الغَزَّالِيُّ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ
الشَّيْخُ، الإِمَامُ، البَحْر، حجَّةُ الإِسْلاَم، أُعجوبَة الزَّمَان، زَيْنُ الدّين، أَبُو
حَامِد مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ الطُّوْسِيّ، الشَّافِعِيّ، الغَزَّالِي، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، وَالذَّكَاءِ المُفرِط.تَفقَّه بِبَلَدِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ تَحَوَّل إِلَى نَيْسَابُوْرَ فِي مُرَافقَة جَمَاعَة مِنَ الطَّلبَة، فَلاَزمَ إِمَامَ الحَرَمَيْنِ، فَبَرع فِي الفِقْه فِي مُدَّة قَرِيْبَة، وَمَهَر فِي الكَلاَمِ وَالجَدَل، حَتَّى صَارَ عينَ المنَاظرِيْنَ، وَأَعَادَ لِلطَّلبَة، وَشَرَعَ فِي التَّصنِيف، فَمَا أَعْجَب ذَلِكَ شَيْخَه أَبَا المعَالِي، وَلَكِنَّهُ مُظْهِرٌ لِلتبجُّح بِهِ، ثُمَّ سَارَ أَبُو حَامِدٍ إِلَى المُخَيَّم السُّلطَانِي، فَأَقْبَل عَلَيْهِ نِظَامُ المُلك الوَزِيْر، وَسُرَّ بِوجُوْده، وَنَاظرَ الكِبَارَ بِحَضْرَته، فَانبهر لَهُ، وَشَاعَ أَمْرُهُ، فَولاَّهُ النِّظَام تَدْرِيْس نِظَامِيَة بَغْدَاد، فَقَدمهَا بَعْدَ الثَّمَانِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، وَسنّه نَحْو الثَّلاَثِيْنَ، وَأَخَذَ فِي تَأْلِيفِ الأُصُوْلِ وَالفِقْهِ وَالكَلاَمِ وَالحِكْمَةِ، وَأَدخله سَيلاَنُ ذِهْنه فِي مضَايق الكَلاَمِ، وَمَزَالِّ الأَقدَام، وَلله سِرٌّ فِي خَلْقِهِ.
وَعَظُمَ جَاهُ الرَّجُل، وَازدَادت حِشمتُه، بِحَيْثُ إِنَّهُ فِي دسْت أَمِيْرٍ، وَفِي رُتْبَةِ رَئِيْسٍ كَبِيْر، فَأَدَّاهُ نَظرُه فِي العُلُوْم، وَمُمَارستُهُ لأَفَانِيْنِ الزُّهْديَات إِلَى رفض الرِّئَاسَة، وَالإِنَابَة إِلَى دَارِ الْخُلُود، وَالتَأَلُّه، وَالإِخلاَصِ، وَإِصْلاَحِ النَّفْس، فَحجَّ مِنْ وَقته، وَزَار بَيْت المَقْدِسِ، وَصَحِبَ الفَقِيْهَ نَصْرَ بنَ إِبْرَاهِيْمَ بِدِمَشْقَ، وَأَقَامَ مُدَّةً، وَأَلَّف كِتَاب (الإِحيَاء) ، وَكِتَابَ
(الأَرْبَعِيْنَ) ، وَكِتَاب (القِسطَاس) ، وَكِتَاب (مَحكّ النَّظَر) .وَرَاض نَفْسَه وَجَاهدهَا، وَطرد شيطَانَ الرُّعونَة، وَلَبِسَ زِيَّ الأَتقيَاء، ثُمَّ بَعْدَ سَنَوَاتٍ سَارَ إِلَى وَطنه، لاَزماً لِسَنَنه، حَافِظاً لِوَقْتِهِ، مكباً عَلَى العِلْم.
وَلَمَّا وَزَرَ فَخرُ المُلك، حضَر أَبَا حَامِد، وَالتمس مِنْهُ أَنْ لاَ يُبقِيَ أَنفَاسَه عقيمَة، وَأَلحَّ عَلَى الشَّيْخ، إِلَى أَنْ لاَن إِلَى الْقدوم إِلَى نَيْسَابُوْرَ، فَدرَّس بِنظَامِيتهَا.
فَذكر هَذَا وَأَضعَافَه عَبْد الغَافِرِ فِي (السِّيَاق) ... ، إِلَى أَنْ قَالَ:
وَلَقَدْ زرتُه مرَاراً، وَمَا كُنْت أَحْدُسُ فِي نَفْسِي مَعَ مَا عَهِدْتُه عَلَيْهِ مِنَ الزَّعَارَّة وَالنَّظَر إِلَى النَّاسِ بعينِ الاسْتخفَاف كِبراً وَخُيَلاَءَ، وَاعتزَازاً بِمَا رُزِقَ مِنَ البسطَة، وَالنُّطق، وَالذِّهن، وَطلب الْعُلُوّ؛ أَنَّهُ صَارَ عَلَى الضِّدِّ، وَتَصفَّى عَنْ تِلْكَ الكُدورَات، وَكُنْتُ أَظنُّه متلفعاً بجلبَاب التَّكلُّف، مُتنمِّساً بِمَا صَارَ إِلَيْهِ، فَتحقَّقت بَعْد السَّبْرِ وَالتَّنْقِيْرِ أَنَّ الأَمْر عَلَى خِلاَف المَظنُوْنِ، وَأَنَّ الرَّجُل أَفَاق بَعْدَ الجُنُوْنِ، وَحَكَى لَنَا فِي لَيَالٍ كَيْفِيَةَ أَحْوَالِه مِنِ ابْتدَاء مَا أُظْهِرَ لَهُ طَرِيْق التَأَلُّه، وَغلبَة الحَال عَلَيْهِ بَعْد تَبحُّرِه فِي العُلُوْم، وَاسْتطَالتِهِ عَلَى الكُلّ بكلاَمه، وَالاستعدَادِ الَّذِي خصَّه الله بِهِ فِي تَحْصِيل أَنْوَاعِ العُلُوْم، وَتَمكُّنه مِنَ الْبَحْث وَالنَّظَر، حَتَّى تَبرَّم بِالاشتغَال بِالعُلُوْم العَرِيَّة عَنِ المعَامَلَة، وَتَفكَّر فِي العَاقبَة، وَمَا يَبْقَى فِي الآخِرَةِ، فَابْتدَأَ بصُحبَة الشَّيْخ أَبِي عَلِيٍّ الفَارْمَذِي، فَأَخَذَ مِنْهُ اسْتفتَاحَ الطّرِيقَة، وَامتثل مَا كَانَ يَأْمُرُه بِهِ مِنَ
العبَادَات وَالنَّوَافل وَالأَذكَار وَالاجْتِهَاد طلباً لِلنَّجَاة، إِلَى أَنْ جَاز تِلْكَ العِقَابَ، وَتَكلَّفَ تِلْكَ المشَاق، وَمَا حَصَلَ عَلَى مَا كَانَ يَرومُهُ.ثُمَّ حَكَى أَنَّهُ رَاجع العُلُوْمَ، وَخَاض فِي الفُنُوْنِ الدَّقيقَة، وَالْتَقَى بِأَربَابِهَا حَتَّى تَفتَّحت لَهُ أَبْوَابُهَا، وَبَقِيَ مُدَّةً فِي الوقَائِع وَتَكَافؤ الأَدِلَّة، وَفُتِحَ عَلَيْهِ بَابٌ مِنَ الخَوفِ بِحَيْثُ شَغَلَه عَنْ كُلِّ شَيْء، وَحَمَله عَلَى الإِعرَاض عَمَّا سِوَاهُ، حَتَّى سَهُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، إِلَى أَنِ ارْتَاضَ، وَظهرت لَهُ الحقَائِقُ، وَصَارَ مَا كُنَّا نَظَنُّ بِهِ نَاموساً وَتَخلقاً، طبعاً وَتَحققاً، وَأَنَّ ذَلِكَ أَثَرُ السَّعَادَة المُقَدَّرَة لَهُ.
ثُمَّ سَأَلنَاهُ عَنْ كَيْفِيَةِ رَغبَته فِي الخُرُوْجِ مِنْ بَيْتِهِ، وَالرُّجُوْع إِلَى مَا دُعِي إِلَيْهِ، فَقَالَ معتذراً: مَا كُنْتُ أُجَوِّزُ فِي دينِي أَنْ أَقف عَنِ الدَّعوَة، وَمنفعَة الطَّالبين، وَقَدْ خفَّ عليَّ أَنْ أَبوح بِالحَقِّ، وَأَنطِقَ بِهِ، وَأَدعُوَ إِلَيْهِ، وَكَانَ صَادِقاً فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا خفَّ أَمرُ الوَزِيْر، وَعلم أَن وُقُوفَه عَلَى مَا كَانَ فِيْهِ ظُهُوْرُ وَحشَةٍ وَخيَالُ طلبِ جَاهٍ، تَرَكَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُتْرَكَ، وَعَاد إِلَى بَيْته، وَاتَّخَذَ فِي جَوَاره مدرسَةً لِلطَّلبَة، وَخَانقَاه لِلصُّوْفِيَة، وَوزَّع أَوقَاتَه عَلَى وَظَائِف الحَاضرِيْنَ مِنْ ختم القُرْآن، وَمُجَالَسَةِ ذَوِي القُلوبِ، وَالقُعُوْد لِلتَّدرِيس، حَتَّى تُوُفِّيَ بَعْدَ مُقَاسَاةٍ لأَنْوَاع مِنَ الْقَصْد، وَالمُنَاوَأَةِ مِنَ الخُصُوْم، وَالسَّعِي فِيْهِ إِلَى المُلُوْك، وَحفظ الله لَهُ عَنْ نوشِ أَيدي النّكبَات.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَانَتْ خَاتمَةُ أَمره إِقبالَه عَلَى طلب الحَدِيْث، وَمُجَالَسَة
أَهْله، وَمُطَالَعَة (الصَّحِيْحَيْنِ ) ، وَلَوْ عَاشَ، لسبق الكُلَّ فِي ذَلِكَ الْفَنّ بِيَسِيْرٍ مِنَ الأَيَّام.قَالَ: وَلَمْ يَتفق لَهُ أَنْ يَرْوِيَ، وَلَمْ يُعْقِبْ إِلاَّ البنَاتِ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الأَسبَاب إِرثاً وَكسباً مَا يَقومُ بِكفَايته، وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ أَمْوَالٌ، فَمَا قَبِلَهَا.
قَالَ: وَمِمَّا كَانَ يُعترض بِهِ عَلَيْهِ وُقوعُ خَلَلٍ مِنْ جِهَةِ النَّحْو فِي أَثْنَاء كلاَمِه، وَرُوجِعَ فِيْهِ، فَأَنِصْف، وَاعْتَرف أَنَّهُ مَا مَارسه، وَاكتفَى بِمَا كَانَ يَحتَاج إِلَيْهِ فِي كلاَمه، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُؤَلِّفُ الخُطب، وَيَشرحُ الكُتُبَ بِالعبَارَة الَّتِي يَعْجِزُ الأَدبَاءُ وَالفُصحَاءُ عَنْ أَمْثَالِهَا.
وَمِمَّا نُقِمَ عَلَيْهِ مَا ذكر مِنَ الأَلْفَاظ المُسْتبشعَة بِالفَارِسيَة فِي كِتَاب (كِيمِيَاء السَّعَادَة وَالعُلُوْم) وَشرح بَعْض الصُوْر وَالمَسَائِل بِحَيْثُ لاَ تُوَافِقُ مَرَاسِمَ الشَّرع وَظوَاهر مَا عَلَيْهِ قَوَاعدُ المِلَّةِ، وَكَانَ الأَوْلَى بِهِ - وَالحَقُّ أَحقُّ مَا يُقَالَ - تركَ ذَلِكَ التَّصنِيف، وَالإِعرَاضَ عَنِ الشَّرح لَهُ، فَإِنَّ العوَامَّ رُبَّمَا لاَ يُحْكِمُوْنَ أُصُوْلَ القوَاعد بِالبرَاهين وَالحجج، فَإِذَا سَمِعُوا شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، تخيَّلُوا مِنْهُ مَا هُوَ المُضِرُّ بعقَائِدهِم، وَيَنسِبُوْنَ ذَلِكَ إِلَى بيَانِ مَذْهَبِ الأَوَائِل، عَلَى أَنَّ المُنْصِفَ اللّبِيْب إِذَا رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ، عَلِمَ أَنَّ أَكْثَر مَا ذَكَرَهُ مِمَّا رَمَزَ إِلَيْهِ إِشَارَاتُ الشَّرع، وَإِنْ لَمْ يَبُحْ بِهِ، وَيُوجَدُ أَمثَالُهُ فِي كَلاَم مَشَايِخ الطّرِيقَة مَرْمُوزَةً، وَمُصَرَّحاً بِهَا متفرقَة، وَلَيْسَ لفظٌ مِنْهُ إِلاَّ وَكَمَا تُشعر سَائِرُ وُجُوْهِه بِمَا
يُوَافق عقَائِدَ أَهْلِ الملَّة، فَلاَ يَجِبُ حَملُه إِذاً إِلاَّ عَلَى مَا يُوَافق، وَلاَ يَنْبَغِي التَّعلُّقُ بِهِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ إِذَا أَمكن، وَكَانَ الأَوْلَى بِهِ أَنْ يَتْرُكَ الإِفصَاحَ بِذَلِكَ، وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّهُ سَمِعَ (سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ) مِنَ القَاضِي أَبِي الفَتْحِ الحَاكمِي الطُّوْسِيّ، وَسَمِعَ مِنْ مُحَمَّد بن أَحْمَدَ الخُوَارِي وَالِدِ عبد الجَبَّارِ كِتَابَ (المَوْلِد) لابْنِ أَبِي عَاصِمٍ بِسمَاعِه مِنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ الحَارِثِ عَنْ أَبِي الشَّيْخِ عَنْهُ.قُلْتُ: مَا نَقَمَهُ عَبْدُ الغَافِرِ عَلَى أَبِي حَامِد فِي الكيمِيَاء، فَلَهُ أَمثَالُه فِي غُضون تَوَالِيْفِهِ، حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ العربِي: شَيخُنَا أَبُو حَامِدٍ بَلَعَ الفَلاسفَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَقَيَّأَهُم، فَمَا اسْتَطَاعَ.
وَمِنْ (مُعْجَم أَبِي عَلِيٍّ الصدفِي) ، تَأْلِيفُ القَاضِي عِيَاض لَهُ، قَالَ:
وَالشَّيْخ أَبُو حَامِدٍ ذُو الأَنبَاء الشَّنِيعَة، وَالتَّصَانِيْفِ العَظِيْمَة، غلاَ فِي طرِيقَة التَّصَوُّف، وَتَجرَّد لنَصر مَذْهَبهم، وَصَارَ دَاعِيَةً فِي ذَلِكَ، وَأَلَّف فِيْهِ تَوَالِيفه المَشْهُوْرَة، أُخِذَ عَلَيْهِ فِيْهَا مَوَاضِعُ، وَسَاءت بِهِ ظُنُوْنُ أُمَةٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ، وَنَفَذَ أَمرُ السُّلْطَان عِنْدنَا بِالمَغْرِبِ وَفَتْوَى الفُقَهَاء بِإِحرَاقهَا وَالبُعدِ عَنْهَا، فَامْتُثِلَ ذَلِكَ.
مَوْلِدُهُ: سَنَةَ خَمْسِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
قُلْتُ: مَا زَالَ العُلَمَاءُ يَخْتلِفُوْنَ، وَيَتَكَلَّم العَالِمُ فِي العَالِم باجْتِهَاده، وَكُلٌّ مِنْهُم مَعْذُور مَأْجُور، وَمَنْ عَاند أَوْ خرق الإِجْمَاعَ، فَهُوَ مَأْزور، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُوْر.
