواية: أن أكون أنفعكم ولاية وأدركم حلباً.
قال يونس بن حلبس: سمعت معاوية على منبر دمشق يوم الجمعة يقول: يا أيها الناس! اعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة، فلتقيمن وجوهكم وصفوفكم في الصلاة، أو ليخالفن الله بين قلوبكم. خذوا على أيدي سفهائكم، فلتأخذن
على أيدي سفهائكم، أو ليسلطن الله عليكم، فليسومنكم سوء العذاب. تصدقوا، ولا يقول الرجل إني مقل، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني. إياي وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل سمعت وبلغني، فلو قذف امرأة على عهد نوح لسئل عنها يوم القيامة.
وعنه قال: سمعت معاوية على منبر دمشق يقول: يا أهل قردا! يا أهل زاكية! يا داني البثنية! الجمعة الجمعة.
وربما قال: يا أهل فنن! يا قاصي الغوطة! الجمعة الجمعة، لا تدعوها.
وعن أيوب بن ميسرة: أن معاوية كان يبعث حرساً من حرسه إلى كناكر وزاكية وقردا فيقول: إن هذا يوم عاشوراء، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصومه ونحن صائمون، فمن أحب أن يصومه فليصمه.
وعن ابن أبي ملكية قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فأخبره بذلك، فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي رواية أن ابن عباس قال: أصاب أي بني! ليس أحد منا أعلم من معاوية، هي واحدة، أو خمس، أو سبع، إلى أكثر من ذلك، الوتر ما شاء.
وفي رواية: أنه قيل لابن عباس: إن معاوية لم يوتر حتى أصبح، فأوتر بركعة. فقال: إن أمير المؤمنين عالم.
وعن القاسم بن محمد قال: قال معاوية: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا صلى الأمير جالساً فصلوا جلوساً.
قال القاسم: فتعجب الناس من صدق معاوية! قال البيهقي: فهذا جعفر بن محمد يرويه ويصدق القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فيما يحكيه من تصديق الناس معاوية، والناس إذ ذاك، من بقي من الصحابة، ثم أكابر التابعين، ونحن نزعم أنه كان منسوخاً.
وعن محمد بن سيرين قال: كان معاوية لايتهم في الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان معاوية قليل الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال رجاء بن حيوة: كان معاوية ينهى عن الحديث يقول: لا تحدثوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: وما سمعته يروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا يوماً واحداً.
وعن أبي قبيل حيي بن هانئ:
أن معاوية صعد المنبر يوم الجمعة فقال عند خطبته: أيها الناس! إن المال مالنا، والفيء فيئنا، من شئنا أعطيناه، ومن شئنا منعناه. فلم يحبه أحد. فلما كان الجمعة الثانية قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن حضر المسجد فقال: يا معاوية! كلا، إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، من حال
بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا. فنزل معاوية، فأرسل إلى الرجل، فأدخل عليه فقال القوم: هلك الرجل. ففتح معاوية الأبواب، فدخل الناس عليه، فوجدوا الرجل معه على السرير، فقال معاوية للناس إن هذا أحياني أحياه الله، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: سيكون أئمة من بعدي، يقولون فلا يرد عليهم قولهم، يتقاحمون في النار كما تقاحم القردة. وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد علي أحد، فخشيت أن أكون منهم؛ ثم تكلمت الثانية فلم يرد علي أحد، فقلت في نفسي: إني من القوم. فتكلمت الجمعة الثالثة، فقام هذا الرجل فرد علي، فأحياني أحياه الله، فرجوت أن يخرجني الله منهم. فأعطاه وأجازه.
قيل: إن هذا القائل لمعاوية هذا القول أبو بحرية عبد الله بن قيس السكوني.
وعن أبي مسلم الخولاني عن معاوية: أنه خطب الناس، وقد حبس العطاء شهرين أو ثلاثة، فقال له أبو مسلم: يا معاوية! إن هذا المال ليس بمالك ولا مال أبيك ولا مال أمك. فأشار معاوية إلى الناس أن امكثوا؛ فنزل واغتسل، ثم رجع فقال: أيها الناس! إن أبا مسلم ذكر أن هذا المال ليس بمالي ولا مال أبي ولا مال أمي، وصدق أبو مسلم، إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الغضب من الشيطان والشيطان من النار، والماء يطفئ النار، فإذا غضب أحدكم فليغتسل. اغدوا على عطائكم على بركة الله عز وجل.
وعن عطية بن قيس قال: خطبنا معاوية فقال: إن في بيت مالكم فضلاً عن عطائكم، وإني قاسم بينكم ذلك، فإن كان فيه قابلاً فضل قسمته عليكم، وإلا فلا عتيبة علي، فإنه ليس مالي، وإنما هو فيء الله الذي أفاء عليكم.
وعن قتادة قال: لما انتهى كتاب الحكم بن عمرو إلى زياد كتب بذلك إلى معاوية، وجعل كتاب الحكم في جوف كتابه، فلما قدم الكتاب على معاوية خرج إلى الناس فأخبرهم بكتاب زياد وصنيع الحكم فقال: ما ترون؟ فقال بعضهم: أرى أن تصلبه. وقال بعضهم: أرى أن تقطع يديه ورجليه. وقال بعضهم: أرى أن تغرمه المال الذي أعطي. فقال معاوية: لبئس الوزراء أنتم! لوزراء فرعون كانوا خيراً منكم، أتأمروني أن أعمد إلى رجل آثر كتاب الله تعالى على كتابي، وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سنتي، فأقطع يديه ورجليه؟! بل أحسن وأجمل وأصاب! فكانت هذه مما يعد من مناقب معاوية.
قال أبو قبيل: كان معاوية قد جعل في كل قبيل رجلاً، وكان رجل منا يكنى أبا الجيش، يصيح في كل يوم، فيدور على المجالس: هل ولد فيكم الليلة ولد؟ هل حدث الليلة حدث؟ هل نزل بكم اليوم نازل؟ فيقولون: ولد لفلان غلام، ولفلان. فيقول: فما سمي؟ فيقال له، فيكتب، فيقول: هل نزل بكم الليلة نازل؟ فيقولون: نعم، نزل رجل من أهل اليمن، يسمونه وعياله، فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان فأوقع أسماءهم في الديوان.
قال عبيد بن سلمان الطابخي: كنت جالساً عند معاوية، فرأيته متواضعاً، ولم أر له سياطاً غير مخاريق كمخاريق الصبيان، من رقاع قد فتلت يفقعون بها.
قال يونس بن حلبس: رأيت معاوية في سوق دمشق، على بغلة له، وخلفه وصيف قد أردفه، عليه قميص مرقوع الجيب، وهو يسير في أسواق دمشق.
قال أبو إسحاق: ما رأيت بعد معاوية مثله. قال أبو بكر: وما ذكر عمر بن عبد العزيز! وفي رواية: وما استثنى أبو إسحاق عمر بن عبد العزيز! وقال مجاهد: لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي.
وعن العتبي قال: قال معاوية: لا أضع لساني حيث يكفيني مالي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي. فإذا لم أجد من السيف بداً ركبته.
وعنه، قال معاوية: أفضل ما أعطي الرجل العقل والحلم، وإذا ذكر ذكر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا أساء استغفر، وإذا وعد أنجز.
وعن ابن عمر قال: ما رأيت أحداً بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسود من معاوية.
وعنه قال:
ما رأيت أحداً كان أسود من معاوية! قال: قلت: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيراً من معاوية، وكان معاوية أسود منه.
وفي حديث: قلت: هو كان أسود من أبي بكر؟ قال: أبو بكر كان خيراً منه، وكان هو أسود منه. قلت: فهو كان أسود من عمر؟ قال: عمر والله كان خيراً منه، وكان
هو أسود منه. قلت: هو كان أسود من عثمان؟ قال: رحمة الله على عثمان، كان خيراً منه وهو أسود من عثمان.
وعن ابن عباس قال: ما رأيت أحداً أخلق للملك من معاوية! كان الناس يردون منه أرجاء واد رحب، ليس بالضيق الحصر العصعص المتغضب - يعني ابن الزبير.
زاد في رواية: العقص ابن الزبير.
قوله: يردون منه أرجاء واد رحب: شبهه بواد واسع لا يضيق على من ورده للشرب. والرجا: حرفه وشفيره. والحصر: الممسك البخيل.
والحصور: الضيق من الرجال. والعقص: السيئ الخلق، والمتلوي العسر. وفيه لغة أخرى: عكص، والشكس مثله.
