المَلِكُ الصَّالِحُ أَبُو الفُتُوْحِ أَيُّوْبُ ابنُ الكَامِلِ ابْنِ العَادِلِ
السُّلْطَانُ الكَبِيْرُ، المَلِكُ الصَّالِحُ، نَجْمُ الدِّيْنِ، أَبُو الفُتُوْحِ أَيُّوْبُ ابْنُ السُّلْطَانِ المَلِكِ الكَامِلِ مُحَمَّدِ ابْنِ العَادِلِ.
وَأُمُّه جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ اسْمهَا: وَرْدُ المُنَى.
مَوْلِدُه: سَنَةَ ثَلاَثٍ وَسِتِّ مائَةٍ، بِالقَاهِرَةِ.وَنَاب عَنْ أَبِيْهِ لَمَّا جَاءَ لِحصَارِ النَّاصِرِ دَاوُدَ، فَلَمَّا رَجَعَ، انتقدَ أَبُوْهُ عَلَيْهِ أَشيَاءَ، وَمَالَ عَنْهُ إِلَى وَلَدِهِ الآخِر العَادلِ، فَلَمَّا اسْتولَى الكَامِل عَلَى آمدَ وَحصنِ كَيْفَا وَسِنْجَارَ، سَلْطَنَ نَجْمَ الدِّيْنِ، وَجَعَلَهُ عَلَى هَذِهِ البِلاَد، فَبَقِيَ بِهَا إِلَى أَنْ جَاءَ وَتَمَلَّكَ دِمَشْقَ، ثُمَّ سَاقَ إِلَىالغَوْر، فَوَثَبَ عَلَى دِمَشْقَ عَمُّه إِسْمَاعِيْل، فَأَخَذَهَا، وَنَزَلَ عَسْكَر الكَرَكِ، فَأَحَاطُوا بِالصَّالِحِ، وَأَخَذوهُ إِلَى الكَرَكِ، ثُمَّ ذهب بِهِ النَّاصِرُ لَمَّا كَاتَبَهُ الأُمَرَاءُ الكَامِليَّةُ، فَعَزَلُوا أَخَاهُ العَادلَ وَمَلَّكُوهُ، وَرَجَعَ النَّاصِر بِخُفَّي حُنَيْنٍ.
قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: كَانَ لاَ يَجتمعُ بِالفُضَلاَءِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُشَاركَةٌ، بِخلاَفِ أَبِيْهِ، وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنَ اصطَلَحَ الصَّالِحُ وَعَمُّه الصَّالِحُ عَلَى أَنَّ دِمَشْقَ لِعَمِّه، وَأَنْ يُقيم هُوَ وَالحَلَبِيُّوْنَ وَالحِمْصيون الخُطبَة لِلصَّالح نَجْمِ الدِّيْنِ، وَأَنْ يُبعَثَ إِلَيْهِ وَلدُهُ الملكُ المُغِيْثُ وَابْنُ أَبِي عَلِيٍّ وَمُجِيْرُ الدِّيْنِ ابْنُ أَبِي زكرِي، فَأَطلَقهُم عَمُّه، وَاتَّفَقتِ المُلُوْكُ عَلَى عَدَاوَةِ صَاحِبِ الكَرَكِ، وَبَعَثَ إِسْمَاعِيْلُ جَيْشاً يُحَاصرُوْنَ عَجلُوْنَ، وَهِيَ بِيَدِ النَّاصِرِ، ثُمَّ انْحلَّ ذَلِكَ؛ لِورقَةٍ وَجَدَهَا إِسْمَاعِيْلُ مِنْ أَيُّوْبَ إِلَى الخُوَارِزْمِيَّةِ يَحَثُّهُم علَى المَجِيْءِ لِيُحَاصرُوا عَمَّه، فَحَبَسَ حِيْنَئِذٍ المُغِيْثَ، وَصَالَحَ صَاحِبَ الكَرَكِ، وَاتَّفَقَ مَعَ صَاحِبِ حِمْصَ وَصَاحِبِ حَلَبَ، وَاعتضدَ بِالفِرَنْجِ، فَأَقْبَلَ المِصْرِيُّونَ، عَلَيْهِم بِيْبَرْسُ الصَّالِحيُّ البُنْدُقْدَارُ الكَبِيْرُ الَّذِي قَتلَه أُسْتَاذُه، وَأَعْطَى إِسْمَاعِيْلُ الفِرَنْجَ بَيْتَ المَقْدِسِ، وَعمرُوا طَبرِيَةَ وَعَسْقَلاَنَ، وَوضَعَتِ الرُّهبَانُ قَنَانِي الخَمْرِ عَلَى الصَّخْرَةِ، وَأُبطِلَ الأَذَانُ
بِالحَرَمِ، وَعَدَّت الخُوَارِزْمِيَّةُ الفُرَاتَ فِي عَشْرَةِ آلاَفٍ، فَمَا مَرُّوا بِشَيْءٍ إِلاَّ نَهبُوْهُ، وَأَقْبَلُوا، فَهَرَبتِ الفِرَنْجُ مِنْهُم مِنَ القُدْسِ، فَقَتلُوا عِدَّةً مِنَ النَّصَارَى، وَهَدمُوا قُمَامَةَ، وَنَبشُوا عِظَامَ الموتَى، وَجَاءتْهُ الخِلَعُ وَالنَّفقَةُ مِنْ مِصْرَ، ثُمَّ سَارَ عَلَى الشَّامِيّينَ المَنْصُوْرُ صَاحِبُ حِمْصَ، وَوَافَتْهُ الفِرَنْجُ.قَالَ المَنْصُوْرُ: لَقَدْ قَصَّرتُ يَوْمَئِذٍ، وَعرفتُ أَنَّنَا لاَ نُفلِحُ بِالنَّصَارَى، فالَتَقَوْا.
