عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أبو عبد الرحمن الأذرمي :
سمع سفيان بن عيينة وغندرًا، وعبيدة بن حميد، وأبا خالد الأحمر، وزياد بن عبد اللَّه البكائي، وهشيم بن بشير، وإسماعيل بن علية، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وقاسم بن يزيد الجرمي، وزيد بن أَبِي الزرقاء، وعبد العزيز بن عمران. روى عنه أبو حاتم الرازي وقَالَ: كان ثقة، ومحمّد بن عبيد الله المنادي، وأبو داود السجستاني، وعبد اللَّهِ بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل، وَموسى بْن هارون، وأَحْمَد بن أَبِي عوف البزوري، والقاسم بن يَحْيَى بن نصر المخرمي، وعمر بن أيوب السقطي، ويَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن صاعد، وأبو بكر بن أبي داود السجستاني. وقدم الأذرمي بغداد وحدث بِها.
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْن بن علي التميمي، أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي عبد اللَّه بن مُحَمَّد بن إسحاق أبو عبد الرّحمن الأذرمي، حدّثنا زيد بن أبي الزرقاء، حَدَّثَنَا سفيان عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كان الأحنف بن قيس وأناس يذكرون السلطان، فقَالَ الأحنف: إنكم قد أكثرتم في سلطانكم، فلو كان معتبكم كان قد أعتبكم، فاختاروا بينه وبين أمر الجاهلية.
أَخْبَرَنِي حَمْدَانُ بْنُ سَلْمَانَ الطَّحَّانُ، حدّثنا محمّد بن عبد الرّحمن المخلص،
حدّثنا يحيى بن محمّد بن صاعد، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَذْرَمِيُّ- بِبَغْدَادَ قَدِمَ عَلَيْنَا- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ عَنْ شَرِيكٍ عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَنْهَاكُمْ عَنِ الْعَضْهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الْعَضْهُ؟ النَّمِيمَةُ، ونقل الحديث» .
أخبرنا البرقاني، أخبرنا علي بن عمر الحافظ، حدّثنا الحسن بن رشيق المصريّ، حدثنا عبد الكريم بن أبي عبد الرحمن النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِيهِ.
ثُمَّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ علي الصوري، أَخْبَرَنَا الخصيب بْن عَبْد اللَّه الْقَاضِي- بمصر- قَالَ: ناولني عبد الكريم بْن أبي عبد الرحمن وكتب لي بخطه. قَالَ: سمعت أبي يقول: عبد الله بن محمد بن إسحاق أذرمي ثقة.
قلت: وكان هارون الواثق باللَّه أشخص شيخًا من أهل أذنة للمحنة، وناظر ابن أَبِي دؤاد بحضرته، واستعلى عليه الشيخ بحجته، فأطلقه الواثق ورده إلى وطنه، ويقَال إنه كان أبا عبد الرحمن الأذرمي.
