عبد الرّحمن بن محمّد بن الحافظ عبد الغني، العز ابن العز، أبو محمّد، قال الذهبي في "التّاريخ": الحافظ المحدث، توفي سنة (661).
56169. عبد الرحمن بن محمد بن ابي عتيق1 56170. عبد الرحمن بن محمد بن ابي ياسر القصري ابو الفرج بن ملاح الشط...1 56171. عبد الرحمن بن محمد بن احمد بن سليمان ابو محمد الفقيه المؤذن...1 56172. عبد الرحمن بن محمد بن اسحاق بن منده ابو القاسم الاصبهاني الحافظ...1 56173. عبد الرحمن بن محمد بن الجارود بن هارون الرقي...1 56174. عبد الرحمن بن محمد بن الحافظ عبد الغني العز ابن العز أبو محمد...156175. عبد الرحمن بن محمد بن الحسن البلخي3 56176. عبد الرحمن بن محمد بن العباس1 56177. عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود بن احمد بن معاذ بن س...1 56178. عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة بن شعيب ابو الحسن التميمي جار ابن ا...1 56179. عبد الرحمن بن محمد بن بدر بن جامع بن سعيد ابو القاسم الواسطي الفق...1 56180. عبد الرحمن بن محمد بن حامد بن متويه ابو القاسم الزاهد البلخي...1 56181. عبد الرحمن بن محمد بن حبيب1 56182. عبد الرحمن بن محمد بن خسرماه ابو سعيد القزويني...1 56183. عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي2 56184. عبد الرحمن بن محمد بن زيد1 56185. عبد الرحمن بن محمد بن زيد بن جدعان1 56186. عبد الرحمن بن محمد بن زيد بن جدعان1 56187. عبد الرحمن بن محمد بن سعدان ابو سهل السكري الدلال...1 56188. عبد الرحمن بن محمد بن سلام الجمحي1 56189. عبد الرحمن بن محمد بن سلام الطرسوسى ابو القاسم مولى بني هاشم...1 56190. عبد الرحمن بن محمد بن طلحة1 56191. عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف1 56192. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن2 56193. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الحاجيان الفنجديهي الفقيه...1 56194. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن الأشعث...1 56195. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن عامر بن إسماعيل...1 56196. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن مسلم...1 56197. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن موسى...1 56198. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن هلال ابو محمد القرشي الشامي ا...1 56199. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحيم ابو القاسم الاهوازي...1 56200. عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع ابو طالب الهاشمي الواسطي...1 56201. عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع بن عبد الله بن عبد السميع الهاشم...1 56202. عبد الرحمن بن محمد بن عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن يوسف اب...1 56203. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله2 56204. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري...1 56205. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد الأموي...1 56206. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مهران أبو مسلم...1 56207. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مهران بن سلمة...1 56208. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مهران بن سلمة ابو مسلم...1 56209. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ...1 56210. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القارى...1 56211. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد بن الحسن بن منازل ابو منصور القز...1 56212. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الوهاب العطار...1 56213. عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله2 56214. عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي...1 56215. عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العزرمي...1 56216. عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن ابي سعيد الانباري الكمال ابو ا...1 56217. عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن سعد بن ابراهيم بن سعد بن ابراه...1 56218. عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الفزاري العرزمي...1 56219. عبد الرحمن بن محمد بن عصام1 56220. عبد الرحمن بن محمد بن علقمة ابو امية الفرائضي البصري...1 56221. عبد الرحمن بن محمد بن علي بن زيد بن اللتي...1 56222. عبد الرحمن بن محمد بن علي بن يعيش الانباري ثم البغدادي ابو الفرج ...1 56223. عبد الرحمن بن محمد بن عمار1 56224. عبد الرحمن بن محمد بن عمار بن سعد1 56225. عبد الرحمن بن محمد بن عمار بن سعد القرظ...1 56226. عبد الرحمن بن محمد بن عمر3 56227. عبد الرحمن بن محمد بن عمر بن ابي سلمة بن عبد الاسد...1 56228. عبد الرحمن بن محمد بن فطيس الأندلسي القرطبي أبو المطرف...1 56229. عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن أحمد بن سعيد...1 56230. عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن هندويه الفارسي أبو الرضا...1 56231. عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن سورة بن سعيد ابو سعيد الفقيه الشافع...1 56232. عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن عبد الله بن ادريس بن الحسن ابن متوي...1 56233. عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن علي بن محمد بن رزق ابو معاذ المزكي ...1 56234. عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن يحيى بن اسحاق ابو سهل البلخي...1 56235. عبد الرحمن بن محمد بن مرشد بن منقذ1 56236. عبد الرحمن بن محمد بن منده أبو القاسم بن الحافظ الكبير أبي عبد ال...1 56237. عبد الرحمن بن محمد بن منصور ابو سعيد1 56238. عبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري2 56239. عبد الرحمن بن محمد بن منصور بن حبيب ابو سعيد الحارثي البصري كريزا...1 56240. عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن ياسر1 56241. عبد الرحمن بن محمد بن يزداد1 56242. عبد الرحمن بن محمد بن يوسف ابو محمد الرازي...1 56243. عبد الرحمن بن محمد شمس الدين ابن الشيخ أبي عمر...1 56244. عبد الرحمن بن محمود الفرج1 56245. عبد الرحمن بن محيريز2 56246. عبد الرحمن بن محيريز الجمحي1 56247. عبد الرحمن بن محيصن السهمي1 56248. عبد الرحمن بن مخبرين1 56249. عبد الرحمن بن مخراق2 56250. عبد الرحمن بن مدرك3 56251. عبد الرحمن بن مدرك بن علي1 56252. عبد الرحمن بن مدلج1 56253. عبد الرحمن بن مربع1 56254. عبد الرحمن بن مربع الانصاري1 56255. عبد الرحمن بن مرزوق1 56256. عبد الرحمن بن مرزوق أبو عوف الطرسوسي...1 56257. عبد الرحمن بن مرزوق الدمشقي3 56258. عبد الرحمن بن مرزوق الطرسوسي1 56259. عبد الرحمن بن مرزوق بن عطاء ابو عوف البزوري...1 56260. عبد الرحمن بن مرزوق بن عوف ابو عوف1 56261. عبد الرحمن بن مرزوق بن عوف ابو عوف الطرسوسي...1 56262. عبد الرحمن بن مرفع السلمي1 56263. عبد الرحمن بن مرقع1 56264. عبد الرحمن بن مروان بن سالم بن المبارك...1 56265. عبد الرحمن بن مريج الخولاني1 56266. عبد الرحمن بن مريج الخولاني1 56267. عبد الرحمن بن مريح الخولاني2 56268. عبد الرحمن بن مسعود1 ◀ Prev. 100▶ Next 100
Jump to entry:الذهاب إلى موضوع رقم:
500100015002000250030003500400045005000550060006500700075008000850090009500100001050011000115001200012500130001350014000145001500015500160001650017000175001800018500190001950020000205002100021500220002250023000235002400024500250002550026000265002700027500280002850029000295003000030500310003150032000325003300033500340003450035000355003600036500370003750038000385003900039500400004050041000415004200042500430004350044000445004500045500460004650047000475004800048500490004950050000505005100051500520005250053000535005400054500550005550056000565005700057500580005850059000595006000060500610006150062000625006300063500640006450065000655006600066500670006750068000685006900069500700007050071000715007200072500730007350074000745007500075500760007650077000775007800078500790007950080000805008100081500820008250083000835008400084500850008550086000865008700087500880008850089000895009000090500910009150092000925009300093500940009450095000955009600096500970009750098000985009900099500100000100500Similar and related entries:
مواضيع متعلقة أو متشابهة بهذا الموضوع
عَبْدُ الغَنِيِّ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ عَلِيٍّ المَقْدِسِيُّ
الإِمَامُ، العَالِمُ، الحَافِظُ الكَبِيْرُ، الصَّادِقُ، القُدْوَةُ، العَابِدُ، الأَثَرِيُّ، المُتَّبَعُ،
عَالِمُ الحُفَّاظِ، تَقِيُّ الدِّيْنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الغَنِيِّ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْرِ بنِ رَافِعِ بنِ حَسَنِ بنِ جَعْفَرٍ المَقْدِسِيُّ، الجَمَّاعِيْليُّ، ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ المَنْشَأ، الصَّالِحيُّ، الحَنْبَلِيُّ، صَاحِبُ (الأَحكَامِ الكُبْرَى) ، وَ (الصُّغْرَى) .قَرَأْتُ سِيرتَهُ فِي جُزْءيْنِ، جَمْعِ الحَافِظِ ضِيَاءِ الدِّيْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ المَقْدِسِيِّ، عَلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الحَمِيْدِ بنِ أَحْمَدَ البَنَّاءِ، بِسَمَاعِهِ عَامَ سِتَّةٍ وَعِشْرِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ مِنَ المُؤلّفِ، فَعَامَّةُ مَا أَوْرَدَهُ فَمِنْهَا.
قَالَ: وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ بِجُمَّاعِيلَ، أَظنُّهُ فِي رَبِيْعٍ الآخِرِ، قَالَتْ وَالِدتِي : هُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَخِيْهَا الشَّيْخِ المُوَفَّقِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالمُوَفَّقُ وُلِدَ فِي شَعْبَان.
سَمِعَ الكَثِيْرَ بِدِمَشْقَ، وَالإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَبَيْتَ المَقْدِسِ، وَمِصْرَ، وَبَغْدَادَ، وَحَرَّانَ، وَالمَوْصِلَ، وَأَصْبَهَانَ، وَهَمَذَانَ، وَكَتَبَ الكَثِيْرَ.
سَمِعَ: أَبَا الفَتْحِ ابْنَ البَطِّيِّ، وَأَبَا الحَسَنِ عَلِيَّ بنَ رَبَاحٍ الفَرَّاءَ، وَالشَّيْخَ عَبْدَ القَادِرِ الجِيْلِيَّ، وَهِبَةَ اللهِ بنَ هِلاَلٍ الدَّقَّاقَ، وَأَبَا زُرْعَةَ المَقْدِسِيَّ، وَمَعْمَرَ بنَ الفَاخِرِ، وَأَحْمَدَ بنَ المُقَرَّبِ، وَيَحْيَى بنَ ثَابِتٍ، وَأَبَا بَكْرٍ بنَ
النَّقُّوْرِ، وَأَحْمَدَ بنَ عَبْدِ الغَنِيِّ البَاجِسْرَائِيَّ، وَعِدَّةً بِبَغْدَادَ، وَالحَافِظَ أَبَا طَاهِرٍ السِّلَفِيَّ، فَكَتَبَ عَنْهُ نَحْواً مِنْ أَلفِ جزءٍ.وَبِدِمَشْقَ: أَبَا المَكَارِمِ بنَ هِلاَلٍ، وَسَلْمَانَ بنَ عَلِيٍّ الرَّحَبِيَّ، وَأَبَا المَعَالِي بنَ صَابرٍ، وَعِدَّةً.
وَبِمِصْرَ: مُحَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ الرَّحَبِيَّ، وَعَبْدَ اللهِ بنَ بَرِّيٍّ، وَطَائِفَةً.
وَبِأَصْبَهَانَ: الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى المَدِيْنِيَّ، وَأَبَا الوَفَاءِ مَحْمُوْدَ بنَ حَمَكَا، وَأَبَا الفَتْحِ الخِرَقِيَّ، وَابْنَ يَنَال التُّرْك، وَمُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ الوَاحِدِ الصَّائِغَ، وَحَبِيْبَ بنَ إِبْرَاهِيْمَ الصُّوْفِيَّ.
وَبِالمَوْصِلِ: أَبَا الفَضْلِ الطُّوْسِيَّ، وَطَائِفَةً.
وَلَمْ يَزَلْ يَطلبُ، وَيَسْمَع، وَيَكْتُبُ، وَيسهَرُ، وَيدأَبُ، وَيَأْمرُ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنَهى عَنِ المُنْكَرِ، وَيَتقِي اللهَ، وَيَتعبَّدُ، وَيَصُوْمُ، وَيَتهجَّدُ، وَيَنشرُ العِلْمَ، إِلَى أَنْ مَاتَ.
رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ مرَّتينِ، وَإِلَى مِصْرَ مرَّتينِ، سَافرَ إِلَى بَغْدَادَ هُوَ وَابْنُ خَالِهِ الشَّيْخُ المُوَفَّقُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّيْنَ، فَكَانَا يَخْرُجَانِ مَعاً، وَيَذْهَبُ أَحدُهُمَا فِي صُحْبَة رفِيقِهِ إِلَى دَرْسِهِ وَسَمَاعِهِ، كَانَا شَابَّيْنِ مُخْتَطّين، وَخوَّفَهُمَا النَّاسُ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَكَانَ الحَافِظُ مَيْلُهُ إِلَى الحَدِيْثِ، وَالمُوَفَّقُ يُرِيْدُ الفِقْهَ، فَتفقَّهَ الحَافِظُ، وَسَمِعَ المُوَفَّقُ مَعَهُ الكَثِيْرَ، فَلَمَّا رَآهُمَا العُقَلاَءُ عَلَى التَّصَوُّنِ وَقِلَّةِ المُخَالَطَةِ أَحَبُّوهُمَا، وَأَحْسَنُوا إِلَيهُمَا، وَحصَّلاَ عِلْماً جمّاً، فَأَقَامَا بِبَغْدَادَ نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِيْنَ، وَنَزَلاَ أَوَّلاً عِنْد الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ، فَأَحْسَنَ إِلَيهِمَا، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ قُدُومِهِمَا بخَمْسِيْنَ لَيْلَةً، ثُمَّ اشْتَغَلاَ بِالفِقْهِ وَالخِلاَفَةِ عَلَى ابْنِ المنِّي.
وَرَحَلَ الحَافِظُ إِلَى السِّلَفِيِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّيْنَ، فَأَقَامَ مُدَّةً، ثُمَّ رحلَ أَيْضاً إِلَى السِّلَفِيِّ سَنَةَ
سَبْعِيْنَ، ثُمَّ سَافرَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَسَبْعِيْنَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، وَحَصَّلَ الكتُبَ الجيِّدَةَ.قَالَ الضِّيَاءُ: وَكَانَ لَيْسَ بِالأَبيضِ الأَمهَقِ، بَلْ يَمِيْلُ إِلَى السُّمرَةِ، حسن الشَّعْرِ، كَثّ اللِّحْيَةِ، وَاسِع الجبينِ، عَظِيْم الخَلْقِ، تَامّ القَامَةِ، كَأَنَّ النُّوْر يَخْرُجُ مِنْ وَجهِهِ، وَكَانَ قَدْ ضعُفَ بصرُهُ مِنَ البُكَاءِ وَالنَّسْخِ وَالمُطَالَعَةِ.
قُلْتُ : حَدَّثَ عَنْهُ: الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّيْنِ، وَالحَافِظُ عِزُّ الدِّيْنِ مُحَمَّدٌ، وَالحَافِظُ أَبُو مُوْسَى عَبْدُ اللهِ، والفَقِيْهُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَوْلاَدُهُ، وَالحَافِظُ الضِّيَاءُ، وَالخَطِيْبُ سُلَيْمَانُ بنُ رَحْمَةَ الأَسْعَرْدِيُّ، وَالبَهَاءُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ، وَالشَّيْخُ الفَقِيْهُ مُحَمَّدُ اليُوْنِيْنِيُّ، وَالزَّيْنُ ابْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ، وَأَبُو الحَجَّاجِ بنُ خَلِيْلٍ، وَالتَّقِيُّ اليَلْدَانِيُّ، وَالشِّهَابُ القُوْصِيُّ، وَعَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَبْدِ الجَبَّارِ القَلاَنسِيُّ، وَالوَاعِظُ عُثْمَانُ بنُ مَكِّيٍّ الشَّارعِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ حَامِدٍ الأَرْتَاحِيُّ، وَإِسْمَاعِيْلُ بنُ عَبْدِ القوِيِّ بنِ عَزُّوْنَ، وَأَبُو عِيْسَى عَبْدُ اللهِ بنُ عَلاَّقٍ الرَّزَّازُ، وَخَلْقٌ، آخِرُهُم مَوْتاً سَعْدُ الدِّيْنِ مُحَمَّدُ بنُ مُهَلْهَلٍ الجينِيُّ.
وَرَوَى عَنْهُ بِالإِجَازَةِ: شَيْخُنَا أَحْمَدُ بنُ أَبِي الخَيْرِ الحَدَّادُ.
تَصَانِيْفُهُ:
كِتَابُ (المِصْبَاح فِي عُيونِ الأَحَادِيْثِ الصِّحَاحِ) مشتملٌ عَلَى أَحَادِيْثِ (
الصَّحِيْحَيْنِ) ، فَهُوَ مُسْتخرَجٌ عَلَيْهِمَا بِأَسَانِيْدِهِ، فِي ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِيْنَ جُزْءاً، كِتَابُ (نِهَايَة المُرَادِ ) فِي السُّنَنِ نَحْوُ مائَتَيْ جزءٍ لَمْ يَبَيِّضْهُ، كِتَابُ (اليَواقيت) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (تُحْفَة الطَّالبينَ فِي الجِهَادِ وَالمُجَاهِدِيْنَ) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (فَضَائِل خَيْرِ البرِيَّةِ ) أَرْبَعَةُ أَجزَاءٍ، كِتَابُ (الرَّوْضَة) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (التَّهجُّد) جُزْآنِ، كِتَابُ (الفَرَج) جزآنِ، كِتَابُ (الصِّلاَت إِلَى الأَمْوَاتِ ) جزآنِ، (الصِّفَات) جزآنِ، (مِحْنَة الإِمَامِ أَحْمَدَ) جُزْآنِ، (ذَمّ الرِّيَاءِ) جُزْء، (ذَمّ الغِيبَةِ) جُزْء، (التَّرغِيب فِي الدُّعَاءِ) جُزْء، (فَضَائِل مَكَّةَ) أَرْبَعَةُ أَجزَاءٍ، (الأَمْر بِالمَعْرُوفِ) جزءٌ، (فَضل رَمَضَانَ) جُزْء، (فَضل الصَّدَقَةِ) جُزْء، (فَضل عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ) جزءٌ، (فَضَائِل الحَجِّ) جزءٌ، (فَضل رَجَب) ، (وَفَاة النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) جزءٌ، (الأَقسَام الَّتِي أَقسمَ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ ) بِسندٍ وَاحِدٍ، (أَرْبَعِيْنَ مِنْ كَلاَمِ رَبِّ العَالِمِينَ) ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ) آخرُ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ) رَابعُ، (اعْتِقَاد الشَّافِعِيِّ) جزءٌ، كِتَابُ (الحِكَايَاتِ) سَبْعَةُ أَجزَاءٍ، (تَحَقِيْق مُشْكِلِ الأَلْفَاظِ ) مجلَّدَيْنِ، (الجَامِعُ الصَّغِيْرِ فِي الأَحكَامِ ) لَمْ يَتِمَّ، (ذِكْر القُبُوْرِ) جزءٌ، (الأَحَادِيْث وَالحِكَايَات) كَانَ
يَقرؤهَا لِلْعَامَّةِ، مائَة جزءٍ، (مَنَاقِب عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ) جزءٌ، وَعِدَّةُ أَجزَاءٍ فِي (مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ) ، وَأَشيَاءَ كَثِيْرَةً جِدّاً مَا تَمَّتْ، وَالجَمِيْعُبِأَسَانِيْدِهِ، بِخَطِّهِ المَلِيْحِ الشَّدِيدِ السُّرعَةِ، وَ (أَحكَامه الكُبْرَى) مُجَلَّدٌ، وَ (الصَّغرَى) مُجَيْلِيْدٌ، كِتَابُ (دُرَر الأَثرِ) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (السَّيرَة) جزءٌ كَبِيْرٌ، (الأَدعيَة الصَّحيحَة) جزءٌ، (تَبيين الإِصَابَةِ لأَوهَامٍ حصلَتْ لأَبِي نُعَيْمٍ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ) جُزْآنِ، تَدُلُّ عَلَى برَاعتِهِ وَحفظِهِ، كِتَابُ (الكَمَال فِي مَعْرِفَةِ رِجَالِ الكُتُبِ السِّتَّةِ ) فِي أَرْبَعَةِ أَسفَارٍ، يَرْوِي فِيْهِ بِأَسَانِيْدِهِ.