قال جعدة بن هبيرة لجلسائه وعواده: إني قد علمت ما لم تعلموا، وأدركت ما لم تدركوا، وإنه سيجيء بعد هذا - يعني معاوية - أمراء ليسوا من رجاله، ولا من ضربائه، ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر، حتى تقوم الساعة. هذا السلطان سلطان الله جعله، وليس أنتم تجعلونه، ألا وإن للراعي على الرعية حقاً، وللرعية على الراعي حق، فأدوا إليهم حقهم، وإن ظلموكم فكلوهم إلى الله تبارك وتعالى، فإنكم وإياهم تختصمون يوم القيامة، ألا وإن الخصم لصاحبه الذي أدى إليه الحق الذي عليه في الدنيا ثم قرأ: "
فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ". حتى بلغ: " والوزن يومئذ القسط " وكذا قرأ " القسط ".
قال كعب: لن يملك أحد من هذه الأمة ما ملك معاوية.
قال معاوية: أنا أول الملوك.
وقال: أنا أول ملك وآخر خليفة.
وعن ابن عمر قال: معاوية من أحلم الناس. قالوا: يا أبا عبد الرحمن! وأبو بكر؟ قال: أبو بكر خير من معاوية، ومعاوية من أحلم الناس.
قال مسلمة بن محارب: ذكر عبد الملك يوماً معاوية فقال: ما رأيت مثل ابن هند في حلمه واحتماله وكرمه! لقد خرج حاجبه في يوم رهان إلى المقصورة، وأنا وحدي فيها، فنظر إلي، ثم دخل وخرج معاوية، فقمت إليه فتوكأ علي حتى انتهى إلى الخيل، فأرسلت، فسبق، ثم خرج في الحلبة الأخرى، وصنع مثلها فسبق، ثم خرج في الحلبة الثالثة، فخفت أن يتشاءم بي فتنحيت، فطلبني فجئت، وتوكأ علي، وأجرى الخيل فسبق، فأقبل علي فقال: يا بن مروان، هكذا القرح، هات حوائجك. قلت: ما لي حاجة. قال: عزمت عليك. فما سألته شيئاً إلا أنعم لي وأضعف.
قال قبيصة بن جابر: ما رأيت رجلاً أعظم حلماً، ولا أكثر سؤدداً، ولا ألين مخرجاً في أمر من معاوية.
وقال: أيضاً: صحبت معاوية بن أبي سفيان، فما رأيت رجلاً أثقل حلماً، ولا أبطأ جهلاً، ولا أبعد أناة منه! وعن معاوية أنه قال: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أوزن من حلمي.
أسمع رجل مرة معاوية كلاماً شديداً غضب منه أهله، فقيل له: لو سطوت عليه لكان له نكالاً، قال: إني لأستحي أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي.
قال رجل لمعاوية: يا أمير المؤمنين ما أحملك! قال: إني لأستحي أن يكون جرم رجل أعظم من حلمي.
وعن سفيان قال: قال معاوية: إني لأستحي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو يكون جهل أكثر من حلمي، أو تكون عورة لا أواريها بستري.
وقال معاوية: ما شيء أحمد عاقبة من جرعة غيظ أتجرعها.
خرج الحسين من عند معاوية، فلقي ابن الزبير، والحسين مغضب، فذكر الحسين أن معاوية ظلمه في حق له، فقال له الحسين: أخيره في ثلاث خصال، والرابعة الصيلم: أن يجعلك أو ابن عمر بيني وبينه، أو يقر بحقي ثم يسألني فأهبه له، أو يشتريه مني، فإن لم يفعل فو الذي نفسي بيده لأهتفن بحلف الفضول.
فقال
ابن الزبير: والذي نفسي بيده لئن هتف به وأنا قاعد لأقومن، أو قائم لأمشين، أو ماش لأشتدن، حتى تفنى روحي مع روحك، أو ينصفك. ثم ذهب ابن الزبير إلى معاوية فقال: لقيني الحسين فخيرني في ثلاث خصال، والرابعة الصيلم. قال معاوية: لا حاجة لنا بالصيلم، إنك لقيته مغضباً، فهات الثلاث خصال. قال: تجعلني أو ابن عمر بينك وبينه. فقال: قد جعلتك بيني وبينه أو ابن عمر، أو جعلتكما جميعاً. قال: أو تقر له بحقه. قال: فأنا أقر له بحقه وأسأله إياه. قال: أو تشتريه منه. قال: فأنا أشتريه منه. قال: فلما انتهى إلى الرابعة قال لمعاوية كما قال للحسين: إن دعاني إلى حلف الفضول أجبته. قال معاوية: لا حاجة لنا بهذه. قال: وبلغني أن عبد الرحمن بن أبي بكر ومسور بن مخرمة قالا للحسين مثل قول ابن الزبير، فبلغ ذلك معاوية وعنده جبير بن مطعم، فقال له معاوية: يا أبا محمد! كنا في حلف الفضول. قال له جبير: لا.
وحكى الزبير نحو هذه القصة للحسن بن علي مع معاوية.
قال العتبي: قدم معاوية المدينة، فخرج إلى العقيق وخرج الناس إليه، فضربت له أبنية، فجاء
أبو غليط بن عتبة بن أبي لهب، فعمد إلى جمل أجرب، فهنأه بالقطران، وركب وأداره في الشمس حتى هرج، ثم قصد به نحو معاوية، فلما نظر إلى الأبنية حمل الجمل عليها، والناس عنده جلوس فأقبل الجمل يقطع تلك الأبنية، وفزع الناس! فقال معاوية: أيها الناس! اجلسوا، إن هذا بعض جنون آل أبي لهب. فقال أبو عليط: والله ما أنا بالمجنون، وما أتانا الجنون إلا من قبل حرب بن أمية! ما زال الشيطان يخنقه حتى مات. وكان حرب بن أمية مات مخنوقاً، ذكروا أن الجن خنقته فمات.
دخل قوم من الأنصار على معاوية فقال لهم: يا معشر الأنصار! قريش لكم خير منكم لها؛ فإن يكن ذلك لقتلي أحد، فقد نلتم يوم بدر مثلهم؛ وإن يكن ذلك للأثرة، فو الله ما تركتم إلى صلتكم سبيلاً، لقد خذلتم عثمان يوم الدار، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وصليتم بالأمر يوم صفين. فتكلم رجل منهم فقال: أقلت قريش خير لنا منا لها؟ فإن فعلوا فقد أسكناهم الدار، وقاسمناهم الأموال، وبذلنا لهم الديار، ودفعنا عنهم العدو وأنت سيد قريش، فهل لهذا عندك جزاء؟ وأما قولك إن يكن ذلك لقتلى أحد، فإن قتيلنا وحينا ثائر؛ وأما ذكرك الأثرة، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا بالصبر عليها، وأما خذلان عثمان فإن الأمر في عثمان ما كان إلا جفلى - يريد الجمع - وأما قتل أنصاره يوم الجمل فما لا يعتذر منه؛ وأما قولك إنا صلينا بالأمر يوم صفين فإنا كنا مع رجل لم نأله خيراً. وقاموا وخرجوا، فقال معاوية: ردوهم، فو الله ما فرغ من كلامه حتى ضاق بي مجلسي! أما كان فيكم رجل يجيبه؟! فردوهم فترضاهم ووصلهم.
جرى بين معاوية وبين أبي الجهم كلام، حتى كان من أبي الجهم إلى معاوية كلام غمه، فأطرق ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجهم! إياك والسلطان، فإنه يغضب غضب
الصبيان، ويعاقب عقاب الأسد، وإن قليله يغلب كثير الناس. ثم أمر له بمال، فأنشأ أبو الجهم يقول: من الوافر
نميل على جوانبه كأنا ... إذا ملنا نميل على أبينا
نقلبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرماً ولينا
طاف الحسن بن علي مع معاوية، فكان يمشي بين يديه فقال: ما أشبه أليتيه بأليتي هند! فسمعه معاوية، فالتفت إليه فقال: أما إنه كان يعجب أبا سفيان.
قال عبد الرحمن بن أبي الحكم لمعاوية: يا أمير المؤمنين! إن فلاناً يشتمني. قال: تطأطأ لها، تمر، فتجاوزك.
قال رجل لمعاوية: ما رأيت أنذل منك! قال: بلى من واجه الرجال بمثله.
قال معاوية: ما يسرني بذل الكرم حمر النعم.
قال معاوية: يا بني أمية! قاربوا قريشاً بالحلم، فو الله إن كنت لألقى الرجل منهم في الجاهلية فيوسعني شتماً وأوسعه حلماً، فأرجع وهو صديقي، أستنجده فينجدني، وأثور به فيثور معي، وما رفع الحلم عن شريف شرفه ولا زاده إلا كرماً.
قال معاوية: آفة الحلم الذل.
قال معاوية: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة الحلم.
قال معاوية: العقل عقلان، عقل تجارب، وعقل نحيزة؛ فإذا اجتمعا في رجل، فذاك الذي لا يقام انفراداً له، وإذا انفردا كانت النحيزة أولاهما.