قَالَ: فَانْهَزَمَ الشَّامِيُّوْنَ، ثُمَّ جَاءَ جَيْشُ السُّلْطَانِ نَجْمِ الدِّيْنِ، وَعَلَيْهِم مُعِيْنُ الدِّيْنِ ابْنُ الشَّيْخِ، وَمَعَهُ خِزَانَةُ مَالٍ، فَنَازَلُوا دِمَشْقَ مُدَّةً، ثُمَّ أُخِذَتْ بِالأَمَانِ؛ لِقلِّةِ مَنْ مَعَ صَاحِبِهَا؛ وَلِمُفَارقَةِ الحَلَبِيِّينَ لَهُ، فَتَرَكَهَا، وَذَهَبَ إِلَى بَعْلَبَكَّ، وَحَصلَ لِلْخُوَارِزْمِيَةِ إِدلاَلٌ، وَطَمِعُوا فِي كِبَارِ الأَخبَازِ، فَلَمْ يَصِحَّ مَرَامُهُم، فَغَضِبُوا، وَنَابَذُوا، ثُمَّ حَلَفُوا لإِسْمَاعِيْلَ، وَجَاءَ تَقلِيدُ الخِلاَفَةِ لِلسُّلْطَانِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالشَّرْقِ، وَلَبِسَ العِمَامَةَ وَالجُبَّةَ السَّوْدَاءَ.
ثُمَّ إِنَّ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيْلَ كَرَّ بِالخُوَارِزْمِيَّةِ إِلَى دِمَشْقَ، وَنَازَلَهَا، وَمَا بِهَا كَبِيْرُ عَسْكَرٍ، فَكَانَ بِالقَلْعَةِ رَشِيْدٌ الخَادِمُ، وَبِالمَدِيْنَةِ حُسَامُ الدِّيْنِ ابْنُ أَبِي عَلِيٍّ، فَقَامَ بِحِفظِهَا، وَاشتَدَّ بِهَا القَحطُ حَتَّى أَكَلُوا الجِيَفَ، حَتَّى قِيْلَ: إِنَّ رَجُلاً مَاتَ فِي الحَبْسِ، فَأَكلُوْهُ.
وَجَرَتْ أُمُوْرٌ مُزعجَةٌ، ثُمَّ التَقَى الحَلَبِيُّوْنَ وَالخُوَارِزْمِيَّةُ، فَكُسرَتِ الخُوَارِزْمِيَّةُ، وَقُتِلَ خَلْقٌ مِنْهُم، وَفَرَّ إِسْمَاعِيْلُ إِلَى حَلَبَ، فَبَعَثَ السُّلْطَانُ يَطلبُهُ مِنْ صَاحِبِهَا الملكِ النَّاصِرِ يُوْسُفَ، فَقَالَ: كَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يَلتَجِئَ إِلَيَّ خَالُ أَبِي؟!
فَأَسلمَه، ثُمَّ سَارَ عَسْكَرٌ، فَأَخذُوا بَعْلَبَكَّ مِنْ أَوْلاَدِ إِسْمَاعِيْلَ، وَبُعِثَوا تَحْتَ الحَوطَةِ إِلَى مِصْرَ وَأَمِيْنُ الدَّوْلَةِ الوَزِيْرُ وَابْنُ يَغْمُوْرَ، فَحُبِسُوا، وَصَفتِ البِلاَدُ لِلسُّلْطَانِ، وَبَقِيَ صَاحِبُ الكَرَكِ كَالمَحْصُوْرِ.
ثُمَّ رَضِي السُّلْطَانُ
عَنْ فَخْرِ الدِّيْنِ ابْنِ الشَّيْخِ، وَأَطلَقَه، وَجَهَّزَه فِي جَيْشٍ، فَاسْتولَى عَلَى بِلاَدِ النَّاصِرِ، وَخَرَّبَ قُرَى الكَرَكِ، وَحَاصَرَه، وَقَلَّ نَاصِرُ النَّاصِرِ، فَعَمِلَ تِيْكَ القَصيدَةَ البَدِيْعَةَ يُعَاتِبُ السُّلْطَانَ:قُلْ لِلَّذِي قَاسَمْتُهُ مُلْكَ اليَدِ ... وَنَهَضْتُ فِيْهِ نَهْضَةَ المُتَأَسِّدِ:
عَاصَيْتُ فِيْهِ ذَوِي الحجَى مِنْ أُسرتِي ... وَأَطَعْتُ فِيْهِ مَكَارِمِي وَتَوَدُّدِي
يَا قَاطِعَ الرَّحِمِ الَّتِي صِلَتِي بِهَا ... كُتِبَتْ عَلَى الفَلَكِ الأَثِيْرِ بِعَسْجَدِ
إِنْ كُنْتَ تَقدَحُ فِي صرِيح منَاسبِي ... فَاصْبِرْ بِعرضكِ لِلَّهِيبِ المُرصَدِ عَمِّي أَبُوْكَ وَوَالِدِي عَمٌّ بِهِ ... يَعلو انتسَابُك كُلّ ملْك أَصْيدِ
صَالاَ وَجَالاَ كَالأُسْوَدِ ضَوَارِياً ... وَارتد تيَّارُ الفُرَاتِ المُزْبِدِ
دَعْ سَيْفَ مِقولِيَ البَلِيْغَ يَذُبُّ عَنْ ... أَعْرَاضِكُم بِفِرَنْدِهِ المُتَوَقِّدِ
فَهُوَ الَّذِي قَدْ صَاغَ تَاجَ فَخَارِكُم ... بِمُفصَّلٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ
يَا مُحرجِي بِالقَوْلِ وَاللهِ الَّذِي ... خضعتْ لِعزَّتِه جِباهُ السُّجَّدِ