فِي حِفْظِهِ:
قَالَ ضِيَاءُ الدِّيْنِ: كَانَ شَيْخُنَا الحَافِظُ لاَ يَكَادُ يُسْأَلُ عَنْ حَدِيْثٍ إِلاَّ ذَكَرَهُ وَبَيَّنَهُ، وَذَكَرَ صِحَّتَهُ أَوْ سقمَهُ، وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ إِلاَّ قَالَ: هُوَ فُلاَنُ بنُ فُلاَنٍ الفُلاَنِيُّ، وَيذكرُ نسبَهُ، فَكَانَ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ فِي الحَدِيْثِ، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ الحَافِظِ أَبِي مُوْسَى، فَجرَى بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ منَازعَةً فِي حَدِيْثٍ، فَقَالَ: هُوَ فِي (صَحِيْحِ البُخَارِيِّ) .
فَقُلْتُ: لَيْسَ هُوَ فِيْهِ.
قَالَ: فَكَتَبَهُ فِي رُقْعَةٍ، وَرفعهَا إِلَى أَبِي مُوْسَى يَسْأَلُهُ، قَالَ: فَنَاوَلَنِي أَبُو مُوْسَى الرُّقْعَةَ وَقَالَ: مَا تَقُوْلُ؟
فَقُلْتُ: مَا هُوَ فِي (البُخَارِيِّ) ، فَخجِلَ الرَّجُلُ.
قَالَ الضِّيَاءُ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ بِمَرْوَ كَأَنَّ البُخَارِيَّ بَيْنَ يَدَي الحافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ يَقرَأُ عَلَيْهِ مِنْ جزءٍ، وَكَانَ الحَافِظُ يَردُّ عَلَيْهِ، أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ.
وَسَمِعْتُ إِسْمَاعِيْلَ بنَ ظَفَرٍ يَقُوْلُ:
قَالَ رَجُلٌ لِلْحَافِظ عَبْدِ الغَنِيِّ:
رَجُلٌ حلفَ بِالطَّلاَقِ أَنَّكَ تَحفَظُ مائَةَ أَلْفِ حَدِيْثٍ.فَقَالَ: لَوْ قَالَ أَكْثَرَ لصدَقَ!
وَرَأَيْتُ الحَافِظَ عَلَى المِنْبَرِ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُوْلُوْنَ لَهُ: اقرَأْ لَنَا مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ، فِيقرَأُ أَحَادِيْثَ بِأَسَانِيْدِهِ مِنْ حِفْظِهِ.
وَسَمِعْتُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَانِ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِنَا يَقُوْلُ: إِنَّ الحَافِظَ سُئِلَ: لِمَ لاَ تَقرَأُ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ؟
قَالَ: أَخَافُ العُجْبَ.
وَسَمِعْتُ خَالِي أَبَا عُمَرَ أَوْ وَالِدِي، قَالَ: كَانَ الملِكُ نُوْرُ الدِّيْنِ بنُ زَنْكِي يَأْتِي إِلَيْنَا، وَكُنَّا نَسْمَعُ الحَدِيْثَ، فَإِذَا أَشْكَلَ شَيْءٌ عَلَى القَارِئ قَالَهُ الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى السِّلَفِيِّ، فَكَانَ نُوْرُ الدِّيْنِ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيْنَ ذَاكَ الشَّابُّ؟
فَقُلْنَا: سَافرَ.
وَسَمِعْتُ عَبْدَ العَزِيْزِ بنَ عَبْدِ المَلِكِ الشَّيْبَانِيَّ، سَمِعْتُ التَّاجَ الكِنْدِيَّ يَقُوْلُ:
لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِثْلُ الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ.
وَسَمِعْتُ أَبَا الثَّنَاءِ مَحْمُوْدَ بنَ هَمَّامٍ، سَمِعْتُ الكِنْدِيَّ يَقُوْلُ: لَمْ يَرَ الحَافِظُ مِثْلَ نَفْسِهِ.
شَاهَدْتُ بِخَطِّ أَبِي مُوْسَى المَدِيْنِيِّ عَلَى كِتَابِ (تَبيينِ الإِصَابَةِ) الَّذِي أَملاَهُ عَبْدُ الغَنِيِّ- وَقَدْ سَمِعَهُ أَبُو مُوْسَى، وَالحَافِظُ أَبُو سَعْدٍ الصَّائِغُ، وَأَبُو العَبَّاسِ التّرك-:
يَقُوْلُ أَبُو مُوْسَى عفَا اللهُ عَنْهُ: قَلَّ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا يَفهَمُ هَذَا الشَّأْنَ كفَهْمِ الشَّيْخِ الإِمَامِ ضِيَاءِ الدِّيْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الغَنِيِّ المَقْدِسِيِّ، وَقَدْ وُفِّقَ لِتبيينِ هَذِهِ الغلطَات، وَلَوْ كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَمثَالُهُ فِي الأَحْيَاءِ لَصَوَّبُوا فَعلَهُ، وَقَلَّ مَنْ يَفهَمُ فِي زَمَانِنَا مَا فَهِمَ زَادَهُ اللهُ عِلْماً وَتوفِيقاً.
قَالَ أَبُو نِزَارٍ رَبِيْعةُ الصَّنْعَانِيُّ: قَدْ حضَرْتُ الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى، وَهَذَا الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، فَرَأَيْتُ عَبْدَ الغَنِيِّ أَحْفَظَ مِنْهُ.سَمِعْتُ عَبْدَ الغَنِيِّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ الجَوْزِيِّ فَقَالَ: وُرَيْرَةُ بنُ مُحَمَّدٍ الغَسَّانِيُّ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ وَزِيْرَةُ.
فَقَالَ: أَنْتُم أَعْرفُ بِأَهْلِ بلدِكُم.
فِي إِفَادَتِهِ وَاشتِغَالِهِ:
قَالَ الضِّيَاءُ: وَكَانَ- رحمَهُ اللهُ- مُجْتَهِداً عَلَى الطَّلَبِ، يُكرِمُ الطَّلبَةَ، وَيُحسِنُ إِلَيْهِم، وَإِذَا صَارَ عِنْدَهُ طَالبٌ يَفهَمُ أَمرَهُ بِالرِّحلَةِ، وَيَفرحُ لَهُم بِسَمَاعِ مَا يَحصِّلُونَهُ، وَبسَبَبه سَمِعَ أَصْحَابُنَا الكَثِيْرَ.
سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مُحَمَّدٍ الحَافِظَ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ الحَدِيْثَ فِي الشَّامِ كُلِّهِ إِلاَّ بِبركَةِ الحَافِظِ، فَإِنَّنِي كُلَّ مَنْ سَأَلتُهُ يَقُوْلُ: أَوَّلُ مَا سَمِعْتُ عَلَى الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ، وَهُوَ الَّذِي حَرَّضَنِي.
وَسَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ يَقُوْلُ عِنْدَ مَوْتِهِ: لاَ تُضَيِّعُوا هَذَا العِلْمَ الَّذِي قَدْ تَعِبْنَا عَلَيْهِ.
قُلْتُ : هُوَ رَحَّلَ ابْنَ خَلِيْلٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَرَحَّلَ ابْنَيْهِ العِزَّ مُحَمَّداً، وَعَبْدَ اللهِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ صغِيراً، وَسَفَّرَ ابْنَ أُخْتِهِ مُحَمَّدَ بنَ عُمَرَ بنِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنَ عَمِّهِ عَلِيَّ بنَ أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ الضِّيَاءُ: وَحرَّضَنِي عَلَى السَّفَرِ إِلَى مِصْرَ، وَسَافَرَ مَعَنَا ابْنُهُ أَبُو سُلَيْمَانَ
عَبْدُ الرَّحْمَانِ ابْنُ عشرٍ، فَبَعَثَ مَعَنَا (المُعْجَمَ الكَبِيْرَ) لِلطَّبَرَانِيِّ، وَكِتَابَ (البُخَارِيِّ) ، وَ (السِّيرَةَ) ، وَكَتَبَ إِلَى زَيْنِ الدِّيْنِ عَلِيِّ بن نجَا يُوصِيهِ بِنَا، وَسَفَّرَ ابْنَ ظَفَرٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَزوَّدَهُ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا.قَالَ الضِّيَاءُ: لَمَّا دخلنَا أَصْبَهَانَ فِي سفرتِي الثَّانِيَةِ كُنَّا سَبْعَةً، أَحَدُنَا الفَقِيْهُ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الحَافِظِ، وَكَانَ طِفْلاً، فَسمِعنَا عَلَى المَشَايِخِ، وَكَانَ المُؤَيَّدُ ابْنُ الإِخْوَةِ عِنْدَهُ جُمْلَةٌ مِنَ المَسْمُوْعَاتِ، وَكَانَ يَتشدَّدُ عَلَيْنَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَحَزِنْتُ كَثِيْراً، وَأَكْثَرَ مَا ضَاقَ صَدْرِي لثَلاَثَةِ كُتُبٍ: (مُسْنَدِ العَدَنِيِّ) ، وَ (مُعْجَمِ ابْنِ المُقْرِئ) ، وَ (مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى) ، وَقَدْ كُنْتُ سَمِعْتُ عَلَيْهِ فِي النَّوبَةِ الأُوْلَى (مُسْنَدَ العَدَنِيِّ) لَكِنْ لأَجْلِ رِفْقَتِي، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ الحَافِظَ عَبْدَ الغَنِيِّ قَدْ أَمسَكَ رَجُلاً وَهُوَ يَقُوْلُ لِي: أُمَّ هَذَا، أُمَّ هَذَا، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ ابْنُ عَائِشَةَ بِنْتِ مَعْمَرٍ.
فَلَمَّا استيقظْتُ قُلْتُ: مَا هَذَا إِلاَّ لأَجْلِ شَيْءٍ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّهُ يُرِيْدُ الحَدِيْثَ، فَمضيتُ إِلَى دَارِ بَنِي مَعْمَرٍ، وَفتَّشْتُ الكُتُبَ، فَوَجَدْتُ (مُسْنَدَ العَدَنِيِّ) سَمَاع عَائِشَةَ مِثْلَ ابْنِ الإِخْوَةِ، فَلَمَّا سَمِعْنَاهُ عَلَيْهَا قَالَ لِي بَعْضُ الحَاضِرِيْنَ: إِنَّهَا سَمِعَتْ (مُعْجَمَ ابْنِ المُقْرِئ) فَأَخذنَا النُّسْخَةَ مِنْ خَبَّازٍ، وَسَمِعنَاهُ، وَبعدَ أَيَّامٍ نَاولنِي بَعْضُ الإِخْوَانِ (مُسْنَدَ أَبِي يَعْلَى) سَمَاعهَا، فَسمِعنَاهُ.
مَجَالِسُهُ:كَانَ -رَحِمَهُ الله- يَقرَأُ الحَدِيْثَ يَوْمَ الجُمُعَةِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَليلَة الخَمِيْسِ، وَيَجْتَمِع خلق، وَكَانَ يَقرَأُ وَيَبْكِي وَيُبْكِي النَّاسَ كَثِيْراً، حَتَّى إِنَّ مَنْ حَضَرَه مَرّة لاَ يَكَاد يَتركه، وَكَانَ إِذَا فَرَغَ دَعَا دُعَاءً كَثِيْراً.
سَمِعْتُ شَيْخَنَا ابْنَ نَجَا الوَاعِظ بِالقَرَافَةِ يَقُوْلُ عَلَى المِنْبَرِ: قَدْ جَاءَ الإِمَامُ الحَافِظُ، وَهُوَ يُرِيْد أَنْ يَقرَأَ الحَدِيْثَ، فَاشْتَهَى أَنْ تَحضرُوا مَجْلِسه ثَلاَث مَرَّات، وَبعدهَا أَنْتُم تَعرفُوْنَهُ وَتحصل لَكُم الرّغبَة، فَجَلَسَ أَوّل يَوْم، وَحَضَرتُ، فَقَرَأَ أَحَادِيْث بِأَسَانِيْدهَا حِفْظاً، وَقرَأَ جُزْءاً، فَفَرح النَّاس بِهِ، فَسَمِعْتُ ابْنَ نَجَا يَقُوْلُ: حَصَلَ الَّذِي كُنْت أُرِيْده فِي أَوَّلِ مَجْلِس.
وَسَمِعْتُ بَعْضَ مِنْ حضَر يَقُوْلُ: بَكَى النَّاس حَتَّى غُشِي عَلَى بَعْضهِم، وَكَانَ يَجلسُ بِمِصْرَ بِأَمَاكن.
سَمِعْتُ مَحْمُوْدَ بنَ هَمَّامٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ الفَقِيْهَ نَجْمَ بنَ عَبْدِ الوَهَّابِ الحَنْبَلِيَّ يَقُوْلُ وَقَدْ حضَر مَجْلِس الحَافِظ:
يَا تَقِيّ الدِّيْنِ، وَاللهِ لَقَدْ حَملتَ الإِسْلاَم، وَلَوْ أَمكننِي مَا فَارقتُ مَجْلِسك.
أَوْقَاتُهُ:
كَانَ لاَ يُضيِّع شَيْئاً مِنْ زَمَانه بِلاَ فَائِدَة، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الفَجْر، وَيلقّن القُرْآن، وَرُبَّمَا أَقرَأَ شَيْئاً مِنَ الحَدِيْثِ تلقيناً، ثُمَّ يَقوم فَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي ثَلاَث مائَة رَكْعَة بِالفَاتِحَة وَالمعوّذتين إِلَى قَبْل الظُّهْر، وَيَنَام نَوْمَة، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْر، وَيَشتغل إِمَّا بِالتّسمِيْع، أَوْ بِالنّسخ إِلَى المَغْرِب، فَإِنْ كَانَ صَائِماً، أَفطر، وَإِلاَّ صَلَّى مِنَ المَغْرِب إِلَى العشَاء، وَيُصَلِّي العشَاء، وَيَنَام إِلَى نِصْف اللَّيْل أَوْ بَعْدَهُ، ثُمَّ قَامَ كَأَنَّ إِنْسَاناً يُوقظه، فَيُصَلِّي لَحْظَةً ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي إِلَى قُرب
الفَجْر، رُبَّمَا تَوضَأَ سَبْع مَرَّاتٍ أَوْ ثَمَانِياً فِي اللَّيْلِ، وَقَالَ:مَا تَطِيبُ لِي الصَّلاَة إِلاَّ مَا دَامت أَعضَائِي رطبَة، ثُمَّ يَنَام نَوْمَة يَسِيْرَة إِلَى الفَجْر، وَهَذَا دَأْبُهُ.
أَخْبَرَنِي خَالِي مُوَفَّق الدِّيْنِ، قَالَ :
كَانَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ جَامِعاً لِلْعِلْمِ وَالعمل، وَكَانَ رفِيقِي فِي الصِّبَا، وَكَانَ رفِيقِي فِي طَلَبِ العِلْمِ، وَمَا كُنَّا نَسْتَبِق إِلَى خَيْر إِلاَّ سبقنِي إِلَيْهِ إِلاَّ القَلِيْل، وَكمّل الله فَضِيْلته بَابتلاَئِه بِأَذَى أَهْل البدعَة وَعدَاوتهِم، وَرِزْقِ العِلْم، وَتحصيل الكُتُب الكَثِيْرَة، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُعمَّر.
قَالَ أَخُوْهُ الشَّيْخ العِمَاد: مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَشدّ محَافِظَة عَلَى وَقته مِنْ أَخِي.
قَالَ الضِّيَاء: وَكَانَ يَسْتَعْمَل السّوَاك كَثِيْراً حَتَّى كَأَنَّ أَسْنَانه البَرَدُ.
سَمِعْتُ مَحْمُوْدَ بنَ سَلاَمَةَ التَّاجِر الحَرَّانِيّ يَقُوْلُ:
كَانَ الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ نَازلاً عِنْدِي بِأَصْبَهَانَ، وَمَا كَانَ يَنَام مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً، بَلْ يُصَلِّي وَيَقرَأُ وَيَبْكِي.
وَسَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ: أَضَافَنِي رَجُلٌ بِأَصْبَهَانَ، فَلَمَّا تَعَشَّينَا، كَانَ عِنْدَهُ رَجُل أَكل مَعَنَا، فَلَمَّا قُمْنَا إِلَى الصَّلاَةِ لَمْ يصل، فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟
قَالُوا: هَذَا رَجُل شَمْسِيّ.
فَضَاق صَدْرِي، وَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: مَا أَضفتَنِي إِلاَّ مَعَ كَافِر!
قَالَ: إِنَّهُ كَاتِب، وَلَنَا عِنْدَهُ رَاحَة، ثُمَّ قُمْت بِاللَّيْلِ أُصَلِّي، وَذَاكَ
يَسْتَمع، فَلَمَّا سَمِعَ القُرْآن تَزَفَّر، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْد أَيَّام، وَقَالَ: لَمَّا سَمِعتك تَقرَأُ، وَقَعَ الإِسْلاَم فِي قَلْبِي.وَسَمِعْتُ نَصْر بن رِضْوَان المُقْرِئ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً عَلَى سِيرَةِ الحَافِظ، كَانَ مُشْتَغِلاً طول زَمَانه.
قِيَامُهُ فِي المُنْكَرِ:
كَانَ لاَ يَرَى مُنْكراً إِلاَّ غَيَّرَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ، وَكَانَ لاَ تَأْخُذُه فِي اللهِ لَوْمَة لاَئِم.
قَدْ رَأَيْتُهُ مرَّة يهرِيق خمراً، فَجبذ صَاحِبُهُ السَّيْف فَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ، وَأَخَذَهُ مَنْ يَدِهِ، وَكَانَ قَوِيّاً فِي بَدَنِهِ، وَكَثِيْراً مَا كَانَ بِدِمَشْقَ يُنكِرُ وَيَكسر الطَّنَابِيرَ وَالشَّبابَات.
قَالَ خَالِي المُوَفَّق: كَانَ الحَافِظ لاَ يَصبر عَنْ إِنْكَار المُنْكَر إِذَا رَآهُ، وَكُنَّا مرَّة أَنْكَرنَا عَلَى قَوْم، وَأَرقنَا خمرهُم، وَتضَارَبْنَا، فَسَمِعَ خَالِي أَبُو عُمَرَ، فَضَاق صَدْره، وَخَاصمنَا، فَلَمَّا جِئْنَا إِلَى الحَافِظِ طَيَّبَ قُلُوْبنَا، وَصوّب فِعلنَا، وَتَلاَ: {وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } .
وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ بنَ أَحْمَدَ الطَّحَّان، قَالَ: كَانَ بَعْض أَوْلاَد صَلاَح الدِّيْنِ قَدْ عُملت لَهُم طنَابِير، وَكَانُوا فِي بُستَان يَشربُوْنَ، فَلقِي الحَافِظ الطّنَابِير، فَكسرهَا.
قَالَ: فَحَدَّثَنِي الحَافِظ، قَالَ: فَلَمَّا كُنْت أنَا وَعَبْد الهَادِي عِنْد حمَّام كَافُوْر، إِذَا قَوْم كَثِيْر مَعَهُم عصيّ، فَخففت المشِي، وَجَعَلت أَقُوْل: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ، فَلَمَّا صرت عَلَى الجِسْر، لحقُوا صَاحِبِي، فَقَالَ: أَنَا مَا كسرت لَكُم شَيْئاً، هَذَا هُوَ الَّذِي كسر.
قَالَ: فَإِذَا فَارِس يَركض،
فَترَجَّل، وَقبَّل يَدِي، وَقَالَ: الصِّبْيَان مَا عَرَفُوك.وَكَانَ قَدْ وَضَع الله لَهُ هَيْبَة فِي النُّفُوْس.
سَمِعْتُ فَضَائِلَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْرٍ المَقْدِسِيَّ يَقُوْلُ:
سمِعتهُم يَتحدثُونَ بِمِصْرَ: أَنَّ الحَافِظ كَانَ قَدْ دَخَلَ عَلَى العَادل، فَقَامَ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْم الثَّانِي، جَاءَ الأُمَرَاء إِلَى الحَافِظ مِثْل سركس وَأُزكش، فَقَالُوا: آمنَّا بِكَرَامَاتك يَا حَافِظ.
وذكرُوا أَنَّ العَادل قَالَ: مَا خفتُ مِنْ أَحَد مَا خفت مِنْ هَذَا.
فَقُلْنَا: أَيُّهَا الْملك، هَذَا رَجُل فَقِيْه.
قَالَ: لَمَّا دَخَلَ مَا خُيّل إِلَي إِلاَّ أَنَّهُ سَبعٌ.