قال أبو عبيدة:
كان الرجل يقول لمعاوية: فو الله لتستقيمن يا معاوية، أو لنقومنك. فيقول: بماذا؟ فيقول: بالخشب. فيقول: إذاً أستقيم.
قال هشام بن عروة: صلى بنا عبد الله بن الزبير الغداة ذات يوم، فوجم بعد الصلاة وجوماً لم يكن يفعله، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: لله در ابن هند! أما والله إن كنا نتخدعه فيتخادع لنا، وما ابن ليلة بأدهى منه، لله در ابن هند! أما والله إن كنا نفرقه فيتفارق لنا، وما الليث الحرب بأجرأ منه! كان والله كما قال بطحاء العذري: من المتقارب
ركوب المنابر وثابها ... معن بخطبته مجهر
تريع إليه فصوص الكلام ... إذا نثر الخطل المهمر
كان والله كما قالت بنت رقيقة: من الهزج
ألا ابكيه ألا ابكيه ... ألا كل الفتى فيه
والله لوددت أنه بقي ما بقي أبو قبيس؛ لا يتحول له عقل، ولا تنتقص له قوة. قال: فعرفنا أن الشيخ قد استوحش له.
قيل لمعاوية: من أسود الناس؟ قال: أسخاهم نفساً حين يسأل، وأحسنهم في المجالس خلقاً، وأحلمهم حين يستجهل.
كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات: من الوافر
فما قتل السفاهة مثل حلم ... يعود به على الجهل الحليم
فلا تسفه وإن ملئت غيظاً ... على أحد فإن الفحش لوم
ولا تقطع أخاً لك عند ذنب ... فإن الذنب يغفره الكريم
ذكر معاوية عند ابن عباس فقال: لله تلاد ابن هند، ما أكرم حسبه! وأكرم مقدرته! والله ما شتمنا على منبر قط، ولا بالأرض، ضناً منه بأحسابنا وحسبه.
قال ابن عباس: قد علمت بما كان معاوية يغلب الناس، كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقعوا طار.
قال زياد: ما غلبني معاوية في السياسة إلا في أمر واحد، استعمل رجلاً من بني تميم، فكسر
الخراج، ولحق بمعاوية. فكتب إليه إن هذا أدب سوء، فابعث به إلي. فكتب إليه: لا يصلح أن نسوس الناس أنا وأنت بسياسة واحدة؛ فإنا إن نشتد نهلك الناس، ونخرجهم إلى أسوأ أخلاقهم، وإن لنا جميعاً أبطرهم ذلك، ولكن ألين وتشتد، وتلين وأشتد، فإذا خاف خائف وجد باباً يدخله.
وفي حديث آخر: ولتكن للشدة والفظاظة والغلظة، وأكون أنا للين والألفة والرحمة.
كتب عمرو بن العاص إلى معاوية يعاتبه في التأني، فكتب إليه معاوية: أما بعد؛ فإن التفهم زيادة ورشد، وإن الرشيد من رشد عن العجلة، وإن الخائب من خاب عن الأناة، وإن المتثبت مصيب، أو كاد يكون مصيباً، وإن العجل يخطئ، أو كاد يكون مخطئاً، وإنه من لا ينفعه الرفق يضره الخرق، ومن لا تنفعه التجارب لا يدرك المعالي، ولا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة الحلم.
قيل لمعاوية: إنا نراك تقدم حتى نقول يقبل، وتتأخر حتى نقول لا يرجع! قال: أتقدم ما كان التقدم غنماً، وأتأخر ما كان التأخر حزماً.
قال بعض الشعراء: من الطويل
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة ... وإن لم يكن لي فرصة فجبان
قيل لمعاوية: من أحلم أنت أو زياد؟ قال: إن زياداً لا يترك إلا من يفترق عليه، وأنا أتركه يفترق علي ثم أجمعه.
قال الشعبي: كان دهاة العرب أربعة. فذكر أحدهم معاوية: فأما معاوية فكان يدبر الأمر فيقع بعد عشرين سنة.
خرج عبد الملك بن مروان ومعه نافع بن جبير بن مطعم، فوقف على راهب فذكر الراهب الخلفاء، فأطرى معاوية، فقال عبد الملك لنافع: لشد ما أطرى ابن هند! فقال نافع: إن ابن هند أصمته الحلم وأنطقه العلم، بجأش ربيط، وكف ندية.
قال قبيصة بن جابر قال: لم أعاشر أحداً كان أرحب باعاً بالمعروف منك يا معاوية.
وعن جويرية قال: قعد معاوية وعمرو ذات يوم، فقال معاوية: ما شيء أصبته أحب إلي من عين فوارة في أرض خوارة أصبتها من صاحبها بطيب نفسه. فقال عمرو: لكني لست هكذا، ما شيء أصبته أحب إلي من أن أصبح عروساً بعقيلة من عقائل العرب. ورجل جالس فقال: لكني لست هكذا، ما شيء أصبته أحب إلي من الفضل على الإخوان. فقال معاوية: أنا أحق بها منك لا أم لك. قال: فقد قدرت يا أمير المؤمنين.
قال سعيد بن عبد العزيز: قضى معاوية عن عائشة ثمانية عشر ألف دينار.
بعث معاوية إلى عائشة مرة بمئة ألف، فما أمست من ذلك اليوم حتى فرقتها، فقالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهم لحماً. فقالت: لو قلت لي قبل أن أفرقها فعلت.
قال عطاء: قدمت عائشة مكة، فأرسل إليها معاوية بطوق قيمته مئة ألف فقبلته.
دخل الحسن بن علي بن أبي طالب على معاوية فقال: أما والله لأجيزنك اليوم بجائزة لم أجزها أحداً من قبلك من العرب، ولا أجيزها بعدك. قال: فأعطاه أربع مئة ألف فأخذها.
دخل الحسن والحسين على معاوية فأمر لهما في وقته بمئتي ألف درهم وقال: خذاها وأنا ابن هند، ما أعطاها أحد قبلي، ولا يعطيها أحد بعدي. قال: فأما الحسن فكان رجلاً مسكيناً، وأما الحسين فقال: والله ما أعطى أحد قبلك ولا أحد بعدك لرجلين أشرف ولا أفضل منا.
أرسل الحسن بن علي وابن جعفر إلى معاوية يسألانه المال. فبعث بمئة ألف درهم، أو لكل رجل منهما بمئة ألف فبلغ ذلك علياً فقال لهما: ألا تستحيان! رجل يطعن في عينه غدوة وعشية، تسألانه المال! قال: لأنك حرمتنا وجاد لنا.
كان معاوية إذا تلقى الحسن بن علي قال له: مرحباً وأهلاً بابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا تلقى عبد الله بن الزبير قال له: مرحباً بابن عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمر للحسن بن علي بثلاث مئة ألف، ولعبد الله بن الزبير بمئة ألف.
أمر معاوية للحسن بن علي بمئة ألف درهم، فذهب بها إليه، فقال لمن حوله: من أخذ شيئاً فهو له. وأمر للحسين بن علي بمئة ألف فذهب بها إليه وعنده عشرة فقسمها عليهم عشرة آلاف عشرة آلاف، وأمر لعبد الله بن جعفر بمئة ألف فذهب بها إليه. فأرسلت إليه امرأته أرسل بها إلي. فأرسل إليها: تعالي أنت وجواريك، وصفقن وخذنها. ففعلن، فأخذنها. فقال معاوية: ما كان عليه لو لم يفعل هذا. فأمر لمروان بن
الحكم بمئة ألف، فذهب بها إليه فقسم خمسين ألفاً وحبس خمسين ألفاً، وأمر لعبد الله بن عمر بمئة ألف، فقسم تسعين ألفاً وحبس عشرة آلاف فقال معاوية: مقتصد يحب الاقتصاد. وأمر لعبد الله بن الزبير بمئة ألف، فذهب بها إليه الرسول فقال: من أمرك أن تجيء بها بالنهار؟ ألا جئت بها بالليل. فبلغت معاوية فقال: خب ضب، كأنك به قد رفع ذنبه فقطع.
وكان الحسن والحسين رضي الله عنهما يقبلان جوائز معاوية.