لَوْلاَ مَقَالُ الهُجْرِ مِنْكَ لَمَا بَدَا ... مِنِّي افْتخَارٌ بِالقرِيضِ المُنْشَدِ
إِنْ كُنْتُ قُلْتُ خِلاَفَ مَا هُوَ شِيمتَي ... فَالحَاكِمُوْنَ بِمَسْمَعٍ وَبِمَشْهَدِ
ثُمَّ طَلبَ السُّلْطَانُ حُسَامَ الدِّيْنِ، وَاسْتنَابَه بِمِصْرَ، وَبَعَثَ عَلَى دِمَشْقَ جَمَالَ الدِّيْنِ ابْنَ مَطْرُوْحٍ، وَقَدِمَ الشَّامَ، فَجَاءَ إِلَى خِدْمَتِه صَاحِبُ حَمَاةَ المَنْصُوْرُ صَبِيٌّ وَصَاحِبُ حِمْصَ، وَرَجعَ إِلَى مِصْرَ مُتَمرِّضاً، وَأَعدمَ العَادِلُ أَخَاهُ سِرّاً، وَلَهُ ثَمَانٍ وَعِشْرُوْنَ سَنَةً، وَحَصلَ لَهُ قَرحَةٌ، وَمَرِضَ فِي أُنْثَيَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى دِمَشْقَ عَلِيلاً فِي مِحَفَّةٍ لَمَّا بَلَغه أَنَّ الحَلَبيينَ أَخَذُوا حِمْصَ، فَبَلَغَهُ حَركَةُ الفِرَنْجِ لِقَصدِ دِمْيَاطَ، فَرُدَّ فِي المِحَفَّةِ، ثُمَّ خيَّمَ
بِأَشْمُوْنَ، وَأَقْبَلتِ الفِرَنْجُ مَعَ ريْذَا فرنس، فَأُملِيَتْ دِمْيَاطُ بِالذَّخَائِرِ، وَأُتْقِنت الشَّوَانِي، وَنَزَلَ فَخْرُ الدِّيْنِ ابْنُ الشَّيْخِ بِالجَيْشِ عَلَى جِيْزَةِ دِمْيَاطَ، وَأَرسَتْ مَرَاكِبُ الفِرَنْجِ تلقَاءهُم فِي صَفَرٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِيْنَ، ثُمَّ طَلعُوا وَنَزَلُوا فِي البِرِّ مَعَ المُسْلِمِيْنَ، وَوَقَعَ قِتَالٌ، فَقُتِلَ الأَمِيْرُ ابْنُ شَيْخِ الإِسْلاَمِ، وَالأَمِيْرُ الوَزِيْرِيُّ، فَتحوَّلَ الجَيْشُ إِلَى البَرِّ الشَّرْقِيِّ الَّذِي فِيْهِ دِمْيَاطُ، ثُمَّ تَقَهقَرُوا، وَوَقَعَ عَلَى أَهْلِ دِمْيَاطَ خِذلاَنٌ عَجِيبٌ، فَهَرَبُوا مِنْهَا طُولَ اللَّيْلِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِهَا آدَمِيٌّ، وَذَلِكَ بِسُوءِ تَدبِيْرِ ابْنِ الشَّيْخِ، هَرَبُوا لَمَّا رَأَوْا هَرَبَ العَسْكَرِ، وَعَرفُوا مَرضَ السُّلْطَانِ، فَدَخَلَتْهَا الفِرَنْجُ بِلاَ كُلفَةٍ، مَمْلُوْءةً خَيْرَاتٍ وَعُدَّةً وَمَجَانِيْقَ، فَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ، غَضبَ وَانزعجَ، وَشَنقَ مِنْ مُقَاتِلِيهَا سِتِّيْنَ، وَردَّ، فَنَزَلَ بِالمَنْصُوْرَةِ فِي قَصْرِ أَبِيْهِ، وَنُودِيَ بِالنَّفِيرِ العَامِ، فَأَقْبَلَ خَلاَئِقُ مِنَ المُطوّعَةِ، وَنَاوَشُوا الفِرَنْجَ، وَأُيِسَ مِنَ السُّلْطَانِ.وَأَمَّا الكَرَكُ، فَذَهَبَ النَّاصِرُ إِلَى بَغْدَادَ، فَسَارَ وَلدُه الأَمْجَدُ إِلَى بَابِ السُّلْطَانِ، وَسَلَّمَ الكَرَكَ إِلَيْهِ، فَبَالغَ السُّلْطَانُ فِي إِكرَامِ أَوْلاَدِ النَّاصِرِ، وَأَقطَعَهُم بِمِصْرَ.
قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: كَانَ الملكُ الصَّالِحُ نَجْمُ الدِّيْنِ عَزِيزَ النَّفْسِ، أَبِيَّهَا، عَفِيْفاً، حَيِّياً، طَاهِرَ اللِّسَانِ وَالذَّيْلِ، لاَ يَرَى الهَزلَ وَلاَ العَبَثَ، وَقُوْراً، كَثِيْرَ الصَّمْتِ، اقْتَنَى مِنَ التُّركِ مَا لَمْ يَشتَرِهِ مَلِكٌ، حَتَّى صَارُوا
مُعْظَمَ عَسْكَرِهِ، وَرَجَّحَهُم عَلَى الأَكرَادِ، وَأَمَّرَ مِنْهُم، وَجَعَلَهُم بِطَانَتَه وَالمُحِيطِيْنَ بِدِهلِيزِه، وَسَمَّاهُمُ البَحْرِيَّةَ.قُلْتُ: لِكَوْنِ التُّجَّارِ جَلَبُوهُم فِي البَحْرِ مِنْ بِلاَدِ القَفْجَاقِ.
قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: حَكَى لِي حُسَامُ الدِّيْنِ ابْنُ أَبِي عَلِيٍّ:
أَنَّ هَؤُلاَءِ المَمَالِيْكَ مَعَ فَرطِ جَبَروتِهِم وَسَطوتِهِم، كَانُوا أَبلغَ مَنْ يَهَابُ السُّلْطَانَ، وَإِذَا خَرَجَ يُرعدُوْنَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقعْ مِنْهُ فِي حَالِ غَضِبِه كَلمَةٌ قَبِيحَةٌ قَطُّ، وَأَكْثَرُ مَا يَقُوْلُ: يَا مُتَخَلِّفُ.
وَكَانَ كَثِيْرَ البَاهِ بِجَوَارِيه، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي الآخِرِ سِوَى زَوْجَتَينِ؛ الوَاحِدَةُ شَجَرُ الدُّرِّ، وَالأُخْرَى بِنْتُ العَالِمَةِ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ مَمْلُوْكِهِ الجُوْكَنْدَارِ، وَكَانَ إِذَا سَمِعَ الغِنَاءَ لَمْ يَتَزعزَعْ، لاَ هُوَ وَلاَ مَنْ فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ لاَ يَسْتَقلُّ أَحَدٌ مِنَ الكِبَارِ فِي دَوْلَتِه بِأَمرٍ، بَلْ يُرَاجع مَعَ الخُدَّامِ بِالقصص، فَيوقِّعُ هُوَ مَا يَعتمِدُهُ كُتَّابُ الإِنشَاءِ، وَكَانَ يُحبُّ أَهْلَ الفَضْلِ وَالدِّيْنِ، يُؤثرُ العُزلَةَ وَالانْفِرَادَ، لَكِنْ لَهُ نهمَةٌ فِي لَعِبِ الكُرَةِ، وَفِي إِنشَاءِ الأَبنِيَةِ العَظِيْمَةِ.
وَقِيْلَ: كَانَ لاَ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَنْ يُخَاطِبَه ابْتدَاءً.
وَقِيْلَ: كَانَ فَصِيْحاً، حَسَنَ المُحَاوَرَةِ، عَظِيْمَ السَّطوَةِ، تَعَلَّلَ، وَوقَعَتِ الآكلَةُ فِي فَخِذِه، ثُمَّ اعتَرَاهُ إِسهَالٌ؛ فَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، بقَصْرِ المَنْصُوْرَة، مُرَابِطاً، فَأَخفَوْا مَوْتَه، وَأَنَّهُ عَليلٌ حَتَّى أَقدمُوا ابْنَه المَلِكَ المُعَظَّمَ تُوْرَانْشَاهَ مِنْ حِصْنِ كَيْفَا، ثُمَّ نُقلَ، فَدُفِنَ بِتُربَتِهِ بِالقَاهِرَةِ، وَكَانَ بَنُوْ شَيْخِ الشُّيُوْخِ قَدْ تَرقَّوا لَدَيه، وَشَارَكوهُ فِي المَمْلَكَةِ، وَقَدْ غَضِبَ مُدَّةً عَلَى فَخْرِ الدِّيْنِ يُوْسُفَ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَصَيَّرَهُ نَائِبَ السَّلْطنَةِ؛ لِنُبلِهِ، وَكَمَالِ سُؤْدُدِهِ، وَكَانَ جَوَاداً، مُحَبَّباً إِلَى النَّاسِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَلُ النَّبِيذَ.
وَلَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ، عُيِّنَ فَخْرُ الدِّيْنِ لِلسَّلطنَةِ، فَجَبُنَ، وَنَهضَ بِأَعبَاءِ
الأُمُوْرِ، وَسَاسَ الجَيْشَ، وَأَنفقَ فِيهِم مائَتَيْ أَلْفِ دِيْنَارٍ، وَأَحضَرَه تُوْرَانْشَاه، وَسَلطَنَه.وَيُقَالُ: إِنْ تُوْرَانْشَاه هَمَّ بِقَتْلِهِ.
اتَّفَقَ حَركَةُ الفِرَنْجِ وَتَأَخُّرُ العَسَاكِرِ، فَرَكِبَ فَخْرُ الدِّيْنِ فِي السَّحَرِ، وَبَعَثَ خَلفَ الأُمَرَاءِ لِيَركَبُوا، فَسَاقَ فِي طَلَبِه، فَدَهَمَهُ طُلب الدَّوَايَّةِ، فَحَملُوا عَلَيْهِ، فَتفلَّلَ عَنْهُ أَجنَادُه، وَطُعنَ وَقُتِلَ، وَنَهبتْ غِلمَانُه أَمْوَالَه وَخَيلَه، فَرَاحَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
قَالَ ابْنُ عَمِّهِ سَعْدُ الدِّيْنِ: كَانَ الضَّبَابُ شَدِيداً، فَطُعنَ، وَجَاءتْه ضَربَةُ سَيْفٍ فِي وَجْهِهِ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمْدَارُه وَعِدَّةٌ، وَتَرَاجَعَ المُسْلِمُوْنَ، فَأَوقَعُوا بِالفِرَنْجِ، وَقَتَلُوا مِنْهُم أَلْفاً وَسِتَّ مائَةِ فَارِسٍ، ثُمَّ خَنْدَقَتِ الفِرَنْجُ عَلَى نُفُوْسِهِم.
قَالَ: وَأُخربَتْ دَارُ فَخْرِ الدِّيْنِ لِيَوْمِهَا، وَبِالأَمسِ كَانَ يَصطفُّ عَلَى بَابِهَا عصَائِبُ سَبْعِيْنَ أَمِيْراً.
قُتِلَ: فِي رَابِعِ ذِي القَعْدَةِ، سَنَةَ سَبْعٍ، وَلَهُ خَمْسٌ وَسِتُّوْنَ سَنَةً.
