مُحَمَّد بْن القاسم بْن مُحَمَّد بْن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة ابن فروة بن قطن بن دعامة، أبو بكر بن الأنباري النحوي :
كان من أعلم الناس بالنحو والأدب، وأكثرهم حفظا، ولد في يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة إحدى وسبعين ومائتين. حدثت بذلك عن إسماعيل ابن سعيد بن سويد عنه. وسمع إسماعيل بن إسحاق القاضي، وأحمد بن الهيثم بن خالد البزاز ومحمد بن يونس الكديمي، وأبا العباس ثعلبا، ومحمد بن أحمد بن النضر، وغيرهم من هذه الطبقة.
وكان صدوقا فاضلا دينا خيرا من أهل السنة، وصنف كتبا كثيرة في علوم القرآن، وغريب الحديث، والمشكل، والوقف، والابتداء، والرد على من خالف مصحف العامة.
روى عنه أَبُو عُمَر بْن حيويه، وأبو الحسين بن البواب، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو الفضل بن المأمون، وأحمد بن محمد بن الجراح، ومُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَخِي ميمي، وغيرهم. وبلغني أنه كتب عنه وأبوه حي، وكان يملى في ناحية من المسجد وأبوه في ناحية أخرى.
وَقَالَ أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي: كان أبو بكر بن الأنباريّ يحفظ فيما ذكر ثلاثمائة ألف بيت شاهد في القرآن.
حَدَّثَنِي علي بْن أَبِي علي البصري عَن أَبِيهِ قَالَ أَخْبَرَنِي غير واحد ممن شاهد أبا بكر محمّد بن القاسم بن الأنباري يملى من حفظه لا من كتاب وأن عادته في كل ما كتب عنه من العلم كانت هكذا، ما أملى قط من دفتر.
سمعت حمزة بْن مُحَمَّد بْن طاهر الدقاق يَقُولُ: كان أبو بكر بن الأنباري يملى كتبه المصنفة ومجالسه المشتملة على الحديث والأخبار، والتفاسير والأشعار، كل ذلك من حفظه.
قَالَ حمزة وَحَدَّثَنِي أبي عن جدي أن أبا بكر بن الأنباري مرض، فدخل عليه أصحابه يعودونه، فرأوا من انزعاج أبيه وقلقه عليه أمرا عظيما، فطيبوا نفسه ورجوا [له] عافيه أبي بكر، فقال لهم: كيف لا أقلق وأنزعج لعلة من يحفظ جميع ما تروون- وأشار لهم إلى حيري مملوء كتبا- قَالَ حمزة: وكان مع حفظه زاهدا متواضعا، حكى أبو الحسن الدارقطني أنه حضره في مجلس أملاه يوم الجمعة فصحف اسما أورده في إسناد حديث، إما كان حبان، فقال حيان، أو حيان فقال حبان. قَالَ أبو الحسن: فأعظمت أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته، وهم وهبته أن أوقفه على ذلك، فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى المستملي وذكرت له وهمه، وعرفته صواب القول فيه، وانصرفت، ثم حضرت الجمعة الثانية مجلسه فقال أبو بكر المستملي: عرف جماعة الحاضرين أنا صحفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية،
ونبهنا ذلك الشاب على الصواب، وهو كذا، وعرف ذلك الشاب، أنا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قَالَ.
أَخْبَرَنِي علي بن المحسن القاضي حَدَّثَنَا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المعدل قَالَ سمعت أبا جعفر مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْنِ عَبْد الله المقرئ يقول: قال لي أحمد ابن محمد بن يوسف الأصبهاني- وهو ابن أختي: رأيت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النوم فقلت:
يا رسول الله! عمن آخذ علم القرآن؟ فقال: «عن أبي بكر بن الأنباري» قلت:
فالفقه؟ قَالَ: «عن أبي إسحاق المروزيّ»
. أَنْبَأَنَا الْقَاضِي أَبُو الْعَلاءِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يعقوب الواسطي قَالَ قَالَ محمد بن جعفر التميمي النحوي: فأما أبو بكر محمد بن القاسم [بن] الأنباري فما رأينا أحفظ منه ولا أغزر بحرا من علمه، وَحَدَّثَنِي عنه أبو الحسن العروضي. قَالَ:
اجتمعت أنا وهو عند الراضي على الطعام- وكان قد عرف الطباخ ما يأكل أبو بكر فكان يسوى له قلية يابسة. قَالَ: فأكلنا نحن من ألوان الطعام وأطيابه وهو يعالج تلك القلية، ثم فرغنا وأتينا بحلواء فلم يأكل منها وقام وقمنا إلى الخيش فنام بين الخيشين، ونمنا نحن في خيش ينافس فيه، ولم يشرب ماء إلى العصر، فلما كان مع العصر قَالَ لغلام: الوظيفة. فجاءه بماء من الحِبِّ، وترك الماء المُزَمَّل بالثلج، فغاظني أمره فصحت بصيحة، فأمر أمير المؤمنين بإحضاري. وَقَالَ: ما قصتك؟ فأخبرته، وقلت: هذا يا أمير المؤمنين يحتاج إلى أن يحال بينه وبين تدبير نفسه، لأنه يقتلها، ولا يحسن عشرتها.