قَالَ الضِّيَاء: رَأَيْت بِخَطِّ الحَافِظ: وَالملك العَادل اجْتَمَعت بِهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ إِلاَّ الجَمِيْل، فَأَقْبَل عَلَيّ، وَقَامَ لِي، وَالتزَمَنِي، وَدعوت لَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: عِنْدنَا قصُوْر هُوَ الَّذِي يُوجب التَّقْصِير.
فَقَالَ: مَا عِنْدَك لاَ تَقصِيْر وَلاَ قصُوْر، وَذَكَرَ أَمر السّنَّة، فَقَالَ: مَا عِنْدَك شَيْء تُعَاب بِهِ لاَ فِي الدِّيْنِ وَلاَ الدُّنْيَا، وَلاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاسدين.
وَبَلَغَنِي بَعْد عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ بِالشَّامِ وَلاَ مصر مِثْل فُلاَن، دَخَلَ عليّ، فَخُيّل إِلَيَّ أَنَّهُ أَسد، وَهَذَا بِبركَة دعَائِكم وَدُعَاء الأَصْحَاب.
قَالَ الضِّيَاء: كَانُوا قَدْ وَغَروا عَلَيْهِ صدر العَادل، وَتَكلّمُوا فِيْهِ، وَكَانَ بَعْضهُم أَرْسَل إِلَى العَادل يَبذل فِي قتل الحَافِظ خَمْسَة آلاَف دِيْنَار.
قُلْتُ: جرّ هَذِهِ الفِتْنَة نَشْر الحَافِظ أَحَادِيْث النُّزَول وَالصِّفَات، فَقَامُوا عَلَيْهِ، وَرَمَوْهُ بِالتّجسيم، فَمَا دَارَى كَمَا كَانَ يُدَارِيهِم الشَّيْخ المُوَفَّق.
سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابنَا يَحكِي عَنِ الأَمِيْر دِرباس: أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ الحَافِظ
إِلَى الْملك العَادل، فَلَمَّا قضَى الْملك كَلاَمه مَعَ الحَافِظ، جَعَلَ يَتَكَلَّم فِي أَمر مَارْدِيْن وَحصَارهَا، فَسَمِعَ الحَافِظ، فَقَالَ: أَيش هَذَا، وَأَنْت بَعْدُ تُرِيْد قِتَال المُسْلِمِيْنَ، مَا تَشكر الله فِيمَا أَعْطَاك، أَمَا ... أَمَا ؟!قَالَ: فَمَا أَعَاد وَلاَ أَبدَى.
ثُمَّ قَالَ الحَافِظُ وَقُمْت مَعَهُ، فَقُلْتُ: أَيش هَذَا؟ نَحْنُ كُنَّا نخَاف عَلَيْك مِنْ هَذَا، ثُمَّ تَعْمَل هَذَا الْعَمَل؟
قَالَ: أَنَا إِذَا رَأَيْت شَيْئاً لاَ أَقدر أَن أَصْبِر، أَوْ كَمَا قَالَ.
وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ ابْنَ الطَّحَّانِ، قَالَ:
كَانَ فِي دَوْلَةِ الأَفْضَلِ جَعَلُوا المَلاَهِي عِنْد الدَّرَجِ، فَجَاءَ الحَافِظ فَكسّر شَيْئاً كَثِيْراً، ثُمَّ صعد يَقرَأُ الحَدِيْث، فَجَاءَ رَسُوْل القَاضِي يَأْمره بِالمشِي إِلَيْهِ لينَاظره فِي الدُّفّ وَالشَّبَّابَة، فَقَالَ: ذَاكَ عِنْدِي حَرَام، وَلاَ أَمْشِي إِلَيْهِ، ثُمَّ قرَأَ الحَدِيْث.
فَعَاد الرَّسُول، فَقَالَ: لاَ بُدَّ مِنَ المشِي إِلَيْهِ، أَنْتَ قَدْ بطّلت هَذِهِ الأَشيَاء عَلَى السُّلْطَان.
فَقَالَ الحَافِظُ: ضَرَبَ الله رقبته وَرقبَة السُّلْطَان.
فَمَضَى الرَّسُول وَخفنَا، فَمَا جَاءَ أَحَد.
وَمِنْ شَمَائِله:
قَالَ الضِّيَاء: مَا أَعْرف أَحَداً مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ رَآهُ إِلاَّ أَحَبّه وَمَدَحَهُ كَثِيْراً؛ سَمِعْتُ مَحْمُوْد بن سَلاَمَةَ الحَرَّانِيّ بِأَصْبَهَانَ، قَالَ:
كَانَ الحَافِظ يَصطف النَّاس
فِي السُّوق يَنظُرُوْنَ إِلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَ بِأَصْبَهَانَ مُدَّة وَأَرَادَ أَنْ يَملكهَا، لملكهَا.قَالَ الضِّيَاء: وَلَمَّا وَصل إِلَى مِصْرَ، كُنَّا بِهَا، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ لِلْجمعَة لاَ نَقدر نَمْشِي مَعَهُ مِنْ كَثْرَة الْخلق، يَتبركُوْن بِهِ، وَيَجْتَمِعُوْنَ حَوْلَهُ، وَكُنَّا أَحَدَاثاً نَكْتُب الحَدِيْث حَوْلَهُ، فَضحكنَا مِنْ شَيْءٍ، وَطَال الضحك، فَتبسَّم وَلَمْ يَحْرَد عَلَيْنَا، وَكَانَ سخيّاً، جَوَاداً، لاَ يَدّخر دِيْنَاراً وَلاَ دِرْهَماً مهمَا حصَّل أَخْرَجَهُ، لَقَدْ سَمِعْتُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَخْرُج فِي اللَّيْلِ بِقفَاف الدّقيق إِلَى بيُوت مُتَنَكِّراً فِي الظّلمَة، فَيُعْطِيهم وَلاَ يُعرَف، وَكَانَ يُفتح عَلَيْهِ بِالثِّيَاب، فَيُعْطِي النَّاس وَثَوْبه مرقّع.
قَالَ خَالِي الشَّيْخ مُوَفَّق الدِّيْنِ: كَانَ الحَافِظ يُؤثر بِمَا تَصل يَده إِلَيْهِ سِرّاً وَعَلاَنِيَّة ... ، ثُمَّ سرد حِكَايَات فِي إِعطَائِهِ جُمْلَةَ دَرَاهِمَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ بدر بن مُحَمَّدٍ الجَزَرِيّ يَقُوْلُ:
مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَكرم مِنَ الحَافِظ؛ كُنْت أَسْتدين يَعْنِي لِأطْعم بِهِ الفُقَرَاء، فَبقِي لِرَجُلٍ عِنْدِي ثَمَانِيَة وَتِسْعُوْنَ دِرْهَماً، فَلَمَّا تَهَيَّأَ الوَفَاء، أَتَيْتُ الرَّجُل، فَقُلْتُ: كَمْ لَكَ؟
قَالَ: مَا لِي عِنْدَك شَيْء!
قُلْتُ: مَنْ أَوَفَاهُ؟
قَالَ: قَدْ أُوفِي عَنْكَ، فَكَانَ وَفَّاهُ الحَافِظُ وَأَمره أَنْ يَكتم عَلَيْهِ.
وَسَمِعْتُ سُلَيْمَان الأَسْعَرْدِيّ يَقُوْلُ:
بعثَ الأَفْضَل ابْن صَلاَح الدِّيْنِ إِلَى الحَافِظ بنفقَة وَقمح كَثِيْر، فَفَرَّقه كُلّه.
وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ عَبْدِ اللهِ العِرَاقِيّ؛ حَدَّثَنِي مَنْصُوْرٌ الغَضَارِيُّ، قَالَ:
شَاهَدْتُ الحَافِظَ فِي الغَلاَءِ بِمِصْرَ وَهُوَ ثَلاَث لَيَالٍ يُؤثر بعشَائِهِ وَيطوِي.
رَأَيْت يَوْماً قَدْ أُهدِيَ إِلَى بَيْت الحَافِظ مشْمش فَكَانُوا يفرقُون، فَقَالَ مِنْ حِينه: فَرِّقُوا {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّوْنَ } .وَقَدْ فُتح لَهُ بِكَثِيْر مِنَ الذَّهب وَغَيْرِهِ، فَمَا كَانَ يَترك شَيْئاً حَتَّى قَالَ لِي ابْنه أَبُو الفَتْحِ: وَالِدِي يُعطِي النَّاس الكَثِيْر، وَنَحْنُ لاَ يَبعثَ إِلَيْنَا شَيْئاً، وَكُنَّا بِبَغْدَادَ.
مَا ابْتُلِيَ الحَافِظُ بِهِ:
قَالَ الضِّيَاء: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْد الرَّحْمَانِ بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الجَبَّارِ، سَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ:
سَأَلت الله أَنْ يَرْزُقنِي مِثْل حَال الإِمَام أَحْمَد، فَقَدْ رزقنِي صلاَته قَالَ: ثُمَّ ابْتُلِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَأُوذِي.
سَمِعْتُ الإِمَام عَبْد اللهِ بن أَبِي الحَسَنِ الجُبَّائِيّ بِأَصْبَهَانَ يَقُوْلُ:
أَبُو نُعَيْمٍ قَدْ أَخَذَ عَلَى ابْنِ مَنْدَةَ أَشيَاء فِي كِتَابِ (الصَّحَابَة) ، فَكَانَ الحَافِظُ أَبُو مُوْسَى يَشتهِي أَنْ يَأْخذ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي فِي الصَّحَابَة، فَمَا كَانَ يَجسر، فَلَمَّا قَدِمَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، أَشَارَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، قَالَ: فَأَخَذَ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ نَحْواً مِنْ مائَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ مَوْضِعاً، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ الصَّدْر الخُجَنْدِيّ،
طلب عَبْد الغَنِيِّ، وَأَرَادَ هَلاَكه، فَاخْتَفَى.وَسَمِعْتُ مَحْمُوْد بن سَلاَمَةَ يَقُوْلُ: مَا أَخرجنَا الحَافِظ مِنْ أَصْبَهَان إِلاَّ فِي إِزَار، وَذَلِكَ أَن بَيْت الخُجَنْدِيّ أَشَاعِرَة، كَانُوا يَتعصّبُوْنَ لأَبِي نُعَيْمٍ، وَكَانُوا رُؤسَاء البَلَد.
وَسَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ: كُنَّا بِالمَوْصِل نَسْمَع (الضُّعَفَاء) لِلْعُقَيْلِيّ، فَأَخذنِي أَهْل المَوْصِل وَحَبَسُونِي، وَأَرَادُوا قتلِي مِنْ أَجْل ذكر شَيْء فِيْهِ، فَجَاءنِي رَجُلٌ طَوِيْل وَمَعَهُ سَيْف، فَقُلْتُ: يَقتلنِي وَأَسْترِيح.
قَالَ: فَلَمْ يَصنع شَيْئاً، ثُمَّ أَطلقونِي، وَكَانَ يَسْمَع مَعَهُ ابْنُ البَرْنِيِّ الوَاعِظ، فَقلع الْكرَّاس الَّذِي فِيْهِ ذَلِكَ الشَّيْء، فَأَرْسَلُوا، وَفتشُوا الكِتَاب، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً، فَهَذَا سَبَب خَلاَصه.
وَقَالَ: كَانَ الحَافِظ يَقرَأُ الحَدِيْث بِدِمَشْقَ، وَيَجْتَمِع عَلَيْهِ الْخلق، فَوَقَعَ الْحَسَد، فَشرعُوا عَملُوا لَهُم وَقتاً لقِرَاءة الحَدِيْث، وَجَمَعُوا النَّاس، فَكَانَ هَذَا يَنَام وَهَذَا بِلاَ قَلْب، فَمَا اشتفَوْا، فَأَمرُوا النَّاصِح ابْن الحَنْبَلِيِّ
بِأَنْ يَعظ تَحْت النّسر يَوْمَ الجُمُعَةِ وَقت جُلُوْس الحَافِظ.فَأَوّل ذَلِكَ: أَنَّ النَّاصح وَالحَافِظ أَرَادَا أَنْ يَخْتلفَا الوَقْت، فَاتفقَا أَنَّ النَّاصح يَجْلِس بَعْد الصَّلاَة، وَأَنْ يَجْلِس الحَافِظ الْعَصْر، فَدسُّوا إِلَى النَّاصح رَجُلاً نَاقص العَقْل مِنْ بَنِي عَسَاكِر، فَقَالَ لِلنَّاصح فِي المَجْلِسِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّك تَقُوْلُ الْكَذِب عَلَى المِنْبَرِ.
فَضُرِبَ، وَهَرَبَ، فَتمت مكيدتهُم، وَمَشَوا إِلَى الوَالِي، وَقَالُوا: هَؤُلاَءِ الحَنَابِلَة قصدهُم الفِتْنَة، وَاعْتِقَادهُم يُخَالِف اعْتِقَادنَا ... ، وَنَحْو هَذَا.
ثُمَّ جَمعُوا كبرَاءهُم، وَمضُوا إِلَى القَلْعَة إِلَى الوَالِي، وَقَالُوا: نشتهِي أَنْ تحضر عَبْد الغَنِيِّ، فَانحدر إِلَى المَدِيْنَةِ خَالِي المُوَفَّق، وَأَخِي الشَّمْس البُخَارِيّ، وَجَمَاعَة، وَقَالُوا: نَحْنُ ننَاظرهُم.
وَقَالُوا لِلْحَافِظ: لاَ تَجِئْ، فَإِنَّك حدّ، نَحْنُ نَكفِيك.
فَاتَّفَقَ أَنَّهُم أَخذُوا الحَافِظ وَحْدَه، وَلَمْ يَدر أَصْحَابنَا، فَنَاظروهُ، وَاحتدّ، وَكَانُوا قَدْ كَتَبُوا شَيْئاً مِنَ الاعْتِقَاد، وَكتبُوا خُطُوطهُم فِيْهِ، وَقَالُوا لَهُ: اكْتُبْ خطّك.
فَأَبَى، فَقَالُوا لِلوَالِي: الفُقَهَاء كلّهُم قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ يُخَالِفهُم.
وَاسْتَأَذنوهُ فِي رفع مِنْبَره، فَبَعَثَ الأَسرَى، فَرفعُوا مَا فِي جَامِع دِمَشْق مِنْ مِنْبَر وَخزَانَة وَدَرَابزِين، وَقَالُوا: نُرِيْد أَنْ لاَ تَجعل فِي الجَامِع إِلاَّ صَلاَة الشَّافِعِيَّة.
وَكسّرُوا مِنْبَر الحَافِظ، وَمَنَعونَا مِنَ الصَّلاَةِ، فَفَاتتنَا صَلاَة الظُّهْر.
ثُمَّ إِنَّ النَّاصح جمع البَنَويَّة، وَغَيْرهُم، وَقَالُوا: إِنْ لَمْ يخلونَا نُصَلِّي بِاخْتِيَارهِم، صلّينَا بِغَيْرِ اخْتيَارهِم.فَبَلَغَ ذَلِكَ القَاضِي، وَكَانَ صَاحِبَ الفِتْنَة، فَأَذن لَهُم، وَحمَى الحَنَفِيَّة مقصُوْرتهُم بِأَجنَاد، ثُمَّ إِنَّ الحَافِظ ضَاق صَدْره وَمَضَى إِلَى بَعْلَبَكَّ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّة، فَقَالَ لَهُ أَهْلهَا: إِنِ اشْتهيت جِئْنَا مَعَكَ إِلَى دِمَشْقَ نؤذِي مَنْ آذَاكَ، فَقَالَ: لاَ.
وَتوجّه إِلَى مِصْرَ، فَبقِي بِنَابُلُسَ مُدَّة يقرأُ الحَدِيْث، وَكُنْتُ أَنَا بِمِصْرَ، فَجَاءَ شَابّ مِنْ دِمَشْقَ بِفَتَاو إِلَى صَاحِب مِصْر الْملك العَزِيْز وَمَعَهُ كتب أَنَّ الحَنَابِلَة يَقُوْلُوْنَ كَذَا وَكَذَا مِمَّا يُشنِّعُوْنَ بِهِ عَلَيْهِم.
فَقَالَ -وَكَانَ يَتصيد-: إِذَا رَجَعنَا أَخرجنَا مِنْ بلاَدنَا مَنْ يَقُوْلُ بِهَذِهِ المَقَالَة.
فَاتَّفَقَ أَنَّهُ عدَا بِهِ الْفرس، فَشب بِهِ، فَسَقَطَ، فَخُسِف صَدْره، كَذَلِكَ حَدَّثَنِي يُوْسُفُ بنُ الطُّفَيْل شَيْخنَا وَهُوَ الَّذِي غسّله، فَأُقيم ابْنه صَبِيّ، فَجَاءَ الأَفْضَل مِنْ صَرْخَدُ، وَأَخَذَ مِصْر، وَعَسْكَر، وَكرّ إِلَى دِمَشْقَ، فَلقِي الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ فِي الطَّرِيْق، فَأَكْرَمَه إِكرَاماً كَثِيْراً، وَنفّذ يُوصي بِهِ بِمِصْرَ، فَتُلُقِّي الحَافِظ بِالإِكرَام، وَأَقَامَ بِهَا يُسْمِع الحَدِيْث بِموَاضِع، وَكَانَ بِهَا كَثِيْر مِنَ المخَالفِيْن، وَحصر الأَفْضَل دِمَشْق حصراً شدِيداً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِصْرَ، فَسَافر العَادل عَمُّه خَلفه، فَتملّك مِصْر، وَأَقَامَ، وَكثر المخَالفُوْنَ عَلَى الحَافِظ، فَاسْتُدعِي، وَأَكْرَمَهُ العَادل، ثُمَّ سَافر العَادل إِلَى دِمَشْقَ، وَبَقِيَ الحَافِظ بِمِصْرَ، وَهُم يَنَالُوْنَ مِنْهُ، حَتَّى عزم الْملك الكَامِل عَلَى إِخرَاجه، وَاعْتُقِل فِي دَار أُسْبُوْعاً، فَسَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ:
مَا وَجَدْت رَاحَة فِي مِصْر مِثْل تِلْكَ اللَّيَالِي.
قَالَ: وَكَانَتِ امرَأَة فِي دَار إِلَى جَانب تِلْكَ الدَّار، فَسمِعتهَا تَبْكِي، وَتَقُوْلُ:
بِالسِّرِّ الَّذِي أَودعته قَلْبَ مُوْسَى حَتَّى قَوِيَ
عَلَى حمل كَلاَمك.قَالَ: فَدعوت بِهِ، فَخلصتُ تِلْكَ اللَّيْلَة.
سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الغَنِيِّ، حَدَّثَنِي الشُّجَاع بن أَبِي زكرِي الأَمِيْر، قَالَ:
قَالَ لِي الْملك الكَامِل يَوْماً: هَا هُنَا فَقِيْه قَالُوا إِنَّهُ كَافِر.
قُلْتُ: لاَ أَعْرفه.
قَالَ: بَلَى، هُوَ مُحَدِّث.
قُلْتُ: لَعَلَّهُ الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ؟
قَالَ: هَذَا هُوَ.
فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْملك، العُلَمَاء أَحَدهُم يَطلب الآخِرَة، وَآخر يَطلب الدُّنْيَا، وَأَنْت هُنَا بَاب الدُّنْيَا، فَهَذَا الرَّجُل جَاءَ إِلَيْك أَو تَشَفَّع يطْلب شَيْئاً ؟
قَالَ: لاَ.
فَقُلْتُ: وَاللهِ هَؤُلاَءِ يَحسدُوْنَهُ، فَهَلْ فِي هَذِهِ البِلاَد أَرْفَع مِنْكَ؟
قَالَ: لاَ.
فَقُلْتُ: هَذَا الرَّجُل أَرْفَع العُلَمَاء كَمَا أَنْتَ أَرْفَع النَّاس.
فَقَالَ: جَزَاكَ اللهُ خَيراً كَمَا عَرَّفْتَنِي، ثُمَّ بعثَتُ رقعَة إِلَيْهِ أُوصيه بِهِ، فَطَلبنِي، فَجِئْت، وَإِذَا عِنْدَهُ شَيْخ الشُّيُوْخِ ابْن حَمُّوَيْه، وَعِزّ الدِّيْنِ الزّنجَارِيّ، فَقَالَ لِي السُّلْطَان: نَحْنُ فِي أَمر الحَافِظ.