وَلأَبِي المُظَفَّر يُوْسُف سِبْطِ ابْنِ الجَوْزِيّ فِي كِتَاب (رِيَاض الأَفهَام) فِي مَنَاقِب أَهْلِ البَيْت قَالَ:ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ (سِرّ العَالمين وَكشف مَا فِي الدَّارين) فَقَالَ فِي حَدِيْث: (مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ ) أَنَّ عُمَر قَالَ لعلِي: بخٍ بخٍ، أَصْبَحتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَة.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَهَذَا تَسْلِيمٌ وَرِضَىً، ثُمَّ بَعْد هَذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الهَوَى حُباً لِلرِّيَاسَة، وَعَقْدِ البُنُوْد، وَأَمرِ الخِلاَفَة وَنَهيهَا، فَحملهُم عَلَى الخلاَف، فَنبذُوهُ وَرَاءَ ظُهُوْرهِم، وَاشتَرَوْا بِهِ ثَمناً قليلاً، فَبِئس مَا يَشترُوْنَ، وَسَرَدَ كَثِيْراً مِنْ هَذَا الكَلاَم الفَسْلِ الَّذِي تَزعمُهُ الإِمَامِيَّة، وَمَا أَدْرِي مَا عُذْرُهُ فِي هَذَا؟ وَالظَّاهِر أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَتبع الحَقَّ، فَإِنَّ الرَّجُل مِنْ بُحُوْرِ العِلْمِ - وَاللهُ أَعْلَمُ -.
هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَضَع هَذَا وَمَا ذَاكَ بِبعيد، فَفِي هَذَا التَّأْلِيف بَلاَيَا لاَ تَتَطَبَّب، وَقَالَ فِي أَوَّله: إِنَّهُ قرَأَه عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بنُ تُوْمرت المَغْرِبِيّ سِرّاً بِالنَّظَامِيَة، قَالَ: وَتوسَّمْتُ فِيْهِ المُلْكَ.
قُلْتُ: قَدْ أَلَّفَ الرَّجُلُ فِي ذَمِّ الفَلاَسِفَة كِتَاب (التهَافت) ، وَكَشَفَ عوَارهُم، وَوَافقهُم فِي موَاضِع ظنّاً مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ حقٌّ، أَوْ مُوَافِقٌ لِلملَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالآثَار وَلاَ خِبْرَةٌ بِالسُّنَنِ النَّبويَّة القَاضِيَة عَلَى العَقْل، وَحُبِّبَ إِلَيْهِ إِدمَانُ النَّظَر فِي كِتَاب (رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَا) وَهُوَ دَاءٌ عُضَال، وَجَرَبٌ مُرْدٍ، وَسُمٌّ قَتَّالٌ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَبَا حَامِد مِنْ كِبَارِ الأَذكيَاء، وَخيَارِ المُخلِصينَ، لَتَلِفَ.
فَالحِذَارَ الحِذَارَ مِنْ هَذِهِ الكُتُب، وَاهرُبُوا بدينكُم مِنْ شُبَهِ الأَوَائِلِ، وَإِلاَّ
وَقعتُم فِي الحَيْرَةِ، فَمَنْ رَام النَّجَاةَ وَالفوز، فَليلزمِ العُبُوديَّة، وَليُدْمِنِ الاسْتغَاثَةَ بِاللهِ، وَليبتهِلْ إِلَى مَوْلاَهُ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الإِسْلاَمِ وَأَنْ يُتوفَّى عَلَى إِيْمَانِ الصَّحَابَة، وَسَادَةِ التَّابِعِيْنَ، وَاللهُ الْمُوفق، فَبِحُسْنِ قَصْدِ العَالِمِ يُغْفَرُ لَهُ وَيَنجُو - إِنْ شَاءَ اللهُ -.وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو بنُ الصَّلاَح: فَصلٌ لِبيَانِ أَشيَاء مُهِمَّةٍ أُنْكِرَتْ عَلَى أَبِي حَامِد:
فَفِي تَوَالِيْفِهِ أَشيَاءُ لَمْ يَرتضِهَا أَهْلُ مَذْهَبه مِنَ الشُّذوذ، مِنْهَا قَوْله فِي الْمنطق: هُوَ مقدمَة العُلُوْمِ كُلِّهَا، وَمَنْ لاَ يُحيطُ بِهِ، فَلاَ ثِقَة لَهُ بِمَعلُوْم أَصلاً.
قَالَ: فَهَذَا مَرْدُوْدٌ، إِذْ كُلُّ صَحِيْحِ الذّهن منطقِيٌّ بِالطَّبع، وَكم مِنْ إِمَام مَا رَفَعَ بِالمنطِق رَأْساً.
فَأَمَّا كِتَاب (المضنُوْنِ بِهِ عَلَى غَيْر أَهْله) فَمَعَاذَ اللهِ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ، شَاهدتُ عَلَى نسخَة بِهِ بِخَطِّ القَاضِي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَبْدِ اللهِ الشَّهْرُزُورِي أَنَّهُ مَوْضُوْع عَلَى الغزَالِي، وَأَنَّهُ مُخْتَرع مِنْ كِتَاب (مَقَاصِد الفَلاَسِفَة) ، وَقَدْ نَقضه الرَّجُلُ بِكِتَابِ (التَّهَافُت).
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ صَالِحٍ الجيلِي فِي (تَارِيْخِهِ) :أَبُو حَامِدٍ لُقِّبَ بِالغزَّالِي، بَرَعَ فِي الفِقْه، وَكَانَ لَهُ ذكَاءٌ وَفِطْنَة وَتَصرُّف، وَقُدرَة عَلَى إِنشَاء الكَلاَم، وَتَأْلِيفِ المَعَانِي، وَدَخَلَ فِي عُلُوْمِ الأَوَائِل.إِلَى أَنْ قَالَ: وَغَلَبَ عَلَيْهِ اسْتَعمَالُ عبَارَاتِهم فِي كُتُبِهِ، وَاسْتُدْعِيَ لِتَدْرِيْس النِّظَامِيَة بِبَغداد فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ، وَبَقِيَ إِلَى أَنْ غلبت عَلَيْهِ الخلوَةُ، وَترك التَدْرِيْسَ، وَلَبِسَ الثِّيَابَ الخشنَةَ، وَتَقلَّل فِي مَطْعُومه.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَجَاورَ بِالقُدْس، وَشرع فِي (الإِحيَاء) هُنَاكَ - أَعنِي: بِدِمَشْقَ - وَحَجَّ وَزَار، وَرجع إِلَى بَغْدَادَ، وَسُمِعَ مِنْهُ كِتَابُهُ (الإِحيَاء) ، وَغَيْرُهُ، فَقَدْ حَدَّثَ بِهَا إِذاً، ثُمَّ سَرَدَ تَصَانِيْفَه.
وَقَدْ رَأَيْت كِتَابَ (الْكَشْف وَالإِنبَاء عَنْ كِتَاب الإِحيَاء) لِلمَازَرِي، أَوله: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنَار الحَقَّ وَأَدَالَه، وَأَبَارَ البَاطِلَ وَأَزَاله، ثُمَّ أَوْرَد المَازَرِي أَشيَاءَ مِمَّا نَقدَه عَلَى أَبِي حَامِد، يَقُوْلُ:
وَلَقَدْ أَعْجَبُ مِنْ قَوْم مَالِكيَةٍ يَرَوْنَ مَالِكاً الإِمَام يَهْرُبُ مِنَ التّحديد، وَيُجَانب أَنْ يَرْسُمَ رسماً، وَإِنْ كَانَ فِيْهِ أَثرٌ مَا، أَوْ قيَاسٌ مَا، تَوَرُّعاً وَتحفظاً مِنَ الفَتْوَى فِيمَا يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْتَحسنُوْنَ مِنْ رَجُل فَتَاوَى مبنَاهَا عَلَى مَا لاَ حقيقَة لَهُ، وَفِيْهِ كَثِيْرٌ مِنَ الآثَار عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفَّق فِيْهِ الثَّابتَ بِغَيْرِ الثَّابت، وَكَذَا مَا أَوْرَد عَنِ السَّلَفِ لاَ يَمكن ثبوتُهُ كُلُّه، وَأَوْرَدَ مِنْ نَزغَاتِ الأَوليَاء وَنفثَات الأَصفِيَاء مَا يَجِلُّ موقِعُه، لَكِن مزج فِيْهِ النَّافِعَ بِالضَّار، كَإِطلاَقَات يَحكيهَا عَنْ بعضهِم لاَ يَجُوْزُ إِطلاَقُهَا لِشنَاعتهَا، وَإِنْ أُخذت معَانِيْهَا عَلَى ظوَاهرهَا، كَانَتْ كَالرموز إِلَى قدح الْمُلْحِدِينَ، وَلاَ تَنْصَرِفُ مَعَانِيْهَا إِلَى الحَقّ إِلاَّ بِتعسُّف عَلَى اللَّفْظ مِمَّا لاَ يَتكلف العُلَمَاءُ مِثْله إِلاَّ فِي كَلاَم صَاحِب الشَّرع الَّذِي اضْطرَّتْ المعجزَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صدقه المَانعَة مِنْ جَهله وَكذبه إِلَى طلب التَّأْوِيْل، كَقَوْلِه: (إِنَّ القَلْبَ بَيْنَ أُصْبَعَيْنِ
مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَن ) .وَ (إِنَّ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَع ) .
وَكقوله: (لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ) .
وَكقوله: (يَضْحَكُ اللهُ ) ... إِلَى غَيْر
ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيْثِ الوَارد ظَاهِرُهَا بِمَا أَحَاله العَقْلُ.إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِذَا كَانَتِ العِصْمَةُ غَيْرَ مَقْطُوْع بِهَا فِي حقِّ الوَلِي، فَلاَ وَجه لإِضَافَة مَا لاَ يَجُوْزُ إِطلاَقُهُ إِلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ، وَتَدعُو ضَرُوْرَةٌ إِلَى نَقله، فَيَتَأَوّل.
إِلَى أَنْ قَالَ: أَلاَ تَرَى لَوْ أَنَّ مُصَنِّفاً أَخَذَ يَحكِي، عَنْ بَعْضِ الحشويَة مَذْهَبَه فِي قِدَمَ الصَّوتِ وَالحرف، وَقِدَمَ الوَرَقِ، لَمَّا حَسُنَ بِهِ أَنْ يَقُوْل: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقين: إِنَّ القَارِئَ إِذَا قرَأَ كِتَابَ اللهِ، عَادَ القَارِئُ فِي نَفْسِهِ قديماً بَعْدَ أَنْ كَانَ مُحْدَثاً، أَوْ قَالَ بَعْضُ الحذَاق: إِنَّ اللهَ مَحَلٌّ لِلْحوَادث، إِذَا أَخَذَ فِي حِكَايَة مَذْهَب الكَرَّامِيَّةِ.
وَقَالَ قَاضِي الجَمَاعَة أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ حَمْدين القُرْطُبِيّ: إِن بَعْضَ مَنْ يَعِظُ مِمَّنْ كَانَ يَنْتَحِلُ رسمَ الفِقْه، ثُمَّ تَبرَّأَ مِنْهُ شغفاً بِالشِّرعَة الغزَّاليَة، وَالنِّحلَة الصُّوْفِيَّة، أَنشَأَ كُرَاسَةً تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى التعصُّب لِكِتَابِ أَبِي حَامِد إِمَام بِدعتِهِم، فَأَيْنَ هُوَ مِنْ شُنَعِ مَنَاكِيْره، وَمَضَاليلِ أَسَاطيرِهِ المُبَاينَة لِلدِّين؟! وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا مِنْ علم المعَامِلَة المُفضِي إِلَى علم المكَاشفَة الوَاقع بِهِم عَلَى سِرِّ الربوبيَة الَّذِي لاَ يُسفِر عَنْ قِنَاعِهِ، وَلاَ يَفُوزُ بِاطِّلاعه إِلاَّ مَنْ تَمَطَّى إِلَيْهِ ثَبَج ضَلاَلَته الَّتِي رفع لَهُم أَعْلاَمَهَا، وَشرع أَحكَامَهَا.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَأَدْنَى النصِيْبِ من هَذَا العِلْم التَّصديقُ بِهِ، وَأَقلُّ عُقُوبَته أَنْ لاَ يُرْزَقَ المُنْكِرُ مِنْهُ شَيْئاً، فَاعرض قَوْله عَلَى قَوْلِهِ، وَلاَ يَشتغِلُ بقِرَاءة قُرْآن، وَلاَ بِكَتْبِ حَدِيْثٍ، لأَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُهُ عَنِ الْوُصُول إِلَى إِدخَال رَأْسه فِي كُمِّ جُبَّته، وَالتَّدثر بِكسَائِهِ، فَيسْمَع نِدَاءَ الحَقِّ، فَهُوَ يَقُوْلُ: ذرُوا مَا كَانَ السَّلَفُ عَلَيْهِ، وَبَادِرُوا مَا آمُرُكُم بِهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا القَاضِي أَقذَع، وَسَبَّ، وَكفَّر، وَأَسْرَفَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الهَوَى.
وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَصُدُوْرُ الأَحرَارِ قُبُوْرُ الأَسرَارِ، وَمَنْ أَفشَى سِرَّ الرُّبوبيَة، كفر، وَرَأَى قَتْلَ مِثْلِ الحَلاَّج خَيراً مِنْ إِحيَاء عَشْرَة لإِطلاَقه أَلْفَاظاً، وَنَقَلَ عَنْ بعضهِم قَالَ: لِلرُّبوبيَّة سِرٌّ لَوْ ظهر، لَبَطَلت النُّبُوَّة، وَللنُبُوَّة سِرٌّ لَوْ كُشِفَ، لبَطل العِلْمُ، وَلِلْعلمِ سِرٌّ لَوْ كشف، لَبَطَلت الأَحكَامُ.قُلْتُ: سِرُّ العِلْم قَدْ كشف لصُوْفَة أَشقيَاء، فَحلُّوا النّظَام، وَبطل لديهِم الحَلاَلُ وَالحَرَامُ.
قَالَ ابْنُ حَمْدِينَ: ثُمَّ قَالَ الغزَالِي: وَالقَائِلُ بِهَذَا، إِنْ لَمْ يُرِدْ إِبطَال النُّبُوَّة فِي حقِّ الضُّعَفَاء، فَمَا قَالَ لَيْسَ بِحقٍّ، فَإِنَّ الصَّحِيح لاَ يَتنَاقضُ، وَإِنَّ الكَامِل مَنْ لاَ يُطفئ نُوْرُ مَعْرِفَته نُورَ وَرعه.
وَقَالَ الغزَّالِي فِي العَارِف: فَتتجلَى لَهُ أَنوَارُ الحَقِّ، وَتنكشِفُ لَهُ العُلُوْم المرموزَةُ المحجوبَةُ عَنِ الْخلق، فَيعرِفُ مَعْنَى النُّبُوَّة، وَجَمِيْعَ مَا وَردت بِهِ أَلْفَاظُ الشرِيعَة الَّتِي نَحْنُ مِنْهَا عَلَى ظَاهِرٍ، لاَ عَلَى حقيقَة.
وَقَالَ عَنْ بعضهِم: إِذَا رَأَيْتَهُ فِي البِدَايَة، قُلْتَ: صديقاً، وَإِذَا رَأَيْتهُ فِي النِّهَايَة، قُلْتَ: زِنْدِيقاً، ثُمَّ فَسَّره الغزَّالِي، فَقَالَ: إِذِ اسمُ الزِّنْدِيق لاَ يُلصق إِلاَّ بِمعطِّل الفَرَائِضِ لاَ بِمعطِّلِ النَّوَافل.
وَقَالَ: وَذَهَبت الصُّوْفِيَّةُ إِلَى العُلُوْمِ الإِلهَامِيَة دُوْنَ التَّعليمِيَة، فَيجلس فَارغَ القَلْب، مجموعَ الهَمِّ يَقُوْلُ: اللهُ اللهُ اللهُ عَلَى الدَّوَام، فَلْيُفَرِّغ قَلْبَهُ، وَلاَ يَشتغِلْ بِتِلاَوَة وَلاَ كتب حَدِيْث.