أَخْبَرَنَا بقصته مُحَمَّد بن أحمد بن رزق، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن سندي الحداد قَالَ: قرئ على أَحْمَد بن الممتنع- وأنا أسمع- قيل له أخبركم صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي قَالَ: حضرت المهتدي باللَّه أمير المؤمنين- رحمة اللَّه عليه- وقد جلس للنظر في أمور المتظلمين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وينشأ الكتاب عليها، ويحرر ويختم، وتدفع إلى صاحبها بين يديه، فسرني ذلك واستحسنت ما رأيت منه، فجعلت أنظر إليه، ففطن ونظر إلي، فغضضت عنه، حتى كان ذلك مني ومنه مرارًا ثلاثة، إذا نظر غضضت، وإذا شغل نظرت، فقَالَ لي: يا صالح! قلت لبيك يا أمير المؤمنين وقمت قائمًا، فقَالَ في نفسك مني شيء تريد- أو قَال تحب- أن تقوله؟ قلت: نعم يا سيدي، فقَالَ لي:
عد إلى موضعك، فعدت وعاد إلى النظر حتى إذا قام قَالَ للحاجب لا يبرح صالح، وانصرف الناس ثم أذن لي، وهمتني نفسي فدخلت فدعوت له، فقَالَ لي: اجلس فجلست، فَقَال يا صالح تقول لي ما دار في نفسك، أو أقول أنا ما دار في نفسي أَنَّهُ دار في نفسك؟ قلت: يا أمير المؤمنين ما تعزم عليه وتأمر به، فَقَالَ: أقول أنا إنه دار في نفسي أنك استحسنت ما رأيت منا فقلت أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يَقُول إن القرآن مخلوق. فورد على قلبي أمر عظيم، ثم قلت يا نفس هل تموتين قبل أجلك، وهل تموتين إلا مرة، وهل يجوز الكذب في جد أو هزل؟ فقلت: يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلت، فأطرق مليًا ثم قَالَ: ويحك اسمع مني ما أقول، فو الله لتسمعن الحق، فسري عني، وقلت: يا سيدي ومن أولى بقول الحق منك وأنت خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين من الأولين والآخرين، فَقَال: ما زلت أقول إن القرآن مخلوق صدرًا من أيام الواثق، حتى أقدم أَحْمَد بن أبي دؤاد علينا شيخًا من أهل الشام من أهل أذنة، فأدخل الشيخ على الواثق مقيدًا وهو جميل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن، ودعا فبلغ وأوجز. فقَالَ له الواثق: اجلس فجلس، وقال له: يا شيخ ناظر ابن أَبِي دؤاد على ما يناظرك عليه، فقَالَ له الشيخ: يا أمير المؤمنين، ابن أَبِي دؤاد يصبو ويضعف عن المناظرة، فغضب الواثق وعاد مكان
الرقة له غضبًا عليه وقَالَ: أَبُو عَبْد اللَّه بْن أَبِي دؤاد يصبو ويضعف عن مناظرتك أنت؟! فقَالَ الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وائذن في مناظرته، فقَالَ الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة، فقَالَ الشيخ: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تحفظ على وعليه ما يقول، قَالَ: أفعل، فقَال الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرَنِي عن مقَالتك هذه هي مقَالة واجبة داخلة في عقد الدين فلا يكون الدين كاملًا حتى يقَال فيه بما قلت؟ قَالَ: نعم.
قَالَ الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بعثه اللَّه إلى عباده هل ستر رسول اللَّه شيئًا مما أمره اللَّه به في أمر دينهم؟ فَقَال: لا، فقَالَ الشيخ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمة إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أَبِي دؤاد، فقَالَ الشيخ: تكلم، فسكت، فالتفت الشيخ إلى الواثق فقَال: يا أمير المؤمنين واحدة، فقال الواثق: واحدة، فقَال الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرَنِي عن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حين أنزل القرآن عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
[المائدة 3] كان اللَّه تعالى الصادق في إكماله دينه، أو أنت الصادق في نقصانه، حتى يقَال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد، فقَال الشيخ: أجب يا أَحْمَد فلم يجب، فقَالَ الشيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان، فقَالَ الواثق: نعم اثنتان، قَالَ الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرَنِي عن مقَالتك هذه علمها رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم جهلها؟ قال ابن أبي داود:
علمها، قَالَ: فدعا الناس إليها؟ فسكت، قَالَ الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث، فقال الواثق ثلاث فقَالَ الشيخ: يا أَحْمَد فاتسع لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن علمها وأمسك عنها كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟ قَالَ: نعم. قَالَ الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم؟ قَالَ ابن أَبِي دؤاد نعم! فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق فقَال: يا أمير المؤمنين قد قدمت القول أن أَحْمَد يصبو ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقَالة ما زعم هذا أنه اتسع لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فلا وسع اللَّه على من لم يتسع له ما اتسع لهم- أو قَالَ فلا وسع اللَّه عليك- فقَال الواثق: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقَالة ما اتسع لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وعثمان وعلي، فلا وسع اللَّه علينا، اقطعوا قيد الشيخ، فلما قطع القيد ضرب الشيخ بيده إلى القيد حتى يأخذه، فجاذبه الحداد عليه، فقَالَ الواثق: دع الشيخ يأخذه، فأخذه فوضعه في كمه، فقَالَ له الواثق: يا شيخ لم جاذبت الحداد عليه؟ قَالَ لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا أنا مت أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخاصم
به هذا الظالم عند اللَّه يوم القيامة، وأقول يا رب سل عبدك هذا لِم قيدني! وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي، وبكى الشيخ فبكى الواثق، وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله، فقَال له الشيخ: واللَّه يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكرامًا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كنت رجلًا من أهله. فقَال الواثق: لي إليك حاجة، فقَالَ الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت، فقَالَ له الواثق: تقيم قبلنا فننتفع بك وتنتفع بك فتياننا، فقَالَ الشيخ: يا أمير المؤمنين إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني عنه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عليك، وأخبرك بما في ذلك، أصير إلى أهلي وولدي فأكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك.