كان لعبد الله بن جعفر من معاوية ألف ألف في كل عام ومئة حاجة، يختم معاوية على أصل الأديم ثم يقول: اكتب يا بن جعفر ما بدا لك فقضى عاماً حوائجه وبقيت حاجة لأهل الحجاز. وقدم أصبهبذ سجستان يطلب إلى معاوية أن يملكه سجستان ويعطي من قضاء حاجته ألف ألف درهم، وعند معاوية يومئذ وفد العراق: الأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومالك بن مسمع، فأتاهم الأصبهبذ فقال له الأحنف: أيسرك أن نغرك؟ قال: لا. قال: فإنا لسنا بأصحابك، ولكن ائت عبد الله بن جعفر، فإن كان بقي لك شيء من حوائجه جعله لك. فأتى ابن جعفر فذكر له حاجته. فقال: بقيت لي حاجة كانت لغيرك، فأما إذ قصدتني فهي لك. ودخل ابن جعفر على معاوية يودعه فقال: بقيت لي حاجة كنت جعلتها لأهل الحجاز فعرض فيها أصبهبذ سجستان، فأنا أحب أن تملكه. فقال معاوية: إنه يعطى على حاجته هذه ألف ألف درهم. قال أبن جعفر: فذاك أحرى أن تقضيها. فقال: قد قضيت حاجتك؛ يا سعد! اكتب له عهده على سجستان. فكتب له عهده، فأخذه ابن جعفر والدهقان على الباب ينتظر ابن جعفر، فخرج فأعطاه العهد، فحمل له الأصبهبذ إليه من غد ألف ألف درهم وسجد له، فقال له ابن جعفر: اسجد لله عز وجل، واحمل هذا المال إلى رحلك، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف بالمن. فبلغ معاوية فقال: لأن يكون يزيد قالها
أحب إلي من خراج العراق! أبت بنو هاشم إلا كرماً. فقال ابن الزبير الأسدي: من الوافر
تواكل حاجة الدهقان قوم ... هم الشفعاء من أهل العراق
الأحنف وابن مسمع والمنادى ... به حين النفوس لدى التراقي
وكان المنذر المأمول منهم ... وليس الدلو إلا بالعراق
وقد أعطي عليها ألف ألف ... بنجح قضائها قبل الفراق
فقالوا لا نطيق لها قضاء ... وليس لها سوى الضخم السياق
فدونكها ابن جعفر فارتصدها ... وقد بقى من الحاجات باق
فقد أدركت ما أملت منه ... فراح بنجحها رخو الخناق
وجاء المرزبان بألف ألف ... فما زلت بصاحبنا المراقي
فقال خدبها إنا أناس ... نرى الأموال كالماء المراق
ولسنا نتبع المعروف منا ... ولا نبغي به ثمن المذاق
كان لعبد الله بن جعفر من معاوية في كل سنة ألف ألف، فاجتمع عليه خمس مئة ألف دينار، فألح عليه غرماؤه فيها فاستأجلهم إلى أن يرحل إلى معاوية فأجلوه، فرحل إليه فمر بالمدينة على ابن الزبير فقال له: إلى أين؟ قال: أردت أمير المؤمنين يصل قرابتي ويقضي ديني. قال: لتجدنه متعبساً. فقال: بالله الثقة وعليه التوكل. فقال له ابن الزبير: هل لك في صاحب صدق؟ فقال: بالرحب والسعة. فرحلا جميعاً، فاستشرف أهل الشام عبد الله بن جعفر فقالوا: قدم ابن جعفر في غير وقته. فلما وصل استأذن على معاوية فأذن له، وأجلسه عن يمينه، ثم أذن لابن الزبير فأجلسه عن يمين ابن جعفر فساءله فأنعم السؤال ثم قال: ما أقدمك يا بن جعفر؟ قال: يا أمير المؤمنين
تصل قرابتي وتقضي ديني. قال: وما دينك؟ قال: خمس مئة ألف. قال: قد فعلت. فأقبل عبد الله بن جعفر على ابن الزبير فقال: من الطويل
لعمرك ما ألفيته متعبساً ... ولا ماله دون الصديق حراماً
إذا ما ملمات الأمور احتوينه ... يفرج عنها كالهلال حسما
فقال معاوية: كأنك مررت بابن الزبير فقال لك: أين تريد؟ فقلت: أمير المؤمنين يصل قرابتي ويقضي ديني، فقال لك لتجدنه متعبساً! فقال ابن جعفر: لا تظن إلا الخير يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: يا ابن جعفر! من الكامل
إني سمعت مع الصباح منادياً ... يا من يعين لما جد معوان
طلب المروءة بالمروءة كلها ... حتى تحلق قي ذرى البنيان
ما أقدمك يا بن الزبير؟ قال: يا أمير المؤمنين! تصل قرابتي وتقضي ديني. قال: وما دينك؟ قال: مئة ألف. قال: قد فعلت. ثم نهضا لقبضها فقال معاوية: يا بن جعفر، إن الألف ألف تأتيك لوقتها.
قال ابن عباس لمعاوية: لا يخزيني الله ولا يسوؤني ما أبقى الله أمير المؤمنين. فأعطاه ألف ألف رقة وعروضاً وأشياء، وقال: خذها فاقسمها في أهلك.
وعن قتادة قال: قال معاوية: واعجباً للحسن! شرب شربة من عسل يمانية بماء رومة فقضى نحبه! ثم قال لابن عباس: لا يخزيك الله ولا يسوؤك، ولا يخزيك في الحسن.
فقال: أما ما أبقى الله لي أمير المؤمنين، فلن يسوءني الله، ولن يخزيني. فأعطاه ألف ألف ما بين عروض وعين. فقال: اقسم هذا في أهلك.
قال عبد الله بن جعفر: كنت مع معاوية في خضراء دمشق، إذ طلعت رؤوس إبل من نقب المدينة فقال: مرحباً وأهلاً بفتيان من قريش، أنفقوا أموالهم في مروآتهم وأدنوا فيها، ثم قالوا: نأتي أمير المؤمنين فيخلف لنا أموالنا، ويقضي عنا ديوننا. والله لا يحلون عنده حتى يرجعوا بجميع ما سألوا. قال: فدخلوا على معاوية وأنيخت ركابهم، فخرجوا من عنده بحوائجهم حتى عادوا إلى ظهور رواحلهم منصرفين إلى أوطانهم.
ثم شهدت عبد الملك بن مروان في تيك الخضراء، إذ طلعت رؤوس إبل من نقب المدينة، فقال عبد الملك: لا مرحباً ولا سهلاً، فتيان من فتيان المدينة، أنفقوا أموالهم وأدانوا فيها. فقالوا: نأتي أمير المؤمنين فيقضي عنا ديوننا، ويقرعنا للذاتنا. والله لا يحلون عنده حتى يرجعوا كما جاؤوا. قال: ثم أمر بهم فنخس بهم. قال: فعجبت لتباعد الأمرين مع قربهما.
قيل لمعاوية: أيكم كان أشرف، أنتم أو بنو هاشم؟ قال: كنا أكثر أشرافاً وكانوا أشرف واحداً، لم يكن في بني عبد مناف مثل هاشم، فلما هلك كنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، وكان فيهم عبد المطلب، ولم يكن فينا مثله، فصرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، وما كان إلا كقرار العين، حتى جاء شيء لم يسمع الأولون بمثله ولا يسمع الآخرون بمثله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن مجالد بن سعيد أنه قال: رحم الله معاوية، ما كان أشد حبه للعرب! وعن ابن عباس:
أن عمرو بن العاص قال لمعاوية بن أبي سفيان: رأيت فيما يرى النائم أبا بكر كئيباً حزيناً قد أخذ بضبعيه رجلان، قلت: بأبي أنت وأمي يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ما شأنك؟ أراك كئيباً حزيناً! قال: وكل بي هذان الرجلان ليحاسباني بما ترى. وإذا صحف ليس بالكثيرة، ورأيت عمر بن الخطاب كئيباً حزيناً، وقد أخذ بضبعيه رجلان، فقلت: بأبي وأمي أنت يا أمير المؤمنين! مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: وكل بي هذان الرجلان ليحاسباني بما ترى. وإذا صحف مثل الحزورة - جبيل ليس بالضخم - ثم رأيت عثمان بن عثمان كئيباً حزيناً، فقال: وكل بي هذان يحاسباني بما ترى. وإذا صحف مثل الخندمة - جبل إذا دخلت البطحاء عن يسارك - ورأيتك يا معاوية كئيباً حزيناً وقد أخذ بضبعيك رجلان قد ألجمك العرق، فقلت: بأبي وأمي يا أمير المؤمنين! مالي أراك كئيباً حزيناً؟ فقلت: وكل بي هذان ليحاسباني بما ترى.
وإذا صحف مثل أحد وثبير فقال معاوية: أما رأيت ثم دنانير مصر؟ قال العتبي: دخل عمرو بن العاص على معاوية وقد ورد عليه كتاب بعض ولاته فيه نعي رجل من السلف، فاسترجع معاوية فقال عمرو: من الوافر
يموت الصالحون وأنت حي ... تخطأك المنايا لا تموت
فقال معاوية: من الوافر
أترجو أن أموت وأنت حي ... فلست بميت حتى تموت
انحدر عبد الله وعمرو ابنا عتبة إلى البصرة، فلقيا معاوية بالكوفة قالا: فقال لنا: يا أبناء أخي اتقيا الله، فإنها تكفي من غيرها، واشتريا بالمعروف عرضكما من الأذى، وذللا ألسنتكما بالوعد، وصدقاها منكما بالفعال، واعلما أن الطلب وإن قل أعظم من الحاجة قدراً وإن عظمت، واعلماً أن أغنى الناس من كثرت حسناته وأفقرهم من كثرت سيئاته، وأنه لا وجع أشد من الذنوب، وأن الدهر ليس بغافل عن من غفل.