فَقَالَ: أَيُّهَا الْملك، القَوْم يَحسدُوْنَهُ، وَهَذَا الشَّيْخ بَيْنَنَا -يَعْنِي: شَيْخ الشُّيُوْخِ- وَحلفته هَلْ سَمِعْتَ مِنَ الحَافِظ كَلاَماً يُخْرِج عَنِ الإِسْلاَم؟
فَقَالَ: لاَ وَاللهِ، وَمَا سَمِعْتُ عَنْهُ إِلاَّ كُلَّ جَمِيْلٍ، وَمَا رَأَيْتهُ.
وَتَكلّم ابْن الزّنجَارِيّ، فَمدح الحَافِظ كَثِيْراً وَتَلاَمِذته، وَقَالَ: أَنَا أَعْرفهُم، مَا رَأَيْتُ مِثْلهُم.
فَقُلْتُ: وَأَنَا أَقُوْل شَيْئاً آخر: لاَ يَصل إِلَيْهِ مكروهٌ حَتَّى يُقْتَل مِنَ الأَكرَاد ثَلاَثَة آلاَف.
قَالَ: فَقَالَ: لاَ يُؤذَى الحَافِظ.
فَقُلْتُ: اكْتُبْ خطّك بِذَلِكَ، فَكَتَبَ.
وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابنَا يَقُوْلُ: إِنَّ الحَافِظ أُمِر أَنْ يَكتبَ اعْتِقَادَه، فَكَتَبَ: أَقُوْل كَذَا؛ لِقَوْل الله كَذَا، وَأَقُوْل كَذَا؛ لِقَوْل الله كَذَا ولِقَوْل النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَذَا، حَتَّى فَرغ مِنَ المَسَائِل الَّتِي يُخَالِفُوْنَ فِيْهَا.فَلَمَّا رَآهَا الكَامِل، قَالَ: أَيش أَقُوْل فِي هَذَا يَقُوْلُ بقول الله وَقول رَسُوْله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟!
قُلْتُ : وَذَكَرَ أَبُو المُظَفَّرِ الوَاعِظ فِي (مِرَآة الزَّمَانِ) ، قَالَ: كَانَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ يَقرَأُ الحَدِيْث بَعْد الجُمُعَة، قَالَ: فَاجْتَمَعَ القَاضِي مُحْيِي الدِّيْنِ، وَالخَطِيْب ضِيَاء الدِّيْنِ، وَجَمَاعَة، فَصعدُوا إِلَى القَلْعَة، وَقَالُوا لوَالِيهَا: هَذَا قَدْ أَضلّ النَّاس، وَيَقُوْلُ بالتّشبيه.
فَعقدُوا لَهُ مَجْلِساً، فَنَاظرهُم، فَأَخذُوا عَلَيْهِ موَاضِع، مِنْهَا: قَوْلُهُ: لاَ أُنزهه تَنزِيهاً يَنفِي حَقِيْقَة النُّزَول، وَمِنْهَا: كَانَ اللهُ وَلاَ مَكَان، وَلَيْسَ هُوَ اليَوْم عَلَى مَا كَانَ، وَمِنْهَا: مَسْأَلَة الْحَرْف وَالصّوت، فَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا كَانَ، فَقَدْ أَثْبَت لَهُ المَكَان، وَإِذَا لَمْ تنَزهه عَنْ حقِيْقَة النُّزَول، فَقَدْ جوزت عَلَيْهِ الانتقَالَ، وَأَمَّا الْحَرْف وَالصّوت فَلَمْ يَصحَّ عَنْ إِمَامك، وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّهُ كَلاَم اللهِ، يَعْنِي غَيْر مَخْلُوْق.
وَارتفعت الأَصوَات، فَقَالَ وَالِي القَلْعَة الصَّارم برغش: كُلّ هَؤُلاَءِ عَلَى ضلاَلَة وَأَنْت عَلَى الحَقِّ؟
قَالَ: نَعَمْ.
فَأَمر بِكسّر مِنْبَره.
قَالَ: وَخَرَجَ الحَافِظ إِلَى بَعْلَبَكَّ، ثُمَّ سَافر إِلَى مِصْرَ ... ، إِلَى أَنْ قَالَ:
فَأَفتَى فُقَهَاء مِصْر بِإِباحَة دَمه، وَقَالُوا: يُفسد عقَائِد النَّاس، وَيذَكَرَ التّجسيم.
فَكَتَبَ الوَزِيْر بنفِيه إِلَى المَغْرِب، فَمَاتَ الحَافِظ قَبْل وُصُوْل الكِتَاب.
قَالَ: وَكَانَ يُصَلِّي كُلّ يَوْم وَليلَة ثَلاَث مائَة رَكْعَة، وَيَقوم اللَّيْل، وَيَحْمِل مَا أَمكنه إِلَى بيُوت الأَرَامل وَاليتَامَى سرّاً، وَضَعف بَصَره مِنْ كَثْرَة البُكَاء وَالمُطَالَعَة، وَكَانَ أَوحد زَمَانه فِي علم الحَدِيْث.وَقَالَ أَيْضاً: وَفِي ذِي القَعْدَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ كَانَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ أَمر الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، وَإِصرَاره عَلَى مَا ظهر مِنِ اعْتِقَاده، وَإِجمَاع الفُقَهَاء عَلَى الفُتْيَا بتكفِيره، وَأَنَّهُ مُبْتَدِع لاَ يَجُوْزُ أَنْ يُترك بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ، فَسَأَلَ أَنْ يُمهل ثَلاَثَة أَيَّام لِيَنْفَصِل عَنِ البَلَد، فَأُجيب.
قُلْتُ: قَدْ بلوتُ عَلَى أَبِي المُظَفَّرِ المجَازفَة وَقِلَّة الوَرَع فِيمَا يُؤرّخه -وَاللهُ الموعدُ -وَكَانَ يَترفّض، رَأَيْت لَهُ مُصَنّفاً فِي ذَلِكَ فِيْهِ دَوَاهٍ، وَلَوْ أَجْمَعت الفُقَهَاء عَلَى تَكفِيره -كَمَا زَعَم- لَمَا وَسعهُم إِبقَاؤُه حيّاً، فَقَدْ كَانَ عَلَى مقَالَته بِدِمَشْقَ أَخُوْهُ الشَّيْخ العِمَاد وَالشَّيْخ مُوَفَّق الدِّيْنِ، وَأَخُوْهُ القُدْوَةُ الشَّيْخ أَبُو عُمَرَ، وَالعَلاَّمَة شَمْس الدِّيْنِ البُخَارِيّ، وَسَائِر الحَنَابِلَة، وَعِدَّة مِنْ أَهْلِ الأَثر، وَكَانَ بِالبَلَدِ أَيْضاً خلق مِنَ العُلَمَاءِ لاَ يُكفّرُوْنَهُ، نَعم، وَلاَ يُصرّحُوْنَ بِمَا أَطْلَقَهُ مِنَ العبَارَة لَمَّا ضَايقوهُ، وَلَوْ كَفّ عَنْ تِلْكَ العبَارَات، وَقَالَ بِمَا وَردت بِهِ النّصوص لأَجَاد وَلسلم، فَهُوَ الأَوْلَى، فَمَا فِي تَوسيع العبَارَات المُوهِمَة خَيْر، وَأَسوَأ شَيْء قَالَهُ: أَنَّهُ ضللَ العُلَمَاء الحَاضِرِيْنَ، وَأَنَّهُ عَلَى الحَقِّ، فَقَالَ كلمَة فِيْهَا شَرّ وَفسَاد وَإِثَارَة لِلبلاَء، رَحِمَ اللهُ الجَمِيْع وَغفر لَهُم، فَمَا قصدهُم إِلاَّ تَعَظِيْم البَارِي- عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الطّرفِيْن، وَلَكِنَّ الأَكمل فِي التعَظِيْم وَالتنزِيه الوُقُوْف مَعَ أَلْفَاظ الكِتَاب وَالسّنَّة، وَهَذَا هُوَ مَذْهَب السَّلَف -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-.
وَبِكُلِّ حَال: فَالحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ مِنْ أَهْلِ الدِّيْنِ وَالعِلْم وَالتَأَلّه وَالصّدع بِالْحَقِّ، وَمَحَاسِنه كَثِيْرَة، فَنَعُوذ بِاللهِ مِنَ الهَوَى وَالمِرَاء وَالعصبيَّة وَالافترَاء، وَنبرَأُ مِنْ كُلِّ مُجَسِّم وَمُعطِّل.مِنْ فِرَاسَةِ الحَافِظِ وَكَرَامَاتِهِ:
قَالَ الحَافِظُ الضِّيَاء: سَمِعْتُ الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى بن عَبْدِ الغَنِيِّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ وَالِدِي بِمِصْرَ وَهُوَ يذكر فَضَائِل سُفْيَان الثَّوْرِيّ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِن وَالِدِي مِثْله.
فَالْتَفَت إِلَيَّ، وَقَالَ: أَيْنَ نَحْنُ مِنْ أَولئك؟
سَمِعْتُ نَصْر بن رِضْوَان المُقْرِئ يَقُوْلُ: كَانَ مِنْبَر الحَافِظ فِيْهِ قِصَر، وَكَانَ النَّاسُ يُشرفُوْنَ إِلَيْهِ، فَخطر لِي لَوْ كَانَ يُعَلَّى قَلِيْلاً، فَترك الحَافِظ القِرَاءة مِنَ الجُزْء، وَقَالَ:
بَعْضُ الإِخْوَان يَشتهِي أَنْ يُعَلَّى هَذَا المِنْبَر قَلِيْلاً، فَزَادُوا فِي رِجْلَيْهِ.
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ، حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَخُو اليَاسَمِيْنِيّ، قَالَ:كُنْتُ يَوْماً عِنْد وَالِدك، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَشتهِي لَوْ أَنَّ الحَافِظ يُعْطِينِي ثَوْبه حَتَّى أُكفَّن فِيْهِ.
فَلَمَّا أَردت القِيَام، خلع ثَوْبه الَّذِي يَلِي جَسَده وَأَعْطَانِيه، وَبَقِيَ الثَّوْب عِنْدنَا، كُلُّ مَنْ مَرِضَ تَرَكَوهُ عَلَيْهِ، فَيُعَافَى.
سَمِعْتُ الرَّضِيّ عَبْد الرَّحْمَانِ المَقْدِسِيّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ الحَافِظ بِالقَاهِرَةِ، فَدَخَلَ رَجُل، فَسَلَّمَ، وَدفعَ إِلَى الحَافِظ دِيْنَارَيْنِ، فَدَفَعهُمَا الحَافِظ إِلَيَّ، وَقَالَ: مَا كَأَنَّ قَلْبِي يَطيب بِهِمَا.
فَسَأَلت الرَّجُل: أَيش شغلك؟
قَالَ: كَاتِب عَلَى النّطرُوْنَ -يَعْنِي: وَعَلَيْهِ ضمَان-.
حَدَّثَنِي فَضَائِل بن مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْر بِجَمَّاعِيْل، حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّي بَدْرَان بن أَبِي بَكْرٍ، قَالَ:
كُنْتُ مَعَ الحَافِظ -يَعْنِي فِي الدَّار الَّتِي وَقفهَا عَلَيْهِ يُوْسُف المسجّف -وَكَانَ المَاء مَقْطُوْعاً، فَقَامَ فِي اللَّيْلِ، وَقَالَ: امْلأْ لِي الإِبرِيق.
فَقضَى الحَاجَة، وَجَاءَ فَوَقَفَ، وَقَالَ: مَا كُنْت أَشتهِي الوُضُوْء إِلاَّ مِنَ البركَةِ.
ثُمَّ صَبَر قَلِيْلاً، فَإِذَا المَاء قَدْ جرَى، فَانْتظر حَتَّى فَاضت البركَة، ثُمَّ انْقَطَع المَاء، فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: هَذِهِ كرَامَة لَكَ.
فَقَالَ لِي: قل: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، لَعَلَّ المَاء كَانَ محتبساً، لاَ تَقُلْ هَذَا!
وَسَمِعْتُ الرَّضِيَّ عَبْد الرَّحْمَانِ يَقُوْلُ:
كَانَ رَجُل قَدْ أَعْطَى الحَافِظ جَامُوْساً فِي البَحْرَةِ، فَقَالَ لِي: جِئْ بِهِ،
وَبِعْهُ.فَمضيت، فَأَخَذتهُ، فَنفر كَثِيْراً، وَبَقِيَ جَمَاعَة يَضحكُوْن مِنْهُ.
فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ بِبركَة الحَافِظ سهّل أَمره، فَسُقته مَعَ جَامُوْسَيْنِ، فَسهُل أَمره، وَمَشَى فَبعته بقَرْيَة.
وَفَاتُهُ:
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى يَقُوْلُ : مَرِضَ أَبِي فِي رَبِيْع الأَوَّلِ مرضاً شدِيداً مَنعه مِنَ الكَلاَم وَالقِيَام، وَاشتدَّ سِتَّةَ عشرَ يَوْماً، وَكُنْت أَسْأَلُهُ كَثِيْراً: مَا يَشتهِي؟ فَيَقُوْلُ: أَشتهِي الجَنَّة، أَشتهِي رَحْمَة الله.
لاَ يَزِيْد عَلَى ذَلِكَ، فَجِئْته بِمَاء حَارّ، فَمدَّ يَده، فَوضأته وَقت الفَجْر، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ! قُمْ صلّ بِنَا، وَخفّف.
فَصَلَّيْت بِالجَمَاعَة، وَصَلَّى جَالِساً، ثُمَّ جلَسْت عِنْد رَأْسه، فَقَالَ: اقْرَأْ يَس.
فَقرَأتهَا، وَجَعَلَ يَدعُوا وَأَنَا أُؤمّن، فَقُلْتُ: هُنَا دَوَاء تَشْرَبُهُ، قَالَ: يَا بُنَيَّ! مَا بَقِيَ إِلاَّ المَوْت.
فَقُلْتُ: مَا تَشتهِي شَيْئاً؟
قَالَ: أَشتهِي النَّظَر إِلَى وَجه الله- سُبْحَانه-.
فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ عَنِّي رَاض؟
قَالَ: بَلَى وَاللهِ.
فَقُلْتُ: مَا تُوصي بِشَيْءٍ؟
قَالَ: مَا لِي عَلَى أَحَد شَيْء، وَلاَ لأَحدٍ عَلَيَّ شَيْء.
قُلْتُ: تُوصينِي؟
قَالَ: أُوصيك بتَقْوَى الله، وَالمحَافِظَة عَلَى طَاعته، فَجَاءَ جَمَاعَة يَعُوْدُوْنَهُ، فَسلّمُوا، فَردّ عَلَيْهِم، وَجَعَلُوا يَتحدثُونَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ اذكرُوا الله، قَوْلُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله.
فَلَمَّا قَامُوا، جَعَلَ يذَكَرَ الله بِشفتيه، وَيُشِيْر بِعَيْنَيْهِ، فَقُمْت لأنَاول رَجُلاً كِتَاباً مِنْ جَانب المَسْجَد، فَرَجَعت وَقَدْ خَرَجت روحه -رَحِمَهُ الله- وَذَلِكَ يَوْم الاثْنَيْنِ، الثَّالِث وَالعِشْرِيْنَ مِنْ رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ سِتِّ
مائَةٍ، وَبَقِيَ لَيْلَة الثُّلاَثَاء فِي المَسْجَدِ، وَاجْتَمَعَ الْخلق مِنَ الغَدِ، فَدَفَنَّاهُ بِالقرَافَة.قَالَ الضِّيَاء: تَزَوَّجَ الحَافِظ بِخَالتِي رَابِعَة ابْنَة خَاله الشَّيْخ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ قُدَامَة، فَهِيَ أُمّ أَوْلاَده مُحَمَّد وَعَبْد اللهِ وَعَبْد الرَّحْمَانِ وَفَاطِمَة، ثُمَّ تسرَّى بِمِصْرَ.
قُلْتُ: أَوْلاَده عُلَمَاء:
فَمُحَمَّدٌ: هُوَ المُحَدِّثُ الحَافِظُ الإِمَام الرَّحَّال عِزّ الدِّيْنِ أَبُو الفَتْحِ، مَاتَ سَنَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَسِتِّ مائَةٍ كَهْلاً، وَكَانَ كَبِيْرَ القَدْرِ.
وَعَبْد اللهِ: هُوَ المُحَدِّثُ الحَافِظُ المُصَنِّف جَمَال الدِّيْنِ أَبُو مُوْسَى، رَحل وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ كُلَيْبٍ، وَخَلِيْلٍ الرَّارَانِيِّ، مَاتَ كَهْلاً، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ.
وَعَبْد الرَّحْمَانِ: هُوَ المُفْتِي أَبُو سُلَيْمَانَ ابْنُ الحَافِظِ، سَمِعَ مِنَ البُوْصِيْرِيّ وَابْن الجَوْزِيِّ، عَاشَ بِضْعاً وَخَمْسِيْنَ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ، سَنَةَ ثَلاَثٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ.
مِن المَنَامَاتِ:
أَوْرَد لَهُ الشَّيْخ الضِّيَاء عِدَّة مَنَامَات، مِنْهَا:
سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ يُوْنُسَ المَقْدِسِيّ الأَمِيْن يَقُوْلُ: رَأَيْتُ كَأَنِّيْ بِمسجد الدَّيْرِ، وَفِيْهِ رِجَال عَلَيْهِم ثِيَابٌ بِيْضٌ، وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهُم مَلاَئِكَةٌ، فَدَخَلَ
الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، فَقَالُوا بِأَجْمَعهِم: نشْهد بِاللهِ إِنَّك مِنْ أَهْلِ اليَمِين، مرَّتين أَوْ ثَلاَثاً.سَمِعْتُ الحَافِظَ عَبْد الغَنِيِّ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ وَأَنَا أَمْشِي خَلفه إِلاَّ أَنّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَجُلاً.
سَمِعْتُ الرَّضِيَّ عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّد يَقُوْلُ: رَأَيْتُ كَأَنَّ قَائِلاً يَقُوْلُ: جَاءَ الحَافِظ مِنْ مِصْرَ، فَمضيتُ أَنَا وَالشَّيْخ أَبُو عَمْرٍو العِزّ ابْن الحَافِظِ إِلَيْهِ، فَجِئْنَا إِلَى دَار، فَفُتِحَ البَاب، فَإِذَا الحَافِظ عَلَى وَجهه عَمُود مِنْ نور إِلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا وَالِدته فِي تِلْكَ الدَّار.
سَمِعْتُ الشَّيْخ الصَّالِح غشيم بن نَاصِر المِصْرِيّ، قَالَ:
لَمَّا مَاتَ الحَافِظ، كُنْت بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدمتُ، قُلْتُ: أَيْنَ دُفِنَ؟
قِيْلَ: شرقِي قَبْر الشَّافِعِيّ، فَخَرَجت، فَلقيت رَجُلاً، فَقُلْتُ: أَيْنَ قَبْر عَبْد الغَنِيِّ؟
قَالَ: لاَ تسَأَلنِي عَنْهُ، مَا أَنَا عَلَى مَذْهَبه، وَلاَ أُحبّه.
فَتركته، وَمشيت، وَأَتيت قَبْر الحَافِظ، وَترددت إِلَيْهِ، فَأَنَا بَعْضُ الأَيَّام فِي الطَّرِيْق، فَإِذَا الرَّجُل، فَسَلَّمَ عليّ، وَقَالَ: أَمَا تَعرفنِي؟ أَنَا الَّذِي لَقِيتك مِنْ مُدَّة، وَقُلْتُ لَكَ كَذَا وَكَذَا، مَضَيْت تِلْكَ اللَّيْلَة، فَرَأَيْت قَائِلاً يَقُوْلُ لِي: يَقُوْلُ لَكَ فُلاَن وَسَمَّانِي: أَيْنَ قَبْر عَبْد الغَنِيِّ؟ فَتَقُوْلُ: مَا قُلْت؟! وَكرّر القَوْل عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنْ أَرَادَ الله بِك خَيراً فَأَنْت تَكُوْن عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: فَلَو كُنْت أَعْرف مَنْزِلك، لأَتيتك.