قَالَ: فَإِذَا بلغَ هَذَا الحدّ، الْتزم الخلوَةَ فِي بَيْت مُظْلِمٍ وَتَدَثَّرَ
بِكسَائِهِ، فَحِيْنَئِذٍ يَسْمَعُ نِدَاءَ الحَقّ: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} وَ {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ} .قُلْتُ: سَيِّدُ الخلقِ إِنَّمَا سَمِعَ {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} مِنْ جِبْرِيْل عَنِ اللهِ، وَهَذَا الأَحْمَقُ لَمْ يَسْمَعْ نِدَاء الحَقِّ أَبَداً، بَلْ سَمِعَ شيطَاناً، أَوْ سَمِعَ شَيْئاً لاَ حقيقَةً مِنْ طَيش دِمَاغِه، وَالتَّوفِيقُ فِي الاعتصَام بِالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاع.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِي: شَحَنَ أَبُو حَامِدٍ (الإِحيَاء) بِالكَذِبِ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلاَ أَعْلَمُ كِتَاباً عَلَى بَسِيط الأَرْضِ أَكْثَرَ كذباً مِنْهُ، ثُمَّ شبَّكَهُ بِمَذَاهِبِ الفَلاَسِفَة، وَمعَانِي رَسَائِل إِخْوَانِ الصَّفَا، وَهُم قَوْم يَرَوْنَ النُّبُوَّة مكتَسَبَة، وَزعمُوا أَنَّ المعجزَاتِ حِيَلٌ وَمَخَارِيقُ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِر :حَجَّ أَبُو حَامِدٍ وَأَقَامَ بِالشَّامِ نَحْواً مِنْ عشر سِنِيْنَ، وَصَنَّفَ، وَأَخَذَ نَفْسه بِالمُجَاهِدَة، وَكَانَ مُقَامُه بِدِمَشْقَ فِي المنَارَة الغربيَة مِنَ الجَامِع، سَمِعَ (صَحِيْح البُخَارِيِّ) مِنْ أَبِي سهل الْحَفْصِي، وَقَدِمَ دِمَشْق فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِيْنَ.
وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَان: بَعَثَهُ النِّظَام عَلَى مَدْرَسَته بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ، وَتَركهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِيْنَ، وَتَزَهَّدَ، وَحَجَّ، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً بِالزَّاويَة الغربيَة، ثُمَّ انتقلَ إِلَى بَيْت المَقْدِسِ وَتَعَبَّدَ، ثُمَّ قصد مِصْر، وَأَقَامَ مُدَّةً بِالإِسْكَنْدَرِيَّة، فَقِيْلَ: عزم عَلَى المضِي إِلَى يُوْسُفَ بنِ تَاشفِيْن سُلْطَانِ مَرَّاكُش، فَبَلَغَهُ نَعِيُّه، ثُمَّ عَادَ إِلَى طُوْس، وَصَنَّفَ: (البَسيطَ) وَ (الوسيطَ) وَ (الوجِيْزَ) وَ (الخلاَصَة) وَ (الإِحيَاءَ) ، وَأَلَّف: (المُسْتصفَى) فِي أُصُوْل الفِقْه، وَ (المَنْخُوْل) وَ (اللبَاب) وَ (الْمُنْتَحل فِي الجَدَل) وَ (تَهَافت الفَلاَسِفَة)
وَ (مَحكّ النَّظَر) وَ (مِعيَار العِلْم) وَ (شرح الأَسْمَاء الحُسْنَى) وَ (مشكَاة الأَنوَار) وَ (المُنْقِذ مِنَ الضَّلاَل) وَ (حقيقَة الْقَوْلَيْنِ) وَأَشيَاء.قَالَ ابْنُ النَّجَّار: أَبُو حَامِدٍ إِمَامُ الفُقَهَاءِ عَلَى الإِطلاَق، وَربَّانِيُّ الأُمَّةِ بِالاتِّفَاق، وَمُجْتَهِدُ زَمَانه، وَعينُ أَوَانه، بَرَعَ فِي المَذْهَب وَالأُصُوْل وَالخلاَف وَالجَدَلِ وَالمنطق، وَقرَأَ الحِكْمَة وَالفَلْسَفَة، وَفَهِمَ كلاَمهُم، وَتَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِم، وَكَانَ شَدِيدَ الذّكَاء، قوِيَّ الإِدرَاك، ذَا فِطْنَة ثَاقبَة، وَغوص عَلَى المَعَانِي، حَتَّى قِيْلَ: إِنَّهُ أَلَّف (المَنْخُوْل) ، فَرَآهُ أَبُو المَعَالِي، فَقَالَ: دفنتَنِي وَأَنَا حَيٌّ، فَهَلاَّ صَبرتَ الآنَ، كِتَابُك غطَّى عَلَى كِتَابِي.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ النَّجَّار بِسنده: أَنَّ وَالِد أَبِي حَامِد كَانَ يَغْزِلُ الصُّوفَ وَيبيعُهُ فِي دُكَّانه بِطُوْسَ، فَأَوْصَى بِوَلَدَيْهِ مُحَمَّد وَأَحْمَد إِلَى صَدِيْقٍ لَهُ صُوْفِي صَالِح، فَعلمهُمَا الخطَّ، وَفَنِيَ مَا خَلَّفَ لَهُمَا أَبُوْهُمَا، وَتعذَّر عَلَيْهِمَا القُوْتُ، فَقَالَ: أَرَى لَكُمَا أَنْ تلجآ إِلَى المدرسَة كَأَنكمَا طَالبَان لِلْفقه عَسَى يَحصُل لَكُمَا قُوتٌ، فَفَعلاَ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَد الخطيبِي: كُنْت فِي حَلْقَة الغزَّالِي، فَقَالَ: مَاتَ أَبِي، وَخلَّف لِي وَلأَخِي مِقْدَاراً يَسيراً فَفَنِي بِحَيْثُ تَعذَّرَ عَلَيْنَا القُوْتُ، فَصِرنَا إِلَى مدرسَة نطلُبُ الفِقْه، لَيْسَ المُرَادُ سِوَى تحصيلِ القُوْت، فَكَانَ تَعلُّمنَا لِذَلِكَ، لاَ للهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُوْنَ إِلاَّ للهِ.
قَالَ أَسْعَد المِيهنِي: سَمِعْتُ أَبَا حَامِد يَقُوْلُ:
هَاجرتُ إِلَى أَبِي نَصْرٍ الإِسْمَاعِيْلِي بجُرْجَان، فَأَقَمْتُ إِلَى أَنْ أَخذت عَنْهُ (التَّعليقَة).
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَلِيٍّ الأَشِيرِي :سَمِعْتُ عبد المُؤْمِن بن عَلِيٍّ القَيْسِيّ، سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ بنَ تُوْمَرْت يَقُوْلُ: أَبُو حَامِدٍ الغزَالِي قَرَعَ البَابَ وَفُتِحَ لَنَا.قَالَ ابْنُ النَّجَّار: بَلَغَنِي أَن إِمَامَ الحَرَمَيْنِ قَالَ:
الغَزَّالِي بَحْرٌ مُغْرِقٌ، وَإِلْكِيَا أَسَدٌ مُطْرِقٌ، وَالخَوَافِي نَارٌ تُحْرِقُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ العُثْمَانِيّ، وَغَيْرهُ: سَمِعْنَا مُحَمَّدَ بَنَ يَحْيَى العَبْدَرِي المُؤَدِّب يَقُوْلُ:
رَأَيْتُ بِالإِسْكَنْدَرِيَّة سَنَةَ خَمْس مائَة كَانَّ الشَّمْس طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبهَا، فَعَبَرَهُ لِي عَابِرٌ بِبدعَة تَحْدُثُ فِيهِم، فَبعد أَيَّام وَصل الخَبَر بِإِحرَاقِ كتب الغزَالِي مِنَ المرِيَّة.
وَفِي التَّوَكُّل مِنَ (الإِحيَاء ) مَا نَصه: وَكُلُّ مَا قسمَ اللهُ بَيْنَ عبَاده مِنْ رزقٍ وَأَجْلٍ، وَإِيْمَانٍ وَكفرٍ، فَكُلُّه عدلٌ مَحْض، لَيْسَ فِي الإِمْكَانِ أَصلاً أَحْسَنُ وَلاَ أَتَمُّ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ وَادَّخره تَعَالَى مَعَ القُدرَة وَلَمْ يَفعلْه، لَكَانَ بُخْلاً وَظلماً.قَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ العَربِي فِي (شَرحِ الأَسْمَاء الحُسْنَى) :قَالَ شيخنَا أَبُو حَامِدٍ قَوْلاً عَظِيْماً انْتَقدهُ عَلَيْهِ العُلَمَاءُ، فَقَالَ:
وَلَيْسَ فِي قُدرَة الله أَبدعُ مِنْ هَذَا العَالَم فِي الإِتْقَان وَالحِكْمَة، وَلَوْ كَانَ فِي القدرَة أَبدعُ أَوْ أَحكمُ مِنْهُ وَلَمْ يَفعله، لَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ قَضَاءً لِلْجُوْد، وَذَلِكَ مُحَال.
ثُمَّ قَالَ: وَالجَوَاب أَنَّهُ بَاعد فِي اعْتِقَاد عمومِ القدرَة وَنَفْي النّهَايَة عَنْ تَقدير المقدورَات المُتَعَلِّقَة بِهَا، وَلَكِن فِي تَفَاصيل هَذَا العَالم المَخْلُوْق، لاَ فِي سِوَاهُ، وَهَذَا رَأْيٌ فَلسفِي قصَدتْ بِهِ الفَلاَسِفَةُ قَلْبَ الحقَائِق، وَنسبتِ الإِتْقَانَ إِلَى الحَيَاةِ مَثَلاً، وَالوجُوْدَ إِلَى السَّمْعِ وَالبصر، حَتَّى لاَ يَبْقَى فِي القلوبِ سَبِيْلٌ إِلَى الصَّوَاب، وَأَجْمَعتِ الأُمَّةُ عَلَى خِلاَف هَذَا الاعتقَاد، وَقَالَتْ عَنْ بُكرَة أَبيهَا: إِنَّ المقدورَاتِ لاَ نِهَايَةَ لَهَا لِكُلِّ مُقَدَّر الوُجُوْد، لاَ لِكُلِّ حَاصل الوجُوْد، إِذِ القدرَةُ صَالِحَة، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ وَهْلَةٌ لاَ لَعاً لَهَا، وَمَزَلَّةٌ لاَ تَمَاسكَ فِيْهَا، وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نُقْطَةً مِنْ بحره، فَإِنَّا لاَ نَرُدُّ عَلَيْهِ إِلاَّ بِقَوْلِهِ.
قُلْتُ: كَذَا فَليكن الردُّ بِأَدبٍ وَسكَيْنَة.
وَمِمَّا أُخِذَ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنَّ لِلْقدر سِرّاً نُهينَا عَنْ إِفشَائِهِ، فَأَيُّ سرٍّ لِلْقدر؟
فَإِنْ كَانَ مُدْرَكاً بِالنَّظَر، وُصِلَ إِلَيْهِ وَلاَ بُدَّ، وَإِنْ كَانَ مُدْرَكاً بِالخَبَر، فَمَا ثَبَتَ فِيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ يُدْرَكُ بِالحَال وَالعِرفَان، فَهَذِهِ دعوَى مَحضَة، فَلَعَلَّهُ عَنَى بِإِفشَائِهِ أَن نُعَمِّق فِي القَدَرِ، وَنبحثَ فِيْهِ.أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عبد الكَرِيْم، أَخْبَرَنَا أَبُو الحَسَنِ السَّخَاوِيُّ، أَخْبَرَنَا حطلبا بن قمرِيَة الصُّوْفِيّ، أَخْبَرَنَا سَعْدُ بن أَحْمَدَ الإِسْفَرَايينِي بِقِرَاءتِي، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ الطُّوْسِيّ، قَالَ:
اعْلم أَنَّ الدِّين شَطرَانِ: أَحَدُهُمَا تَركُ المَنَاهِي، وَالآخرُ فِعلُ الطَّاعَات، وَتركُ المنَاهِي هُوَ الأَشَدُّ، وَالطَّاعَات يَقْدِرُ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَتركُ الشَّهوَات لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلاَّ الصِّدِّيْقُوْنَ، وَلذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوْءَ، وَالمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ هَوَاهُ).
وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ العبدرِي: سَمِعْتُ أَبَا نَصْرٍ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْد القَادِرِ الطُّوْسِيّ يَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّهُ أَبصر فِي نَوْمه كَأَنَّهُ يَنظر فِي كتب الغزَالِي - رَحِمَهُ اللهُ - فَإِذَا هِيَ كُلُّهَا تَصَاوِيْر.قُلْتُ: الغَزَّالِي إِمَامٌ كَبِيْر، وَمَا مِنْ شَرطِ العَالِم أَنَّهُ لاَ يُخطِئ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ الوَلِيْدِ الطُّرْطُوشِي فِي رِسَالَة لَهُ إِلَى ابْنِ مُظَفَّر: فَأَمَّا مَا ذكرت مِنْ أَبِي حَامِد، فَقَدْ رَأَيْتُهُ، وَكَلَّمتُهُ، فَرَأَيْتهُ جَلِيْلاً مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، وَاجتمع فِيْهِ العَقْلُ وَالفهْمُ، وَمَارسَ العُلُوْمَ طُولَ عُمُره، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ مُعْظَمَ زَمَانِهِ، ثُمَّ بدَا لَهُ عَنْ طَرِيْق العُلَمَاء، وَدَخَلَ فِي غُمَارِ العُمَّال، ثُمَّ تَصَوَّف، وَهجر العُلُوْمَ وَأَهْلهَا، وَدَخَلَ فِي عُلُوْم الخوَاطِرِ، وَأَربَابِ الْقُلُوب، وَوسَاوسِ الشَّيْطَان، ثُمَّ شَابَهَا بآرَاء الفَلاَسِفَةِ، وَرُموز الحلاَّجِ، وَجَعَلَ يَطْعُنُ عَلَى الفُقَهَاء وَالمتكلِّمِين، وَلَقَدْ كَادَ أَنْ يَنسلِخَ مِنَ الدِّين، فَلَمَّا عمل (الإِحيَاء) ، عَمَدَ يَتَكَلَّم فِي عُلُوْم الأَحْوَال، وَمرَامزِ الصُّوْفِيَّة، وَكَانَ غَيْرَ أَنِيسٍ بِهَا، وَلاَ خبِير بِمَعْرِفَتِهَا، فَسَقَطَ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، وَشحن كِتَابَهُ بِالمَوْضُوْعَات.