قَالَ: فضحك وَقَالَ له: في هذا لذة، وقد جرت به العادة، وصار إلفا فلن يضره. ثم قلت: يا أبا بكر! لم تفعل هذا بنفسك؟ قَالَ أبقى على حفظي. قلت له: قد أكثر الناس في حفظك! فكم تحفظ؟ قَالَ: أحفظ ثلاثة عشر صندوقا.
قَالَ محمد بن جعفر: وهذا ما لا يحفظ لأحد قبله ولا بعده، وكان أحفظ الناس للغة، ونحو، وشعر، وتفسير قرآن.
فحُدِّثْت أنه كان يحفظ عشرين ومائة تفسير من تفاسير القرآن بأسانيدها.
وَقَالَ لنا أبو العباس بن يونس: كان آية من آيات الله في الحفظ.
وَقَالَ لنا أبو الحسن العروضي: كان يتردد ابن الأنباري إلى أولاد الراضي، فكان
يوما من الأيام قد سألته جارية عن شيء من تفسير الرؤيا، فقال: أنا حاقن ثم مضى، فلما كان من غد: عاد وقد صار معبرا للرؤيا، وذاك أنه مضى من يومه فدرس كتاب الكرماني وجاء. قَالَ: وكان يأخذ الرطب يشمه ويقول: أما إنك لطيب، ولكن أطيب منك حفظ ما وهب الله لي من العلم.
قَالَ محمد بن جعفر: ومات ابن الأنباري فلم نجد من تصنيفه إلا شيئا يسيرا، وذاك أنه إنما كان يملي من حفظه، وقد أملي كتاب غريب الحديث، قيل إنه خمس وأربعون ألف ورقة، وكتاب شرح الكافي وهو نحو ألف ورقة، وكتاب الهاءات، نحو ألف ورقة، وكتاب الأضداد- وما رأيت أكبر منه- وكتاب المشكل أملاه وبلغ إلى طه
وما أتمة وقد أملاه سنين كثيرة، والجاهليات، سبعمائة ورقة، والمذكر والمؤنث ما عمل أحد أتم منه، وعمل رسالة المشكل ردا على ابن قتيبة وأبي حاتم ونقضا لقولهما، وحُدِّثْتُ عنه أنه مضى يوما في النخاسين وجارية تُعرض حسنة كاملة الوصف، قَالَ: فوقعت في قلبي ثم مضيت إلى أمير المؤمنين الراضي فقال لي: أين كنت إلى الساعة؟ فعرفته، فأمر بعض أسبابه فمضى فاشتراها وحملها إلى منزلي، فجئت فوجدتها، فعلمت الأمر كيف جرى فقلت لها: كوني فوق إلى أن أستبرئك، وكنت أطلب مسألة قد أحيلت علي فاشتغل قلبي، فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاس فليس قدرها أن تشغل قلبي عن علمي، فأخذها الغلام، فقالت: دعني أكلمه بحرفين! فقالت: أنت رجل لك محل وعقل، وإذا أخرجتني ولم تعين لي ذنبي لم آمن أن يظن الناس في ظنا قبيحا، فعرفنيه قبل أن تخرجني. فقلت لها: مالك عندي عيب غير أنك شغلتني عن علمي! فقالت: هذا أسهل عندي. قَالَ فبلغ الراضي أمره فقال: لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحد أحلى منه في صدر هذا الرجل. ولما وقع في علة الموت أكل كل شيء كان يشتهى، وَقَالَ: هي علة الموت.