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ، حَدَّثَنِي صنِيعَة الْملك هِبَة اللهِ بن حَيْدَرَةَ، قَالَ:
لَمَّا خَرَجت لِلصَّلاَة عَلَى الحَافِظ، لَقِيَنِي هَذَا المَغْرِبِيُّ، فَقَالَ: أَنَا غَرِيْب، رَأَيْت البَارِحَة كَأَنِّيْ فِي أَرْض بِهَا قَوْم عَلَيْهِم ثِيَاب بيض، فَقُلْتُ: مَا
هَؤُلاَءِ؟ قِيْلَ: مَلاَئِكَة السَّمَاء نَزلُوا لِمَوتِ الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ هُوَ؟ فَقِيْلَ لِي: اقعدْ عِنْد الجَامِع حَتَّى يَخْرُج صنِيعَة الْملك، فَامض مَعَهُ.قَالَ: فَلقيته وَاقفاً عِنْد الجَامِع.
سَمِعْتُ الفَقِيْه أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الغَنِيِّ سَنَة اثْنَتَيْ عَشْرَةَ يَقُوْلُ:
رَأَيْتُ أَخَاك الكَمَال عَبْد الرَّحِيْمِ -وَكَانَ تُوُفِّيَ تِلْكَ السّنَة- فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ: يَا فُلاَنُ، أَيْنَ أَنْتَ؟
قَالَ: فِي جَنَّة عدن.
فَقُلْتُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ الحَافِظُ أَوِ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ.
فَقَالَ: مَا أَدْرِي، وَأَمَّا الحَافِظ فُكُلُّ لَيْلَة جُمُعَة يُنْصب لَهُ كُرْسِيّ تَحْت الْعَرْش، وَيُقْرَأُ عَلَيْهِ الحَدِيْث، وَيُنْثَرُ عَلَيْهِ الدُّرُّ وَالجَوْهَر، وَهَذَا نَصِيْبِي مِنْهُ، وَكَانَ فِي كُمِّه شَيْء.
سَمِعْتُ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن حَسَنِ بنِ مُحَمَّدٍ الكُرْدِيّ بِحَرَّانَ يَقُوْلُ:
قَرَأْت فِي رَمَضَانَ ثَلاَثِيْنَ ختمَة، وَجَعَلت ثوَاب عشر مِنْهَا لِلْحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: ترَى يَصل هَذَا إِلَيْهِ؟
فَرَأَيْت فِي النَّوْمِ كَأَنَّ عِنْدِي ثَلاَثَة أَطباق رطب، فَجَاءَ الحَافِظ، وَأَخَذَ وَاحِداً مِنْهَا.
وَرَأَيْتهُ مرَّة، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ مُتَّ؟
قَالَ: إِنَّ اللهَ بقَى عَلَيَّ وِرْدِي مِنَ الصَّلاَةِ، أَوْ نَحْو هَذَا.
سَمِعْتُ القَاضِي الإِمَام عُمَر بن عَلِيٍّ الهَكَّارِيّ بِنَابُلُسَ يَقُوْلُ:
رَأَيْتُ الحَافِظَ كَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ إِلَى بَيْت المَقْدِسِ، فَقُلْتُ: جِئْتَ غَيْرَ رَاكِبٍ، فَعل اللهُ بِمَنْ جِئْتِ مِنْ عِنْدِهِم!
قَالَ: أَنَا حَمَلَنِي النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
أَخْبَرَنَا الإِمَامُ عَبْد الحَافِظِ بن بَدْرَانَ بِنَابُلُسَ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ الفَقِيْهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ بن عَبْدِ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَسْعُوْدٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ السُّوْذَرْجَانِيّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَمْدَانَ الحبَّال، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ
الفَابَجَانِيّ، حَدَّثَنَا جَدِّي عِيْسَى بن إِبْرَاهِيْمَ، حَدَّثَنَا آدَم بن أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ حَيَّان، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السُّجُوْدَ، فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، وَيَقُوْلُ: يَا وَيْلَهُ! أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُوْدِ، فَسَجَدَ، فَلَهُ الجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُوْدِ، فَعَصَيْتُ، فَلِيَ النَّارُ).
الإِمَامُ، العَالِمُ، الحَافِظُ الكَبِيْرُ، الصَّادِقُ، القُدْوَةُ، العَابِدُ، الأَثَرِيُّ، المُتَّبَعُ،
عَالِمُ الحُفَّاظِ، تَقِيُّ الدِّيْنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الغَنِيِّ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْرِ بنِ رَافِعِ بنِ حَسَنِ بنِ جَعْفَرٍ المَقْدِسِيُّ، الجَمَّاعِيْليُّ، ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ المَنْشَأ، الصَّالِحيُّ، الحَنْبَلِيُّ، صَاحِبُ (الأَحكَامِ الكُبْرَى) ، وَ (الصُّغْرَى) .قَرَأْتُ سِيرتَهُ فِي جُزْءيْنِ، جَمْعِ الحَافِظِ ضِيَاءِ الدِّيْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ المَقْدِسِيِّ، عَلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الحَمِيْدِ بنِ أَحْمَدَ البَنَّاءِ، بِسَمَاعِهِ عَامَ سِتَّةٍ وَعِشْرِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ مِنَ المُؤلّفِ، فَعَامَّةُ مَا أَوْرَدَهُ فَمِنْهَا.
قَالَ: وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ بِجُمَّاعِيلَ، أَظنُّهُ فِي رَبِيْعٍ الآخِرِ، قَالَتْ وَالِدتِي : هُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَخِيْهَا الشَّيْخِ المُوَفَّقِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالمُوَفَّقُ وُلِدَ فِي شَعْبَان.
سَمِعَ الكَثِيْرَ بِدِمَشْقَ، وَالإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَبَيْتَ المَقْدِسِ، وَمِصْرَ، وَبَغْدَادَ، وَحَرَّانَ، وَالمَوْصِلَ، وَأَصْبَهَانَ، وَهَمَذَانَ، وَكَتَبَ الكَثِيْرَ.
سَمِعَ: أَبَا الفَتْحِ ابْنَ البَطِّيِّ، وَأَبَا الحَسَنِ عَلِيَّ بنَ رَبَاحٍ الفَرَّاءَ، وَالشَّيْخَ عَبْدَ القَادِرِ الجِيْلِيَّ، وَهِبَةَ اللهِ بنَ هِلاَلٍ الدَّقَّاقَ، وَأَبَا زُرْعَةَ المَقْدِسِيَّ، وَمَعْمَرَ بنَ الفَاخِرِ، وَأَحْمَدَ بنَ المُقَرَّبِ، وَيَحْيَى بنَ ثَابِتٍ، وَأَبَا بَكْرٍ بنَ
النَّقُّوْرِ، وَأَحْمَدَ بنَ عَبْدِ الغَنِيِّ البَاجِسْرَائِيَّ، وَعِدَّةً بِبَغْدَادَ، وَالحَافِظَ أَبَا طَاهِرٍ السِّلَفِيَّ، فَكَتَبَ عَنْهُ نَحْواً مِنْ أَلفِ جزءٍ.وَبِدِمَشْقَ: أَبَا المَكَارِمِ بنَ هِلاَلٍ، وَسَلْمَانَ بنَ عَلِيٍّ الرَّحَبِيَّ، وَأَبَا المَعَالِي بنَ صَابرٍ، وَعِدَّةً.
وَبِمِصْرَ: مُحَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ الرَّحَبِيَّ، وَعَبْدَ اللهِ بنَ بَرِّيٍّ، وَطَائِفَةً.
وَبِأَصْبَهَانَ: الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى المَدِيْنِيَّ، وَأَبَا الوَفَاءِ مَحْمُوْدَ بنَ حَمَكَا، وَأَبَا الفَتْحِ الخِرَقِيَّ، وَابْنَ يَنَال التُّرْك، وَمُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ الوَاحِدِ الصَّائِغَ، وَحَبِيْبَ بنَ إِبْرَاهِيْمَ الصُّوْفِيَّ.
وَبِالمَوْصِلِ: أَبَا الفَضْلِ الطُّوْسِيَّ، وَطَائِفَةً.
وَلَمْ يَزَلْ يَطلبُ، وَيَسْمَع، وَيَكْتُبُ، وَيسهَرُ، وَيدأَبُ، وَيَأْمرُ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنَهى عَنِ المُنْكَرِ، وَيَتقِي اللهَ، وَيَتعبَّدُ، وَيَصُوْمُ، وَيَتهجَّدُ، وَيَنشرُ العِلْمَ، إِلَى أَنْ مَاتَ.
رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ مرَّتينِ، وَإِلَى مِصْرَ مرَّتينِ، سَافرَ إِلَى بَغْدَادَ هُوَ وَابْنُ خَالِهِ الشَّيْخُ المُوَفَّقُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّيْنَ، فَكَانَا يَخْرُجَانِ مَعاً، وَيَذْهَبُ أَحدُهُمَا فِي صُحْبَة رفِيقِهِ إِلَى دَرْسِهِ وَسَمَاعِهِ، كَانَا شَابَّيْنِ مُخْتَطّين، وَخوَّفَهُمَا النَّاسُ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَكَانَ الحَافِظُ مَيْلُهُ إِلَى الحَدِيْثِ، وَالمُوَفَّقُ يُرِيْدُ الفِقْهَ، فَتفقَّهَ الحَافِظُ، وَسَمِعَ المُوَفَّقُ مَعَهُ الكَثِيْرَ، فَلَمَّا رَآهُمَا العُقَلاَءُ عَلَى التَّصَوُّنِ وَقِلَّةِ المُخَالَطَةِ أَحَبُّوهُمَا، وَأَحْسَنُوا إِلَيهُمَا، وَحصَّلاَ عِلْماً جمّاً، فَأَقَامَا بِبَغْدَادَ نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِيْنَ، وَنَزَلاَ أَوَّلاً عِنْد الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ، فَأَحْسَنَ إِلَيهِمَا، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ قُدُومِهِمَا بخَمْسِيْنَ لَيْلَةً، ثُمَّ اشْتَغَلاَ بِالفِقْهِ وَالخِلاَفَةِ عَلَى ابْنِ المنِّي.
وَرَحَلَ الحَافِظُ إِلَى السِّلَفِيِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّيْنَ، فَأَقَامَ مُدَّةً، ثُمَّ رحلَ أَيْضاً إِلَى السِّلَفِيِّ سَنَةَ
سَبْعِيْنَ، ثُمَّ سَافرَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَسَبْعِيْنَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، وَحَصَّلَ الكتُبَ الجيِّدَةَ.قَالَ الضِّيَاءُ: وَكَانَ لَيْسَ بِالأَبيضِ الأَمهَقِ، بَلْ يَمِيْلُ إِلَى السُّمرَةِ، حسن الشَّعْرِ، كَثّ اللِّحْيَةِ، وَاسِع الجبينِ، عَظِيْم الخَلْقِ، تَامّ القَامَةِ، كَأَنَّ النُّوْر يَخْرُجُ مِنْ وَجهِهِ، وَكَانَ قَدْ ضعُفَ بصرُهُ مِنَ البُكَاءِ وَالنَّسْخِ وَالمُطَالَعَةِ.
قُلْتُ : حَدَّثَ عَنْهُ: الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّيْنِ، وَالحَافِظُ عِزُّ الدِّيْنِ مُحَمَّدٌ، وَالحَافِظُ أَبُو مُوْسَى عَبْدُ اللهِ، والفَقِيْهُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَوْلاَدُهُ، وَالحَافِظُ الضِّيَاءُ، وَالخَطِيْبُ سُلَيْمَانُ بنُ رَحْمَةَ الأَسْعَرْدِيُّ، وَالبَهَاءُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ، وَالشَّيْخُ الفَقِيْهُ مُحَمَّدُ اليُوْنِيْنِيُّ، وَالزَّيْنُ ابْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ، وَأَبُو الحَجَّاجِ بنُ خَلِيْلٍ، وَالتَّقِيُّ اليَلْدَانِيُّ، وَالشِّهَابُ القُوْصِيُّ، وَعَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَبْدِ الجَبَّارِ القَلاَنسِيُّ، وَالوَاعِظُ عُثْمَانُ بنُ مَكِّيٍّ الشَّارعِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ حَامِدٍ الأَرْتَاحِيُّ، وَإِسْمَاعِيْلُ بنُ عَبْدِ القوِيِّ بنِ عَزُّوْنَ، وَأَبُو عِيْسَى عَبْدُ اللهِ بنُ عَلاَّقٍ الرَّزَّازُ، وَخَلْقٌ، آخِرُهُم مَوْتاً سَعْدُ الدِّيْنِ مُحَمَّدُ بنُ مُهَلْهَلٍ الجينِيُّ.
وَرَوَى عَنْهُ بِالإِجَازَةِ: شَيْخُنَا أَحْمَدُ بنُ أَبِي الخَيْرِ الحَدَّادُ.
تَصَانِيْفُهُ:
كِتَابُ (المِصْبَاح فِي عُيونِ الأَحَادِيْثِ الصِّحَاحِ) مشتملٌ عَلَى أَحَادِيْثِ (
الصَّحِيْحَيْنِ) ، فَهُوَ مُسْتخرَجٌ عَلَيْهِمَا بِأَسَانِيْدِهِ، فِي ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِيْنَ جُزْءاً، كِتَابُ (نِهَايَة المُرَادِ ) فِي السُّنَنِ نَحْوُ مائَتَيْ جزءٍ لَمْ يَبَيِّضْهُ، كِتَابُ (اليَواقيت) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (تُحْفَة الطَّالبينَ فِي الجِهَادِ وَالمُجَاهِدِيْنَ) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (فَضَائِل خَيْرِ البرِيَّةِ ) أَرْبَعَةُ أَجزَاءٍ، كِتَابُ (الرَّوْضَة) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (التَّهجُّد) جُزْآنِ، كِتَابُ (الفَرَج) جزآنِ، كِتَابُ (الصِّلاَت إِلَى الأَمْوَاتِ ) جزآنِ، (الصِّفَات) جزآنِ، (مِحْنَة الإِمَامِ أَحْمَدَ) جُزْآنِ، (ذَمّ الرِّيَاءِ) جُزْء، (ذَمّ الغِيبَةِ) جُزْء، (التَّرغِيب فِي الدُّعَاءِ) جُزْء، (فَضَائِل مَكَّةَ) أَرْبَعَةُ أَجزَاءٍ، (الأَمْر بِالمَعْرُوفِ) جزءٌ، (فَضل رَمَضَانَ) جُزْء، (فَضل الصَّدَقَةِ) جُزْء، (فَضل عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ) جزءٌ، (فَضَائِل الحَجِّ) جزءٌ، (فَضل رَجَب) ، (وَفَاة النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) جزءٌ، (الأَقسَام الَّتِي أَقسمَ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ ) بِسندٍ وَاحِدٍ، (أَرْبَعِيْنَ مِنْ كَلاَمِ رَبِّ العَالِمِينَ) ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ) آخرُ، كِتَابُ (الأَرْبَعِيْنَ) رَابعُ، (اعْتِقَاد الشَّافِعِيِّ) جزءٌ، كِتَابُ (الحِكَايَاتِ) سَبْعَةُ أَجزَاءٍ، (تَحَقِيْق مُشْكِلِ الأَلْفَاظِ ) مجلَّدَيْنِ، (الجَامِعُ الصَّغِيْرِ فِي الأَحكَامِ ) لَمْ يَتِمَّ، (ذِكْر القُبُوْرِ) جزءٌ، (الأَحَادِيْث وَالحِكَايَات) كَانَ
يَقرؤهَا لِلْعَامَّةِ، مائَة جزءٍ، (مَنَاقِب عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ) جزءٌ، وَعِدَّةُ أَجزَاءٍ فِي (مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ) ، وَأَشيَاءَ كَثِيْرَةً جِدّاً مَا تَمَّتْ، وَالجَمِيْعُبِأَسَانِيْدِهِ، بِخَطِّهِ المَلِيْحِ الشَّدِيدِ السُّرعَةِ، وَ (أَحكَامه الكُبْرَى) مُجَلَّدٌ، وَ (الصَّغرَى) مُجَيْلِيْدٌ، كِتَابُ (دُرَر الأَثرِ) مُجَلَّدٌ، كِتَابُ (السَّيرَة) جزءٌ كَبِيْرٌ، (الأَدعيَة الصَّحيحَة) جزءٌ، (تَبيين الإِصَابَةِ لأَوهَامٍ حصلَتْ لأَبِي نُعَيْمٍ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ) جُزْآنِ، تَدُلُّ عَلَى برَاعتِهِ وَحفظِهِ، كِتَابُ (الكَمَال فِي مَعْرِفَةِ رِجَالِ الكُتُبِ السِّتَّةِ ) فِي أَرْبَعَةِ أَسفَارٍ، يَرْوِي فِيْهِ بِأَسَانِيْدِهِ.
فِي حِفْظِهِ:
قَالَ ضِيَاءُ الدِّيْنِ: كَانَ شَيْخُنَا الحَافِظُ لاَ يَكَادُ يُسْأَلُ عَنْ حَدِيْثٍ إِلاَّ ذَكَرَهُ وَبَيَّنَهُ، وَذَكَرَ صِحَّتَهُ أَوْ سقمَهُ، وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ إِلاَّ قَالَ: هُوَ فُلاَنُ بنُ فُلاَنٍ الفُلاَنِيُّ، وَيذكرُ نسبَهُ، فَكَانَ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ فِي الحَدِيْثِ، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ الحَافِظِ أَبِي مُوْسَى، فَجرَى بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ منَازعَةً فِي حَدِيْثٍ، فَقَالَ: هُوَ فِي (صَحِيْحِ البُخَارِيِّ) .
فَقُلْتُ: لَيْسَ هُوَ فِيْهِ.
قَالَ: فَكَتَبَهُ فِي رُقْعَةٍ، وَرفعهَا إِلَى أَبِي مُوْسَى يَسْأَلُهُ، قَالَ: فَنَاوَلَنِي أَبُو مُوْسَى الرُّقْعَةَ وَقَالَ: مَا تَقُوْلُ؟
فَقُلْتُ: مَا هُوَ فِي (البُخَارِيِّ) ، فَخجِلَ الرَّجُلُ.
قَالَ الضِّيَاءُ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ بِمَرْوَ كَأَنَّ البُخَارِيَّ بَيْنَ يَدَي الحافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ يَقرَأُ عَلَيْهِ مِنْ جزءٍ، وَكَانَ الحَافِظُ يَردُّ عَلَيْهِ، أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ.
وَسَمِعْتُ إِسْمَاعِيْلَ بنَ ظَفَرٍ يَقُوْلُ:
قَالَ رَجُلٌ لِلْحَافِظ عَبْدِ الغَنِيِّ:
رَجُلٌ حلفَ بِالطَّلاَقِ أَنَّكَ تَحفَظُ مائَةَ أَلْفِ حَدِيْثٍ.فَقَالَ: لَوْ قَالَ أَكْثَرَ لصدَقَ!
وَرَأَيْتُ الحَافِظَ عَلَى المِنْبَرِ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُوْلُوْنَ لَهُ: اقرَأْ لَنَا مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ، فِيقرَأُ أَحَادِيْثَ بِأَسَانِيْدِهِ مِنْ حِفْظِهِ.
وَسَمِعْتُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَانِ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِنَا يَقُوْلُ: إِنَّ الحَافِظَ سُئِلَ: لِمَ لاَ تَقرَأُ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ؟
قَالَ: أَخَافُ العُجْبَ.
وَسَمِعْتُ خَالِي أَبَا عُمَرَ أَوْ وَالِدِي، قَالَ: كَانَ الملِكُ نُوْرُ الدِّيْنِ بنُ زَنْكِي يَأْتِي إِلَيْنَا، وَكُنَّا نَسْمَعُ الحَدِيْثَ، فَإِذَا أَشْكَلَ شَيْءٌ عَلَى القَارِئ قَالَهُ الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى السِّلَفِيِّ، فَكَانَ نُوْرُ الدِّيْنِ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيْنَ ذَاكَ الشَّابُّ؟
فَقُلْنَا: سَافرَ.
وَسَمِعْتُ عَبْدَ العَزِيْزِ بنَ عَبْدِ المَلِكِ الشَّيْبَانِيَّ، سَمِعْتُ التَّاجَ الكِنْدِيَّ يَقُوْلُ:
لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِثْلُ الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ.
وَسَمِعْتُ أَبَا الثَّنَاءِ مَحْمُوْدَ بنَ هَمَّامٍ، سَمِعْتُ الكِنْدِيَّ يَقُوْلُ: لَمْ يَرَ الحَافِظُ مِثْلَ نَفْسِهِ.