قُلْتُ: أَمَّا (الإِحيَاء) فَفِيْهِ مِنَ الأَحَادِيْثِ البَاطِلَة جُمْلَةٌ، وَفِيْهِ خَيْر
كَثِيْر لَوْلاَ مَا فِيْهِ مِنْ آدَاب وَرسوم وَزُهْد مِنْ طرَائِق الحكمَاء وَمُنحَرِفِي الصُّوْفِيَّة، نَسْأَل اللهَ عِلْماً نَافِعاً، تَدْرِي مَا العِلْمُ النَّافِع؟ هُوَ مَا نَزل بِهِ القُرْآنُ، وَفسَّره الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلاً وَفعلاً، وَلَمْ يَأْت نَهْي عَنْهُ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: (مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي ) ، فَعَلَيْك يَا أَخِي بتدبُّر كِتَاب اللهِ، وَبإِدمَان النَّظَر فِي (الصَّحِيْحَيْنِ) و (سُنَن النَّسَائِيّ) ، وَ (رِيَاض النَّوَاوِي) وَأَذكَاره، تُفْلِحْ وَتُنْجِحْ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ عُبَّادِ الفَلاَسِفَة، وَوظَائِفِ أَهْلِ الرِّيَاضَات، وَجُوعَ الرُّهبَان، وَخِطَابَ طَيْشِ رُؤُوْسِ أَصْحَابِ الخلوَات، فُكُلُّ الخَيْر فِي مُتَابعَة الحنِيفِيَة السَّمحَة، فَواغوثَاهُ بِاللهِ، اللَّهُمَّ اهدِنَا إِلَى صرَاطك المُسْتقيم.نعم، وَللإِمَامِ مُحَمَّد بن عَلِيٍّ المَازَرِي الصَّقَلِّي كَلاَمٌ عَلَى (الإِحيَاء) يَدُلُّ عَلَى إِمَامته، يَقُوْلُ:
وَقَدْ تَكرَّرت مُكَاتبتكُم فِي اسْتَعلاَمِ مَذْهَبِنَا فِي الكِتَابِ المُتَرْجَمِ بِـ (إِحيَاءِ عُلُوْمِ الدِّينِ) ، وَذَكَرتُم أَنَّ آرَاء النَّاس فِيْهِ قَدِ اخْتلفت، فَطَائِفَةٌ انْتَصَرت وَتعصَّبت لإِشهَاره، وَطَائِفَة حَذَّرت مِنْهُ وَنفَّرت، وَطَائِفَة لِكُتُبِهِ أَحرقت، وَكَاتِبنِي أَهْلُ المَشْرِق أَيْضاً يَسْأَلونِي، وَلَمْ يَتقدم لِي
قِرَاءة هَذَا الكِتَاب سِوَى نُبَذٍ مِنْهُ، فَإِنْ نَفَّسَ اللهُ فِي العُمُرِ، مَدَدتُ فِيْهِ الأَنفَاس، وَأَزلتُ عَنِ الْقُلُوب الالْتِبَاس: اعْلمُوا أَنَّ هَذَا رَأَيْتُ تَلاَمِذَتَهُ، فُكُلٌّ مِنْهُم حَكَى لِي نوعاً مِنْ حَالِهِ مَا قَامَ مقَام العِيَانِ، فَأَنَا أَقتصرُ عَلَى ذكر حَاله، وَحَالِ كِتَابِهِ، وَذِكْرِ جُمَلٍ مِنْ مَذَاهِب الموحِّدين وَالمتصَوِّفَة، وَأَصْحَابِ الإِشَارَات، وَالفَلاَسِفَة، فَإِنَّ كِتَابهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذِهِ الطّرَائِق.ثُمَّ إِنَّ المَازرِي أَثْنَى عَلَى أَبِي حَامِد فِي الفِقْه، وَقَالَ: هُوَ بِالفِقْه أَعْرفُ مِنْهُ بِأُصُوْله، وَأَمَّا عِلْمُ الكَلاَم الَّذِي هُوَ أُصُوْلُ الدّين، فَإِنَّهُ صَنَّف فِيْهِ، وَلَيْسَ بِالمتبحر فِيْهَا، وَلَقَدْ فَطِنْتُ لِعدم اسْتبحَاره فِيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَرَأَ عُلُوْمَ الفَلْسَفَة قَبْل اسْتبحَاره فِي فَن الأُصُوْل، فَأَكسبته الفَلْسَفَة جُرْأَةً عَلَى المَعَانِي، وَتسهُّلاً لِلْهجوم عَلَى الحقَائِق، لأَنْ الفَلاَسِفَة تَمرُّ مَعَ خَوَاطِرِهَا، لاَ يَزَعُهَا شَرْعٌ، وَعَرَّفنِي صَاحِب لَهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عُكُوفٌ عَلَى (رَسَائِل إِخْوَان الصَّفَا) ، وَهِيَ إِحْدَى وَخَمْسُوْنَ رِسَالَةً، أَلَّفهَا مَنْ قَدْ خَاض فِي علم الشَّرع وَالنَّقل، وَفِي الحِكْمَة، فَمزج بَيْنَ الْعلمين، وَقَدْ كَانَ رَجُل يُعْرَفُ بِابْنِ سِينَا ملأَ الدُّنْيَا تَصَانِيْفَ، أَدَّتْهُ قُوَّتُهُ فِي الفَلْسَفَة إِلَى أَنْ حَاول ردَّ أُصُوْلِ العقَائِد إِلَى علم الفَلْسَفَة، وَتلطَّفَ جُهْدَهُ، حَتَّى تَمَّ لَهُ مَا لَمْ يَتُم لغَيْره، وَقَدْ رَأَيْتُ جُمَلاً مِنْ دَوَاوِيْنه، وَوجدتُ أَبَا حَامِد يُعَوِّلُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَر مَا يُشيرُ إِلَيْهِ مِنْ عُلُوْم الفَلْسَفَة.
وَأَمَّا مَذَاهِبُ الصُّوْفِيَّة، فَلاَ أَدْرِي عَلَى مَنْ عوَّل فِيْهَا، لَكِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا عَلَّق بَعْضُ أَصْحَابه أَنَّهُ ذكر كُتُبَ ابْنِ سينَا وَمَا فِيْهَا، وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ كُتبَ أَبِي حَيَّانَ التَّوحيدي، وَعِنْدِي أَنَّهُ عَلَيْهِ عوَّل فِي مَذْهَب التَّصَوُّف، وَأُخْبِرْتُ أَنَّ أَبَا حَيَّان أَلَّف دِيْوَاناً عَظِيْماً فِي هَذَا الفنّ، وَفِي (الإِحيَاء) مِنَ الوَاهيَات كَثِيْر.
قَالَ: وَعَادَةُ المتورِّعين أَنْ لاَ يَقولُوا: قَالَ مَالِكٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِيمَا لَمْ يثبت عِنْدَهُم.
ثُمَّ قَالَ: وَيَستحسنُ أَشيَاءَ مبنَاهَا عَلَى مَا لاَ حقيقَة لَهُ، كقصِّ الأَظفَارِ أَنْ يَبدَأَ بِالسَّبَّابَة، لأَنْ لَهَا الفَضْلَ عَلَى باقِي الأَصَابع، لأَنَّهَا المسبِّحَة، ثُمَّ قصّ مَا يَلِيهَا مِنَ الوُسطَى، لأَنَّهَا نَاحِيَة اليَمِينِ، وَيَخْتِم بِإِبْهَامِ اليُمْنَى، وَرَوَى فِي ذَلِكَ أَثراً.قُلْتُ: هُوَ أَثر مَوْضُوْع.
ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ: مَنْ مَاتَ بَعْدَ بلوَغه وَلَمْ يَعلم أَنَّ البَارِئ قديم، مَاتَ مسلماً إِجمَاعاً.
قَالَ: فَمَنْ تسَاهل فِي حِكَايَة الإِجْمَاع فِي مِثْلِ هَذَا الَّذِي الأَقْرَبُ أَنْ يَكُوْنَ الإِجْمَاعُ فِي خِلاَفه، فَحقيق أَنْ لاَ يُوثقَ بِمَا رَوَى، وَرَأَيْتُ لَهُ فِي الجُزْء الأَوّل يَقُوْلُ: إِنَّ فِي عُلُوْمِهِ مَا لاَ يَسوَغ أَنْ يُودَعَ فِي كِتَاب، فَليت شعرِي أَحقٌّ هُوَ أَوْ بَاطِل؟! فَإِنْ كَانَ بَاطِلاً، فَصَدَقَ، وَإِنْ كَانَ حَقّاً، وَهُوَ مُرَادُهُ بِلاَ شكّ، فَلِمَ لاَ يُودَعُ فِي الكُتُبِ، أَلِغُموضه وَدِقَّته؟! فَإِنْ كَانَ هُوَ فَهِمَه، فَمَا المَانع أَنْ يَفهمه غَيْرُهُ؟!
قَالَ أَبُو الفَرَجِ ابْن الجَوْزِيّ: صَنَّفَ أَبُو حَامِدٍ (الإِحيَاء) ، وَملأَه بِالأَحَادِيْث البَاطِلَة، وَلَمْ يَعلم بطلاَنهَا، وَتَكلّم عَلَى الْكَشْف، وَخَرَجَ عَنْ قَانُوْنِ الفِقْه، وَقَالَ: إِنَّ المُرَادَ بِالكَوْكَب وَالقَمَر وَالشَّمْس اللوَاتِي رَآهن إِبْرَاهِيْم، أَنوَار هِيَ حُجُبُ الله - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَمْ يُرد هَذِهِ المَعْرُوْفَات، وَهَذَا مِنْ جنس كَلاَمِ البَاطِنِيَّة، وَقَدْ ردَّ ابْنُ الجَوْزِيّ عَلَى أَبِي حَامِد فِي كِتَابِ (الإِحيَاء) ، وَبَيَّنَ خَطَأَه فِي مُجَلَّدَات، سَمَّاهُ كِتَابَ (الأَحيَاءِ) .
وَلأَبِي الحَسَنِ ابْن سُكَّر رَدٌّ عَلَى الغَزَّالِي فِي مُجَلَّدٍ سَمَّاهُ: (إِحيَاء ميت الأَحْيَاء فِي الرَّدِّ عَلَى كِتَابِ الإِحيَاءِ) .
قُلْتُ: مَا زَالَ الأَئِمَّةُ يُخَالِف بَعضهُم بعضاً، وَيَردُّ هَذَا عَلَى هَذَا،
وَلَسْنَا مِمَّنْ يَذُمُّ العَالِم بِالهَوَى وَالجَهْل.نعم، وَلِلإِمَامِ كِتَاب (كيمِيَاء السَّعَادَة) ، وَكِتَاب (الْمُعْتَقد) ، وَكِتَاب (إِلجَام العوَام) ، وَكِتَاب (الرَّدّ عَلَى البَاطِنِيَّة) ، وَكِتَاب (مُعْتَقد الأَوَائِل) ، وَكِتَاب (جَوَاهر القُرْآن) ، وَكِتَاب (الغَايَة القصوَى) وَكِتَاب (فَضَائِح الإِباحيَة) ، وَ (مَسْأَلَة عَوز الدّور) ، وَغَيْر ذَلِكَ.
قَالَ عَبْد الغَافِرِ الفَارِسِيّ: تُوُفِّيَ يَوْم الاثْنَيْنِ، رَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الآخِرَةِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْس مائَة، وَلَهُ خَمْس وَخَمْسُوْنَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَة الطَّابرَان قصبَة بِلاَدِ طُوْس، وَقَوْلُهُم: الغَزَّالِي، وَالعطَّارِي، وَالخَبَّازِيّ، نِسبَة إِلَى الصّنَائِعِ بِلِسَان الْعَجم، بِجمع يَاء النِّسبَة وَالصيغَة.
وَلِلغَزَّالِي أَخ وَاعِظٌ مَشْهُوْر، وَهُوَ أَبُو الفُتُوْح أَحْمَد، لَهُ قبولٌ عَظِيْم فِي الْوَعْظ، يُزَنُّ برقَة الدّين وَبِالإِباحَة، بَقِيَ إِلَى حُدُوْد العِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، وَقَدْ نَاب عَنْ أَخِيْهِ فِي تَدْرِيْس النّظَامِيَة بِبَغْدَادَ لَمَّا حَجَّ مُديدَة.
قَرَأْت بِخَطِّ النَّوَاوِي - رَحِمَهُ اللهُ -:قَالَ الشَّيْخُ تَقِيّ الدِّيْنِ ابْن الصَّلاَحِ: وَقَدْ سُئِلَ: لِمَ سُمِّيَ الغَزَّالِي بِذَلِكَ، فَقَالَ:
حَدَّثَنِي مِنْ أَثِقُ بِهِ، عَنْ أَبِي الْحرم المَاكسِي الأَدِيْب، حَدَّثَنَا أَبُو الثَّنَاء مَحْمُوْد الفَرَضِيّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا تَاجُ الإِسْلاَم ابْن خَمِيْس، قَالَ لِي الغَزَالِي: النَّاس يَقُوْلُوْنَ لِي: الغَزَّالِي، وَلَسْتُ الغَزَّالِي، وَإِنَّمَا أَنَا الغَزَالِيُّ مَنْسُوْب إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالَ لَهَا: غَزَالَةُ - أَوْ كَمَا قَالَ -.
وَفِي أَوَاخرِ (المَنْخُوْل ) لِلْغزَالِي كَلاَم فَجٌّ فِي إِمَام لاَ أَرَى نَقله هُنَا.وَمِنْ عقيدَة أَبِي حَامِد - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أَوَّلهَا: الحَمْدُ للهِ الَّذِي تَعرَّف إِلَى عبَاده بِكِتَابِه المُنْزَل عَلَى لِسَانِ نَبِيِّه الْمُرْسل، بِأَنَّهُ فِي ذَاته وَاحِد لاَ شَرِيْكَ لَهُ، فَردٌ لاَ مِثْل لَهُ، صَمَدٌ لاَ ضِدَّ لَهُ، لَمْ يَزَلْ وَلاَ يَزَالُ منعوتاً بِنعوت الجلاَل، وَلاَ تُحيطُ بِهِ الجِهَاتُ، وَلاَ تَكنُفه السَّمَاوَاتُ، وَأَنَّهُ مُسْتوٍ عَلَى الْعَرْش عَلَى الوَجْه الَّذِي قَالَهُ، وَبِالمَعْنَى الَّذِي أَرَادَه، منزَّهاً عَنِ الممَاسَة وَالاستقرَار وَالتمكن وَالحُلُوْل وَالانتقَالِ، وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْء إِلَى التّخوم، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ حَبل الورِيْد، لاَ يُمَاثِلُ قُرْبُهُ قربَ الأَجسَام، كَانَ قَبْلَ خلقِ المَكَان وَالزَّمَان، وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ بَائِنٌ بصفَاته مِنْ خلقه، مَا فِي ذَاته سِوَاهُ، وَلاَ فِي سِوَاهُ ذَاتُه، مُقدَّس عَنِ التَّغَيُّر وَالانتقَالِ، لاَ تَحُلُّه الحوَادِثُ، وَأَنَّهُ مَرْئِي الذَّاتِ بِالأَبْصَار فِي دَارِ القرَار، إِتمَاماً لِلنعم بِالنَّظَر إِلَى وَجهه الكَرِيْم.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَيُدْرِكُ حركَة الذَّرِّ فِي الهوَاء، لاَ يَخْرُج عَنْ مَشِيئَته لفتَةُ نَاظر، وَلاَ فَلتَةُ خَاطر، وَأَنَّ القُرْآن مَقْرُوء بِالأَلسِنَة، مَحْفُوْظٌ فِي الْقُلُوب، مكتوبٌ فِي المَصَاحِف، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَائِمٌ بِذَات الله، لاَ يَقْبَلُ الانفصَالَ
بِالانتقَالِ إِلَى الْقُلُوب وَالصّحف، وَأَنَّ مُوْسَى سَمِعَ كَلاَم الله بِغَيْرِ صَوْت وَلاَ حرف، كَمَا تُرَى ذَاتُه مِنْ غَيْرِ شكل وَلاَ لَوْنٍ، وَأَنَّهُ يُفرق بِالموت بَيْنَ الأَرْوَاح وَالأَجسَام، ثُمَّ يُعيدُهَا إِلَيْهَا عِنْد الْحَشْر، فَيبعثُ مَنْ فِي القُبُوْر.مِيزَان الأَعْمَال مِعْيَار يُعبِّر عَنْهُ بِالمِيزَان، وَإِنْ كَانَ لاَ يُسَاوِي مِيزَانَ الأَعْمَال مِيزَانَ الجِسْم الثَّقِيل، كَمِيزَان الشَّمْس، وَكَالمسطرَة الَّتِي هِيَ مِيزَان السُّطور، وَكَالعَروضِ مِيزَان الشّعر.
قُلْتُ: بَلْ مِيزَانُ الأَعْمَالِ لَهُ كِفَّتَان، كَمَا جَاءَ فِي (الصَّحِيح ) وَهَذَا الْمُعْتَقد غَالِبُهُ صَحِيْح، وَفِيْهِ مَا لَمْ أَفهمه، وَبعضُه فِيْهِ نِزَاع بَيْنَ أَهْلِ
المَذَاهِب، وَيَكفِي المُسْلِمَ فِي الإِيْمَان أَنْ يُؤمِنَ بِاللهِ، وَملاَئِكته، وَكُتبه، وَرُسله، وَالقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه، وَالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ كَمِثلِه شَيْءٌ أَصلاً، وَأَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ صِفَاته المُقَدَّسَةِ حقّ، يُمرُّ كَمَا جَاءَ، وَأَنَّ القُرْآنَ كَلاَمُ الله وَتَنزِيلُه، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوْق، إِلَى أَمثَال ذَلِكَ مِمَّا أَجْمَعت عَلَيْهِ الأُمَّةُ، وَلاَ عِبْرَة بِمَنْ شَذَّ مِنْهُم، فَإِنِ اخْتلفتِ الأُمَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْ مُشْكِلِ أُصُوْلِ دينِهِم، لزَمَنَا فِيْهِ الصَّمْت، وَفَوَّضنَاهُ إِلَى اللهِ، وَقُلْنَا: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَم، وَوَسِعَنَا فِيْهِ السُّكوتُ.فَرحمَ اللهُ الإِمَامَ أَبَا حَامِد، فَأَيْنَ مِثْلُه فِي عُلُوْمه وَفَضَائِله، وَلَكِن لاَ نَدَّعِي عِصمتَه مِنَ الغَلطِ وَالخَطَأِ، وَلاَ تَقلِيدَ فِي الأُصُوْلِ.