فقَالَ له الواثق: فتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين لا يحل لي أنا عنها غني، وذو مرة سوي، فَقَال: سل حاجة، قَالَ: أو تقضيها يا أمير المؤمنين؟
قَالَ: نعم! قَالَ: تأذن أن يخلى لي السبيل الساعة إلى الثغر؛ قَالَ: قد أذنت لك، فسلم عليه وخرج. قَالَ صالح بن علي قَالَ المهتدي باللَّه: فرجعت عن هذه المقَالة، وأظن أن الواثق قد كان رجع عنها منذ ذلك الوقت.
أَخْبَرَنَا أبو بكر عبد اللَّه بن حمويه بن أبزك الهمذاني- بِها- قَالَ: سمعت أبا بكر أَحْمَد بن عبد الرحمن الشيرازي الحافظ- وحَدَّثَنَا بِحديث الشيخ الأذني ومناظرته مع ابن أبي دؤاد بحضرة الواثق- فقَالَ: الشيخ هو أبو عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مُحَمَّد ابن إسحاق الأذرمي.
سمع سفيان بن عيينة وغندرًا، وعبيدة بن حميد، وأبا خالد الأحمر، وزياد بن عبد اللَّه البكائي، وهشيم بن بشير، وإسماعيل بن علية، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وقاسم بن يزيد الجرمي، وزيد بن أَبِي الزرقاء، وعبد العزيز بن عمران. روى عنه أبو حاتم الرازي وقَالَ: كان ثقة، ومحمّد بن عبيد الله المنادي، وأبو داود السجستاني، وعبد اللَّهِ بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل، وَموسى بْن هارون، وأَحْمَد بن أَبِي عوف البزوري، والقاسم بن يَحْيَى بن نصر المخرمي، وعمر بن أيوب السقطي، ويَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن صاعد، وأبو بكر بن أبي داود السجستاني. وقدم الأذرمي بغداد وحدث بِها.
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْن بن علي التميمي، أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي عبد اللَّه بن مُحَمَّد بن إسحاق أبو عبد الرّحمن الأذرمي، حدّثنا زيد بن أبي الزرقاء، حَدَّثَنَا سفيان عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كان الأحنف بن قيس وأناس يذكرون السلطان، فقَالَ الأحنف: إنكم قد أكثرتم في سلطانكم، فلو كان معتبكم كان قد أعتبكم، فاختاروا بينه وبين أمر الجاهلية.
أَخْبَرَنِي حَمْدَانُ بْنُ سَلْمَانَ الطَّحَّانُ، حدّثنا محمّد بن عبد الرّحمن المخلص،
حدّثنا يحيى بن محمّد بن صاعد، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَذْرَمِيُّ- بِبَغْدَادَ قَدِمَ عَلَيْنَا- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ عَنْ شَرِيكٍ عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَنْهَاكُمْ عَنِ الْعَضْهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الْعَضْهُ؟ النَّمِيمَةُ، ونقل الحديث» .