قيل لابن السماك: أي الأعداء لا يحب أن يعود صديقاً؟ قال: من سبب عداوته النعمة؛ يعني الحاسد. ثم قال ابن السماك: قال معاوية: كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها.
قال معاوية: المروءة ترك اللذة، وعصيان الهوى.
وقال معاوية: المروءة في أربع: العفاف في الإسلام، واستصلاح المال، وحفظ الإخوان، وعون الجار.
وقال معاوية لبنيه: يا بني إنكم تجار قوم لا تجارة لهم غيركم، فلا يكون تجار أربح منكم، فإن أدنى ما يرجع به الخائب عنكم تخطئة ظنه فيكم.
كان عبد الصمد بن علي لا يخضب، فقيل له: لو خضبت؛ قال أتشبه بشيخ من بني عبد مناف، كان له شأن، فقيل له: علي؟ قال: لم أرد علياً، إنما عنيت معاوية، كان لا يخضب.
كان معاوية يقول الشعر، فلما ولي الخلافة أتاه أهله فقالوا: قد بلغت الغاية فما تصنع بالشعر؟ ثم ارتاح يوماً فقال: من الوافر
سرحت سفاهتي وأرحت حلمي ... وفي على تحملي اعتراض
على أني أجيب إذا دعتني ... إلى حاجاتها الحدق المراض
قال الشعبي: أول من خطب جالساً معاوية، حين كثر شحمه، وعظم بطنه.
وقال ميمون: أول من جلس على المنبر معاوية، واستأذن الناس في القعود، فأذنوا له.
قال إبراهيم: أول من جلس في الخطبة يوم الجمعة معاوية.
قال سعيد بن المسيب: أول من أذن وأقام يوم الفطر والنحر معاوية، ولم يكن قبل ذلك أذان ولا إقامة.
وعن أبي هريرة: أنه حدث خلاد بن رافع عن صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوصفها له، يكبر إذا سجد، وإذا رفع رأسه كصلاة الهاشميين. قال له خلاد: فمن أول من ترك ذلك؟ قال: معاوية.
وعن ابن شهاب قال: أول من أخذ الزكاة من الأعطية معاوية بن أبي سفيان.
وعن أبي كريب قال: تمتع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر، وأول من نهى عنها معاوية. يعني متعة الحج.
قالوا: ولم يكن للدور أبواب، كان أهل العراق وأهل مصر يأتون بقطراتهم، فيدخلون دور مكة فيربطون بها، وأول من بوب معاوية.
سئل الزهري عن أول من قضى: لا يرث المسلم الكافر؟ قال: مضت السنة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وعثمان، أن لا يرث المسلم
الكافر ولا الكافر المسلم؛ وكان معاوية أول من قضى بأن المسلم يرث الكافر، وأن الكافر لا يرث المسلم؛ ثم قضى بذلك بنو أمية بعد معاوية حتى كان عمر بن عبد العزيز، فراجع السنة الأولى، وقضى بأن لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ثم رد ذلك هشام بن عبد الملك إلى قضاء معاوية، وبنو أمية بعد.
وقال الزهري: كانت السنة الأولى أن دية المعاهد كدية المسلم، فكان معاوية أول من قصرها إلى نصف الدية، وأخذ نصف الدية لنفسه.
وقال ميمون: أول من وضع شرف العطاء فصيرها إلى عشرين ألفاً، وأول من قتل صبراً معاوية.
وعن البراء قال: مر أبو سفيان بن حرب برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعاوية خلفه، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قنة، وكان معاوية رجلاً مستهاً فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم عليك بصاحب الأسنة.
قال محمد بن كعب: إنا لجلوس مع البراء في مسجد الكوفة إذ دخل قاص، فجلس فقص، ثم دعا للخاصة والعامة، ثم دعا للخليفة، ومعاوية يومئذ الخليفة، فقلنا للبراء: يا أبا إبراهيم! دخل هذا فدعا للخاصة والعامة، ثم دعا لمعاوية فلم نسمعك قلت شيئاً! فقال: إنا شهدنا وغبتم، وعلمنا وجهلتم، إنا بينا نحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحنين إذ أقبلت امرأة حتى وقفت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: إن أبا سفيان وابنه معاوية أخذا بعيراً لي فغيباه علي. فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً إلى أبي سفيان بن حرب ومعاوية: أن ردا على المرأة بعيرها. فأرسلا: إنا والله ما أخذناه، وما ندري أين هو. فعاد إليها الرسول فقالا: والله
ما أخذناه وما ندري أين هو. فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى رأينا لوجهه ظلالاً ثم قال: انطلق إليهما فقل لهما: بل والله إنكما صاحباه، فأديا إلى المرأة بعيرها. فجاء الرسول إليهما وقد أناخا البعير وعقلاه فقالا: إنا والله ما أخذناه، ولكن طلبناه حتى أصبناه. فقال لهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهبا.
قال نبيح الغنزي: كنت عند أبي سعيد الخدري وهو متكئ، فذكرنا علياً ومعاوية، فتناول رجل معاوية، فاستوى جالساً ثم قال: كنا ننزل رفاقاً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنت في رفقة أبي بكر، فنزلنا على أهل أبيات - أو قال: بيت - قال: وفيهم امرأة حبلى، ومعنا رجل من أهل البادية، فقال لها البدوي: أيسرك أن تلدي غلاماً إن جعلت لي شاة؟ فولدت غلاماً فأعطته شاة، فسجع لها أساجيع، فذبحت الشاة وطبخت، فأكلنا منها ومعنا أبو بكر، فذكر أمر الشاة، فرأيت أبا بكر متبرزاً مستنتلاً يتقيأ، ثم أتي عمر بذلك الرجل البدوي يهجو الأنصار فقال عمر: لولا أن له صحبة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أدري ما نال فيها لكفيتكموه، ولكن له صحبة.
وعن الحسن قال: قلت: يا أبا سعيد! إن ناساً يشهدون على معاوية وذويه أنهم في النار! فقال: لعنهم الله، وما يدريهم أنهم في النار؟ وعن الزهري قال: سألت سعيد بن المسيب عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: اسمع يا زهري من مات محباً لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وشهد للعشرة بالجنة، وترحم على معاوية، كان حقيقاً على الله عز وجل أن لا يناقشه الحساب.
وعن ابن يزيد قال: ذكر معاوية عند حسن بن حي، فنالوا منه، فقال حسن: لو لم تكفوا عن
معاوية، ألا إنه كان من عمال عمر بن الخطاب، وقد كانت له برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصاهرة.
سئل ابن المبارك عن معاوية فقيل له: ما تقول فيه؟ قال: ما أقول في رجل قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمع الله لمن حمده. فقال معاوية من خلفه: ربنا ولك الحمد. فقيل له: ما تقول في معاوية؟ هو عندك أفضل أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير - أو أفضل - من عمر بن عبد العزيز.
سأل رجل المعافي بن عمران فقال: يا أبا مسعود! أين عمر بن عبد العزيز من معاوية؟ فغضب من ذلك غضباً شديداً وقال: لا يقاس بأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد! معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله عز وجل، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعوا لي أصحابي وأصهاري، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وفي رواية: فغضب وقال: يوم من معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز عمره. ثم التفت إليه فقال: تجعل رجلاً من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل رجل من التابعين! وفي رواية عن الفضل بن عنبسة: أنه سئل: معاوية أفضل أم عمر بن عبد العزيز؟ فعجب من ذلك وقال: سبحان اللهّ أأجعل من رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كمن لم يره؟! قالها ثلاثاً.
وقال عبد الله بن المبارك: معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إلى معاوية شزراً اتهمناه على القوم، أعني على أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
جاء رجل سفيان فقال: ما تقول في شتم معاوية؟ قال: متى عهدك بشتيمة فرعون؟ قال: ما خطر ببالي. قال: ففرعون أولى بالشتم.
قال الربيع بن نافع: معاوية ستر أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه.
وعن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسوء فاتهمه على الإسلام.
سئل أبو عبد الله عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص، أيقال له رافضي؟ قال: إنه لم يجتر عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما يبغض أحد أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وله داخلة سوء.
قال وكيع: معاوية بمنزلة حلقة الباب، من حركه اتهمناه على من فوقه.