الشَّيْخُ، الإِمَامُ، البَحْر، حجَّةُ الإِسْلاَم، أُعجوبَة الزَّمَان، زَيْنُ الدّين، أَبُو
حَامِد مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ الطُّوْسِيّ، الشَّافِعِيّ، الغَزَّالِي، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، وَالذَّكَاءِ المُفرِط.تَفقَّه بِبَلَدِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ تَحَوَّل إِلَى نَيْسَابُوْرَ فِي مُرَافقَة جَمَاعَة مِنَ الطَّلبَة، فَلاَزمَ إِمَامَ الحَرَمَيْنِ، فَبَرع فِي الفِقْه فِي مُدَّة قَرِيْبَة، وَمَهَر فِي الكَلاَمِ وَالجَدَل، حَتَّى صَارَ عينَ المنَاظرِيْنَ، وَأَعَادَ لِلطَّلبَة، وَشَرَعَ فِي التَّصنِيف، فَمَا أَعْجَب ذَلِكَ شَيْخَه أَبَا المعَالِي، وَلَكِنَّهُ مُظْهِرٌ لِلتبجُّح بِهِ، ثُمَّ سَارَ أَبُو حَامِدٍ إِلَى المُخَيَّم السُّلطَانِي، فَأَقْبَل عَلَيْهِ نِظَامُ المُلك الوَزِيْر، وَسُرَّ بِوجُوْده، وَنَاظرَ الكِبَارَ بِحَضْرَته، فَانبهر لَهُ، وَشَاعَ أَمْرُهُ، فَولاَّهُ النِّظَام تَدْرِيْس نِظَامِيَة بَغْدَاد، فَقَدمهَا بَعْدَ الثَّمَانِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، وَسنّه نَحْو الثَّلاَثِيْنَ، وَأَخَذَ فِي تَأْلِيفِ الأُصُوْلِ وَالفِقْهِ وَالكَلاَمِ وَالحِكْمَةِ، وَأَدخله سَيلاَنُ ذِهْنه فِي مضَايق الكَلاَمِ، وَمَزَالِّ الأَقدَام، وَلله سِرٌّ فِي خَلْقِهِ.
وَعَظُمَ جَاهُ الرَّجُل، وَازدَادت حِشمتُه، بِحَيْثُ إِنَّهُ فِي دسْت أَمِيْرٍ، وَفِي رُتْبَةِ رَئِيْسٍ كَبِيْر، فَأَدَّاهُ نَظرُه فِي العُلُوْم، وَمُمَارستُهُ لأَفَانِيْنِ الزُّهْديَات إِلَى رفض الرِّئَاسَة، وَالإِنَابَة إِلَى دَارِ الْخُلُود، وَالتَأَلُّه، وَالإِخلاَصِ، وَإِصْلاَحِ النَّفْس، فَحجَّ مِنْ وَقته، وَزَار بَيْت المَقْدِسِ، وَصَحِبَ الفَقِيْهَ نَصْرَ بنَ إِبْرَاهِيْمَ بِدِمَشْقَ، وَأَقَامَ مُدَّةً، وَأَلَّف كِتَاب (الإِحيَاء) ، وَكِتَابَ
(الأَرْبَعِيْنَ) ، وَكِتَاب (القِسطَاس) ، وَكِتَاب (مَحكّ النَّظَر) .وَرَاض نَفْسَه وَجَاهدهَا، وَطرد شيطَانَ الرُّعونَة، وَلَبِسَ زِيَّ الأَتقيَاء، ثُمَّ بَعْدَ سَنَوَاتٍ سَارَ إِلَى وَطنه، لاَزماً لِسَنَنه، حَافِظاً لِوَقْتِهِ، مكباً عَلَى العِلْم.
وَلَمَّا وَزَرَ فَخرُ المُلك، حضَر أَبَا حَامِد، وَالتمس مِنْهُ أَنْ لاَ يُبقِيَ أَنفَاسَه عقيمَة، وَأَلحَّ عَلَى الشَّيْخ، إِلَى أَنْ لاَن إِلَى الْقدوم إِلَى نَيْسَابُوْرَ، فَدرَّس بِنظَامِيتهَا.
فَذكر هَذَا وَأَضعَافَه عَبْد الغَافِرِ فِي (السِّيَاق) ... ، إِلَى أَنْ قَالَ:
وَلَقَدْ زرتُه مرَاراً، وَمَا كُنْت أَحْدُسُ فِي نَفْسِي مَعَ مَا عَهِدْتُه عَلَيْهِ مِنَ الزَّعَارَّة وَالنَّظَر إِلَى النَّاسِ بعينِ الاسْتخفَاف كِبراً وَخُيَلاَءَ، وَاعتزَازاً بِمَا رُزِقَ مِنَ البسطَة، وَالنُّطق، وَالذِّهن، وَطلب الْعُلُوّ؛ أَنَّهُ صَارَ عَلَى الضِّدِّ، وَتَصفَّى عَنْ تِلْكَ الكُدورَات، وَكُنْتُ أَظنُّه متلفعاً بجلبَاب التَّكلُّف، مُتنمِّساً بِمَا صَارَ إِلَيْهِ، فَتحقَّقت بَعْد السَّبْرِ وَالتَّنْقِيْرِ أَنَّ الأَمْر عَلَى خِلاَف المَظنُوْنِ، وَأَنَّ الرَّجُل أَفَاق بَعْدَ الجُنُوْنِ، وَحَكَى لَنَا فِي لَيَالٍ كَيْفِيَةَ أَحْوَالِه مِنِ ابْتدَاء مَا أُظْهِرَ لَهُ طَرِيْق التَأَلُّه، وَغلبَة الحَال عَلَيْهِ بَعْد تَبحُّرِه فِي العُلُوْم، وَاسْتطَالتِهِ عَلَى الكُلّ بكلاَمه، وَالاستعدَادِ الَّذِي خصَّه الله بِهِ فِي تَحْصِيل أَنْوَاعِ العُلُوْم، وَتَمكُّنه مِنَ الْبَحْث وَالنَّظَر، حَتَّى تَبرَّم بِالاشتغَال بِالعُلُوْم العَرِيَّة عَنِ المعَامَلَة، وَتَفكَّر فِي العَاقبَة، وَمَا يَبْقَى فِي الآخِرَةِ، فَابْتدَأَ بصُحبَة الشَّيْخ أَبِي عَلِيٍّ الفَارْمَذِي، فَأَخَذَ مِنْهُ اسْتفتَاحَ الطّرِيقَة، وَامتثل مَا كَانَ يَأْمُرُه بِهِ مِنَ
العبَادَات وَالنَّوَافل وَالأَذكَار وَالاجْتِهَاد طلباً لِلنَّجَاة، إِلَى أَنْ جَاز تِلْكَ العِقَابَ، وَتَكلَّفَ تِلْكَ المشَاق، وَمَا حَصَلَ عَلَى مَا كَانَ يَرومُهُ.ثُمَّ حَكَى أَنَّهُ رَاجع العُلُوْمَ، وَخَاض فِي الفُنُوْنِ الدَّقيقَة، وَالْتَقَى بِأَربَابِهَا حَتَّى تَفتَّحت لَهُ أَبْوَابُهَا، وَبَقِيَ مُدَّةً فِي الوقَائِع وَتَكَافؤ الأَدِلَّة، وَفُتِحَ عَلَيْهِ بَابٌ مِنَ الخَوفِ بِحَيْثُ شَغَلَه عَنْ كُلِّ شَيْء، وَحَمَله عَلَى الإِعرَاض عَمَّا سِوَاهُ، حَتَّى سَهُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، إِلَى أَنِ ارْتَاضَ، وَظهرت لَهُ الحقَائِقُ، وَصَارَ مَا كُنَّا نَظَنُّ بِهِ نَاموساً وَتَخلقاً، طبعاً وَتَحققاً، وَأَنَّ ذَلِكَ أَثَرُ السَّعَادَة المُقَدَّرَة لَهُ.
ثُمَّ سَأَلنَاهُ عَنْ كَيْفِيَةِ رَغبَته فِي الخُرُوْجِ مِنْ بَيْتِهِ، وَالرُّجُوْع إِلَى مَا دُعِي إِلَيْهِ، فَقَالَ معتذراً: مَا كُنْتُ أُجَوِّزُ فِي دينِي أَنْ أَقف عَنِ الدَّعوَة، وَمنفعَة الطَّالبين، وَقَدْ خفَّ عليَّ أَنْ أَبوح بِالحَقِّ، وَأَنطِقَ بِهِ، وَأَدعُوَ إِلَيْهِ، وَكَانَ صَادِقاً فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا خفَّ أَمرُ الوَزِيْر، وَعلم أَن وُقُوفَه عَلَى مَا كَانَ فِيْهِ ظُهُوْرُ وَحشَةٍ وَخيَالُ طلبِ جَاهٍ، تَرَكَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُتْرَكَ، وَعَاد إِلَى بَيْته، وَاتَّخَذَ فِي جَوَاره مدرسَةً لِلطَّلبَة، وَخَانقَاه لِلصُّوْفِيَة، وَوزَّع أَوقَاتَه عَلَى وَظَائِف الحَاضرِيْنَ مِنْ ختم القُرْآن، وَمُجَالَسَةِ ذَوِي القُلوبِ، وَالقُعُوْد لِلتَّدرِيس، حَتَّى تُوُفِّيَ بَعْدَ مُقَاسَاةٍ لأَنْوَاع مِنَ الْقَصْد، وَالمُنَاوَأَةِ مِنَ الخُصُوْم، وَالسَّعِي فِيْهِ إِلَى المُلُوْك، وَحفظ الله لَهُ عَنْ نوشِ أَيدي النّكبَات.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَانَتْ خَاتمَةُ أَمره إِقبالَه عَلَى طلب الحَدِيْث، وَمُجَالَسَة
أَهْله، وَمُطَالَعَة (الصَّحِيْحَيْنِ ) ، وَلَوْ عَاشَ، لسبق الكُلَّ فِي ذَلِكَ الْفَنّ بِيَسِيْرٍ مِنَ الأَيَّام.قَالَ: وَلَمْ يَتفق لَهُ أَنْ يَرْوِيَ، وَلَمْ يُعْقِبْ إِلاَّ البنَاتِ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الأَسبَاب إِرثاً وَكسباً مَا يَقومُ بِكفَايته، وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ أَمْوَالٌ، فَمَا قَبِلَهَا.
قَالَ: وَمِمَّا كَانَ يُعترض بِهِ عَلَيْهِ وُقوعُ خَلَلٍ مِنْ جِهَةِ النَّحْو فِي أَثْنَاء كلاَمِه، وَرُوجِعَ فِيْهِ، فَأَنِصْف، وَاعْتَرف أَنَّهُ مَا مَارسه، وَاكتفَى بِمَا كَانَ يَحتَاج إِلَيْهِ فِي كلاَمه، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُؤَلِّفُ الخُطب، وَيَشرحُ الكُتُبَ بِالعبَارَة الَّتِي يَعْجِزُ الأَدبَاءُ وَالفُصحَاءُ عَنْ أَمْثَالِهَا.
وَمِمَّا نُقِمَ عَلَيْهِ مَا ذكر مِنَ الأَلْفَاظ المُسْتبشعَة بِالفَارِسيَة فِي كِتَاب (كِيمِيَاء السَّعَادَة وَالعُلُوْم) وَشرح بَعْض الصُوْر وَالمَسَائِل بِحَيْثُ لاَ تُوَافِقُ مَرَاسِمَ الشَّرع وَظوَاهر مَا عَلَيْهِ قَوَاعدُ المِلَّةِ، وَكَانَ الأَوْلَى بِهِ - وَالحَقُّ أَحقُّ مَا يُقَالَ - تركَ ذَلِكَ التَّصنِيف، وَالإِعرَاضَ عَنِ الشَّرح لَهُ، فَإِنَّ العوَامَّ رُبَّمَا لاَ يُحْكِمُوْنَ أُصُوْلَ القوَاعد بِالبرَاهين وَالحجج، فَإِذَا سَمِعُوا شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، تخيَّلُوا مِنْهُ مَا هُوَ المُضِرُّ بعقَائِدهِم، وَيَنسِبُوْنَ ذَلِكَ إِلَى بيَانِ مَذْهَبِ الأَوَائِل، عَلَى أَنَّ المُنْصِفَ اللّبِيْب إِذَا رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ، عَلِمَ أَنَّ أَكْثَر مَا ذَكَرَهُ مِمَّا رَمَزَ إِلَيْهِ إِشَارَاتُ الشَّرع، وَإِنْ لَمْ يَبُحْ بِهِ، وَيُوجَدُ أَمثَالُهُ فِي كَلاَم مَشَايِخ الطّرِيقَة مَرْمُوزَةً، وَمُصَرَّحاً بِهَا متفرقَة، وَلَيْسَ لفظٌ مِنْهُ إِلاَّ وَكَمَا تُشعر سَائِرُ وُجُوْهِه بِمَا
يُوَافق عقَائِدَ أَهْلِ الملَّة، فَلاَ يَجِبُ حَملُه إِذاً إِلاَّ عَلَى مَا يُوَافق، وَلاَ يَنْبَغِي التَّعلُّقُ بِهِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ إِذَا أَمكن، وَكَانَ الأَوْلَى بِهِ أَنْ يَتْرُكَ الإِفصَاحَ بِذَلِكَ، وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّهُ سَمِعَ (سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ) مِنَ القَاضِي أَبِي الفَتْحِ الحَاكمِي الطُّوْسِيّ، وَسَمِعَ مِنْ مُحَمَّد بن أَحْمَدَ الخُوَارِي وَالِدِ عبد الجَبَّارِ كِتَابَ (المَوْلِد) لابْنِ أَبِي عَاصِمٍ بِسمَاعِه مِنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ الحَارِثِ عَنْ أَبِي الشَّيْخِ عَنْهُ.قُلْتُ: مَا نَقَمَهُ عَبْدُ الغَافِرِ عَلَى أَبِي حَامِد فِي الكيمِيَاء، فَلَهُ أَمثَالُه فِي غُضون تَوَالِيْفِهِ، حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ العربِي: شَيخُنَا أَبُو حَامِدٍ بَلَعَ الفَلاسفَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَقَيَّأَهُم، فَمَا اسْتَطَاعَ.
وَمِنْ (مُعْجَم أَبِي عَلِيٍّ الصدفِي) ، تَأْلِيفُ القَاضِي عِيَاض لَهُ، قَالَ:
وَالشَّيْخ أَبُو حَامِدٍ ذُو الأَنبَاء الشَّنِيعَة، وَالتَّصَانِيْفِ العَظِيْمَة، غلاَ فِي طرِيقَة التَّصَوُّف، وَتَجرَّد لنَصر مَذْهَبهم، وَصَارَ دَاعِيَةً فِي ذَلِكَ، وَأَلَّف فِيْهِ تَوَالِيفه المَشْهُوْرَة، أُخِذَ عَلَيْهِ فِيْهَا مَوَاضِعُ، وَسَاءت بِهِ ظُنُوْنُ أُمَةٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ، وَنَفَذَ أَمرُ السُّلْطَان عِنْدنَا بِالمَغْرِبِ وَفَتْوَى الفُقَهَاء بِإِحرَاقهَا وَالبُعدِ عَنْهَا، فَامْتُثِلَ ذَلِكَ.
مَوْلِدُهُ: سَنَةَ خَمْسِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
قُلْتُ: مَا زَالَ العُلَمَاءُ يَخْتلِفُوْنَ، وَيَتَكَلَّم العَالِمُ فِي العَالِم باجْتِهَاده، وَكُلٌّ مِنْهُم مَعْذُور مَأْجُور، وَمَنْ عَاند أَوْ خرق الإِجْمَاعَ، فَهُوَ مَأْزور، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُوْر.