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عبد الله النحوي المؤدب- مذاكرة من حفظه- قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ سمعت أبا بكر بن الأنباري يقول: دخلت البيمارستان بباب المحول فسمعت صوت رجل في بعض البيوت يقرأ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
[العنكبوت 19] فقال: أنا لا أقف إلا على قوله: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ
فأقف على ما عرفه القوم وأقروا به، لأنهم لم يكونوا يقرون بإعادة الخلق، وابتدئ بقوله: ثُمَّ يُعِيدُهُ*
فيكون خبرا، وأما ما قرأه علي بن أبي طالب: وَادَّكَرَ بَعْدَ
أُمَّةٍ
[يوسف 45] فهو وجه حسن، الأمة النسيان. وأما أبو بكر بن مجاهد فهو إمام في القراءة، وأما ما قرأه الحمق- يعني ابن شنبوذ- إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
[المائدة 118] فخطأ، لأن الله تعالى قد قطع لهم بالعذاب في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ*
[النساء 48] قَالَ: فقلت لصاحب البيمارستان: من هذا الرجل؟ فقال: هذا إبراهيم بن الموسوس محبوس.
فقلت: ويحك هذا أبي بن كعب! افتح الباب عنه، ففتح الباب فإذا أنا برجل منغمس في النجاسة، والأدهم في قدميه، فقلت: السلام عليكم. فقال: كلمة مقولة، فقلت: ما منعك من رد السلام علي؟ فقال: السلام أمان وإني أريد أن أمتحنك، ألست تذكر اجتماعنا عند أبي العباس- يعني ثعلبا- يوم كذا في شهر كذا وعرفني ما ذكرته فعرفته، وإذا به رجل من أفاضل أهل العلم. فقال لي: هذا الذي تراني منغمسا فيه ما هو؟ فقلت الخرء يا هذا. فقال: وما جمعه؟ فقلت خروء. فقال لي صدقت.
وأنشد:
كأن خروء الطير فوق رءوسهم
ثم قَالَ لي: والله لو لم تجبني بالصواب لأطعمتك منه، فقلت: الحمد لله الذي أنجاني منك. وتركته وانصرفت.
حدّثني على بن أبي على حَدَّثَنَا محمد بن العباس الخزاز قَالَ: ولد أبو بكر بن الأنباري سنة إحدى وسبعين ومائتين. وتوفي ليلة النحر من ذي الحجة من سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
كان من أعلم الناس بالنحو والأدب، وأكثرهم حفظا، ولد في يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة إحدى وسبعين ومائتين. حدثت بذلك عن إسماعيل ابن سعيد بن سويد عنه. وسمع إسماعيل بن إسحاق القاضي، وأحمد بن الهيثم بن خالد البزاز ومحمد بن يونس الكديمي، وأبا العباس ثعلبا، ومحمد بن أحمد بن النضر، وغيرهم من هذه الطبقة.
وكان صدوقا فاضلا دينا خيرا من أهل السنة، وصنف كتبا كثيرة في علوم القرآن، وغريب الحديث، والمشكل، والوقف، والابتداء، والرد على من خالف مصحف العامة.
روى عنه أَبُو عُمَر بْن حيويه، وأبو الحسين بن البواب، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو الفضل بن المأمون، وأحمد بن محمد بن الجراح، ومُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَخِي ميمي، وغيرهم. وبلغني أنه كتب عنه وأبوه حي، وكان يملى في ناحية من المسجد وأبوه في ناحية أخرى.
وَقَالَ أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي: كان أبو بكر بن الأنباريّ يحفظ فيما ذكر ثلاثمائة ألف بيت شاهد في القرآن.
حَدَّثَنِي علي بْن أَبِي علي البصري عَن أَبِيهِ قَالَ أَخْبَرَنِي غير واحد ممن شاهد أبا بكر محمّد بن القاسم بن الأنباري يملى من حفظه لا من كتاب وأن عادته في كل ما كتب عنه من العلم كانت هكذا، ما أملى قط من دفتر.
سمعت حمزة بْن مُحَمَّد بْن طاهر الدقاق يَقُولُ: كان أبو بكر بن الأنباري يملى كتبه المصنفة ومجالسه المشتملة على الحديث والأخبار، والتفاسير والأشعار، كل ذلك من حفظه.