قال جعدة بن هبيرة في مرضه الذي هلك فيه لعواده وجلسائه: إني قد أدركت ما لم تدركوا، وعلمت ما لم تعلموا، إنه سيكون بعد هذا أمراء - يعني معاوية - ليسوا من ضربائه، ولا من رجاله، ليس منهم إلا أصعر أو أبتر، حتى تقوم الساعة، ألا وإن السلطان سلطان الله، جعله الله، ليس أنتم جعلتموه، ألا وإن للراعي على الرعية حقاً، وللرعية على الراعي حقاً، فأدوا إليهم حقهم، وإن ظلموكم حقكم فكلوهم إلى الله، فإنكم وإياهم مختصمون يوم القيامة، وإن الخصم لصاحبه، الذي أدى الحق الذي عليه في الدنيا. ثم قرأ: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين، فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين، والوزن يومئذ القسط ".
قال أبو جعفر الرازي: وقع إلينا شيخ بخراسان ممن لقي بعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله يزيد النخوي عن آية من كتاب الله، فقرأ فلحن، فقال يزيد: تلحن؟! فقال: إني سمعت
الله عير بالذنب ولم أسمعه عير باللحن. فقال له يزيد: ما شهادتك على معاوية؟ قال: أنا على دين نوح " إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون ".
قال إبراهيم بن ميسرة: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية، فإنه ضربه أسواطاً.
قال محمد بن الحسن: بينما أنا فوق جبل الأسود بالشام ناحية البحر إذ هتف هاتف وهو يقول: من أبغض الصديق فذاك زنديق، من أبغض عمر إلى جهنم زمر، من أبغض عثمان فذاك خصمه الرحمان، من أبغض علياً فذاك خصمه النبي، من أبغض معاوية تسحبه الزبانية، إلى نار الله الحامية، في السر والعلانية، ويرمى به في الهاوية، هكذا جزاء الرافضة، احذروا سلم العشرة، ممن سبقوا إلى الله وإلى الرسول، فهم خيرة الله من خلقه.
قال الفقيه أبو طاهر الحسين بن منصور بن محمد بن يعقوب - وكان رجلاً سنياً شفعوياً، إلا أنه كان يتشيع قليلاً - قال: كنت أبغض معاوية وألعنه، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم كأنه دخل داري، وفي الدار حمام، دخل الحمام واغتسل، فلما خرج من الحمام ركب بغلة، وكان بين يديه رجل قائم أصفر اللون، فسلمت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: يا أبا طاهر لا تلعنه ولا تبغضه. قلت: من هو يا رسول الله؟ قال: هو معاوية بن أبي سفيان، أخي، كاتب الوحي.
قال محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب - وكان من الأبدال - قال:
رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم جالساً، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي جلوس معه،
ومعاوية قائم بين يديه، فأتي برجل، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! هذا يذكرنا وينتقصنا. فكأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهر الرجل - قال الحميدي: وكنت أعرف الرجل - فقال الرجل: أما هؤلاء فلا، ولكن هذا - يعني معاوية - فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويلك! أو ليس معاوية من أصحابي؟! ويلك أو ليس معاوية من أصحابي؟! - ثلاثاً - وفي يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حربة، فدفعها إلى معاوية وقال: جأ بهذه في لبته. فوجأ بها في لبته؛ وانتبهت، فبكرت إلي منزل الرجل، فإذا الذبحة قد طرقته ومات في الليل.
قال أبو عمرو: بلغني أن هذا الرجل راشد الكندي.
قال إبراهيم بن الأشعث: ما سمعت الفضيل قط ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح إلا بكى وتنفس، أو رئي فيه الحزن. وكان إذا ذكر علياً وعثمان دمعت عيناه وأكثر الترحم عليهما، وسمعته يترحم على معاوية ويقول: كان من العلماء الكبار، من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن ابتلي بحب الدنيا.
قال العتبي: قيل لمعاوية: أسرع إليك الشيب. فقال: كيف لا يسرع إلي الشيب، ولا أعدم رجلاً من العرب قائماً على رأسي، يلقح لي كلاماً يلزمني جوابه، فإن أنا أصبت لم أحمد وإن أنا أخطأت سارت به البرد.
وعن معاوية قال: لقد نتفت الشيب كذا وكذا سنة. وكان يخرج إلى مصلاه ورداؤه يحمل، فإذا دخل مصلاه جعل عليه، قال: وذاك من الكبر. ودخل عليه إنسان وهو يبكي فقال: ما يبكيك؟ قال: هذا الذي كنتم تمنون لي.
قال يزيد بن أبي زياد: خرج معاوية حاجاً، فاطلع في بئر عادية فأصابته اللقوة، فخرج على الناس معصباً وجهه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إن ابن آدم بعرض بلاء؛ إما معافى فيشكر، وإما مبتلى فيصبر، وإما معاقب بذنب؛ ولست أعتذر من إحدى ثلاث: إن ابتليت فقد ابتلي الصالحون قبلي، وآمل أن أكون منهم، ولئن عوفيت فلقد عوفي الخطاؤون قبلي، وما آمن أن أكون أحدهم، ولئن ابتليت في أحسني فما أحصي صحيحي وإما أن تكون عقوبة من ربي.
زاد في غيره: ولو كان الأمر إلى نفسي ما كان لي على ربي أكثر مما أعطاني، فأنا ابن بضع وستين، فرحم الله عبداً دعا لي بالعافية، فو الله لئن عتب علي بعض خاصتكم لقد كنت حدباً على عامتكم. قال: فعج الناس يدعون له، فبكى معاوية، فلما خرجوا من عنده قال له مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين! لم بكيت؟ قال: يا مروان! كبر سني، ودق عظمي، وابتليت في أحسن ما يبدو مني، وخشيت أن تكون عقوبة من ربي، ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي.
وعن عبادة بن نسي قال: خطبنا معاوية بالصنبرة، قال: لقد شهد معي صفين ثلاث مئة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما بقي منهم أحد غيري، وإنما ذلك فناء قربي، وإن فناء الرجل فناء قرنه. ثم ودعنا وصعد الثنية، فكان آخر العهد به.
ومن حديثين، عن عبادة بن نسي، وثمامة بن كلثوم: أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال: أيها الناس! إني من زرع قد استحصد، وقد طالت إمرتي عليكم حتى مللتموني ومللتكم، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي إلا من هو شر مني، كما كان من قبلي خيراً مني، وقد قيل: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحب لقائي؛ ويا يزيد! إذا وفى أجلي فول غسلي رجلاً لبيباً، فإن اللبيب من الله بمكان فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير، ثم اعمد إلى منديل في الخزانة، فيه ثوب من ثياب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقراضة من شعره وأظفاره، فاستودع القراضة أنفي وفمي وأذني وعيني، واجعل الثوب يلي جلدي دون أكفاني؛ ويا يزيد! احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي، ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين.
وفي رواية: وقطعوا تلك القلامة، واسحقوها واجعلوها في عيني، فعسى.
كان أبو هريرة يمشي في سوق المدينة وهو يقول: اللهم لا تدركني سنة الستين، ويحكم، تمسكوا بصدغي معاوية، اللهم لا تدركني إمارة الصبيان.
ولما احتضر معاوية جعل يقول: من الطويل
لعمري لقد عمرت في الملك برهة ... ودانت لي الدنيا بوقع البواتر
وأعطيت جم المال والحكم والنهى ... وسلم قماقيم الملوك الجبابر
فأضحى الذي قد كان مما يسرني ... كحلم مضى في المزمنات الغوابر
فيا ليتني لم أعن في الملك ساعة ... ولم أعن في لذات عيش نواضر
وكنت كذي طمرين عاش ببلغة ... من الدهر حتى زار ضنك المقابر
وتمثل وقد تعرى ورأى تحول جسمه وتغيره فقال: من مجزوء الرجز
أرى الليالي مسرعات النقض
حنين طولي وركبن بعضي
أقعدنني من بعد طول النهض
قال عمرو بن عتبة: لما اشتكى معاوية شكاته التي هلك فيها أرسل إلى أناس من بني أمية، فخص ولم يعم فقال: يا بني أمية! إنه لما قرب مالم يكن بعيداً وخفت إن يسبقكم الموت إلي سبقته بالموعظة إليكم، لا لأرد قدراً، ولكن لأبلغ عذراً؛ لو وزنت بالدنيا لرجحت بها، ولكني وزنت بالآخرة فرجحت بي، إن الذي أخلف لكم من الدنيا أمر ستشاركون فيه، أو تغلبون عليه، والذي أخلف عليكم من رأي أمر مقصور عليكم نفعه إن فعلتموه، مخوف عليكم ضرره إن ضيعتموه، فاجعلوا مكافأتي قبول وصيتي: إن قريشاً شاركتكم في نسبكم، وبنتم منها بفعالكم، فقدمكم ما تقدمتم فيه، إذ أخر غيركم ما تأخروا له، وبالله لقد جهر لي فعلمت، ونغم لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم نظري إلى آبائهم قبلهم، إن دولتكم ستطول، وكل طويل مملول وكل مملول مخذول، فإذا انقضت مدتكم كان أول
تخاذلكم فيما بينكم، واجتماع المختلفين عليكم، فيدبر الأمر بضد الحسن الذي أقبل به، فلست أذكر عظيماً يركب منه، ولا حرمة تنتهك إلا والذي أكف عن ذكره أعظم، فلا معول عليه عند ذلك أفضل من الصبر، وتوقع النصر، واحتساب الأجر فيما دكم القوم دولتهم، امتداد الغنانين في عنق الجواد، فإذا بلغ الله بالأمر أمده، وجاء الوقت المحتوم، كانت الولة كالإناء المكفو، فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتقه غيركم فيكم، فجعل العافية لكم والعافية للمتقين.