وَلأَبِي المُظَفَّر يُوْسُف سِبْطِ ابْنِ الجَوْزِيّ فِي كِتَاب (رِيَاض الأَفهَام) فِي مَنَاقِب أَهْلِ البَيْت قَالَ:ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ (سِرّ العَالمين وَكشف مَا فِي الدَّارين) فَقَالَ فِي حَدِيْث: (مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ ) أَنَّ عُمَر قَالَ لعلِي: بخٍ بخٍ، أَصْبَحتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَة.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَهَذَا تَسْلِيمٌ وَرِضَىً، ثُمَّ بَعْد هَذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الهَوَى حُباً لِلرِّيَاسَة، وَعَقْدِ البُنُوْد، وَأَمرِ الخِلاَفَة وَنَهيهَا، فَحملهُم عَلَى الخلاَف، فَنبذُوهُ وَرَاءَ ظُهُوْرهِم، وَاشتَرَوْا بِهِ ثَمناً قليلاً، فَبِئس مَا يَشترُوْنَ، وَسَرَدَ كَثِيْراً مِنْ هَذَا الكَلاَم الفَسْلِ الَّذِي تَزعمُهُ الإِمَامِيَّة، وَمَا أَدْرِي مَا عُذْرُهُ فِي هَذَا؟ وَالظَّاهِر أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَتبع الحَقَّ، فَإِنَّ الرَّجُل مِنْ بُحُوْرِ العِلْمِ - وَاللهُ أَعْلَمُ -.
هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَضَع هَذَا وَمَا ذَاكَ بِبعيد، فَفِي هَذَا التَّأْلِيف بَلاَيَا لاَ تَتَطَبَّب، وَقَالَ فِي أَوَّله: إِنَّهُ قرَأَه عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بنُ تُوْمرت المَغْرِبِيّ سِرّاً بِالنَّظَامِيَة، قَالَ: وَتوسَّمْتُ فِيْهِ المُلْكَ.
قُلْتُ: قَدْ أَلَّفَ الرَّجُلُ فِي ذَمِّ الفَلاَسِفَة كِتَاب (التهَافت) ، وَكَشَفَ عوَارهُم، وَوَافقهُم فِي موَاضِع ظنّاً مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ حقٌّ، أَوْ مُوَافِقٌ لِلملَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالآثَار وَلاَ خِبْرَةٌ بِالسُّنَنِ النَّبويَّة القَاضِيَة عَلَى العَقْل، وَحُبِّبَ إِلَيْهِ إِدمَانُ النَّظَر فِي كِتَاب (رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَا) وَهُوَ دَاءٌ عُضَال، وَجَرَبٌ مُرْدٍ، وَسُمٌّ قَتَّالٌ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَبَا حَامِد مِنْ كِبَارِ الأَذكيَاء، وَخيَارِ المُخلِصينَ، لَتَلِفَ.
فَالحِذَارَ الحِذَارَ مِنْ هَذِهِ الكُتُب، وَاهرُبُوا بدينكُم مِنْ شُبَهِ الأَوَائِلِ، وَإِلاَّ
وَقعتُم فِي الحَيْرَةِ، فَمَنْ رَام النَّجَاةَ وَالفوز، فَليلزمِ العُبُوديَّة، وَليُدْمِنِ الاسْتغَاثَةَ بِاللهِ، وَليبتهِلْ إِلَى مَوْلاَهُ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الإِسْلاَمِ وَأَنْ يُتوفَّى عَلَى إِيْمَانِ الصَّحَابَة، وَسَادَةِ التَّابِعِيْنَ، وَاللهُ الْمُوفق، فَبِحُسْنِ قَصْدِ العَالِمِ يُغْفَرُ لَهُ وَيَنجُو - إِنْ شَاءَ اللهُ -.وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو بنُ الصَّلاَح: فَصلٌ لِبيَانِ أَشيَاء مُهِمَّةٍ أُنْكِرَتْ عَلَى أَبِي حَامِد:
فَفِي تَوَالِيْفِهِ أَشيَاءُ لَمْ يَرتضِهَا أَهْلُ مَذْهَبه مِنَ الشُّذوذ، مِنْهَا قَوْله فِي الْمنطق: هُوَ مقدمَة العُلُوْمِ كُلِّهَا، وَمَنْ لاَ يُحيطُ بِهِ، فَلاَ ثِقَة لَهُ بِمَعلُوْم أَصلاً.
قَالَ: فَهَذَا مَرْدُوْدٌ، إِذْ كُلُّ صَحِيْحِ الذّهن منطقِيٌّ بِالطَّبع، وَكم مِنْ إِمَام مَا رَفَعَ بِالمنطِق رَأْساً.
فَأَمَّا كِتَاب (المضنُوْنِ بِهِ عَلَى غَيْر أَهْله) فَمَعَاذَ اللهِ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ، شَاهدتُ عَلَى نسخَة بِهِ بِخَطِّ القَاضِي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَبْدِ اللهِ الشَّهْرُزُورِي أَنَّهُ مَوْضُوْع عَلَى الغزَالِي، وَأَنَّهُ مُخْتَرع مِنْ كِتَاب (مَقَاصِد الفَلاَسِفَة) ، وَقَدْ نَقضه الرَّجُلُ بِكِتَابِ (التَّهَافُت).
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ صَالِحٍ الجيلِي فِي (تَارِيْخِهِ) :أَبُو حَامِدٍ لُقِّبَ بِالغزَّالِي، بَرَعَ فِي الفِقْه، وَكَانَ لَهُ ذكَاءٌ وَفِطْنَة وَتَصرُّف، وَقُدرَة عَلَى إِنشَاء الكَلاَم، وَتَأْلِيفِ المَعَانِي، وَدَخَلَ فِي عُلُوْمِ الأَوَائِل.إِلَى أَنْ قَالَ: وَغَلَبَ عَلَيْهِ اسْتَعمَالُ عبَارَاتِهم فِي كُتُبِهِ، وَاسْتُدْعِيَ لِتَدْرِيْس النِّظَامِيَة بِبَغداد فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ، وَبَقِيَ إِلَى أَنْ غلبت عَلَيْهِ الخلوَةُ، وَترك التَدْرِيْسَ، وَلَبِسَ الثِّيَابَ الخشنَةَ، وَتَقلَّل فِي مَطْعُومه.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَجَاورَ بِالقُدْس، وَشرع فِي (الإِحيَاء) هُنَاكَ - أَعنِي: بِدِمَشْقَ - وَحَجَّ وَزَار، وَرجع إِلَى بَغْدَادَ، وَسُمِعَ مِنْهُ كِتَابُهُ (الإِحيَاء) ، وَغَيْرُهُ، فَقَدْ حَدَّثَ بِهَا إِذاً، ثُمَّ سَرَدَ تَصَانِيْفَه.
وَقَدْ رَأَيْت كِتَابَ (الْكَشْف وَالإِنبَاء عَنْ كِتَاب الإِحيَاء) لِلمَازَرِي، أَوله: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنَار الحَقَّ وَأَدَالَه، وَأَبَارَ البَاطِلَ وَأَزَاله، ثُمَّ أَوْرَد المَازَرِي أَشيَاءَ مِمَّا نَقدَه عَلَى أَبِي حَامِد، يَقُوْلُ:
وَلَقَدْ أَعْجَبُ مِنْ قَوْم مَالِكيَةٍ يَرَوْنَ مَالِكاً الإِمَام يَهْرُبُ مِنَ التّحديد، وَيُجَانب أَنْ يَرْسُمَ رسماً، وَإِنْ كَانَ فِيْهِ أَثرٌ مَا، أَوْ قيَاسٌ مَا، تَوَرُّعاً وَتحفظاً مِنَ الفَتْوَى فِيمَا يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْتَحسنُوْنَ مِنْ رَجُل فَتَاوَى مبنَاهَا عَلَى مَا لاَ حقيقَة لَهُ، وَفِيْهِ كَثِيْرٌ مِنَ الآثَار عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفَّق فِيْهِ الثَّابتَ بِغَيْرِ الثَّابت، وَكَذَا مَا أَوْرَد عَنِ السَّلَفِ لاَ يَمكن ثبوتُهُ كُلُّه، وَأَوْرَدَ مِنْ نَزغَاتِ الأَوليَاء وَنفثَات الأَصفِيَاء مَا يَجِلُّ موقِعُه، لَكِن مزج فِيْهِ النَّافِعَ بِالضَّار، كَإِطلاَقَات يَحكيهَا عَنْ بعضهِم لاَ يَجُوْزُ إِطلاَقُهَا لِشنَاعتهَا، وَإِنْ أُخذت معَانِيْهَا عَلَى ظوَاهرهَا، كَانَتْ كَالرموز إِلَى قدح الْمُلْحِدِينَ، وَلاَ تَنْصَرِفُ مَعَانِيْهَا إِلَى الحَقّ إِلاَّ بِتعسُّف عَلَى اللَّفْظ مِمَّا لاَ يَتكلف العُلَمَاءُ مِثْله إِلاَّ فِي كَلاَم صَاحِب الشَّرع الَّذِي اضْطرَّتْ المعجزَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صدقه المَانعَة مِنْ جَهله وَكذبه إِلَى طلب التَّأْوِيْل، كَقَوْلِه: (إِنَّ القَلْبَ بَيْنَ أُصْبَعَيْنِ
مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَن ) .وَ (إِنَّ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَع ) .
وَكقوله: (لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ) .
وَكقوله: (يَضْحَكُ اللهُ ) ... إِلَى غَيْر
ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيْثِ الوَارد ظَاهِرُهَا بِمَا أَحَاله العَقْلُ.إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِذَا كَانَتِ العِصْمَةُ غَيْرَ مَقْطُوْع بِهَا فِي حقِّ الوَلِي، فَلاَ وَجه لإِضَافَة مَا لاَ يَجُوْزُ إِطلاَقُهُ إِلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ، وَتَدعُو ضَرُوْرَةٌ إِلَى نَقله، فَيَتَأَوّل.
إِلَى أَنْ قَالَ: أَلاَ تَرَى لَوْ أَنَّ مُصَنِّفاً أَخَذَ يَحكِي، عَنْ بَعْضِ الحشويَة مَذْهَبَه فِي قِدَمَ الصَّوتِ وَالحرف، وَقِدَمَ الوَرَقِ، لَمَّا حَسُنَ بِهِ أَنْ يَقُوْل: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقين: إِنَّ القَارِئَ إِذَا قرَأَ كِتَابَ اللهِ، عَادَ القَارِئُ فِي نَفْسِهِ قديماً بَعْدَ أَنْ كَانَ مُحْدَثاً، أَوْ قَالَ بَعْضُ الحذَاق: إِنَّ اللهَ مَحَلٌّ لِلْحوَادث، إِذَا أَخَذَ فِي حِكَايَة مَذْهَب الكَرَّامِيَّةِ.
وَقَالَ قَاضِي الجَمَاعَة أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ حَمْدين القُرْطُبِيّ: إِن بَعْضَ مَنْ يَعِظُ مِمَّنْ كَانَ يَنْتَحِلُ رسمَ الفِقْه، ثُمَّ تَبرَّأَ مِنْهُ شغفاً بِالشِّرعَة الغزَّاليَة، وَالنِّحلَة الصُّوْفِيَّة، أَنشَأَ كُرَاسَةً تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى التعصُّب لِكِتَابِ أَبِي حَامِد إِمَام بِدعتِهِم، فَأَيْنَ هُوَ مِنْ شُنَعِ مَنَاكِيْره، وَمَضَاليلِ أَسَاطيرِهِ المُبَاينَة لِلدِّين؟! وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا مِنْ علم المعَامِلَة المُفضِي إِلَى علم المكَاشفَة الوَاقع بِهِم عَلَى سِرِّ الربوبيَة الَّذِي لاَ يُسفِر عَنْ قِنَاعِهِ، وَلاَ يَفُوزُ بِاطِّلاعه إِلاَّ مَنْ تَمَطَّى إِلَيْهِ ثَبَج ضَلاَلَته الَّتِي رفع لَهُم أَعْلاَمَهَا، وَشرع أَحكَامَهَا.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَأَدْنَى النصِيْبِ من هَذَا العِلْم التَّصديقُ بِهِ، وَأَقلُّ عُقُوبَته أَنْ لاَ يُرْزَقَ المُنْكِرُ مِنْهُ شَيْئاً، فَاعرض قَوْله عَلَى قَوْلِهِ، وَلاَ يَشتغِلُ بقِرَاءة قُرْآن، وَلاَ بِكَتْبِ حَدِيْثٍ، لأَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُهُ عَنِ الْوُصُول إِلَى إِدخَال رَأْسه فِي كُمِّ جُبَّته، وَالتَّدثر بِكسَائِهِ، فَيسْمَع نِدَاءَ الحَقِّ، فَهُوَ يَقُوْلُ: ذرُوا مَا كَانَ السَّلَفُ عَلَيْهِ، وَبَادِرُوا مَا آمُرُكُم بِهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا القَاضِي أَقذَع، وَسَبَّ، وَكفَّر، وَأَسْرَفَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الهَوَى.
وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَصُدُوْرُ الأَحرَارِ قُبُوْرُ الأَسرَارِ، وَمَنْ أَفشَى سِرَّ الرُّبوبيَة، كفر، وَرَأَى قَتْلَ مِثْلِ الحَلاَّج خَيراً مِنْ إِحيَاء عَشْرَة لإِطلاَقه أَلْفَاظاً، وَنَقَلَ عَنْ بعضهِم قَالَ: لِلرُّبوبيَّة سِرٌّ لَوْ ظهر، لَبَطَلت النُّبُوَّة، وَللنُبُوَّة سِرٌّ لَوْ كُشِفَ، لبَطل العِلْمُ، وَلِلْعلمِ سِرٌّ لَوْ كشف، لَبَطَلت الأَحكَامُ.قُلْتُ: سِرُّ العِلْم قَدْ كشف لصُوْفَة أَشقيَاء، فَحلُّوا النّظَام، وَبطل لديهِم الحَلاَلُ وَالحَرَامُ.
قَالَ ابْنُ حَمْدِينَ: ثُمَّ قَالَ الغزَالِي: وَالقَائِلُ بِهَذَا، إِنْ لَمْ يُرِدْ إِبطَال النُّبُوَّة فِي حقِّ الضُّعَفَاء، فَمَا قَالَ لَيْسَ بِحقٍّ، فَإِنَّ الصَّحِيح لاَ يَتنَاقضُ، وَإِنَّ الكَامِل مَنْ لاَ يُطفئ نُوْرُ مَعْرِفَته نُورَ وَرعه.
وَقَالَ الغزَّالِي فِي العَارِف: فَتتجلَى لَهُ أَنوَارُ الحَقِّ، وَتنكشِفُ لَهُ العُلُوْم المرموزَةُ المحجوبَةُ عَنِ الْخلق، فَيعرِفُ مَعْنَى النُّبُوَّة، وَجَمِيْعَ مَا وَردت بِهِ أَلْفَاظُ الشرِيعَة الَّتِي نَحْنُ مِنْهَا عَلَى ظَاهِرٍ، لاَ عَلَى حقيقَة.
وَقَالَ عَنْ بعضهِم: إِذَا رَأَيْتَهُ فِي البِدَايَة، قُلْتَ: صديقاً، وَإِذَا رَأَيْتهُ فِي النِّهَايَة، قُلْتَ: زِنْدِيقاً، ثُمَّ فَسَّره الغزَّالِي، فَقَالَ: إِذِ اسمُ الزِّنْدِيق لاَ يُلصق إِلاَّ بِمعطِّل الفَرَائِضِ لاَ بِمعطِّلِ النَّوَافل.
وَقَالَ: وَذَهَبت الصُّوْفِيَّةُ إِلَى العُلُوْمِ الإِلهَامِيَة دُوْنَ التَّعليمِيَة، فَيجلس فَارغَ القَلْب، مجموعَ الهَمِّ يَقُوْلُ: اللهُ اللهُ اللهُ عَلَى الدَّوَام، فَلْيُفَرِّغ قَلْبَهُ، وَلاَ يَشتغِلْ بِتِلاَوَة وَلاَ كتب حَدِيْث.