شَاهَدْتُ بِخَطِّ أَبِي مُوْسَى المَدِيْنِيِّ عَلَى كِتَابِ (تَبيينِ الإِصَابَةِ) الَّذِي أَملاَهُ عَبْدُ الغَنِيِّ- وَقَدْ سَمِعَهُ أَبُو مُوْسَى، وَالحَافِظُ أَبُو سَعْدٍ الصَّائِغُ، وَأَبُو العَبَّاسِ التّرك-:
يَقُوْلُ أَبُو مُوْسَى عفَا اللهُ عَنْهُ: قَلَّ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا يَفهَمُ هَذَا الشَّأْنَ كفَهْمِ الشَّيْخِ الإِمَامِ ضِيَاءِ الدِّيْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الغَنِيِّ المَقْدِسِيِّ، وَقَدْ وُفِّقَ لِتبيينِ هَذِهِ الغلطَات، وَلَوْ كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَمثَالُهُ فِي الأَحْيَاءِ لَصَوَّبُوا فَعلَهُ، وَقَلَّ مَنْ يَفهَمُ فِي زَمَانِنَا مَا فَهِمَ زَادَهُ اللهُ عِلْماً وَتوفِيقاً.
قَالَ أَبُو نِزَارٍ رَبِيْعةُ الصَّنْعَانِيُّ: قَدْ حضَرْتُ الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى، وَهَذَا الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، فَرَأَيْتُ عَبْدَ الغَنِيِّ أَحْفَظَ مِنْهُ.سَمِعْتُ عَبْدَ الغَنِيِّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ الجَوْزِيِّ فَقَالَ: وُرَيْرَةُ بنُ مُحَمَّدٍ الغَسَّانِيُّ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ وَزِيْرَةُ.
فَقَالَ: أَنْتُم أَعْرفُ بِأَهْلِ بلدِكُم.
فِي إِفَادَتِهِ وَاشتِغَالِهِ:
قَالَ الضِّيَاءُ: وَكَانَ- رحمَهُ اللهُ- مُجْتَهِداً عَلَى الطَّلَبِ، يُكرِمُ الطَّلبَةَ، وَيُحسِنُ إِلَيْهِم، وَإِذَا صَارَ عِنْدَهُ طَالبٌ يَفهَمُ أَمرَهُ بِالرِّحلَةِ، وَيَفرحُ لَهُم بِسَمَاعِ مَا يَحصِّلُونَهُ، وَبسَبَبه سَمِعَ أَصْحَابُنَا الكَثِيْرَ.
سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مُحَمَّدٍ الحَافِظَ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ الحَدِيْثَ فِي الشَّامِ كُلِّهِ إِلاَّ بِبركَةِ الحَافِظِ، فَإِنَّنِي كُلَّ مَنْ سَأَلتُهُ يَقُوْلُ: أَوَّلُ مَا سَمِعْتُ عَلَى الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ، وَهُوَ الَّذِي حَرَّضَنِي.
وَسَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ يَقُوْلُ عِنْدَ مَوْتِهِ: لاَ تُضَيِّعُوا هَذَا العِلْمَ الَّذِي قَدْ تَعِبْنَا عَلَيْهِ.
قُلْتُ : هُوَ رَحَّلَ ابْنَ خَلِيْلٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَرَحَّلَ ابْنَيْهِ العِزَّ مُحَمَّداً، وَعَبْدَ اللهِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ صغِيراً، وَسَفَّرَ ابْنَ أُخْتِهِ مُحَمَّدَ بنَ عُمَرَ بنِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنَ عَمِّهِ عَلِيَّ بنَ أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ الضِّيَاءُ: وَحرَّضَنِي عَلَى السَّفَرِ إِلَى مِصْرَ، وَسَافَرَ مَعَنَا ابْنُهُ أَبُو سُلَيْمَانَ
عَبْدُ الرَّحْمَانِ ابْنُ عشرٍ، فَبَعَثَ مَعَنَا (المُعْجَمَ الكَبِيْرَ) لِلطَّبَرَانِيِّ، وَكِتَابَ (البُخَارِيِّ) ، وَ (السِّيرَةَ) ، وَكَتَبَ إِلَى زَيْنِ الدِّيْنِ عَلِيِّ بن نجَا يُوصِيهِ بِنَا، وَسَفَّرَ ابْنَ ظَفَرٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَزوَّدَهُ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا.قَالَ الضِّيَاءُ: لَمَّا دخلنَا أَصْبَهَانَ فِي سفرتِي الثَّانِيَةِ كُنَّا سَبْعَةً، أَحَدُنَا الفَقِيْهُ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الحَافِظِ، وَكَانَ طِفْلاً، فَسمِعنَا عَلَى المَشَايِخِ، وَكَانَ المُؤَيَّدُ ابْنُ الإِخْوَةِ عِنْدَهُ جُمْلَةٌ مِنَ المَسْمُوْعَاتِ، وَكَانَ يَتشدَّدُ عَلَيْنَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَحَزِنْتُ كَثِيْراً، وَأَكْثَرَ مَا ضَاقَ صَدْرِي لثَلاَثَةِ كُتُبٍ: (مُسْنَدِ العَدَنِيِّ) ، وَ (مُعْجَمِ ابْنِ المُقْرِئ) ، وَ (مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى) ، وَقَدْ كُنْتُ سَمِعْتُ عَلَيْهِ فِي النَّوبَةِ الأُوْلَى (مُسْنَدَ العَدَنِيِّ) لَكِنْ لأَجْلِ رِفْقَتِي، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ الحَافِظَ عَبْدَ الغَنِيِّ قَدْ أَمسَكَ رَجُلاً وَهُوَ يَقُوْلُ لِي: أُمَّ هَذَا، أُمَّ هَذَا، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ ابْنُ عَائِشَةَ بِنْتِ مَعْمَرٍ.
فَلَمَّا استيقظْتُ قُلْتُ: مَا هَذَا إِلاَّ لأَجْلِ شَيْءٍ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّهُ يُرِيْدُ الحَدِيْثَ، فَمضيتُ إِلَى دَارِ بَنِي مَعْمَرٍ، وَفتَّشْتُ الكُتُبَ، فَوَجَدْتُ (مُسْنَدَ العَدَنِيِّ) سَمَاع عَائِشَةَ مِثْلَ ابْنِ الإِخْوَةِ، فَلَمَّا سَمِعْنَاهُ عَلَيْهَا قَالَ لِي بَعْضُ الحَاضِرِيْنَ: إِنَّهَا سَمِعَتْ (مُعْجَمَ ابْنِ المُقْرِئ) فَأَخذنَا النُّسْخَةَ مِنْ خَبَّازٍ، وَسَمِعنَاهُ، وَبعدَ أَيَّامٍ نَاولنِي بَعْضُ الإِخْوَانِ (مُسْنَدَ أَبِي يَعْلَى) سَمَاعهَا، فَسمِعنَاهُ.
مَجَالِسُهُ:كَانَ -رَحِمَهُ الله- يَقرَأُ الحَدِيْثَ يَوْمَ الجُمُعَةِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَليلَة الخَمِيْسِ، وَيَجْتَمِع خلق، وَكَانَ يَقرَأُ وَيَبْكِي وَيُبْكِي النَّاسَ كَثِيْراً، حَتَّى إِنَّ مَنْ حَضَرَه مَرّة لاَ يَكَاد يَتركه، وَكَانَ إِذَا فَرَغَ دَعَا دُعَاءً كَثِيْراً.
سَمِعْتُ شَيْخَنَا ابْنَ نَجَا الوَاعِظ بِالقَرَافَةِ يَقُوْلُ عَلَى المِنْبَرِ: قَدْ جَاءَ الإِمَامُ الحَافِظُ، وَهُوَ يُرِيْد أَنْ يَقرَأَ الحَدِيْثَ، فَاشْتَهَى أَنْ تَحضرُوا مَجْلِسه ثَلاَث مَرَّات، وَبعدهَا أَنْتُم تَعرفُوْنَهُ وَتحصل لَكُم الرّغبَة، فَجَلَسَ أَوّل يَوْم، وَحَضَرتُ، فَقَرَأَ أَحَادِيْث بِأَسَانِيْدهَا حِفْظاً، وَقرَأَ جُزْءاً، فَفَرح النَّاس بِهِ، فَسَمِعْتُ ابْنَ نَجَا يَقُوْلُ: حَصَلَ الَّذِي كُنْت أُرِيْده فِي أَوَّلِ مَجْلِس.
وَسَمِعْتُ بَعْضَ مِنْ حضَر يَقُوْلُ: بَكَى النَّاس حَتَّى غُشِي عَلَى بَعْضهِم، وَكَانَ يَجلسُ بِمِصْرَ بِأَمَاكن.
سَمِعْتُ مَحْمُوْدَ بنَ هَمَّامٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ الفَقِيْهَ نَجْمَ بنَ عَبْدِ الوَهَّابِ الحَنْبَلِيَّ يَقُوْلُ وَقَدْ حضَر مَجْلِس الحَافِظ:
يَا تَقِيّ الدِّيْنِ، وَاللهِ لَقَدْ حَملتَ الإِسْلاَم، وَلَوْ أَمكننِي مَا فَارقتُ مَجْلِسك.
أَوْقَاتُهُ:
كَانَ لاَ يُضيِّع شَيْئاً مِنْ زَمَانه بِلاَ فَائِدَة، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الفَجْر، وَيلقّن القُرْآن، وَرُبَّمَا أَقرَأَ شَيْئاً مِنَ الحَدِيْثِ تلقيناً، ثُمَّ يَقوم فَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي ثَلاَث مائَة رَكْعَة بِالفَاتِحَة وَالمعوّذتين إِلَى قَبْل الظُّهْر، وَيَنَام نَوْمَة، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْر، وَيَشتغل إِمَّا بِالتّسمِيْع، أَوْ بِالنّسخ إِلَى المَغْرِب، فَإِنْ كَانَ صَائِماً، أَفطر، وَإِلاَّ صَلَّى مِنَ المَغْرِب إِلَى العشَاء، وَيُصَلِّي العشَاء، وَيَنَام إِلَى نِصْف اللَّيْل أَوْ بَعْدَهُ، ثُمَّ قَامَ كَأَنَّ إِنْسَاناً يُوقظه، فَيُصَلِّي لَحْظَةً ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي إِلَى قُرب
الفَجْر، رُبَّمَا تَوضَأَ سَبْع مَرَّاتٍ أَوْ ثَمَانِياً فِي اللَّيْلِ، وَقَالَ:مَا تَطِيبُ لِي الصَّلاَة إِلاَّ مَا دَامت أَعضَائِي رطبَة، ثُمَّ يَنَام نَوْمَة يَسِيْرَة إِلَى الفَجْر، وَهَذَا دَأْبُهُ.
أَخْبَرَنِي خَالِي مُوَفَّق الدِّيْنِ، قَالَ :
كَانَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ جَامِعاً لِلْعِلْمِ وَالعمل، وَكَانَ رفِيقِي فِي الصِّبَا، وَكَانَ رفِيقِي فِي طَلَبِ العِلْمِ، وَمَا كُنَّا نَسْتَبِق إِلَى خَيْر إِلاَّ سبقنِي إِلَيْهِ إِلاَّ القَلِيْل، وَكمّل الله فَضِيْلته بَابتلاَئِه بِأَذَى أَهْل البدعَة وَعدَاوتهِم، وَرِزْقِ العِلْم، وَتحصيل الكُتُب الكَثِيْرَة، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُعمَّر.
قَالَ أَخُوْهُ الشَّيْخ العِمَاد: مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَشدّ محَافِظَة عَلَى وَقته مِنْ أَخِي.
قَالَ الضِّيَاء: وَكَانَ يَسْتَعْمَل السّوَاك كَثِيْراً حَتَّى كَأَنَّ أَسْنَانه البَرَدُ.
سَمِعْتُ مَحْمُوْدَ بنَ سَلاَمَةَ التَّاجِر الحَرَّانِيّ يَقُوْلُ:
كَانَ الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ نَازلاً عِنْدِي بِأَصْبَهَانَ، وَمَا كَانَ يَنَام مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً، بَلْ يُصَلِّي وَيَقرَأُ وَيَبْكِي.
وَسَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ: أَضَافَنِي رَجُلٌ بِأَصْبَهَانَ، فَلَمَّا تَعَشَّينَا، كَانَ عِنْدَهُ رَجُل أَكل مَعَنَا، فَلَمَّا قُمْنَا إِلَى الصَّلاَةِ لَمْ يصل، فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟
قَالُوا: هَذَا رَجُل شَمْسِيّ.
فَضَاق صَدْرِي، وَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: مَا أَضفتَنِي إِلاَّ مَعَ كَافِر!
قَالَ: إِنَّهُ كَاتِب، وَلَنَا عِنْدَهُ رَاحَة، ثُمَّ قُمْت بِاللَّيْلِ أُصَلِّي، وَذَاكَ
يَسْتَمع، فَلَمَّا سَمِعَ القُرْآن تَزَفَّر، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْد أَيَّام، وَقَالَ: لَمَّا سَمِعتك تَقرَأُ، وَقَعَ الإِسْلاَم فِي قَلْبِي.وَسَمِعْتُ نَصْر بن رِضْوَان المُقْرِئ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً عَلَى سِيرَةِ الحَافِظ، كَانَ مُشْتَغِلاً طول زَمَانه.
قِيَامُهُ فِي المُنْكَرِ:
كَانَ لاَ يَرَى مُنْكراً إِلاَّ غَيَّرَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ، وَكَانَ لاَ تَأْخُذُه فِي اللهِ لَوْمَة لاَئِم.
قَدْ رَأَيْتُهُ مرَّة يهرِيق خمراً، فَجبذ صَاحِبُهُ السَّيْف فَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ، وَأَخَذَهُ مَنْ يَدِهِ، وَكَانَ قَوِيّاً فِي بَدَنِهِ، وَكَثِيْراً مَا كَانَ بِدِمَشْقَ يُنكِرُ وَيَكسر الطَّنَابِيرَ وَالشَّبابَات.
قَالَ خَالِي المُوَفَّق: كَانَ الحَافِظ لاَ يَصبر عَنْ إِنْكَار المُنْكَر إِذَا رَآهُ، وَكُنَّا مرَّة أَنْكَرنَا عَلَى قَوْم، وَأَرقنَا خمرهُم، وَتضَارَبْنَا، فَسَمِعَ خَالِي أَبُو عُمَرَ، فَضَاق صَدْره، وَخَاصمنَا، فَلَمَّا جِئْنَا إِلَى الحَافِظِ طَيَّبَ قُلُوْبنَا، وَصوّب فِعلنَا، وَتَلاَ: {وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } .
وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ بنَ أَحْمَدَ الطَّحَّان، قَالَ: كَانَ بَعْض أَوْلاَد صَلاَح الدِّيْنِ قَدْ عُملت لَهُم طنَابِير، وَكَانُوا فِي بُستَان يَشربُوْنَ، فَلقِي الحَافِظ الطّنَابِير، فَكسرهَا.
قَالَ: فَحَدَّثَنِي الحَافِظ، قَالَ: فَلَمَّا كُنْت أنَا وَعَبْد الهَادِي عِنْد حمَّام كَافُوْر، إِذَا قَوْم كَثِيْر مَعَهُم عصيّ، فَخففت المشِي، وَجَعَلت أَقُوْل: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ، فَلَمَّا صرت عَلَى الجِسْر، لحقُوا صَاحِبِي، فَقَالَ: أَنَا مَا كسرت لَكُم شَيْئاً، هَذَا هُوَ الَّذِي كسر.
قَالَ: فَإِذَا فَارِس يَركض،
فَترَجَّل، وَقبَّل يَدِي، وَقَالَ: الصِّبْيَان مَا عَرَفُوك.وَكَانَ قَدْ وَضَع الله لَهُ هَيْبَة فِي النُّفُوْس.
سَمِعْتُ فَضَائِلَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْرٍ المَقْدِسِيَّ يَقُوْلُ:
سمِعتهُم يَتحدثُونَ بِمِصْرَ: أَنَّ الحَافِظ كَانَ قَدْ دَخَلَ عَلَى العَادل، فَقَامَ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْم الثَّانِي، جَاءَ الأُمَرَاء إِلَى الحَافِظ مِثْل سركس وَأُزكش، فَقَالُوا: آمنَّا بِكَرَامَاتك يَا حَافِظ.
وذكرُوا أَنَّ العَادل قَالَ: مَا خفتُ مِنْ أَحَد مَا خفت مِنْ هَذَا.
فَقُلْنَا: أَيُّهَا الْملك، هَذَا رَجُل فَقِيْه.
قَالَ: لَمَّا دَخَلَ مَا خُيّل إِلَي إِلاَّ أَنَّهُ سَبعٌ.
قَالَ الضِّيَاء: رَأَيْت بِخَطِّ الحَافِظ: وَالملك العَادل اجْتَمَعت بِهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ إِلاَّ الجَمِيْل، فَأَقْبَل عَلَيّ، وَقَامَ لِي، وَالتزَمَنِي، وَدعوت لَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: عِنْدنَا قصُوْر هُوَ الَّذِي يُوجب التَّقْصِير.
فَقَالَ: مَا عِنْدَك لاَ تَقصِيْر وَلاَ قصُوْر، وَذَكَرَ أَمر السّنَّة، فَقَالَ: مَا عِنْدَك شَيْء تُعَاب بِهِ لاَ فِي الدِّيْنِ وَلاَ الدُّنْيَا، وَلاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاسدين.
وَبَلَغَنِي بَعْد عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ بِالشَّامِ وَلاَ مصر مِثْل فُلاَن، دَخَلَ عليّ، فَخُيّل إِلَيَّ أَنَّهُ أَسد، وَهَذَا بِبركَة دعَائِكم وَدُعَاء الأَصْحَاب.
قَالَ الضِّيَاء: كَانُوا قَدْ وَغَروا عَلَيْهِ صدر العَادل، وَتَكلّمُوا فِيْهِ، وَكَانَ بَعْضهُم أَرْسَل إِلَى العَادل يَبذل فِي قتل الحَافِظ خَمْسَة آلاَف دِيْنَار.
قُلْتُ: جرّ هَذِهِ الفِتْنَة نَشْر الحَافِظ أَحَادِيْث النُّزَول وَالصِّفَات، فَقَامُوا عَلَيْهِ، وَرَمَوْهُ بِالتّجسيم، فَمَا دَارَى كَمَا كَانَ يُدَارِيهِم الشَّيْخ المُوَفَّق.
سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابنَا يَحكِي عَنِ الأَمِيْر دِرباس: أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ الحَافِظ
إِلَى الْملك العَادل، فَلَمَّا قضَى الْملك كَلاَمه مَعَ الحَافِظ، جَعَلَ يَتَكَلَّم فِي أَمر مَارْدِيْن وَحصَارهَا، فَسَمِعَ الحَافِظ، فَقَالَ: أَيش هَذَا، وَأَنْت بَعْدُ تُرِيْد قِتَال المُسْلِمِيْنَ، مَا تَشكر الله فِيمَا أَعْطَاك، أَمَا ... أَمَا ؟!قَالَ: فَمَا أَعَاد وَلاَ أَبدَى.
ثُمَّ قَالَ الحَافِظُ وَقُمْت مَعَهُ، فَقُلْتُ: أَيش هَذَا؟ نَحْنُ كُنَّا نخَاف عَلَيْك مِنْ هَذَا، ثُمَّ تَعْمَل هَذَا الْعَمَل؟
قَالَ: أَنَا إِذَا رَأَيْت شَيْئاً لاَ أَقدر أَن أَصْبِر، أَوْ كَمَا قَالَ.
وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ ابْنَ الطَّحَّانِ، قَالَ:
كَانَ فِي دَوْلَةِ الأَفْضَلِ جَعَلُوا المَلاَهِي عِنْد الدَّرَجِ، فَجَاءَ الحَافِظ فَكسّر شَيْئاً كَثِيْراً، ثُمَّ صعد يَقرَأُ الحَدِيْث، فَجَاءَ رَسُوْل القَاضِي يَأْمره بِالمشِي إِلَيْهِ لينَاظره فِي الدُّفّ وَالشَّبَّابَة، فَقَالَ: ذَاكَ عِنْدِي حَرَام، وَلاَ أَمْشِي إِلَيْهِ، ثُمَّ قرَأَ الحَدِيْث.
فَعَاد الرَّسُول، فَقَالَ: لاَ بُدَّ مِنَ المشِي إِلَيْهِ، أَنْتَ قَدْ بطّلت هَذِهِ الأَشيَاء عَلَى السُّلْطَان.