ولما احتضر معاوية أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال، كأنه أراد أن يطيب له، لأن عمر بن الخطاب قاسم عماله.
ولما كبر معاوية خرجت به قرحة في ظهره، فكان إذا لبس دثاراً ثقيلاً - والشام أرض باردة - أثقله ذلك وغمه، فقال: اصنعوا لي دثاراً خفيفاً دفياً من هذه السخال، فصنع له، فلما ألقي عليه سار إليه ساعة ثم غمه فقال: جافوه عني. ثم لبسه ثم غمه، فألقاه، ففعل ذلك مراراً ثم قال: قبحك الله من دار، ملكتك أربعين سنة، عشرين خليفة، وعشرين إمارة، ثم صيرتني إلى ما أرى! قبحك الله من دار.
وقيل: إنه أصابته قرة شديدة في مرضه، فألقي عليه ثوب حواصل، فأدفأه، وخف عليه فما لبث أن ثقل عليه فقال ما قال.
دخل عمرو بن سعيد على معاوية في مرضه الذي مات فيه فقال: يا أمير
المؤمنين! ما رأيت أحداً من أهل بيتك في مثل حالك إلا مات. فقال معاوية: من الوافر
فإن المرء لم يخلق حديداً ... ولا هضباً توقله الوبار
ولكن كالشهاب يرى ويخبو ... وحادي الموت عنه ما يحار
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
قال عبد الملك بن عمير: لما ثقل معاوية، وتحدث الناس أنه بالموت قال لأهله: احشوا عيني إثمداً، وأوسعوا رأسي دهناً، ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له، فجلس فقال: أسندوني. ثم قال: ائذنوا للناس فليسلموا قياماً ولا يجلس أحد. فجعل الرجل يدخل فيسلم قائماً، فرآه متكحلاً متدهناً فيقول الناس: هو لما به، وهو أصح الناس! فلما خرجوا من عنده قال معاوية: من الكامل
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لاتنفع
قال: وكان به النفاثة، فمات من يومه ذلك.
ولما مرض معاوية أخرج يديه كأنهما عسيبا نخل فقال: هل الدنيا إلا ما ذقنا وجربنا؟ والله لوددت أني لم أغبر فيكم إلا ثلاثاً ثم ألحق بالله عز وجل. قالوا: يا أمير المؤمنين! إلى رحمة الله ورضوانه. فقال معاوية: إلى ما شاء الله من قضاء قضاه لي، قد يعلم الله أني لم آل. ولو أراد أن يغير لغير.
قال محمد بن عقبة:
كان معاوية أميراً عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة، فلما نزل به الموت قال: ليتني كنت رجلاً من قريش بذي طوى وأني لم أل من هذا الأمر شيئاً.
قال أبو السائب المخزومي: لما حضرت معاوية الوفاة تمثل: من الخفيف
إن تناقش يكن نقاشك يا رب ... ب عذاباً لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز تجاوز العفو فاصفح ... عن مسيء ذنوبه كالتراب
قال أبو عبد الله بن المنادر: تمثل معاوية عند الموت: من المنسرح
لو فات شيء يرى لفات أبو ... حيان لا عاجز ولا وكل
الحول القلب الأريب ولا ... يدفع ريب المنية الحيل
وعن عوانة قال: لما حضرت معاوية الوفاة احتوشه أهله فقال لهم وهم يقلبونه: إنكم لتقلبون أمراً حولاً قلباً إن نجا من النار غداً. ثم قال: من البسيط:
لقد جمعت لكم من جمع ذي نشب ... وقد كفيتكم الترحال والنصبا
وقال أبو بردة: قال معاوية وهو يقلب في مرضه، وقد صار كأنه سعفة محترقة: أي شيخ تقلبون إن نجاه الله من النار غداً.
وفي رواية: إن وقي كبة النار.
قال ابن الأعرابي: تقدم رجلان إلى معاوية فادعى أحدهما على صاحبه مالاً، وكان المدعى قبله حولاً قلباً مخلطاً مزيلاً، فأنشأ معاوية يقول: من البسيط
أنى أتيح لها حرباء تنضبة ... لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا
ثم دعا بمال، فأعطى المدعي وفرق بينهما.
قال محمد بن سيرين: لما مرض معاوية نزل عن السرير، فكشف ما بينه وبين الأرض، وجعل يلزق ذا الخد مرة بالأرض، وذا الخد مرة بالأرض، ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك الكريم: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فاجعلني ممن تشاء أن تغفر لهم.
ولما حضر معاوية الموت تمثل: من الطويل
هو الموت لا منجى من الموت والذي ... أحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة وعد بحلمك على من لا يرجو غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس من خطيئة مهرب إلا إليك.
قال ابن عباس: ولما احتضر معاوية قال: يا بني! إني كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصفا، وإني دعوت بمشقص، فأخذت من شعره وهو في موضع كذا وكذا، فإذا أنا مت فخذ ذلك الشعر، فاحشوا به فمي ومنخري. قالوا: ولما قال ذلك تمثلت ابنته: من الطويل
إذا مت مات الجود وانقطع الندى ... من الناس إلا من قليل مصرد
وردت أكف السائلين وأمسكوا ... من الدين والدنيا بخلف مجدد
كلا يا أمير المؤمنين، يدفع الله عنك. فقال معاوية متمثلا: من الكامل
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
ثم أغمي عليه، ثم أفاق، فقال لمن حضره من أهله: اتقوا الله فإن الله يقي من اتقاه، ولا تقى لمن لا يتقي الله. ثم قضى رحمه الله.
قال مكحول: لما حضرت معاوية الوفاة جمع بنيه وولده ثم قال لأم ولد له: أريني الوديعة التي استودعتك إياها. قال: فجاءت بسفط مختوم، مقفلاً عليه، قال: فظننا أن فيه جوهراً، فقال: إنما كنت أدخر هذا لهذا اليوم. ثم قال: افتحيه. ففتحته فإذا منديل عليه ثلاثة أثواب فقال: هذا قميص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كساني، وهذا رداء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كساني لما قدم من حجة الوداع. قال: ثم مكثت بعد ذلك ملياً ثم قلت: يا رسول الله! اكسني هذا الإزار الذي عليك. قال: إذا ذهبت إلى البيت أرسلت به إليك يا معاوية. قال: ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل به إلي، ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الحجام، فأخذ من شعره ولحيته فقلت: يا رسول الله هب لي هذا الشعر. قال: خذه يا معاوية. فهو مصرور في طرف الرداء، فإذا أنا مت، فكفنوني في قميص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدرجوني في ردائه وأزروني بإزاره، وخذوا من شعر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاحشوا به شدقي ومنخري وذروا سائره على صدري، وخلوا بيني وبين رحمة أرحم الراحمين.
وعن الشافعي قال: كان يزيد في بعض المواضع، فجاءه الرسول بمرض معاوية، فركب وهو يقول: من البسيط
جاء البريد بقرطاس يخب به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
وقال: إنه حضر ودخل إلى معاوية وهو مغمور.
قالوا: والصحيح أن يزيد لم يدركه حياً وإنما جاء بعد موته.