قَالَ: فَإِذَا بلغَ هَذَا الحدّ، الْتزم الخلوَةَ فِي بَيْت مُظْلِمٍ وَتَدَثَّرَ
بِكسَائِهِ، فَحِيْنَئِذٍ يَسْمَعُ نِدَاءَ الحَقّ: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} وَ {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ} .قُلْتُ: سَيِّدُ الخلقِ إِنَّمَا سَمِعَ {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} مِنْ جِبْرِيْل عَنِ اللهِ، وَهَذَا الأَحْمَقُ لَمْ يَسْمَعْ نِدَاء الحَقِّ أَبَداً، بَلْ سَمِعَ شيطَاناً، أَوْ سَمِعَ شَيْئاً لاَ حقيقَةً مِنْ طَيش دِمَاغِه، وَالتَّوفِيقُ فِي الاعتصَام بِالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاع.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِي: شَحَنَ أَبُو حَامِدٍ (الإِحيَاء) بِالكَذِبِ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلاَ أَعْلَمُ كِتَاباً عَلَى بَسِيط الأَرْضِ أَكْثَرَ كذباً مِنْهُ، ثُمَّ شبَّكَهُ بِمَذَاهِبِ الفَلاَسِفَة، وَمعَانِي رَسَائِل إِخْوَانِ الصَّفَا، وَهُم قَوْم يَرَوْنَ النُّبُوَّة مكتَسَبَة، وَزعمُوا أَنَّ المعجزَاتِ حِيَلٌ وَمَخَارِيقُ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِر :حَجَّ أَبُو حَامِدٍ وَأَقَامَ بِالشَّامِ نَحْواً مِنْ عشر سِنِيْنَ، وَصَنَّفَ، وَأَخَذَ نَفْسه بِالمُجَاهِدَة، وَكَانَ مُقَامُه بِدِمَشْقَ فِي المنَارَة الغربيَة مِنَ الجَامِع، سَمِعَ (صَحِيْح البُخَارِيِّ) مِنْ أَبِي سهل الْحَفْصِي، وَقَدِمَ دِمَشْق فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِيْنَ.
وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَان: بَعَثَهُ النِّظَام عَلَى مَدْرَسَته بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ، وَتَركهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِيْنَ، وَتَزَهَّدَ، وَحَجَّ، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً بِالزَّاويَة الغربيَة، ثُمَّ انتقلَ إِلَى بَيْت المَقْدِسِ وَتَعَبَّدَ، ثُمَّ قصد مِصْر، وَأَقَامَ مُدَّةً بِالإِسْكَنْدَرِيَّة، فَقِيْلَ: عزم عَلَى المضِي إِلَى يُوْسُفَ بنِ تَاشفِيْن سُلْطَانِ مَرَّاكُش، فَبَلَغَهُ نَعِيُّه، ثُمَّ عَادَ إِلَى طُوْس، وَصَنَّفَ: (البَسيطَ) وَ (الوسيطَ) وَ (الوجِيْزَ) وَ (الخلاَصَة) وَ (الإِحيَاءَ) ، وَأَلَّف: (المُسْتصفَى) فِي أُصُوْل الفِقْه، وَ (المَنْخُوْل) وَ (اللبَاب) وَ (الْمُنْتَحل فِي الجَدَل) وَ (تَهَافت الفَلاَسِفَة)
وَ (مَحكّ النَّظَر) وَ (مِعيَار العِلْم) وَ (شرح الأَسْمَاء الحُسْنَى) وَ (مشكَاة الأَنوَار) وَ (المُنْقِذ مِنَ الضَّلاَل) وَ (حقيقَة الْقَوْلَيْنِ) وَأَشيَاء.قَالَ ابْنُ النَّجَّار: أَبُو حَامِدٍ إِمَامُ الفُقَهَاءِ عَلَى الإِطلاَق، وَربَّانِيُّ الأُمَّةِ بِالاتِّفَاق، وَمُجْتَهِدُ زَمَانه، وَعينُ أَوَانه، بَرَعَ فِي المَذْهَب وَالأُصُوْل وَالخلاَف وَالجَدَلِ وَالمنطق، وَقرَأَ الحِكْمَة وَالفَلْسَفَة، وَفَهِمَ كلاَمهُم، وَتَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِم، وَكَانَ شَدِيدَ الذّكَاء، قوِيَّ الإِدرَاك، ذَا فِطْنَة ثَاقبَة، وَغوص عَلَى المَعَانِي، حَتَّى قِيْلَ: إِنَّهُ أَلَّف (المَنْخُوْل) ، فَرَآهُ أَبُو المَعَالِي، فَقَالَ: دفنتَنِي وَأَنَا حَيٌّ، فَهَلاَّ صَبرتَ الآنَ، كِتَابُك غطَّى عَلَى كِتَابِي.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ النَّجَّار بِسنده: أَنَّ وَالِد أَبِي حَامِد كَانَ يَغْزِلُ الصُّوفَ وَيبيعُهُ فِي دُكَّانه بِطُوْسَ، فَأَوْصَى بِوَلَدَيْهِ مُحَمَّد وَأَحْمَد إِلَى صَدِيْقٍ لَهُ صُوْفِي صَالِح، فَعلمهُمَا الخطَّ، وَفَنِيَ مَا خَلَّفَ لَهُمَا أَبُوْهُمَا، وَتعذَّر عَلَيْهِمَا القُوْتُ، فَقَالَ: أَرَى لَكُمَا أَنْ تلجآ إِلَى المدرسَة كَأَنكمَا طَالبَان لِلْفقه عَسَى يَحصُل لَكُمَا قُوتٌ، فَفَعلاَ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَد الخطيبِي: كُنْت فِي حَلْقَة الغزَّالِي، فَقَالَ: مَاتَ أَبِي، وَخلَّف لِي وَلأَخِي مِقْدَاراً يَسيراً فَفَنِي بِحَيْثُ تَعذَّرَ عَلَيْنَا القُوْتُ، فَصِرنَا إِلَى مدرسَة نطلُبُ الفِقْه، لَيْسَ المُرَادُ سِوَى تحصيلِ القُوْت، فَكَانَ تَعلُّمنَا لِذَلِكَ، لاَ للهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُوْنَ إِلاَّ للهِ.
قَالَ أَسْعَد المِيهنِي: سَمِعْتُ أَبَا حَامِد يَقُوْلُ:
هَاجرتُ إِلَى أَبِي نَصْرٍ الإِسْمَاعِيْلِي بجُرْجَان، فَأَقَمْتُ إِلَى أَنْ أَخذت عَنْهُ (التَّعليقَة).
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَلِيٍّ الأَشِيرِي :سَمِعْتُ عبد المُؤْمِن بن عَلِيٍّ القَيْسِيّ، سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ بنَ تُوْمَرْت يَقُوْلُ: أَبُو حَامِدٍ الغزَالِي قَرَعَ البَابَ وَفُتِحَ لَنَا.قَالَ ابْنُ النَّجَّار: بَلَغَنِي أَن إِمَامَ الحَرَمَيْنِ قَالَ:
الغَزَّالِي بَحْرٌ مُغْرِقٌ، وَإِلْكِيَا أَسَدٌ مُطْرِقٌ، وَالخَوَافِي نَارٌ تُحْرِقُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ العُثْمَانِيّ، وَغَيْرهُ: سَمِعْنَا مُحَمَّدَ بَنَ يَحْيَى العَبْدَرِي المُؤَدِّب يَقُوْلُ:
رَأَيْتُ بِالإِسْكَنْدَرِيَّة سَنَةَ خَمْس مائَة كَانَّ الشَّمْس طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبهَا، فَعَبَرَهُ لِي عَابِرٌ بِبدعَة تَحْدُثُ فِيهِم، فَبعد أَيَّام وَصل الخَبَر بِإِحرَاقِ كتب الغزَالِي مِنَ المرِيَّة.
وَفِي التَّوَكُّل مِنَ (الإِحيَاء ) مَا نَصه: وَكُلُّ مَا قسمَ اللهُ بَيْنَ عبَاده مِنْ رزقٍ وَأَجْلٍ، وَإِيْمَانٍ وَكفرٍ، فَكُلُّه عدلٌ مَحْض، لَيْسَ فِي الإِمْكَانِ أَصلاً أَحْسَنُ وَلاَ أَتَمُّ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ وَادَّخره تَعَالَى مَعَ القُدرَة وَلَمْ يَفعلْه، لَكَانَ بُخْلاً وَظلماً.قَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ العَربِي فِي (شَرحِ الأَسْمَاء الحُسْنَى) :قَالَ شيخنَا أَبُو حَامِدٍ قَوْلاً عَظِيْماً انْتَقدهُ عَلَيْهِ العُلَمَاءُ، فَقَالَ:
وَلَيْسَ فِي قُدرَة الله أَبدعُ مِنْ هَذَا العَالَم فِي الإِتْقَان وَالحِكْمَة، وَلَوْ كَانَ فِي القدرَة أَبدعُ أَوْ أَحكمُ مِنْهُ وَلَمْ يَفعله، لَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ قَضَاءً لِلْجُوْد، وَذَلِكَ مُحَال.
ثُمَّ قَالَ: وَالجَوَاب أَنَّهُ بَاعد فِي اعْتِقَاد عمومِ القدرَة وَنَفْي النّهَايَة عَنْ تَقدير المقدورَات المُتَعَلِّقَة بِهَا، وَلَكِن فِي تَفَاصيل هَذَا العَالم المَخْلُوْق، لاَ فِي سِوَاهُ، وَهَذَا رَأْيٌ فَلسفِي قصَدتْ بِهِ الفَلاَسِفَةُ قَلْبَ الحقَائِق، وَنسبتِ الإِتْقَانَ إِلَى الحَيَاةِ مَثَلاً، وَالوجُوْدَ إِلَى السَّمْعِ وَالبصر، حَتَّى لاَ يَبْقَى فِي القلوبِ سَبِيْلٌ إِلَى الصَّوَاب، وَأَجْمَعتِ الأُمَّةُ عَلَى خِلاَف هَذَا الاعتقَاد، وَقَالَتْ عَنْ بُكرَة أَبيهَا: إِنَّ المقدورَاتِ لاَ نِهَايَةَ لَهَا لِكُلِّ مُقَدَّر الوُجُوْد، لاَ لِكُلِّ حَاصل الوجُوْد، إِذِ القدرَةُ صَالِحَة، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ وَهْلَةٌ لاَ لَعاً لَهَا، وَمَزَلَّةٌ لاَ تَمَاسكَ فِيْهَا، وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نُقْطَةً مِنْ بحره، فَإِنَّا لاَ نَرُدُّ عَلَيْهِ إِلاَّ بِقَوْلِهِ.
قُلْتُ: كَذَا فَليكن الردُّ بِأَدبٍ وَسكَيْنَة.
وَمِمَّا أُخِذَ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنَّ لِلْقدر سِرّاً نُهينَا عَنْ إِفشَائِهِ، فَأَيُّ سرٍّ لِلْقدر؟
فَإِنْ كَانَ مُدْرَكاً بِالنَّظَر، وُصِلَ إِلَيْهِ وَلاَ بُدَّ، وَإِنْ كَانَ مُدْرَكاً بِالخَبَر، فَمَا ثَبَتَ فِيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ يُدْرَكُ بِالحَال وَالعِرفَان، فَهَذِهِ دعوَى مَحضَة، فَلَعَلَّهُ عَنَى بِإِفشَائِهِ أَن نُعَمِّق فِي القَدَرِ، وَنبحثَ فِيْهِ.أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عبد الكَرِيْم، أَخْبَرَنَا أَبُو الحَسَنِ السَّخَاوِيُّ، أَخْبَرَنَا حطلبا بن قمرِيَة الصُّوْفِيّ، أَخْبَرَنَا سَعْدُ بن أَحْمَدَ الإِسْفَرَايينِي بِقِرَاءتِي، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ الطُّوْسِيّ، قَالَ:
اعْلم أَنَّ الدِّين شَطرَانِ: أَحَدُهُمَا تَركُ المَنَاهِي، وَالآخرُ فِعلُ الطَّاعَات، وَتركُ المنَاهِي هُوَ الأَشَدُّ، وَالطَّاعَات يَقْدِرُ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَتركُ الشَّهوَات لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلاَّ الصِّدِّيْقُوْنَ، وَلذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوْءَ، وَالمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ هَوَاهُ).
وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ العبدرِي: سَمِعْتُ أَبَا نَصْرٍ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْد القَادِرِ الطُّوْسِيّ يَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّهُ أَبصر فِي نَوْمه كَأَنَّهُ يَنظر فِي كتب الغزَالِي - رَحِمَهُ اللهُ - فَإِذَا هِيَ كُلُّهَا تَصَاوِيْر.قُلْتُ: الغَزَّالِي إِمَامٌ كَبِيْر، وَمَا مِنْ شَرطِ العَالِم أَنَّهُ لاَ يُخطِئ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ الوَلِيْدِ الطُّرْطُوشِي فِي رِسَالَة لَهُ إِلَى ابْنِ مُظَفَّر: فَأَمَّا مَا ذكرت مِنْ أَبِي حَامِد، فَقَدْ رَأَيْتُهُ، وَكَلَّمتُهُ، فَرَأَيْتهُ جَلِيْلاً مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، وَاجتمع فِيْهِ العَقْلُ وَالفهْمُ، وَمَارسَ العُلُوْمَ طُولَ عُمُره، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ مُعْظَمَ زَمَانِهِ، ثُمَّ بدَا لَهُ عَنْ طَرِيْق العُلَمَاء، وَدَخَلَ فِي غُمَارِ العُمَّال، ثُمَّ تَصَوَّف، وَهجر العُلُوْمَ وَأَهْلهَا، وَدَخَلَ فِي عُلُوْم الخوَاطِرِ، وَأَربَابِ الْقُلُوب، وَوسَاوسِ الشَّيْطَان، ثُمَّ شَابَهَا بآرَاء الفَلاَسِفَةِ، وَرُموز الحلاَّجِ، وَجَعَلَ يَطْعُنُ عَلَى الفُقَهَاء وَالمتكلِّمِين، وَلَقَدْ كَادَ أَنْ يَنسلِخَ مِنَ الدِّين، فَلَمَّا عمل (الإِحيَاء) ، عَمَدَ يَتَكَلَّم فِي عُلُوْم الأَحْوَال، وَمرَامزِ الصُّوْفِيَّة، وَكَانَ غَيْرَ أَنِيسٍ بِهَا، وَلاَ خبِير بِمَعْرِفَتِهَا، فَسَقَطَ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، وَشحن كِتَابَهُ بِالمَوْضُوْعَات.