فَقَالَ الحَافِظُ: ضَرَبَ الله رقبته وَرقبَة السُّلْطَان.
فَمَضَى الرَّسُول وَخفنَا، فَمَا جَاءَ أَحَد.
وَمِنْ شَمَائِله:
قَالَ الضِّيَاء: مَا أَعْرف أَحَداً مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ رَآهُ إِلاَّ أَحَبّه وَمَدَحَهُ كَثِيْراً؛ سَمِعْتُ مَحْمُوْد بن سَلاَمَةَ الحَرَّانِيّ بِأَصْبَهَانَ، قَالَ:
كَانَ الحَافِظ يَصطف النَّاس
فِي السُّوق يَنظُرُوْنَ إِلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَ بِأَصْبَهَانَ مُدَّة وَأَرَادَ أَنْ يَملكهَا، لملكهَا.قَالَ الضِّيَاء: وَلَمَّا وَصل إِلَى مِصْرَ، كُنَّا بِهَا، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ لِلْجمعَة لاَ نَقدر نَمْشِي مَعَهُ مِنْ كَثْرَة الْخلق، يَتبركُوْن بِهِ، وَيَجْتَمِعُوْنَ حَوْلَهُ، وَكُنَّا أَحَدَاثاً نَكْتُب الحَدِيْث حَوْلَهُ، فَضحكنَا مِنْ شَيْءٍ، وَطَال الضحك، فَتبسَّم وَلَمْ يَحْرَد عَلَيْنَا، وَكَانَ سخيّاً، جَوَاداً، لاَ يَدّخر دِيْنَاراً وَلاَ دِرْهَماً مهمَا حصَّل أَخْرَجَهُ، لَقَدْ سَمِعْتُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَخْرُج فِي اللَّيْلِ بِقفَاف الدّقيق إِلَى بيُوت مُتَنَكِّراً فِي الظّلمَة، فَيُعْطِيهم وَلاَ يُعرَف، وَكَانَ يُفتح عَلَيْهِ بِالثِّيَاب، فَيُعْطِي النَّاس وَثَوْبه مرقّع.
قَالَ خَالِي الشَّيْخ مُوَفَّق الدِّيْنِ: كَانَ الحَافِظ يُؤثر بِمَا تَصل يَده إِلَيْهِ سِرّاً وَعَلاَنِيَّة ... ، ثُمَّ سرد حِكَايَات فِي إِعطَائِهِ جُمْلَةَ دَرَاهِمَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ بدر بن مُحَمَّدٍ الجَزَرِيّ يَقُوْلُ:
مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَكرم مِنَ الحَافِظ؛ كُنْت أَسْتدين يَعْنِي لِأطْعم بِهِ الفُقَرَاء، فَبقِي لِرَجُلٍ عِنْدِي ثَمَانِيَة وَتِسْعُوْنَ دِرْهَماً، فَلَمَّا تَهَيَّأَ الوَفَاء، أَتَيْتُ الرَّجُل، فَقُلْتُ: كَمْ لَكَ؟
قَالَ: مَا لِي عِنْدَك شَيْء!
قُلْتُ: مَنْ أَوَفَاهُ؟
قَالَ: قَدْ أُوفِي عَنْكَ، فَكَانَ وَفَّاهُ الحَافِظُ وَأَمره أَنْ يَكتم عَلَيْهِ.
وَسَمِعْتُ سُلَيْمَان الأَسْعَرْدِيّ يَقُوْلُ:
بعثَ الأَفْضَل ابْن صَلاَح الدِّيْنِ إِلَى الحَافِظ بنفقَة وَقمح كَثِيْر، فَفَرَّقه كُلّه.
وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ عَبْدِ اللهِ العِرَاقِيّ؛ حَدَّثَنِي مَنْصُوْرٌ الغَضَارِيُّ، قَالَ:
شَاهَدْتُ الحَافِظَ فِي الغَلاَءِ بِمِصْرَ وَهُوَ ثَلاَث لَيَالٍ يُؤثر بعشَائِهِ وَيطوِي.
رَأَيْت يَوْماً قَدْ أُهدِيَ إِلَى بَيْت الحَافِظ مشْمش فَكَانُوا يفرقُون، فَقَالَ مِنْ حِينه: فَرِّقُوا {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّوْنَ } .وَقَدْ فُتح لَهُ بِكَثِيْر مِنَ الذَّهب وَغَيْرِهِ، فَمَا كَانَ يَترك شَيْئاً حَتَّى قَالَ لِي ابْنه أَبُو الفَتْحِ: وَالِدِي يُعطِي النَّاس الكَثِيْر، وَنَحْنُ لاَ يَبعثَ إِلَيْنَا شَيْئاً، وَكُنَّا بِبَغْدَادَ.
مَا ابْتُلِيَ الحَافِظُ بِهِ:
قَالَ الضِّيَاء: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْد الرَّحْمَانِ بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الجَبَّارِ، سَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ:
سَأَلت الله أَنْ يَرْزُقنِي مِثْل حَال الإِمَام أَحْمَد، فَقَدْ رزقنِي صلاَته قَالَ: ثُمَّ ابْتُلِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَأُوذِي.
سَمِعْتُ الإِمَام عَبْد اللهِ بن أَبِي الحَسَنِ الجُبَّائِيّ بِأَصْبَهَانَ يَقُوْلُ:
أَبُو نُعَيْمٍ قَدْ أَخَذَ عَلَى ابْنِ مَنْدَةَ أَشيَاء فِي كِتَابِ (الصَّحَابَة) ، فَكَانَ الحَافِظُ أَبُو مُوْسَى يَشتهِي أَنْ يَأْخذ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي فِي الصَّحَابَة، فَمَا كَانَ يَجسر، فَلَمَّا قَدِمَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، أَشَارَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، قَالَ: فَأَخَذَ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ نَحْواً مِنْ مائَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ مَوْضِعاً، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ الصَّدْر الخُجَنْدِيّ،
طلب عَبْد الغَنِيِّ، وَأَرَادَ هَلاَكه، فَاخْتَفَى.وَسَمِعْتُ مَحْمُوْد بن سَلاَمَةَ يَقُوْلُ: مَا أَخرجنَا الحَافِظ مِنْ أَصْبَهَان إِلاَّ فِي إِزَار، وَذَلِكَ أَن بَيْت الخُجَنْدِيّ أَشَاعِرَة، كَانُوا يَتعصّبُوْنَ لأَبِي نُعَيْمٍ، وَكَانُوا رُؤسَاء البَلَد.
وَسَمِعْتُ الحَافِظَ يَقُوْلُ: كُنَّا بِالمَوْصِل نَسْمَع (الضُّعَفَاء) لِلْعُقَيْلِيّ، فَأَخذنِي أَهْل المَوْصِل وَحَبَسُونِي، وَأَرَادُوا قتلِي مِنْ أَجْل ذكر شَيْء فِيْهِ، فَجَاءنِي رَجُلٌ طَوِيْل وَمَعَهُ سَيْف، فَقُلْتُ: يَقتلنِي وَأَسْترِيح.
قَالَ: فَلَمْ يَصنع شَيْئاً، ثُمَّ أَطلقونِي، وَكَانَ يَسْمَع مَعَهُ ابْنُ البَرْنِيِّ الوَاعِظ، فَقلع الْكرَّاس الَّذِي فِيْهِ ذَلِكَ الشَّيْء، فَأَرْسَلُوا، وَفتشُوا الكِتَاب، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً، فَهَذَا سَبَب خَلاَصه.
وَقَالَ: كَانَ الحَافِظ يَقرَأُ الحَدِيْث بِدِمَشْقَ، وَيَجْتَمِع عَلَيْهِ الْخلق، فَوَقَعَ الْحَسَد، فَشرعُوا عَملُوا لَهُم وَقتاً لقِرَاءة الحَدِيْث، وَجَمَعُوا النَّاس، فَكَانَ هَذَا يَنَام وَهَذَا بِلاَ قَلْب، فَمَا اشتفَوْا، فَأَمرُوا النَّاصِح ابْن الحَنْبَلِيِّ
بِأَنْ يَعظ تَحْت النّسر يَوْمَ الجُمُعَةِ وَقت جُلُوْس الحَافِظ.فَأَوّل ذَلِكَ: أَنَّ النَّاصح وَالحَافِظ أَرَادَا أَنْ يَخْتلفَا الوَقْت، فَاتفقَا أَنَّ النَّاصح يَجْلِس بَعْد الصَّلاَة، وَأَنْ يَجْلِس الحَافِظ الْعَصْر، فَدسُّوا إِلَى النَّاصح رَجُلاً نَاقص العَقْل مِنْ بَنِي عَسَاكِر، فَقَالَ لِلنَّاصح فِي المَجْلِسِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّك تَقُوْلُ الْكَذِب عَلَى المِنْبَرِ.
فَضُرِبَ، وَهَرَبَ، فَتمت مكيدتهُم، وَمَشَوا إِلَى الوَالِي، وَقَالُوا: هَؤُلاَءِ الحَنَابِلَة قصدهُم الفِتْنَة، وَاعْتِقَادهُم يُخَالِف اعْتِقَادنَا ... ، وَنَحْو هَذَا.
ثُمَّ جَمعُوا كبرَاءهُم، وَمضُوا إِلَى القَلْعَة إِلَى الوَالِي، وَقَالُوا: نشتهِي أَنْ تحضر عَبْد الغَنِيِّ، فَانحدر إِلَى المَدِيْنَةِ خَالِي المُوَفَّق، وَأَخِي الشَّمْس البُخَارِيّ، وَجَمَاعَة، وَقَالُوا: نَحْنُ ننَاظرهُم.
وَقَالُوا لِلْحَافِظ: لاَ تَجِئْ، فَإِنَّك حدّ، نَحْنُ نَكفِيك.
فَاتَّفَقَ أَنَّهُم أَخذُوا الحَافِظ وَحْدَه، وَلَمْ يَدر أَصْحَابنَا، فَنَاظروهُ، وَاحتدّ، وَكَانُوا قَدْ كَتَبُوا شَيْئاً مِنَ الاعْتِقَاد، وَكتبُوا خُطُوطهُم فِيْهِ، وَقَالُوا لَهُ: اكْتُبْ خطّك.
فَأَبَى، فَقَالُوا لِلوَالِي: الفُقَهَاء كلّهُم قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ يُخَالِفهُم.
وَاسْتَأَذنوهُ فِي رفع مِنْبَره، فَبَعَثَ الأَسرَى، فَرفعُوا مَا فِي جَامِع دِمَشْق مِنْ مِنْبَر وَخزَانَة وَدَرَابزِين، وَقَالُوا: نُرِيْد أَنْ لاَ تَجعل فِي الجَامِع إِلاَّ صَلاَة الشَّافِعِيَّة.
وَكسّرُوا مِنْبَر الحَافِظ، وَمَنَعونَا مِنَ الصَّلاَةِ، فَفَاتتنَا صَلاَة الظُّهْر.
ثُمَّ إِنَّ النَّاصح جمع البَنَويَّة، وَغَيْرهُم، وَقَالُوا: إِنْ لَمْ يخلونَا نُصَلِّي بِاخْتِيَارهِم، صلّينَا بِغَيْرِ اخْتيَارهِم.فَبَلَغَ ذَلِكَ القَاضِي، وَكَانَ صَاحِبَ الفِتْنَة، فَأَذن لَهُم، وَحمَى الحَنَفِيَّة مقصُوْرتهُم بِأَجنَاد، ثُمَّ إِنَّ الحَافِظ ضَاق صَدْره وَمَضَى إِلَى بَعْلَبَكَّ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّة، فَقَالَ لَهُ أَهْلهَا: إِنِ اشْتهيت جِئْنَا مَعَكَ إِلَى دِمَشْقَ نؤذِي مَنْ آذَاكَ، فَقَالَ: لاَ.
وَتوجّه إِلَى مِصْرَ، فَبقِي بِنَابُلُسَ مُدَّة يقرأُ الحَدِيْث، وَكُنْتُ أَنَا بِمِصْرَ، فَجَاءَ شَابّ مِنْ دِمَشْقَ بِفَتَاو إِلَى صَاحِب مِصْر الْملك العَزِيْز وَمَعَهُ كتب أَنَّ الحَنَابِلَة يَقُوْلُوْنَ كَذَا وَكَذَا مِمَّا يُشنِّعُوْنَ بِهِ عَلَيْهِم.
فَقَالَ -وَكَانَ يَتصيد-: إِذَا رَجَعنَا أَخرجنَا مِنْ بلاَدنَا مَنْ يَقُوْلُ بِهَذِهِ المَقَالَة.
فَاتَّفَقَ أَنَّهُ عدَا بِهِ الْفرس، فَشب بِهِ، فَسَقَطَ، فَخُسِف صَدْره، كَذَلِكَ حَدَّثَنِي يُوْسُفُ بنُ الطُّفَيْل شَيْخنَا وَهُوَ الَّذِي غسّله، فَأُقيم ابْنه صَبِيّ، فَجَاءَ الأَفْضَل مِنْ صَرْخَدُ، وَأَخَذَ مِصْر، وَعَسْكَر، وَكرّ إِلَى دِمَشْقَ، فَلقِي الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ فِي الطَّرِيْق، فَأَكْرَمَه إِكرَاماً كَثِيْراً، وَنفّذ يُوصي بِهِ بِمِصْرَ، فَتُلُقِّي الحَافِظ بِالإِكرَام، وَأَقَامَ بِهَا يُسْمِع الحَدِيْث بِموَاضِع، وَكَانَ بِهَا كَثِيْر مِنَ المخَالفِيْن، وَحصر الأَفْضَل دِمَشْق حصراً شدِيداً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِصْرَ، فَسَافر العَادل عَمُّه خَلفه، فَتملّك مِصْر، وَأَقَامَ، وَكثر المخَالفُوْنَ عَلَى الحَافِظ، فَاسْتُدعِي، وَأَكْرَمَهُ العَادل، ثُمَّ سَافر العَادل إِلَى دِمَشْقَ، وَبَقِيَ الحَافِظ بِمِصْرَ، وَهُم يَنَالُوْنَ مِنْهُ، حَتَّى عزم الْملك الكَامِل عَلَى إِخرَاجه، وَاعْتُقِل فِي دَار أُسْبُوْعاً، فَسَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ:
مَا وَجَدْت رَاحَة فِي مِصْر مِثْل تِلْكَ اللَّيَالِي.
قَالَ: وَكَانَتِ امرَأَة فِي دَار إِلَى جَانب تِلْكَ الدَّار، فَسمِعتهَا تَبْكِي، وَتَقُوْلُ:
بِالسِّرِّ الَّذِي أَودعته قَلْبَ مُوْسَى حَتَّى قَوِيَ
عَلَى حمل كَلاَمك.قَالَ: فَدعوت بِهِ، فَخلصتُ تِلْكَ اللَّيْلَة.
سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الغَنِيِّ، حَدَّثَنِي الشُّجَاع بن أَبِي زكرِي الأَمِيْر، قَالَ:
قَالَ لِي الْملك الكَامِل يَوْماً: هَا هُنَا فَقِيْه قَالُوا إِنَّهُ كَافِر.
قُلْتُ: لاَ أَعْرفه.
قَالَ: بَلَى، هُوَ مُحَدِّث.
قُلْتُ: لَعَلَّهُ الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ؟
قَالَ: هَذَا هُوَ.
فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْملك، العُلَمَاء أَحَدهُم يَطلب الآخِرَة، وَآخر يَطلب الدُّنْيَا، وَأَنْت هُنَا بَاب الدُّنْيَا، فَهَذَا الرَّجُل جَاءَ إِلَيْك أَو تَشَفَّع يطْلب شَيْئاً ؟
قَالَ: لاَ.
فَقُلْتُ: وَاللهِ هَؤُلاَءِ يَحسدُوْنَهُ، فَهَلْ فِي هَذِهِ البِلاَد أَرْفَع مِنْكَ؟
قَالَ: لاَ.
فَقُلْتُ: هَذَا الرَّجُل أَرْفَع العُلَمَاء كَمَا أَنْتَ أَرْفَع النَّاس.
فَقَالَ: جَزَاكَ اللهُ خَيراً كَمَا عَرَّفْتَنِي، ثُمَّ بعثَتُ رقعَة إِلَيْهِ أُوصيه بِهِ، فَطَلبنِي، فَجِئْت، وَإِذَا عِنْدَهُ شَيْخ الشُّيُوْخِ ابْن حَمُّوَيْه، وَعِزّ الدِّيْنِ الزّنجَارِيّ، فَقَالَ لِي السُّلْطَان: نَحْنُ فِي أَمر الحَافِظ.
فَقَالَ: أَيُّهَا الْملك، القَوْم يَحسدُوْنَهُ، وَهَذَا الشَّيْخ بَيْنَنَا -يَعْنِي: شَيْخ الشُّيُوْخِ- وَحلفته هَلْ سَمِعْتَ مِنَ الحَافِظ كَلاَماً يُخْرِج عَنِ الإِسْلاَم؟
فَقَالَ: لاَ وَاللهِ، وَمَا سَمِعْتُ عَنْهُ إِلاَّ كُلَّ جَمِيْلٍ، وَمَا رَأَيْتهُ.
وَتَكلّم ابْن الزّنجَارِيّ، فَمدح الحَافِظ كَثِيْراً وَتَلاَمِذته، وَقَالَ: أَنَا أَعْرفهُم، مَا رَأَيْتُ مِثْلهُم.
فَقُلْتُ: وَأَنَا أَقُوْل شَيْئاً آخر: لاَ يَصل إِلَيْهِ مكروهٌ حَتَّى يُقْتَل مِنَ الأَكرَاد ثَلاَثَة آلاَف.
قَالَ: فَقَالَ: لاَ يُؤذَى الحَافِظ.
فَقُلْتُ: اكْتُبْ خطّك بِذَلِكَ، فَكَتَبَ.
وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابنَا يَقُوْلُ: إِنَّ الحَافِظ أُمِر أَنْ يَكتبَ اعْتِقَادَه، فَكَتَبَ: أَقُوْل كَذَا؛ لِقَوْل الله كَذَا، وَأَقُوْل كَذَا؛ لِقَوْل الله كَذَا ولِقَوْل النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَذَا، حَتَّى فَرغ مِنَ المَسَائِل الَّتِي يُخَالِفُوْنَ فِيْهَا.فَلَمَّا رَآهَا الكَامِل، قَالَ: أَيش أَقُوْل فِي هَذَا يَقُوْلُ بقول الله وَقول رَسُوْله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟!
قُلْتُ : وَذَكَرَ أَبُو المُظَفَّرِ الوَاعِظ فِي (مِرَآة الزَّمَانِ) ، قَالَ: كَانَ الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ يَقرَأُ الحَدِيْث بَعْد الجُمُعَة، قَالَ: فَاجْتَمَعَ القَاضِي مُحْيِي الدِّيْنِ، وَالخَطِيْب ضِيَاء الدِّيْنِ، وَجَمَاعَة، فَصعدُوا إِلَى القَلْعَة، وَقَالُوا لوَالِيهَا: هَذَا قَدْ أَضلّ النَّاس، وَيَقُوْلُ بالتّشبيه.
فَعقدُوا لَهُ مَجْلِساً، فَنَاظرهُم، فَأَخذُوا عَلَيْهِ موَاضِع، مِنْهَا: قَوْلُهُ: لاَ أُنزهه تَنزِيهاً يَنفِي حَقِيْقَة النُّزَول، وَمِنْهَا: كَانَ اللهُ وَلاَ مَكَان، وَلَيْسَ هُوَ اليَوْم عَلَى مَا كَانَ، وَمِنْهَا: مَسْأَلَة الْحَرْف وَالصّوت، فَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا كَانَ، فَقَدْ أَثْبَت لَهُ المَكَان، وَإِذَا لَمْ تنَزهه عَنْ حقِيْقَة النُّزَول، فَقَدْ جوزت عَلَيْهِ الانتقَالَ، وَأَمَّا الْحَرْف وَالصّوت فَلَمْ يَصحَّ عَنْ إِمَامك، وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّهُ كَلاَم اللهِ، يَعْنِي غَيْر مَخْلُوْق.
وَارتفعت الأَصوَات، فَقَالَ وَالِي القَلْعَة الصَّارم برغش: كُلّ هَؤُلاَءِ عَلَى ضلاَلَة وَأَنْت عَلَى الحَقِّ؟
قَالَ: نَعَمْ.
فَأَمر بِكسّر مِنْبَره.