السُّلْطَانُ الكَبِيْرُ، المَلِكُ الصَّالِحُ، نَجْمُ الدِّيْنِ، أَبُو الفُتُوْحِ أَيُّوْبُ ابْنُ السُّلْطَانِ المَلِكِ الكَامِلِ مُحَمَّدِ ابْنِ العَادِلِ.
وَأُمُّه جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ اسْمهَا: وَرْدُ المُنَى.
مَوْلِدُه: سَنَةَ ثَلاَثٍ وَسِتِّ مائَةٍ، بِالقَاهِرَةِ.وَنَاب عَنْ أَبِيْهِ لَمَّا جَاءَ لِحصَارِ النَّاصِرِ دَاوُدَ، فَلَمَّا رَجَعَ، انتقدَ أَبُوْهُ عَلَيْهِ أَشيَاءَ، وَمَالَ عَنْهُ إِلَى وَلَدِهِ الآخِر العَادلِ، فَلَمَّا اسْتولَى الكَامِل عَلَى آمدَ وَحصنِ كَيْفَا وَسِنْجَارَ، سَلْطَنَ نَجْمَ الدِّيْنِ، وَجَعَلَهُ عَلَى هَذِهِ البِلاَد، فَبَقِيَ بِهَا إِلَى أَنْ جَاءَ وَتَمَلَّكَ دِمَشْقَ، ثُمَّ سَاقَ إِلَىالغَوْر، فَوَثَبَ عَلَى دِمَشْقَ عَمُّه إِسْمَاعِيْل، فَأَخَذَهَا، وَنَزَلَ عَسْكَر الكَرَكِ، فَأَحَاطُوا بِالصَّالِحِ، وَأَخَذوهُ إِلَى الكَرَكِ، ثُمَّ ذهب بِهِ النَّاصِرُ لَمَّا كَاتَبَهُ الأُمَرَاءُ الكَامِليَّةُ، فَعَزَلُوا أَخَاهُ العَادلَ وَمَلَّكُوهُ، وَرَجَعَ النَّاصِر بِخُفَّي حُنَيْنٍ.
قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: كَانَ لاَ يَجتمعُ بِالفُضَلاَءِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُشَاركَةٌ، بِخلاَفِ أَبِيْهِ، وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِيْنَ اصطَلَحَ الصَّالِحُ وَعَمُّه الصَّالِحُ عَلَى أَنَّ دِمَشْقَ لِعَمِّه، وَأَنْ يُقيم هُوَ وَالحَلَبِيُّوْنَ وَالحِمْصيون الخُطبَة لِلصَّالح نَجْمِ الدِّيْنِ، وَأَنْ يُبعَثَ إِلَيْهِ وَلدُهُ الملكُ المُغِيْثُ وَابْنُ أَبِي عَلِيٍّ وَمُجِيْرُ الدِّيْنِ ابْنُ أَبِي زكرِي، فَأَطلَقهُم عَمُّه، وَاتَّفَقتِ المُلُوْكُ عَلَى عَدَاوَةِ صَاحِبِ الكَرَكِ، وَبَعَثَ إِسْمَاعِيْلُ جَيْشاً يُحَاصرُوْنَ عَجلُوْنَ، وَهِيَ بِيَدِ النَّاصِرِ، ثُمَّ انْحلَّ ذَلِكَ؛ لِورقَةٍ وَجَدَهَا إِسْمَاعِيْلُ مِنْ أَيُّوْبَ إِلَى الخُوَارِزْمِيَّةِ يَحَثُّهُم علَى المَجِيْءِ لِيُحَاصرُوا عَمَّه، فَحَبَسَ حِيْنَئِذٍ المُغِيْثَ، وَصَالَحَ صَاحِبَ الكَرَكِ، وَاتَّفَقَ مَعَ صَاحِبِ حِمْصَ وَصَاحِبِ حَلَبَ، وَاعتضدَ بِالفِرَنْجِ، فَأَقْبَلَ المِصْرِيُّونَ، عَلَيْهِم بِيْبَرْسُ الصَّالِحيُّ البُنْدُقْدَارُ الكَبِيْرُ الَّذِي قَتلَه أُسْتَاذُه، وَأَعْطَى إِسْمَاعِيْلُ الفِرَنْجَ بَيْتَ المَقْدِسِ، وَعمرُوا طَبرِيَةَ وَعَسْقَلاَنَ، وَوضَعَتِ الرُّهبَانُ قَنَانِي الخَمْرِ عَلَى الصَّخْرَةِ، وَأُبطِلَ الأَذَانُ
بِالحَرَمِ، وَعَدَّت الخُوَارِزْمِيَّةُ الفُرَاتَ فِي عَشْرَةِ آلاَفٍ، فَمَا مَرُّوا بِشَيْءٍ إِلاَّ نَهبُوْهُ، وَأَقْبَلُوا، فَهَرَبتِ الفِرَنْجُ مِنْهُم مِنَ القُدْسِ، فَقَتلُوا عِدَّةً مِنَ النَّصَارَى، وَهَدمُوا قُمَامَةَ، وَنَبشُوا عِظَامَ الموتَى، وَجَاءتْهُ الخِلَعُ وَالنَّفقَةُ مِنْ مِصْرَ، ثُمَّ سَارَ عَلَى الشَّامِيّينَ المَنْصُوْرُ صَاحِبُ حِمْصَ، وَوَافَتْهُ الفِرَنْجُ.قَالَ المَنْصُوْرُ: لَقَدْ قَصَّرتُ يَوْمَئِذٍ، وَعرفتُ أَنَّنَا لاَ نُفلِحُ بِالنَّصَارَى، فالَتَقَوْا.