قُلْتُ: أَمَّا (الإِحيَاء) فَفِيْهِ مِنَ الأَحَادِيْثِ البَاطِلَة جُمْلَةٌ، وَفِيْهِ خَيْر
كَثِيْر لَوْلاَ مَا فِيْهِ مِنْ آدَاب وَرسوم وَزُهْد مِنْ طرَائِق الحكمَاء وَمُنحَرِفِي الصُّوْفِيَّة، نَسْأَل اللهَ عِلْماً نَافِعاً، تَدْرِي مَا العِلْمُ النَّافِع؟ هُوَ مَا نَزل بِهِ القُرْآنُ، وَفسَّره الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلاً وَفعلاً، وَلَمْ يَأْت نَهْي عَنْهُ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: (مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي ) ، فَعَلَيْك يَا أَخِي بتدبُّر كِتَاب اللهِ، وَبإِدمَان النَّظَر فِي (الصَّحِيْحَيْنِ) و (سُنَن النَّسَائِيّ) ، وَ (رِيَاض النَّوَاوِي) وَأَذكَاره، تُفْلِحْ وَتُنْجِحْ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ عُبَّادِ الفَلاَسِفَة، وَوظَائِفِ أَهْلِ الرِّيَاضَات، وَجُوعَ الرُّهبَان، وَخِطَابَ طَيْشِ رُؤُوْسِ أَصْحَابِ الخلوَات، فُكُلُّ الخَيْر فِي مُتَابعَة الحنِيفِيَة السَّمحَة، فَواغوثَاهُ بِاللهِ، اللَّهُمَّ اهدِنَا إِلَى صرَاطك المُسْتقيم.نعم، وَللإِمَامِ مُحَمَّد بن عَلِيٍّ المَازَرِي الصَّقَلِّي كَلاَمٌ عَلَى (الإِحيَاء) يَدُلُّ عَلَى إِمَامته، يَقُوْلُ:
وَقَدْ تَكرَّرت مُكَاتبتكُم فِي اسْتَعلاَمِ مَذْهَبِنَا فِي الكِتَابِ المُتَرْجَمِ بِـ (إِحيَاءِ عُلُوْمِ الدِّينِ) ، وَذَكَرتُم أَنَّ آرَاء النَّاس فِيْهِ قَدِ اخْتلفت، فَطَائِفَةٌ انْتَصَرت وَتعصَّبت لإِشهَاره، وَطَائِفَة حَذَّرت مِنْهُ وَنفَّرت، وَطَائِفَة لِكُتُبِهِ أَحرقت، وَكَاتِبنِي أَهْلُ المَشْرِق أَيْضاً يَسْأَلونِي، وَلَمْ يَتقدم لِي
قِرَاءة هَذَا الكِتَاب سِوَى نُبَذٍ مِنْهُ، فَإِنْ نَفَّسَ اللهُ فِي العُمُرِ، مَدَدتُ فِيْهِ الأَنفَاس، وَأَزلتُ عَنِ الْقُلُوب الالْتِبَاس: اعْلمُوا أَنَّ هَذَا رَأَيْتُ تَلاَمِذَتَهُ، فُكُلٌّ مِنْهُم حَكَى لِي نوعاً مِنْ حَالِهِ مَا قَامَ مقَام العِيَانِ، فَأَنَا أَقتصرُ عَلَى ذكر حَاله، وَحَالِ كِتَابِهِ، وَذِكْرِ جُمَلٍ مِنْ مَذَاهِب الموحِّدين وَالمتصَوِّفَة، وَأَصْحَابِ الإِشَارَات، وَالفَلاَسِفَة، فَإِنَّ كِتَابهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذِهِ الطّرَائِق.ثُمَّ إِنَّ المَازرِي أَثْنَى عَلَى أَبِي حَامِد فِي الفِقْه، وَقَالَ: هُوَ بِالفِقْه أَعْرفُ مِنْهُ بِأُصُوْله، وَأَمَّا عِلْمُ الكَلاَم الَّذِي هُوَ أُصُوْلُ الدّين، فَإِنَّهُ صَنَّف فِيْهِ، وَلَيْسَ بِالمتبحر فِيْهَا، وَلَقَدْ فَطِنْتُ لِعدم اسْتبحَاره فِيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَرَأَ عُلُوْمَ الفَلْسَفَة قَبْل اسْتبحَاره فِي فَن الأُصُوْل، فَأَكسبته الفَلْسَفَة جُرْأَةً عَلَى المَعَانِي، وَتسهُّلاً لِلْهجوم عَلَى الحقَائِق، لأَنْ الفَلاَسِفَة تَمرُّ مَعَ خَوَاطِرِهَا، لاَ يَزَعُهَا شَرْعٌ، وَعَرَّفنِي صَاحِب لَهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عُكُوفٌ عَلَى (رَسَائِل إِخْوَان الصَّفَا) ، وَهِيَ إِحْدَى وَخَمْسُوْنَ رِسَالَةً، أَلَّفهَا مَنْ قَدْ خَاض فِي علم الشَّرع وَالنَّقل، وَفِي الحِكْمَة، فَمزج بَيْنَ الْعلمين، وَقَدْ كَانَ رَجُل يُعْرَفُ بِابْنِ سِينَا ملأَ الدُّنْيَا تَصَانِيْفَ، أَدَّتْهُ قُوَّتُهُ فِي الفَلْسَفَة إِلَى أَنْ حَاول ردَّ أُصُوْلِ العقَائِد إِلَى علم الفَلْسَفَة، وَتلطَّفَ جُهْدَهُ، حَتَّى تَمَّ لَهُ مَا لَمْ يَتُم لغَيْره، وَقَدْ رَأَيْتُ جُمَلاً مِنْ دَوَاوِيْنه، وَوجدتُ أَبَا حَامِد يُعَوِّلُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَر مَا يُشيرُ إِلَيْهِ مِنْ عُلُوْم الفَلْسَفَة.
وَأَمَّا مَذَاهِبُ الصُّوْفِيَّة، فَلاَ أَدْرِي عَلَى مَنْ عوَّل فِيْهَا، لَكِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا عَلَّق بَعْضُ أَصْحَابه أَنَّهُ ذكر كُتُبَ ابْنِ سينَا وَمَا فِيْهَا، وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ كُتبَ أَبِي حَيَّانَ التَّوحيدي، وَعِنْدِي أَنَّهُ عَلَيْهِ عوَّل فِي مَذْهَب التَّصَوُّف، وَأُخْبِرْتُ أَنَّ أَبَا حَيَّان أَلَّف دِيْوَاناً عَظِيْماً فِي هَذَا الفنّ، وَفِي (الإِحيَاء) مِنَ الوَاهيَات كَثِيْر.
قَالَ: وَعَادَةُ المتورِّعين أَنْ لاَ يَقولُوا: قَالَ مَالِكٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِيمَا لَمْ يثبت عِنْدَهُم.
ثُمَّ قَالَ: وَيَستحسنُ أَشيَاءَ مبنَاهَا عَلَى مَا لاَ حقيقَة لَهُ، كقصِّ الأَظفَارِ أَنْ يَبدَأَ بِالسَّبَّابَة، لأَنْ لَهَا الفَضْلَ عَلَى باقِي الأَصَابع، لأَنَّهَا المسبِّحَة، ثُمَّ قصّ مَا يَلِيهَا مِنَ الوُسطَى، لأَنَّهَا نَاحِيَة اليَمِينِ، وَيَخْتِم بِإِبْهَامِ اليُمْنَى، وَرَوَى فِي ذَلِكَ أَثراً.قُلْتُ: هُوَ أَثر مَوْضُوْع.
ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ: مَنْ مَاتَ بَعْدَ بلوَغه وَلَمْ يَعلم أَنَّ البَارِئ قديم، مَاتَ مسلماً إِجمَاعاً.
قَالَ: فَمَنْ تسَاهل فِي حِكَايَة الإِجْمَاع فِي مِثْلِ هَذَا الَّذِي الأَقْرَبُ أَنْ يَكُوْنَ الإِجْمَاعُ فِي خِلاَفه، فَحقيق أَنْ لاَ يُوثقَ بِمَا رَوَى، وَرَأَيْتُ لَهُ فِي الجُزْء الأَوّل يَقُوْلُ: إِنَّ فِي عُلُوْمِهِ مَا لاَ يَسوَغ أَنْ يُودَعَ فِي كِتَاب، فَليت شعرِي أَحقٌّ هُوَ أَوْ بَاطِل؟! فَإِنْ كَانَ بَاطِلاً، فَصَدَقَ، وَإِنْ كَانَ حَقّاً، وَهُوَ مُرَادُهُ بِلاَ شكّ، فَلِمَ لاَ يُودَعُ فِي الكُتُبِ، أَلِغُموضه وَدِقَّته؟! فَإِنْ كَانَ هُوَ فَهِمَه، فَمَا المَانع أَنْ يَفهمه غَيْرُهُ؟!
قَالَ أَبُو الفَرَجِ ابْن الجَوْزِيّ: صَنَّفَ أَبُو حَامِدٍ (الإِحيَاء) ، وَملأَه بِالأَحَادِيْث البَاطِلَة، وَلَمْ يَعلم بطلاَنهَا، وَتَكلّم عَلَى الْكَشْف، وَخَرَجَ عَنْ قَانُوْنِ الفِقْه، وَقَالَ: إِنَّ المُرَادَ بِالكَوْكَب وَالقَمَر وَالشَّمْس اللوَاتِي رَآهن إِبْرَاهِيْم، أَنوَار هِيَ حُجُبُ الله - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَمْ يُرد هَذِهِ المَعْرُوْفَات، وَهَذَا مِنْ جنس كَلاَمِ البَاطِنِيَّة، وَقَدْ ردَّ ابْنُ الجَوْزِيّ عَلَى أَبِي حَامِد فِي كِتَابِ (الإِحيَاء) ، وَبَيَّنَ خَطَأَه فِي مُجَلَّدَات، سَمَّاهُ كِتَابَ (الأَحيَاءِ) .
وَلأَبِي الحَسَنِ ابْن سُكَّر رَدٌّ عَلَى الغَزَّالِي فِي مُجَلَّدٍ سَمَّاهُ: (إِحيَاء ميت الأَحْيَاء فِي الرَّدِّ عَلَى كِتَابِ الإِحيَاءِ) .
قُلْتُ: مَا زَالَ الأَئِمَّةُ يُخَالِف بَعضهُم بعضاً، وَيَردُّ هَذَا عَلَى هَذَا،
وَلَسْنَا مِمَّنْ يَذُمُّ العَالِم بِالهَوَى وَالجَهْل.نعم، وَلِلإِمَامِ كِتَاب (كيمِيَاء السَّعَادَة) ، وَكِتَاب (الْمُعْتَقد) ، وَكِتَاب (إِلجَام العوَام) ، وَكِتَاب (الرَّدّ عَلَى البَاطِنِيَّة) ، وَكِتَاب (مُعْتَقد الأَوَائِل) ، وَكِتَاب (جَوَاهر القُرْآن) ، وَكِتَاب (الغَايَة القصوَى) وَكِتَاب (فَضَائِح الإِباحيَة) ، وَ (مَسْأَلَة عَوز الدّور) ، وَغَيْر ذَلِكَ.
قَالَ عَبْد الغَافِرِ الفَارِسِيّ: تُوُفِّيَ يَوْم الاثْنَيْنِ، رَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الآخِرَةِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْس مائَة، وَلَهُ خَمْس وَخَمْسُوْنَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَة الطَّابرَان قصبَة بِلاَدِ طُوْس، وَقَوْلُهُم: الغَزَّالِي، وَالعطَّارِي، وَالخَبَّازِيّ، نِسبَة إِلَى الصّنَائِعِ بِلِسَان الْعَجم، بِجمع يَاء النِّسبَة وَالصيغَة.
وَلِلغَزَّالِي أَخ وَاعِظٌ مَشْهُوْر، وَهُوَ أَبُو الفُتُوْح أَحْمَد، لَهُ قبولٌ عَظِيْم فِي الْوَعْظ، يُزَنُّ برقَة الدّين وَبِالإِباحَة، بَقِيَ إِلَى حُدُوْد العِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، وَقَدْ نَاب عَنْ أَخِيْهِ فِي تَدْرِيْس النّظَامِيَة بِبَغْدَادَ لَمَّا حَجَّ مُديدَة.
قَرَأْت بِخَطِّ النَّوَاوِي - رَحِمَهُ اللهُ -:قَالَ الشَّيْخُ تَقِيّ الدِّيْنِ ابْن الصَّلاَحِ: وَقَدْ سُئِلَ: لِمَ سُمِّيَ الغَزَّالِي بِذَلِكَ، فَقَالَ:
حَدَّثَنِي مِنْ أَثِقُ بِهِ، عَنْ أَبِي الْحرم المَاكسِي الأَدِيْب، حَدَّثَنَا أَبُو الثَّنَاء مَحْمُوْد الفَرَضِيّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا تَاجُ الإِسْلاَم ابْن خَمِيْس، قَالَ لِي الغَزَالِي: النَّاس يَقُوْلُوْنَ لِي: الغَزَّالِي، وَلَسْتُ الغَزَّالِي، وَإِنَّمَا أَنَا الغَزَالِيُّ مَنْسُوْب إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالَ لَهَا: غَزَالَةُ - أَوْ كَمَا قَالَ -.
وَفِي أَوَاخرِ (المَنْخُوْل ) لِلْغزَالِي كَلاَم فَجٌّ فِي إِمَام لاَ أَرَى نَقله هُنَا.وَمِنْ عقيدَة أَبِي حَامِد - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أَوَّلهَا: الحَمْدُ للهِ الَّذِي تَعرَّف إِلَى عبَاده بِكِتَابِه المُنْزَل عَلَى لِسَانِ نَبِيِّه الْمُرْسل، بِأَنَّهُ فِي ذَاته وَاحِد لاَ شَرِيْكَ لَهُ، فَردٌ لاَ مِثْل لَهُ، صَمَدٌ لاَ ضِدَّ لَهُ، لَمْ يَزَلْ وَلاَ يَزَالُ منعوتاً بِنعوت الجلاَل، وَلاَ تُحيطُ بِهِ الجِهَاتُ، وَلاَ تَكنُفه السَّمَاوَاتُ، وَأَنَّهُ مُسْتوٍ عَلَى الْعَرْش عَلَى الوَجْه الَّذِي قَالَهُ، وَبِالمَعْنَى الَّذِي أَرَادَه، منزَّهاً عَنِ الممَاسَة وَالاستقرَار وَالتمكن وَالحُلُوْل وَالانتقَالِ، وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْء إِلَى التّخوم، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ حَبل الورِيْد، لاَ يُمَاثِلُ قُرْبُهُ قربَ الأَجسَام، كَانَ قَبْلَ خلقِ المَكَان وَالزَّمَان، وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ بَائِنٌ بصفَاته مِنْ خلقه، مَا فِي ذَاته سِوَاهُ، وَلاَ فِي سِوَاهُ ذَاتُه، مُقدَّس عَنِ التَّغَيُّر وَالانتقَالِ، لاَ تَحُلُّه الحوَادِثُ، وَأَنَّهُ مَرْئِي الذَّاتِ بِالأَبْصَار فِي دَارِ القرَار، إِتمَاماً لِلنعم بِالنَّظَر إِلَى وَجهه الكَرِيْم.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَيُدْرِكُ حركَة الذَّرِّ فِي الهوَاء، لاَ يَخْرُج عَنْ مَشِيئَته لفتَةُ نَاظر، وَلاَ فَلتَةُ خَاطر، وَأَنَّ القُرْآن مَقْرُوء بِالأَلسِنَة، مَحْفُوْظٌ فِي الْقُلُوب، مكتوبٌ فِي المَصَاحِف، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَائِمٌ بِذَات الله، لاَ يَقْبَلُ الانفصَالَ
بِالانتقَالِ إِلَى الْقُلُوب وَالصّحف، وَأَنَّ مُوْسَى سَمِعَ كَلاَم الله بِغَيْرِ صَوْت وَلاَ حرف، كَمَا تُرَى ذَاتُه مِنْ غَيْرِ شكل وَلاَ لَوْنٍ، وَأَنَّهُ يُفرق بِالموت بَيْنَ الأَرْوَاح وَالأَجسَام، ثُمَّ يُعيدُهَا إِلَيْهَا عِنْد الْحَشْر، فَيبعثُ مَنْ فِي القُبُوْر.مِيزَان الأَعْمَال مِعْيَار يُعبِّر عَنْهُ بِالمِيزَان، وَإِنْ كَانَ لاَ يُسَاوِي مِيزَانَ الأَعْمَال مِيزَانَ الجِسْم الثَّقِيل، كَمِيزَان الشَّمْس، وَكَالمسطرَة الَّتِي هِيَ مِيزَان السُّطور، وَكَالعَروضِ مِيزَان الشّعر.
قُلْتُ: بَلْ مِيزَانُ الأَعْمَالِ لَهُ كِفَّتَان، كَمَا جَاءَ فِي (الصَّحِيح ) وَهَذَا الْمُعْتَقد غَالِبُهُ صَحِيْح، وَفِيْهِ مَا لَمْ أَفهمه، وَبعضُه فِيْهِ نِزَاع بَيْنَ أَهْلِ
المَذَاهِب، وَيَكفِي المُسْلِمَ فِي الإِيْمَان أَنْ يُؤمِنَ بِاللهِ، وَملاَئِكته، وَكُتبه، وَرُسله، وَالقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه، وَالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ كَمِثلِه شَيْءٌ أَصلاً، وَأَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ صِفَاته المُقَدَّسَةِ حقّ، يُمرُّ كَمَا جَاءَ، وَأَنَّ القُرْآنَ كَلاَمُ الله وَتَنزِيلُه، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوْق، إِلَى أَمثَال ذَلِكَ مِمَّا أَجْمَعت عَلَيْهِ الأُمَّةُ، وَلاَ عِبْرَة بِمَنْ شَذَّ مِنْهُم، فَإِنِ اخْتلفتِ الأُمَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْ مُشْكِلِ أُصُوْلِ دينِهِم، لزَمَنَا فِيْهِ الصَّمْت، وَفَوَّضنَاهُ إِلَى اللهِ، وَقُلْنَا: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَم، وَوَسِعَنَا فِيْهِ السُّكوتُ.فَرحمَ اللهُ الإِمَامَ أَبَا حَامِد، فَأَيْنَ مِثْلُه فِي عُلُوْمه وَفَضَائِله، وَلَكِن لاَ نَدَّعِي عِصمتَه مِنَ الغَلطِ وَالخَطَأِ، وَلاَ تَقلِيدَ فِي الأُصُوْلِ.