قَالَ حمزة وَحَدَّثَنِي أبي عن جدي أن أبا بكر بن الأنباري مرض، فدخل عليه أصحابه يعودونه، فرأوا من انزعاج أبيه وقلقه عليه أمرا عظيما، فطيبوا نفسه ورجوا [له] عافيه أبي بكر، فقال لهم: كيف لا أقلق وأنزعج لعلة من يحفظ جميع ما تروون- وأشار لهم إلى حيري مملوء كتبا- قَالَ حمزة: وكان مع حفظه زاهدا متواضعا، حكى أبو الحسن الدارقطني أنه حضره في مجلس أملاه يوم الجمعة فصحف اسما أورده في إسناد حديث، إما كان حبان، فقال حيان، أو حيان فقال حبان. قَالَ أبو الحسن: فأعظمت أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته، وهم وهبته أن أوقفه على ذلك، فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى المستملي وذكرت له وهمه، وعرفته صواب القول فيه، وانصرفت، ثم حضرت الجمعة الثانية مجلسه فقال أبو بكر المستملي: عرف جماعة الحاضرين أنا صحفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية،
ونبهنا ذلك الشاب على الصواب، وهو كذا، وعرف ذلك الشاب، أنا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قَالَ.
أَخْبَرَنِي علي بن المحسن القاضي حَدَّثَنَا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المعدل قَالَ سمعت أبا جعفر مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْنِ عَبْد الله المقرئ يقول: قال لي أحمد ابن محمد بن يوسف الأصبهاني- وهو ابن أختي: رأيت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النوم فقلت:
يا رسول الله! عمن آخذ علم القرآن؟ فقال: «عن أبي بكر بن الأنباري» قلت:
فالفقه؟ قَالَ: «عن أبي إسحاق المروزيّ»
. أَنْبَأَنَا الْقَاضِي أَبُو الْعَلاءِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يعقوب الواسطي قَالَ قَالَ محمد بن جعفر التميمي النحوي: فأما أبو بكر محمد بن القاسم [بن] الأنباري فما رأينا أحفظ منه ولا أغزر بحرا من علمه، وَحَدَّثَنِي عنه أبو الحسن العروضي. قَالَ:
اجتمعت أنا وهو عند الراضي على الطعام- وكان قد عرف الطباخ ما يأكل أبو بكر فكان يسوى له قلية يابسة. قَالَ: فأكلنا نحن من ألوان الطعام وأطيابه وهو يعالج تلك القلية، ثم فرغنا وأتينا بحلواء فلم يأكل منها وقام وقمنا إلى الخيش فنام بين الخيشين، ونمنا نحن في خيش ينافس فيه، ولم يشرب ماء إلى العصر، فلما كان مع العصر قَالَ لغلام: الوظيفة. فجاءه بماء من الحِبِّ، وترك الماء المُزَمَّل بالثلج، فغاظني أمره فصحت بصيحة، فأمر أمير المؤمنين بإحضاري. وَقَالَ: ما قصتك؟ فأخبرته، وقلت: هذا يا أمير المؤمنين يحتاج إلى أن يحال بينه وبين تدبير نفسه، لأنه يقتلها، ولا يحسن عشرتها.
قَالَ: فضحك وَقَالَ له: في هذا لذة، وقد جرت به العادة، وصار إلفا فلن يضره. ثم قلت: يا أبا بكر! لم تفعل هذا بنفسك؟ قَالَ أبقى على حفظي. قلت له: قد أكثر الناس في حفظك! فكم تحفظ؟ قَالَ: أحفظ ثلاثة عشر صندوقا.
قَالَ محمد بن جعفر: وهذا ما لا يحفظ لأحد قبله ولا بعده، وكان أحفظ الناس للغة، ونحو، وشعر، وتفسير قرآن.
فحُدِّثْت أنه كان يحفظ عشرين ومائة تفسير من تفاسير القرآن بأسانيدها.
وَقَالَ لنا أبو العباس بن يونس: كان آية من آيات الله في الحفظ.
وَقَالَ لنا أبو الحسن العروضي: كان يتردد ابن الأنباري إلى أولاد الراضي، فكان
يوما من الأيام قد سألته جارية عن شيء من تفسير الرؤيا، فقال: أنا حاقن ثم مضى، فلما كان من غد: عاد وقد صار معبرا للرؤيا، وذاك أنه مضى من يومه فدرس كتاب الكرماني وجاء. قَالَ: وكان يأخذ الرطب يشمه ويقول: أما إنك لطيب، ولكن أطيب منك حفظ ما وهب الله لي من العلم.