قَالَ: وَخَرَجَ الحَافِظ إِلَى بَعْلَبَكَّ، ثُمَّ سَافر إِلَى مِصْرَ ... ، إِلَى أَنْ قَالَ:
فَأَفتَى فُقَهَاء مِصْر بِإِباحَة دَمه، وَقَالُوا: يُفسد عقَائِد النَّاس، وَيذَكَرَ التّجسيم.
فَكَتَبَ الوَزِيْر بنفِيه إِلَى المَغْرِب، فَمَاتَ الحَافِظ قَبْل وُصُوْل الكِتَاب.
قَالَ: وَكَانَ يُصَلِّي كُلّ يَوْم وَليلَة ثَلاَث مائَة رَكْعَة، وَيَقوم اللَّيْل، وَيَحْمِل مَا أَمكنه إِلَى بيُوت الأَرَامل وَاليتَامَى سرّاً، وَضَعف بَصَره مِنْ كَثْرَة البُكَاء وَالمُطَالَعَة، وَكَانَ أَوحد زَمَانه فِي علم الحَدِيْث.وَقَالَ أَيْضاً: وَفِي ذِي القَعْدَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ كَانَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ أَمر الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، وَإِصرَاره عَلَى مَا ظهر مِنِ اعْتِقَاده، وَإِجمَاع الفُقَهَاء عَلَى الفُتْيَا بتكفِيره، وَأَنَّهُ مُبْتَدِع لاَ يَجُوْزُ أَنْ يُترك بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ، فَسَأَلَ أَنْ يُمهل ثَلاَثَة أَيَّام لِيَنْفَصِل عَنِ البَلَد، فَأُجيب.
قُلْتُ: قَدْ بلوتُ عَلَى أَبِي المُظَفَّرِ المجَازفَة وَقِلَّة الوَرَع فِيمَا يُؤرّخه -وَاللهُ الموعدُ -وَكَانَ يَترفّض، رَأَيْت لَهُ مُصَنّفاً فِي ذَلِكَ فِيْهِ دَوَاهٍ، وَلَوْ أَجْمَعت الفُقَهَاء عَلَى تَكفِيره -كَمَا زَعَم- لَمَا وَسعهُم إِبقَاؤُه حيّاً، فَقَدْ كَانَ عَلَى مقَالَته بِدِمَشْقَ أَخُوْهُ الشَّيْخ العِمَاد وَالشَّيْخ مُوَفَّق الدِّيْنِ، وَأَخُوْهُ القُدْوَةُ الشَّيْخ أَبُو عُمَرَ، وَالعَلاَّمَة شَمْس الدِّيْنِ البُخَارِيّ، وَسَائِر الحَنَابِلَة، وَعِدَّة مِنْ أَهْلِ الأَثر، وَكَانَ بِالبَلَدِ أَيْضاً خلق مِنَ العُلَمَاءِ لاَ يُكفّرُوْنَهُ، نَعم، وَلاَ يُصرّحُوْنَ بِمَا أَطْلَقَهُ مِنَ العبَارَة لَمَّا ضَايقوهُ، وَلَوْ كَفّ عَنْ تِلْكَ العبَارَات، وَقَالَ بِمَا وَردت بِهِ النّصوص لأَجَاد وَلسلم، فَهُوَ الأَوْلَى، فَمَا فِي تَوسيع العبَارَات المُوهِمَة خَيْر، وَأَسوَأ شَيْء قَالَهُ: أَنَّهُ ضللَ العُلَمَاء الحَاضِرِيْنَ، وَأَنَّهُ عَلَى الحَقِّ، فَقَالَ كلمَة فِيْهَا شَرّ وَفسَاد وَإِثَارَة لِلبلاَء، رَحِمَ اللهُ الجَمِيْع وَغفر لَهُم، فَمَا قصدهُم إِلاَّ تَعَظِيْم البَارِي- عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الطّرفِيْن، وَلَكِنَّ الأَكمل فِي التعَظِيْم وَالتنزِيه الوُقُوْف مَعَ أَلْفَاظ الكِتَاب وَالسّنَّة، وَهَذَا هُوَ مَذْهَب السَّلَف -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-.
وَبِكُلِّ حَال: فَالحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ مِنْ أَهْلِ الدِّيْنِ وَالعِلْم وَالتَأَلّه وَالصّدع بِالْحَقِّ، وَمَحَاسِنه كَثِيْرَة، فَنَعُوذ بِاللهِ مِنَ الهَوَى وَالمِرَاء وَالعصبيَّة وَالافترَاء، وَنبرَأُ مِنْ كُلِّ مُجَسِّم وَمُعطِّل.مِنْ فِرَاسَةِ الحَافِظِ وَكَرَامَاتِهِ:
قَالَ الحَافِظُ الضِّيَاء: سَمِعْتُ الحَافِظَ أَبَا مُوْسَى بن عَبْدِ الغَنِيِّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ وَالِدِي بِمِصْرَ وَهُوَ يذكر فَضَائِل سُفْيَان الثَّوْرِيّ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِن وَالِدِي مِثْله.
فَالْتَفَت إِلَيَّ، وَقَالَ: أَيْنَ نَحْنُ مِنْ أَولئك؟
سَمِعْتُ نَصْر بن رِضْوَان المُقْرِئ يَقُوْلُ: كَانَ مِنْبَر الحَافِظ فِيْهِ قِصَر، وَكَانَ النَّاسُ يُشرفُوْنَ إِلَيْهِ، فَخطر لِي لَوْ كَانَ يُعَلَّى قَلِيْلاً، فَترك الحَافِظ القِرَاءة مِنَ الجُزْء، وَقَالَ:
بَعْضُ الإِخْوَان يَشتهِي أَنْ يُعَلَّى هَذَا المِنْبَر قَلِيْلاً، فَزَادُوا فِي رِجْلَيْهِ.
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ، حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَخُو اليَاسَمِيْنِيّ، قَالَ:كُنْتُ يَوْماً عِنْد وَالِدك، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَشتهِي لَوْ أَنَّ الحَافِظ يُعْطِينِي ثَوْبه حَتَّى أُكفَّن فِيْهِ.
فَلَمَّا أَردت القِيَام، خلع ثَوْبه الَّذِي يَلِي جَسَده وَأَعْطَانِيه، وَبَقِيَ الثَّوْب عِنْدنَا، كُلُّ مَنْ مَرِضَ تَرَكَوهُ عَلَيْهِ، فَيُعَافَى.
سَمِعْتُ الرَّضِيّ عَبْد الرَّحْمَانِ المَقْدِسِيّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ الحَافِظ بِالقَاهِرَةِ، فَدَخَلَ رَجُل، فَسَلَّمَ، وَدفعَ إِلَى الحَافِظ دِيْنَارَيْنِ، فَدَفَعهُمَا الحَافِظ إِلَيَّ، وَقَالَ: مَا كَأَنَّ قَلْبِي يَطيب بِهِمَا.
فَسَأَلت الرَّجُل: أَيش شغلك؟
قَالَ: كَاتِب عَلَى النّطرُوْنَ -يَعْنِي: وَعَلَيْهِ ضمَان-.
حَدَّثَنِي فَضَائِل بن مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ سُرُوْر بِجَمَّاعِيْل، حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّي بَدْرَان بن أَبِي بَكْرٍ، قَالَ:
كُنْتُ مَعَ الحَافِظ -يَعْنِي فِي الدَّار الَّتِي وَقفهَا عَلَيْهِ يُوْسُف المسجّف -وَكَانَ المَاء مَقْطُوْعاً، فَقَامَ فِي اللَّيْلِ، وَقَالَ: امْلأْ لِي الإِبرِيق.
فَقضَى الحَاجَة، وَجَاءَ فَوَقَفَ، وَقَالَ: مَا كُنْت أَشتهِي الوُضُوْء إِلاَّ مِنَ البركَةِ.
ثُمَّ صَبَر قَلِيْلاً، فَإِذَا المَاء قَدْ جرَى، فَانْتظر حَتَّى فَاضت البركَة، ثُمَّ انْقَطَع المَاء، فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: هَذِهِ كرَامَة لَكَ.
فَقَالَ لِي: قل: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، لَعَلَّ المَاء كَانَ محتبساً، لاَ تَقُلْ هَذَا!
وَسَمِعْتُ الرَّضِيَّ عَبْد الرَّحْمَانِ يَقُوْلُ:
كَانَ رَجُل قَدْ أَعْطَى الحَافِظ جَامُوْساً فِي البَحْرَةِ، فَقَالَ لِي: جِئْ بِهِ،
وَبِعْهُ.فَمضيت، فَأَخَذتهُ، فَنفر كَثِيْراً، وَبَقِيَ جَمَاعَة يَضحكُوْن مِنْهُ.
فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ بِبركَة الحَافِظ سهّل أَمره، فَسُقته مَعَ جَامُوْسَيْنِ، فَسهُل أَمره، وَمَشَى فَبعته بقَرْيَة.
وَفَاتُهُ:
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى يَقُوْلُ : مَرِضَ أَبِي فِي رَبِيْع الأَوَّلِ مرضاً شدِيداً مَنعه مِنَ الكَلاَم وَالقِيَام، وَاشتدَّ سِتَّةَ عشرَ يَوْماً، وَكُنْت أَسْأَلُهُ كَثِيْراً: مَا يَشتهِي؟ فَيَقُوْلُ: أَشتهِي الجَنَّة، أَشتهِي رَحْمَة الله.
لاَ يَزِيْد عَلَى ذَلِكَ، فَجِئْته بِمَاء حَارّ، فَمدَّ يَده، فَوضأته وَقت الفَجْر، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ! قُمْ صلّ بِنَا، وَخفّف.
فَصَلَّيْت بِالجَمَاعَة، وَصَلَّى جَالِساً، ثُمَّ جلَسْت عِنْد رَأْسه، فَقَالَ: اقْرَأْ يَس.
فَقرَأتهَا، وَجَعَلَ يَدعُوا وَأَنَا أُؤمّن، فَقُلْتُ: هُنَا دَوَاء تَشْرَبُهُ، قَالَ: يَا بُنَيَّ! مَا بَقِيَ إِلاَّ المَوْت.
فَقُلْتُ: مَا تَشتهِي شَيْئاً؟
قَالَ: أَشتهِي النَّظَر إِلَى وَجه الله- سُبْحَانه-.
فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ عَنِّي رَاض؟
قَالَ: بَلَى وَاللهِ.
فَقُلْتُ: مَا تُوصي بِشَيْءٍ؟
قَالَ: مَا لِي عَلَى أَحَد شَيْء، وَلاَ لأَحدٍ عَلَيَّ شَيْء.
قُلْتُ: تُوصينِي؟
قَالَ: أُوصيك بتَقْوَى الله، وَالمحَافِظَة عَلَى طَاعته، فَجَاءَ جَمَاعَة يَعُوْدُوْنَهُ، فَسلّمُوا، فَردّ عَلَيْهِم، وَجَعَلُوا يَتحدثُونَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ اذكرُوا الله، قَوْلُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله.
فَلَمَّا قَامُوا، جَعَلَ يذَكَرَ الله بِشفتيه، وَيُشِيْر بِعَيْنَيْهِ، فَقُمْت لأنَاول رَجُلاً كِتَاباً مِنْ جَانب المَسْجَد، فَرَجَعت وَقَدْ خَرَجت روحه -رَحِمَهُ الله- وَذَلِكَ يَوْم الاثْنَيْنِ، الثَّالِث وَالعِشْرِيْنَ مِنْ رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ سِتِّ
مائَةٍ، وَبَقِيَ لَيْلَة الثُّلاَثَاء فِي المَسْجَدِ، وَاجْتَمَعَ الْخلق مِنَ الغَدِ، فَدَفَنَّاهُ بِالقرَافَة.قَالَ الضِّيَاء: تَزَوَّجَ الحَافِظ بِخَالتِي رَابِعَة ابْنَة خَاله الشَّيْخ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ قُدَامَة، فَهِيَ أُمّ أَوْلاَده مُحَمَّد وَعَبْد اللهِ وَعَبْد الرَّحْمَانِ وَفَاطِمَة، ثُمَّ تسرَّى بِمِصْرَ.
قُلْتُ: أَوْلاَده عُلَمَاء:
فَمُحَمَّدٌ: هُوَ المُحَدِّثُ الحَافِظُ الإِمَام الرَّحَّال عِزّ الدِّيْنِ أَبُو الفَتْحِ، مَاتَ سَنَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَسِتِّ مائَةٍ كَهْلاً، وَكَانَ كَبِيْرَ القَدْرِ.
وَعَبْد اللهِ: هُوَ المُحَدِّثُ الحَافِظُ المُصَنِّف جَمَال الدِّيْنِ أَبُو مُوْسَى، رَحل وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ كُلَيْبٍ، وَخَلِيْلٍ الرَّارَانِيِّ، مَاتَ كَهْلاً، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ.
وَعَبْد الرَّحْمَانِ: هُوَ المُفْتِي أَبُو سُلَيْمَانَ ابْنُ الحَافِظِ، سَمِعَ مِنَ البُوْصِيْرِيّ وَابْن الجَوْزِيِّ، عَاشَ بِضْعاً وَخَمْسِيْنَ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ، سَنَةَ ثَلاَثٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ.
مِن المَنَامَاتِ:
أَوْرَد لَهُ الشَّيْخ الضِّيَاء عِدَّة مَنَامَات، مِنْهَا:
سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ يُوْنُسَ المَقْدِسِيّ الأَمِيْن يَقُوْلُ: رَأَيْتُ كَأَنِّيْ بِمسجد الدَّيْرِ، وَفِيْهِ رِجَال عَلَيْهِم ثِيَابٌ بِيْضٌ، وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهُم مَلاَئِكَةٌ، فَدَخَلَ
الحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، فَقَالُوا بِأَجْمَعهِم: نشْهد بِاللهِ إِنَّك مِنْ أَهْلِ اليَمِين، مرَّتين أَوْ ثَلاَثاً.سَمِعْتُ الحَافِظَ عَبْد الغَنِيِّ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ وَأَنَا أَمْشِي خَلفه إِلاَّ أَنّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَجُلاً.
سَمِعْتُ الرَّضِيَّ عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّد يَقُوْلُ: رَأَيْتُ كَأَنَّ قَائِلاً يَقُوْلُ: جَاءَ الحَافِظ مِنْ مِصْرَ، فَمضيتُ أَنَا وَالشَّيْخ أَبُو عَمْرٍو العِزّ ابْن الحَافِظِ إِلَيْهِ، فَجِئْنَا إِلَى دَار، فَفُتِحَ البَاب، فَإِذَا الحَافِظ عَلَى وَجهه عَمُود مِنْ نور إِلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا وَالِدته فِي تِلْكَ الدَّار.
سَمِعْتُ الشَّيْخ الصَّالِح غشيم بن نَاصِر المِصْرِيّ، قَالَ:
لَمَّا مَاتَ الحَافِظ، كُنْت بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدمتُ، قُلْتُ: أَيْنَ دُفِنَ؟
قِيْلَ: شرقِي قَبْر الشَّافِعِيّ، فَخَرَجت، فَلقيت رَجُلاً، فَقُلْتُ: أَيْنَ قَبْر عَبْد الغَنِيِّ؟
قَالَ: لاَ تسَأَلنِي عَنْهُ، مَا أَنَا عَلَى مَذْهَبه، وَلاَ أُحبّه.
فَتركته، وَمشيت، وَأَتيت قَبْر الحَافِظ، وَترددت إِلَيْهِ، فَأَنَا بَعْضُ الأَيَّام فِي الطَّرِيْق، فَإِذَا الرَّجُل، فَسَلَّمَ عليّ، وَقَالَ: أَمَا تَعرفنِي؟ أَنَا الَّذِي لَقِيتك مِنْ مُدَّة، وَقُلْتُ لَكَ كَذَا وَكَذَا، مَضَيْت تِلْكَ اللَّيْلَة، فَرَأَيْت قَائِلاً يَقُوْلُ لِي: يَقُوْلُ لَكَ فُلاَن وَسَمَّانِي: أَيْنَ قَبْر عَبْد الغَنِيِّ؟ فَتَقُوْلُ: مَا قُلْت؟! وَكرّر القَوْل عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنْ أَرَادَ الله بِك خَيراً فَأَنْت تَكُوْن عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: فَلَو كُنْت أَعْرف مَنْزِلك، لأَتيتك.
سَمِعْتُ أَبَا مُوْسَى ابْنَ الحَافِظِ، حَدَّثَنِي صنِيعَة الْملك هِبَة اللهِ بن حَيْدَرَةَ، قَالَ:
لَمَّا خَرَجت لِلصَّلاَة عَلَى الحَافِظ، لَقِيَنِي هَذَا المَغْرِبِيُّ، فَقَالَ: أَنَا غَرِيْب، رَأَيْت البَارِحَة كَأَنِّيْ فِي أَرْض بِهَا قَوْم عَلَيْهِم ثِيَاب بيض، فَقُلْتُ: مَا
هَؤُلاَءِ؟ قِيْلَ: مَلاَئِكَة السَّمَاء نَزلُوا لِمَوتِ الحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ هُوَ؟ فَقِيْلَ لِي: اقعدْ عِنْد الجَامِع حَتَّى يَخْرُج صنِيعَة الْملك، فَامض مَعَهُ.قَالَ: فَلقيته وَاقفاً عِنْد الجَامِع.
سَمِعْتُ الفَقِيْه أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الغَنِيِّ سَنَة اثْنَتَيْ عَشْرَةَ يَقُوْلُ:
رَأَيْتُ أَخَاك الكَمَال عَبْد الرَّحِيْمِ -وَكَانَ تُوُفِّيَ تِلْكَ السّنَة- فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ: يَا فُلاَنُ، أَيْنَ أَنْتَ؟
قَالَ: فِي جَنَّة عدن.
فَقُلْتُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ الحَافِظُ أَوِ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ.
فَقَالَ: مَا أَدْرِي، وَأَمَّا الحَافِظ فُكُلُّ لَيْلَة جُمُعَة يُنْصب لَهُ كُرْسِيّ تَحْت الْعَرْش، وَيُقْرَأُ عَلَيْهِ الحَدِيْث، وَيُنْثَرُ عَلَيْهِ الدُّرُّ وَالجَوْهَر، وَهَذَا نَصِيْبِي مِنْهُ، وَكَانَ فِي كُمِّه شَيْء.
سَمِعْتُ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن حَسَنِ بنِ مُحَمَّدٍ الكُرْدِيّ بِحَرَّانَ يَقُوْلُ:
قَرَأْت فِي رَمَضَانَ ثَلاَثِيْنَ ختمَة، وَجَعَلت ثوَاب عشر مِنْهَا لِلْحَافِظ عَبْد الغَنِيِّ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: ترَى يَصل هَذَا إِلَيْهِ؟
فَرَأَيْت فِي النَّوْمِ كَأَنَّ عِنْدِي ثَلاَثَة أَطباق رطب، فَجَاءَ الحَافِظ، وَأَخَذَ وَاحِداً مِنْهَا.
وَرَأَيْتهُ مرَّة، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ مُتَّ؟
قَالَ: إِنَّ اللهَ بقَى عَلَيَّ وِرْدِي مِنَ الصَّلاَةِ، أَوْ نَحْو هَذَا.
سَمِعْتُ القَاضِي الإِمَام عُمَر بن عَلِيٍّ الهَكَّارِيّ بِنَابُلُسَ يَقُوْلُ:
رَأَيْتُ الحَافِظَ كَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ إِلَى بَيْت المَقْدِسِ، فَقُلْتُ: جِئْتَ غَيْرَ رَاكِبٍ، فَعل اللهُ بِمَنْ جِئْتِ مِنْ عِنْدِهِم!
قَالَ: أَنَا حَمَلَنِي النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
أَخْبَرَنَا الإِمَامُ عَبْد الحَافِظِ بن بَدْرَانَ بِنَابُلُسَ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ الفَقِيْهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ بن عَبْدِ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَسْعُوْدٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ السُّوْذَرْجَانِيّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَمْدَانَ الحبَّال، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ
الفَابَجَانِيّ، حَدَّثَنَا جَدِّي عِيْسَى بن إِبْرَاهِيْمَ، حَدَّثَنَا آدَم بن أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ حَيَّان، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السُّجُوْدَ، فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، وَيَقُوْلُ: يَا وَيْلَهُ! أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُوْدِ، فَسَجَدَ، فَلَهُ الجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُوْدِ، فَعَصَيْتُ، فَلِيَ النَّارُ).