قَالَ: فَانْهَزَمَ الشَّامِيُّوْنَ، ثُمَّ جَاءَ جَيْشُ السُّلْطَانِ نَجْمِ الدِّيْنِ، وَعَلَيْهِم مُعِيْنُ الدِّيْنِ ابْنُ الشَّيْخِ، وَمَعَهُ خِزَانَةُ مَالٍ، فَنَازَلُوا دِمَشْقَ مُدَّةً، ثُمَّ أُخِذَتْ بِالأَمَانِ؛ لِقلِّةِ مَنْ مَعَ صَاحِبِهَا؛ وَلِمُفَارقَةِ الحَلَبِيِّينَ لَهُ، فَتَرَكَهَا، وَذَهَبَ إِلَى بَعْلَبَكَّ، وَحَصلَ لِلْخُوَارِزْمِيَةِ إِدلاَلٌ، وَطَمِعُوا فِي كِبَارِ الأَخبَازِ، فَلَمْ يَصِحَّ مَرَامُهُم، فَغَضِبُوا، وَنَابَذُوا، ثُمَّ حَلَفُوا لإِسْمَاعِيْلَ، وَجَاءَ تَقلِيدُ الخِلاَفَةِ لِلسُّلْطَانِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالشَّرْقِ، وَلَبِسَ العِمَامَةَ وَالجُبَّةَ السَّوْدَاءَ.
ثُمَّ إِنَّ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيْلَ كَرَّ بِالخُوَارِزْمِيَّةِ إِلَى دِمَشْقَ، وَنَازَلَهَا، وَمَا بِهَا كَبِيْرُ عَسْكَرٍ، فَكَانَ بِالقَلْعَةِ رَشِيْدٌ الخَادِمُ، وَبِالمَدِيْنَةِ حُسَامُ الدِّيْنِ ابْنُ أَبِي عَلِيٍّ، فَقَامَ بِحِفظِهَا، وَاشتَدَّ بِهَا القَحطُ حَتَّى أَكَلُوا الجِيَفَ، حَتَّى قِيْلَ: إِنَّ رَجُلاً مَاتَ فِي الحَبْسِ، فَأَكلُوْهُ.
وَجَرَتْ أُمُوْرٌ مُزعجَةٌ، ثُمَّ التَقَى الحَلَبِيُّوْنَ وَالخُوَارِزْمِيَّةُ، فَكُسرَتِ الخُوَارِزْمِيَّةُ، وَقُتِلَ خَلْقٌ مِنْهُم، وَفَرَّ إِسْمَاعِيْلُ إِلَى حَلَبَ، فَبَعَثَ السُّلْطَانُ يَطلبُهُ مِنْ صَاحِبِهَا الملكِ النَّاصِرِ يُوْسُفَ، فَقَالَ: كَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يَلتَجِئَ إِلَيَّ خَالُ أَبِي؟!
فَأَسلمَه، ثُمَّ سَارَ عَسْكَرٌ، فَأَخذُوا بَعْلَبَكَّ مِنْ أَوْلاَدِ إِسْمَاعِيْلَ، وَبُعِثَوا تَحْتَ الحَوطَةِ إِلَى مِصْرَ وَأَمِيْنُ الدَّوْلَةِ الوَزِيْرُ وَابْنُ يَغْمُوْرَ، فَحُبِسُوا، وَصَفتِ البِلاَدُ لِلسُّلْطَانِ، وَبَقِيَ صَاحِبُ الكَرَكِ كَالمَحْصُوْرِ.
ثُمَّ رَضِي السُّلْطَانُ
عَنْ فَخْرِ الدِّيْنِ ابْنِ الشَّيْخِ، وَأَطلَقَه، وَجَهَّزَه فِي جَيْشٍ، فَاسْتولَى عَلَى بِلاَدِ النَّاصِرِ، وَخَرَّبَ قُرَى الكَرَكِ، وَحَاصَرَه، وَقَلَّ نَاصِرُ النَّاصِرِ، فَعَمِلَ تِيْكَ القَصيدَةَ البَدِيْعَةَ يُعَاتِبُ السُّلْطَانَ:قُلْ لِلَّذِي قَاسَمْتُهُ مُلْكَ اليَدِ ... وَنَهَضْتُ فِيْهِ نَهْضَةَ المُتَأَسِّدِ:
عَاصَيْتُ فِيْهِ ذَوِي الحجَى مِنْ أُسرتِي ... وَأَطَعْتُ فِيْهِ مَكَارِمِي وَتَوَدُّدِي
يَا قَاطِعَ الرَّحِمِ الَّتِي صِلَتِي بِهَا ... كُتِبَتْ عَلَى الفَلَكِ الأَثِيْرِ بِعَسْجَدِ
إِنْ كُنْتَ تَقدَحُ فِي صرِيح منَاسبِي ... فَاصْبِرْ بِعرضكِ لِلَّهِيبِ المُرصَدِ عَمِّي أَبُوْكَ وَوَالِدِي عَمٌّ بِهِ ... يَعلو انتسَابُك كُلّ ملْك أَصْيدِ
صَالاَ وَجَالاَ كَالأُسْوَدِ ضَوَارِياً ... وَارتد تيَّارُ الفُرَاتِ المُزْبِدِ
دَعْ سَيْفَ مِقولِيَ البَلِيْغَ يَذُبُّ عَنْ ... أَعْرَاضِكُم بِفِرَنْدِهِ المُتَوَقِّدِ
فَهُوَ الَّذِي قَدْ صَاغَ تَاجَ فَخَارِكُم ... بِمُفصَّلٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ
يَا مُحرجِي بِالقَوْلِ وَاللهِ الَّذِي ... خضعتْ لِعزَّتِه جِباهُ السُّجَّدِ