ولما مات معاوية أخرجت أكفانه فوضعت على المنبر، ثم قام الضحاك بن قيس الفهري خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أمير المؤمنين معاوية كان في جد العرب، وعوذ العرب؛ وحد العرب، قطع الله به الفتنة وملكه على العباد، وسير جنوده في البر والبحر، وبسط به الدنيا، وكان عبداً من عبيد الله، دعاه الله فأجابه، فقد قضى نحبه رحمة الله عليه، وهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره، ومخلوه وعمله فيما بينه وبين ربه، إن شاء رحمه، وإن شاء عذبه، ثم هو الهرج إلى يوم القيامة، فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضره، فإنا رائحون به. وصلى عليه الضحاك بن قيس الفهري، وكان يزيد غائباً حين مات معاوية بحوارين، فلما ثقل معاوية أرسل إليه الضحاك، فقدم وقد مات معاوية ودفن، فلم يأت منزله حتى أتى قبره، فصلى عليه ودعا له، ثم أتى منزله فقال: من البسيط
جاء البريد بقرطاس يخب به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم ... قالوا الخليفة أمسى مثبتاً وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأن أعين من أركانها انقلعا
لما انتهينا وباب الدار منصفق ... لصوت رملة ريع القلب فانصدعا
من لا تزل نفسه توفي على شرف ... توشك مقادير تلك النفس أن تقعا
أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه ... كانا تكونا جميعاً قاطنين معاً
أغر أبلج يستسقي الغمام به ... لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا
وما أبالي إذا أدركن مهجته ... ما مات منهن بالبيداء أو ظلعا
ثم خطب يزيد الناس فقال: إن معاوية كان عبداً من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضع الله، وهو خير ممن بعده، ودون من قبله، ولا أزكيه على الله، هو أعلم به، إن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وقد وليت الأمر من بعده، ولست آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئاً كان. اذكروا الله واستغفروه. فقال أبو الورد العنبري يرثي معاوية: من الوافر
ألا أنعى معاوية بن حرب ... نعاة الحل للشهر الحرام
نعاه الناعجات بكل فج ... خواضع في الأزمة كالسهام
فهاتيك النجوم وهن خرس ... ينحن على معاوية الشآمي
وقال أيمن بن خريم: من الوافر
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا
ورد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سودا
فإنك لو شهدت بكاء هند ... ورملة إذ يصفقن الخدودا
بكيت بكاء معولة قريح ... أصاب الدهر واحدها الفريدا
قال سعيد بن حريث: لما كان الغداة التي مات معاوية في ليلتها فزع الناس إلى المسجد، ولم يكن خليفة قبله في الشام غيره، فلما ارتفع النهار وهم يبكون في الخضراء، وابنه يزيد غائب في البرية، وهو ولي عهده، وكان خليفته على دمشق الضحاك بن قيس إذ قعقع باب النحاس الذي يخرج إلى المسجد من الخضراء، فدلف الناس إلى المقصورة، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا رجل على يده اليسرى ثياب ملفوفة، فإذا هو الضحاك بن قيس، فاتكأ على المنبر بيده اليسرى، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إني قائل لكم قولاً، فرحم الله امرأ وعى ما سمع مني، تعلمون أن معاوية كان حد العرب، مكن الله له في البر والبحر، وأذاقكم معه الخفض والطمأنينة، ولذاذة العيش - وأهوى بيده إلى فيه - وإنه هلك رحمه الله وهذه أكفانه على يدي ونحن مدرجوه فيها ودافنوه وإياها، ثم هي البلايا والملاحم والفتن، وما توعدون إلى يوم القيامة.
ثم دخل الخضراء، فلم يخرج إلا لصلاة الظهر، فصلى ثم أخرجوا جنازة معاوية،
فدفنوه، فلبثنا حتى كان مثل يوم الجمعة، فبلغنا أن ابن الزبير خرج بالمدينة وحارب، وكان معاوية قد غشي عليه قبل ذلك غشية، فركب به الركبان، فلما بلغ ذلك ابن الزبير خرج، ثم كان مثل ذلك اليوم الجمعة المقبلة صلى بنا الضحاك بن قيس الظهر، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعلمون أن خليفتكم يزيد بن معاوية، قد أظلكم، ونحن خارجون غداً وملتقوه، فمن أحب أن يتلقاه معنا فعل.
فركبنا الصبح، وسار إلى ثنية العقاب، وما بين باب توما وبين ثنية العقاب بيت مبني بقرى إلى قرى العجم، فلما صعدنا في ثنية العقاب إذا بأثقال يزيد قد تحدرت في الثنية، ثم سرنا غير كثير، فإذا يزيد في ركب من أخواله من كلب، وهو على بختي له رحل ورائطة مثنية في عنقه، ليس عليه سيف ولا عمامة، وكان رجلاً كثير اللحم، عظيم الجسم، كثير الشحم، كثير الشعر، وقد أجفل شعره وشعث، فسلم الناس عليه وعزوه، ودنا منه الضحاك بن قيس بين أيديهم فليس منا أحد يتبين كلامه، إلا أنا نرى فيه الكآبة والحزن وخفض الصوت، والناس يعيبون منه ذلك ويقولون: هذا الأعرابي الذي ولاه أمر الناس، والله سائله عنه! وسار مقبلاً إلى دمشق فقلنا: يدخل من باب توما، حتى دنا منها فلم يفعل، ومضى مع الحائط إلى باب الشرقي، فقال الناس: يدخل من باب الشرقي، فإنه باب خالد بن الوليد الذي دخل منه حين فتح. فلما دنا من الباب أجازه إلى باب كيسان، ثم أجاز باب كيسان إلى باب الصغير، فلما وافى الباب رمى بزمام بختيته فاستناخ ثم تورك فبرك، ونزل الضحاك بن قيس، ومضى يمشي بين يديه إلى قبر معاوية، فصلى عليه وصففنا خلفه، وكبر أربعاً ثم أمر بنعليه حين خرج من المقابر فركبها حتى أتى الخضراء ثم أذن المؤذن الصلاة جامعة، لصلاة الظهر، وقد اغتسل ولبس ثياباً نقية وجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر موت معاوية قال: إن
معاوية كان يغزيكم البر والبحر، ولست حاملاً أحداً من المسلمين في البحر؛ وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتياً أحداً من المسلمين بأرض الروم؛ وإن معاوية كان يخرج لكم العطايا أثلاثاً، وأنا أجمعه لكم كله. قال: فافترقوا وما يفضلون عليه أحداً.
وقف مروان بن الحكم على قبر معاوية فقال: رحمك الله يا أبا عبد الرحمن! أكل على مائدته وأطعم عليها أربعين سنة، عشرين أميراً وعشرين خليفة ثم قال: من الطويل
وما الدهر والأيام إلا كما أرى ... رزية مال أو فراق حبيب
فلا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
دخل علي بن عبد الله بن عباس على عبد الملك بن مروان في يوم بارد وبين يديه وقود قد ألقي عليه عود مقد دخن، فقال عبد الملك: ها هنا، إلي يا أبا محمد! فأجلسه معه فقال علي: احمد الله يا أمير المؤمنين فيما أنت فيه من الإدفاء، والناس فيما هم فيه من شدة البرد - وفي رواية: وهو في فرش قد كاد يغيب فيها - فقال: يا أبا محمد! أبعد ابن هند بالشام أربعين سنة أميراً وخليفة أمسى يهتز على قبره ينبوتة؟! ثم دعا بالغداء فتغديا جميعاً.
وفي رواية: ثم هو ذاك على قبره ثمامة نابتة، وكانت خلافة معاوية عشرين سنة إلا أشهر.
ودفن بين باب الجابية وباب الصغير.
وكان محارباً لأهل العراق خمس سنين، وهلك وهو ابن ثمان وسبعين سنة، ومات سنة ستين.
توفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعشر سنين من التاريخ، وولي أبو بكر رضي الله عنه سنتين وأشهراً، وولي عمر رضي الله عنه عشر سنين وأشهراً، وولي عثمان رضي الله عنه ثنتي عشرة سنة، وكانت الفتنة لخمس سنين، وملك معاوية عشرين سنة.
خطب معاوية فقال: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وعمر وهو ابن ثلاث وستين، وأنا ابن ثلاث وستين.
ولكنه عمر بعد هذا حتى بلغ الثمانين، وقد قيل: إنه توفي ابن اثنتين وثمانين سنة.
جاء نعي معاوية إلى ابن عباس والمائدة بين يديه فقال لغلامه: ارفع، ارفع. ثم قال: اللهم أنت أوسع لمعاوية. ثم قال: خير ممن يكون بعده، وشر ممن كان قبله. ثم قال: من الكامل
جبل تزعزع ثم مال بجمعه ... في البحر لارتقت عليك الأبحر
ولما نعي معاوية قال عبد الله بن الزبير: ذهب والله عز بني أمية، كان والله كما قال الشاعر: من المتقارب
ركوب المنابر ذو همة ... معن بخطبته مجهر
تثوب إليه هوادي الكلام ... إذا ضل خطبته المهمر
وقيل: إن ابن الزبير لما بلغه خطب فقال: رحم الله ابن هند، لوددت أنه بقي لنا ما بقي من أبي قبيس حجر، على مثل ما فارقنا عليه، كان كما قال بطحاء العذري:
ركوب المنابر ذو همة ... معن بخطبته مجهر
تثوب إليه هوادي الكلام ... إذا ضل خطبته المهمر
ولد معاوية بمكة في دار أبي سفيان، وقيل: في دار عتبة بن ربيعة.