أخبرنا البرقاني، أخبرنا علي بن عمر الحافظ، حدّثنا الحسن بن رشيق المصريّ، حدثنا عبد الكريم بن أبي عبد الرحمن النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِيهِ.
ثُمَّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ علي الصوري، أَخْبَرَنَا الخصيب بْن عَبْد اللَّه الْقَاضِي- بمصر- قَالَ: ناولني عبد الكريم بْن أبي عبد الرحمن وكتب لي بخطه. قَالَ: سمعت أبي يقول: عبد الله بن محمد بن إسحاق أذرمي ثقة.
قلت: وكان هارون الواثق باللَّه أشخص شيخًا من أهل أذنة للمحنة، وناظر ابن أَبِي دؤاد بحضرته، واستعلى عليه الشيخ بحجته، فأطلقه الواثق ورده إلى وطنه، ويقَال إنه كان أبا عبد الرحمن الأذرمي.
أَخْبَرَنَا بقصته مُحَمَّد بن أحمد بن رزق، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن سندي الحداد قَالَ: قرئ على أَحْمَد بن الممتنع- وأنا أسمع- قيل له أخبركم صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي قَالَ: حضرت المهتدي باللَّه أمير المؤمنين- رحمة اللَّه عليه- وقد جلس للنظر في أمور المتظلمين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وينشأ الكتاب عليها، ويحرر ويختم، وتدفع إلى صاحبها بين يديه، فسرني ذلك واستحسنت ما رأيت منه، فجعلت أنظر إليه، ففطن ونظر إلي، فغضضت عنه، حتى كان ذلك مني ومنه مرارًا ثلاثة، إذا نظر غضضت، وإذا شغل نظرت، فقَالَ لي: يا صالح! قلت لبيك يا أمير المؤمنين وقمت قائمًا، فقَالَ في نفسك مني شيء تريد- أو قَال تحب- أن تقوله؟ قلت: نعم يا سيدي، فقَالَ لي:
عد إلى موضعك، فعدت وعاد إلى النظر حتى إذا قام قَالَ للحاجب لا يبرح صالح، وانصرف الناس ثم أذن لي، وهمتني نفسي فدخلت فدعوت له، فقَالَ لي: اجلس فجلست، فَقَال يا صالح تقول لي ما دار في نفسك، أو أقول أنا ما دار في نفسي أَنَّهُ دار في نفسك؟ قلت: يا أمير المؤمنين ما تعزم عليه وتأمر به، فَقَالَ: أقول أنا إنه دار في نفسي أنك استحسنت ما رأيت منا فقلت أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يَقُول إن القرآن مخلوق. فورد على قلبي أمر عظيم، ثم قلت يا نفس هل تموتين قبل أجلك، وهل تموتين إلا مرة، وهل يجوز الكذب في جد أو هزل؟ فقلت: يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلت، فأطرق مليًا ثم قَالَ: ويحك اسمع مني ما أقول، فو الله لتسمعن الحق، فسري عني، وقلت: يا سيدي ومن أولى بقول الحق منك وأنت خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين من الأولين والآخرين، فَقَال: ما زلت أقول إن القرآن مخلوق صدرًا من أيام الواثق، حتى أقدم أَحْمَد بن أبي دؤاد علينا شيخًا من أهل الشام من أهل أذنة، فأدخل الشيخ على الواثق مقيدًا وهو جميل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن، ودعا فبلغ وأوجز. فقَالَ له الواثق: اجلس فجلس، وقال له: يا شيخ ناظر ابن أَبِي دؤاد على ما يناظرك عليه، فقَالَ له الشيخ: يا أمير المؤمنين، ابن أَبِي دؤاد يصبو ويضعف عن المناظرة، فغضب الواثق وعاد مكان
الرقة له غضبًا عليه وقَالَ: أَبُو عَبْد اللَّه بْن أَبِي دؤاد يصبو ويضعف عن مناظرتك أنت؟! فقَالَ الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وائذن في مناظرته، فقَالَ الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة، فقَالَ الشيخ: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تحفظ على وعليه ما يقول، قَالَ: أفعل، فقَال الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرَنِي عن مقَالتك هذه هي مقَالة واجبة داخلة في عقد الدين فلا يكون الدين كاملًا حتى يقَال فيه بما قلت؟ قَالَ: نعم.