لَوْلاَ مَقَالُ الهُجْرِ مِنْكَ لَمَا بَدَا ... مِنِّي افْتخَارٌ بِالقرِيضِ المُنْشَدِ
إِنْ كُنْتُ قُلْتُ خِلاَفَ مَا هُوَ شِيمتَي ... فَالحَاكِمُوْنَ بِمَسْمَعٍ وَبِمَشْهَدِ
ثُمَّ طَلبَ السُّلْطَانُ حُسَامَ الدِّيْنِ، وَاسْتنَابَه بِمِصْرَ، وَبَعَثَ عَلَى دِمَشْقَ جَمَالَ الدِّيْنِ ابْنَ مَطْرُوْحٍ، وَقَدِمَ الشَّامَ، فَجَاءَ إِلَى خِدْمَتِه صَاحِبُ حَمَاةَ المَنْصُوْرُ صَبِيٌّ وَصَاحِبُ حِمْصَ، وَرَجعَ إِلَى مِصْرَ مُتَمرِّضاً، وَأَعدمَ العَادِلُ أَخَاهُ سِرّاً، وَلَهُ ثَمَانٍ وَعِشْرُوْنَ سَنَةً، وَحَصلَ لَهُ قَرحَةٌ، وَمَرِضَ فِي أُنْثَيَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى دِمَشْقَ عَلِيلاً فِي مِحَفَّةٍ لَمَّا بَلَغه أَنَّ الحَلَبيينَ أَخَذُوا حِمْصَ، فَبَلَغَهُ حَركَةُ الفِرَنْجِ لِقَصدِ دِمْيَاطَ، فَرُدَّ فِي المِحَفَّةِ، ثُمَّ خيَّمَ
بِأَشْمُوْنَ، وَأَقْبَلتِ الفِرَنْجُ مَعَ ريْذَا فرنس، فَأُملِيَتْ دِمْيَاطُ بِالذَّخَائِرِ، وَأُتْقِنت الشَّوَانِي، وَنَزَلَ فَخْرُ الدِّيْنِ ابْنُ الشَّيْخِ بِالجَيْشِ عَلَى جِيْزَةِ دِمْيَاطَ، وَأَرسَتْ مَرَاكِبُ الفِرَنْجِ تلقَاءهُم فِي صَفَرٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِيْنَ، ثُمَّ طَلعُوا وَنَزَلُوا فِي البِرِّ مَعَ المُسْلِمِيْنَ، وَوَقَعَ قِتَالٌ، فَقُتِلَ الأَمِيْرُ ابْنُ شَيْخِ الإِسْلاَمِ، وَالأَمِيْرُ الوَزِيْرِيُّ، فَتحوَّلَ الجَيْشُ إِلَى البَرِّ الشَّرْقِيِّ الَّذِي فِيْهِ دِمْيَاطُ، ثُمَّ تَقَهقَرُوا، وَوَقَعَ عَلَى أَهْلِ دِمْيَاطَ خِذلاَنٌ عَجِيبٌ، فَهَرَبُوا مِنْهَا طُولَ اللَّيْلِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِهَا آدَمِيٌّ، وَذَلِكَ بِسُوءِ تَدبِيْرِ ابْنِ الشَّيْخِ، هَرَبُوا لَمَّا رَأَوْا هَرَبَ العَسْكَرِ، وَعَرفُوا مَرضَ السُّلْطَانِ، فَدَخَلَتْهَا الفِرَنْجُ بِلاَ كُلفَةٍ، مَمْلُوْءةً خَيْرَاتٍ وَعُدَّةً وَمَجَانِيْقَ، فَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ، غَضبَ وَانزعجَ، وَشَنقَ مِنْ مُقَاتِلِيهَا سِتِّيْنَ، وَردَّ، فَنَزَلَ بِالمَنْصُوْرَةِ فِي قَصْرِ أَبِيْهِ، وَنُودِيَ بِالنَّفِيرِ العَامِ، فَأَقْبَلَ خَلاَئِقُ مِنَ المُطوّعَةِ، وَنَاوَشُوا الفِرَنْجَ، وَأُيِسَ مِنَ السُّلْطَانِ.وَأَمَّا الكَرَكُ، فَذَهَبَ النَّاصِرُ إِلَى بَغْدَادَ، فَسَارَ وَلدُه الأَمْجَدُ إِلَى بَابِ السُّلْطَانِ، وَسَلَّمَ الكَرَكَ إِلَيْهِ، فَبَالغَ السُّلْطَانُ فِي إِكرَامِ أَوْلاَدِ النَّاصِرِ، وَأَقطَعَهُم بِمِصْرَ.
قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: كَانَ الملكُ الصَّالِحُ نَجْمُ الدِّيْنِ عَزِيزَ النَّفْسِ، أَبِيَّهَا، عَفِيْفاً، حَيِّياً، طَاهِرَ اللِّسَانِ وَالذَّيْلِ، لاَ يَرَى الهَزلَ وَلاَ العَبَثَ، وَقُوْراً، كَثِيْرَ الصَّمْتِ، اقْتَنَى مِنَ التُّركِ مَا لَمْ يَشتَرِهِ مَلِكٌ، حَتَّى صَارُوا
مُعْظَمَ عَسْكَرِهِ، وَرَجَّحَهُم عَلَى الأَكرَادِ، وَأَمَّرَ مِنْهُم، وَجَعَلَهُم بِطَانَتَه وَالمُحِيطِيْنَ بِدِهلِيزِه، وَسَمَّاهُمُ البَحْرِيَّةَ.قُلْتُ: لِكَوْنِ التُّجَّارِ جَلَبُوهُم فِي البَحْرِ مِنْ بِلاَدِ القَفْجَاقِ.
قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: حَكَى لِي حُسَامُ الدِّيْنِ ابْنُ أَبِي عَلِيٍّ:
أَنَّ هَؤُلاَءِ المَمَالِيْكَ مَعَ فَرطِ جَبَروتِهِم وَسَطوتِهِم، كَانُوا أَبلغَ مَنْ يَهَابُ السُّلْطَانَ، وَإِذَا خَرَجَ يُرعدُوْنَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقعْ مِنْهُ فِي حَالِ غَضِبِه كَلمَةٌ قَبِيحَةٌ قَطُّ، وَأَكْثَرُ مَا يَقُوْلُ: يَا مُتَخَلِّفُ.
وَكَانَ كَثِيْرَ البَاهِ بِجَوَارِيه، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي الآخِرِ سِوَى زَوْجَتَينِ؛ الوَاحِدَةُ شَجَرُ الدُّرِّ، وَالأُخْرَى بِنْتُ العَالِمَةِ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ مَمْلُوْكِهِ الجُوْكَنْدَارِ، وَكَانَ إِذَا سَمِعَ الغِنَاءَ لَمْ يَتَزعزَعْ، لاَ هُوَ وَلاَ مَنْ فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ لاَ يَسْتَقلُّ أَحَدٌ مِنَ الكِبَارِ فِي دَوْلَتِه بِأَمرٍ، بَلْ يُرَاجع مَعَ الخُدَّامِ بِالقصص، فَيوقِّعُ هُوَ مَا يَعتمِدُهُ كُتَّابُ الإِنشَاءِ، وَكَانَ يُحبُّ أَهْلَ الفَضْلِ وَالدِّيْنِ، يُؤثرُ العُزلَةَ وَالانْفِرَادَ، لَكِنْ لَهُ نهمَةٌ فِي لَعِبِ الكُرَةِ، وَفِي إِنشَاءِ الأَبنِيَةِ العَظِيْمَةِ.
وَقِيْلَ: كَانَ لاَ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَنْ يُخَاطِبَه ابْتدَاءً.
وَقِيْلَ: كَانَ فَصِيْحاً، حَسَنَ المُحَاوَرَةِ، عَظِيْمَ السَّطوَةِ، تَعَلَّلَ، وَوقَعَتِ الآكلَةُ فِي فَخِذِه، ثُمَّ اعتَرَاهُ إِسهَالٌ؛ فَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، بقَصْرِ المَنْصُوْرَة، مُرَابِطاً، فَأَخفَوْا مَوْتَه، وَأَنَّهُ عَليلٌ حَتَّى أَقدمُوا ابْنَه المَلِكَ المُعَظَّمَ تُوْرَانْشَاهَ مِنْ حِصْنِ كَيْفَا، ثُمَّ نُقلَ، فَدُفِنَ بِتُربَتِهِ بِالقَاهِرَةِ، وَكَانَ بَنُوْ شَيْخِ الشُّيُوْخِ قَدْ تَرقَّوا لَدَيه، وَشَارَكوهُ فِي المَمْلَكَةِ، وَقَدْ غَضِبَ مُدَّةً عَلَى فَخْرِ الدِّيْنِ يُوْسُفَ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَصَيَّرَهُ نَائِبَ السَّلْطنَةِ؛ لِنُبلِهِ، وَكَمَالِ سُؤْدُدِهِ، وَكَانَ جَوَاداً، مُحَبَّباً إِلَى النَّاسِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَلُ النَّبِيذَ.
وَلَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ، عُيِّنَ فَخْرُ الدِّيْنِ لِلسَّلطنَةِ، فَجَبُنَ، وَنَهضَ بِأَعبَاءِ
الأُمُوْرِ، وَسَاسَ الجَيْشَ، وَأَنفقَ فِيهِم مائَتَيْ أَلْفِ دِيْنَارٍ، وَأَحضَرَه تُوْرَانْشَاه، وَسَلطَنَه.وَيُقَالُ: إِنْ تُوْرَانْشَاه هَمَّ بِقَتْلِهِ.
اتَّفَقَ حَركَةُ الفِرَنْجِ وَتَأَخُّرُ العَسَاكِرِ، فَرَكِبَ فَخْرُ الدِّيْنِ فِي السَّحَرِ، وَبَعَثَ خَلفَ الأُمَرَاءِ لِيَركَبُوا، فَسَاقَ فِي طَلَبِه، فَدَهَمَهُ طُلب الدَّوَايَّةِ، فَحَملُوا عَلَيْهِ، فَتفلَّلَ عَنْهُ أَجنَادُه، وَطُعنَ وَقُتِلَ، وَنَهبتْ غِلمَانُه أَمْوَالَه وَخَيلَه، فَرَاحَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
قَالَ ابْنُ عَمِّهِ سَعْدُ الدِّيْنِ: كَانَ الضَّبَابُ شَدِيداً، فَطُعنَ، وَجَاءتْه ضَربَةُ سَيْفٍ فِي وَجْهِهِ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمْدَارُه وَعِدَّةٌ، وَتَرَاجَعَ المُسْلِمُوْنَ، فَأَوقَعُوا بِالفِرَنْجِ، وَقَتَلُوا مِنْهُم أَلْفاً وَسِتَّ مائَةِ فَارِسٍ، ثُمَّ خَنْدَقَتِ الفِرَنْجُ عَلَى نُفُوْسِهِم.
قَالَ: وَأُخربَتْ دَارُ فَخْرِ الدِّيْنِ لِيَوْمِهَا، وَبِالأَمسِ كَانَ يَصطفُّ عَلَى بَابِهَا عصَائِبُ سَبْعِيْنَ أَمِيْراً.
قُتِلَ: فِي رَابِعِ ذِي القَعْدَةِ، سَنَةَ سَبْعٍ، وَلَهُ خَمْسٌ وَسِتُّوْنَ سَنَةً.