قَالَ محمد بن جعفر: ومات ابن الأنباري فلم نجد من تصنيفه إلا شيئا يسيرا، وذاك أنه إنما كان يملي من حفظه، وقد أملي كتاب غريب الحديث، قيل إنه خمس وأربعون ألف ورقة، وكتاب شرح الكافي وهو نحو ألف ورقة، وكتاب الهاءات، نحو ألف ورقة، وكتاب الأضداد- وما رأيت أكبر منه- وكتاب المشكل أملاه وبلغ إلى طه
وما أتمة وقد أملاه سنين كثيرة، والجاهليات، سبعمائة ورقة، والمذكر والمؤنث ما عمل أحد أتم منه، وعمل رسالة المشكل ردا على ابن قتيبة وأبي حاتم ونقضا لقولهما، وحُدِّثْتُ عنه أنه مضى يوما في النخاسين وجارية تُعرض حسنة كاملة الوصف، قَالَ: فوقعت في قلبي ثم مضيت إلى أمير المؤمنين الراضي فقال لي: أين كنت إلى الساعة؟ فعرفته، فأمر بعض أسبابه فمضى فاشتراها وحملها إلى منزلي، فجئت فوجدتها، فعلمت الأمر كيف جرى فقلت لها: كوني فوق إلى أن أستبرئك، وكنت أطلب مسألة قد أحيلت علي فاشتغل قلبي، فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاس فليس قدرها أن تشغل قلبي عن علمي، فأخذها الغلام، فقالت: دعني أكلمه بحرفين! فقالت: أنت رجل لك محل وعقل، وإذا أخرجتني ولم تعين لي ذنبي لم آمن أن يظن الناس في ظنا قبيحا، فعرفنيه قبل أن تخرجني. فقلت لها: مالك عندي عيب غير أنك شغلتني عن علمي! فقالت: هذا أسهل عندي. قَالَ فبلغ الراضي أمره فقال: لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحد أحلى منه في صدر هذا الرجل. ولما وقع في علة الموت أكل كل شيء كان يشتهى، وَقَالَ: هي علة الموت.
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عبد الله النحوي المؤدب- مذاكرة من حفظه- قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ سمعت أبا بكر بن الأنباري يقول: دخلت البيمارستان بباب المحول فسمعت صوت رجل في بعض البيوت يقرأ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
[العنكبوت 19] فقال: أنا لا أقف إلا على قوله: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ
فأقف على ما عرفه القوم وأقروا به، لأنهم لم يكونوا يقرون بإعادة الخلق، وابتدئ بقوله: ثُمَّ يُعِيدُهُ*
فيكون خبرا، وأما ما قرأه علي بن أبي طالب: وَادَّكَرَ بَعْدَ
أُمَّةٍ
[يوسف 45] فهو وجه حسن، الأمة النسيان. وأما أبو بكر بن مجاهد فهو إمام في القراءة، وأما ما قرأه الحمق- يعني ابن شنبوذ- إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
[المائدة 118] فخطأ، لأن الله تعالى قد قطع لهم بالعذاب في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ*
[النساء 48] قَالَ: فقلت لصاحب البيمارستان: من هذا الرجل؟ فقال: هذا إبراهيم بن الموسوس محبوس.
فقلت: ويحك هذا أبي بن كعب! افتح الباب عنه، ففتح الباب فإذا أنا برجل منغمس في النجاسة، والأدهم في قدميه، فقلت: السلام عليكم. فقال: كلمة مقولة، فقلت: ما منعك من رد السلام علي؟ فقال: السلام أمان وإني أريد أن أمتحنك، ألست تذكر اجتماعنا عند أبي العباس- يعني ثعلبا- يوم كذا في شهر كذا وعرفني ما ذكرته فعرفته، وإذا به رجل من أفاضل أهل العلم. فقال لي: هذا الذي تراني منغمسا فيه ما هو؟ فقلت الخرء يا هذا. فقال: وما جمعه؟ فقلت خروء. فقال لي صدقت.
وأنشد:
كأن خروء الطير فوق رءوسهم
ثم قَالَ لي: والله لو لم تجبني بالصواب لأطعمتك منه، فقلت: الحمد لله الذي أنجاني منك. وتركته وانصرفت.
حدّثني على بن أبي على حَدَّثَنَا محمد بن العباس الخزاز قَالَ: ولد أبو بكر بن الأنباري سنة إحدى وسبعين ومائتين. وتوفي ليلة النحر من ذي الحجة من سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.