قَالَ الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بعثه اللَّه إلى عباده هل ستر رسول اللَّه شيئًا مما أمره اللَّه به في أمر دينهم؟ فَقَال: لا، فقَالَ الشيخ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمة إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أَبِي دؤاد، فقَالَ الشيخ: تكلم، فسكت، فالتفت الشيخ إلى الواثق فقَال: يا أمير المؤمنين واحدة، فقال الواثق: واحدة، فقَال الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرَنِي عن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حين أنزل القرآن عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
[المائدة 3] كان اللَّه تعالى الصادق في إكماله دينه، أو أنت الصادق في نقصانه، حتى يقَال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد، فقَال الشيخ: أجب يا أَحْمَد فلم يجب، فقَالَ الشيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان، فقَالَ الواثق: نعم اثنتان، قَالَ الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرَنِي عن مقَالتك هذه علمها رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم جهلها؟ قال ابن أبي داود:
علمها، قَالَ: فدعا الناس إليها؟ فسكت، قَالَ الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث، فقال الواثق ثلاث فقَالَ الشيخ: يا أَحْمَد فاتسع لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن علمها وأمسك عنها كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟ قَالَ: نعم. قَالَ الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم؟ قَالَ ابن أَبِي دؤاد نعم! فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق فقَال: يا أمير المؤمنين قد قدمت القول أن أَحْمَد يصبو ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقَالة ما زعم هذا أنه اتسع لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فلا وسع اللَّه على من لم يتسع له ما اتسع لهم- أو قَالَ فلا وسع اللَّه عليك- فقَال الواثق: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقَالة ما اتسع لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وعثمان وعلي، فلا وسع اللَّه علينا، اقطعوا قيد الشيخ، فلما قطع القيد ضرب الشيخ بيده إلى القيد حتى يأخذه، فجاذبه الحداد عليه، فقَالَ الواثق: دع الشيخ يأخذه، فأخذه فوضعه في كمه، فقَالَ له الواثق: يا شيخ لم جاذبت الحداد عليه؟ قَالَ لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا أنا مت أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخاصم
به هذا الظالم عند اللَّه يوم القيامة، وأقول يا رب سل عبدك هذا لِم قيدني! وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي، وبكى الشيخ فبكى الواثق، وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله، فقَال له الشيخ: واللَّه يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكرامًا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كنت رجلًا من أهله. فقَال الواثق: لي إليك حاجة، فقَالَ الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت، فقَالَ له الواثق: تقيم قبلنا فننتفع بك وتنتفع بك فتياننا، فقَالَ الشيخ: يا أمير المؤمنين إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني عنه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عليك، وأخبرك بما في ذلك، أصير إلى أهلي وولدي فأكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك.
فقَالَ له الواثق: فتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين لا يحل لي أنا عنها غني، وذو مرة سوي، فَقَال: سل حاجة، قَالَ: أو تقضيها يا أمير المؤمنين؟
قَالَ: نعم! قَالَ: تأذن أن يخلى لي السبيل الساعة إلى الثغر؛ قَالَ: قد أذنت لك، فسلم عليه وخرج. قَالَ صالح بن علي قَالَ المهتدي باللَّه: فرجعت عن هذه المقَالة، وأظن أن الواثق قد كان رجع عنها منذ ذلك الوقت.
أَخْبَرَنَا أبو بكر عبد اللَّه بن حمويه بن أبزك الهمذاني- بِها- قَالَ: سمعت أبا بكر أَحْمَد بن عبد الرحمن الشيرازي الحافظ- وحَدَّثَنَا بِحديث الشيخ الأذني ومناظرته مع ابن أبي دؤاد بحضرة الواثق- فقَالَ: الشيخ هو أبو عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مُحَمَّد ابن إسحاق الأذرمي.