الجَاحِظُ أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بنُ بَحْرٍ
العَلاَّمَةُ، المُتَبَحِّرُ، ذُوْ الفُنُوْنَ، أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بنُ بَحْرِ بنِ مَحْبُوْبٍ البَصْرِيُّ، المُعْتَزِلِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ.
أَخَذَ عَنِ: النَّظَّامِ.
وَرَوَى عَنْ: أَبِي يُوْسُفَ القَاضِي، وثُمَامَةَ بنِ أَشْرَسَ.
رَوَى عَنْهُ: أَبُو العَيْنَاءِ، وَيَمُوْتُ بنُ المُزَرَّعِ - ابْنُ أُخْتِهِ، وَكَانَ أَحَدَ الأَذْكِيَاءِ -.
قَالَ ثَعلَبُ: مَا هُوَ بِثِقَةٍ.وَقَالَ يَمُوْتُ: كَانَ جَدُّهُ جَمَّالاً أَسْوَدَ.
وَعَنِ الجَاحِظِ: نَسِيْتُ كُنْيَتِي ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى عَرَّفَنِي أَهْلِي.
قُلْتُ: كَانَ مَاجِناً، قَلِيْلَ الدِّيْنِ، لَهُ نَوَادِرُ.
قَالَ المُبَرِّدُ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَنْتَ؟
قَالَ: كَيْفَ مَنْ نِصْفُه مَفْلُوجٌ، وَنِصْفُهُ الآخَرُ مُنَقْرَسٌ؟ لَوْ طَارَ عَلَيْه ذُبَابٌ لآلَمَهُ، وَالآفَةُ فِي هَذَا أَنِّي جُزتُ التِّسْعِيْنَ.
وَقِيْلَ: طَلَبَه المُتَوَكِّلُ، فَقَالَ: وَمَا يَصْنَعُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ بِشقٍّ مَائِلٍ، وَلُعَابٍ سَائِلٍ؟!!
قَالَ ابْنُ زَبْرٍ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَقَالَ الصُّوْلِيُّ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
قُلْتُ: كَانَ مِنْ بُحُوْرِ العِلْمِ، وَتَصَانِيْفُه كَثِيْرَةٌ جِدّاً.
قِيْلَ: لَمْ يَقَعْ بِيَدِهِ كِتَابٌ قَطُّ إِلاَّ اسْتَوفَى قِرَاءتَه، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَكتَرِي دَكَاكِيْنَ الكُتْبِيِّيْنَ، وَيَبِيتُ فِيْهَا لِلْمُطَالَعَةِ، وَكَانَ بَاقِعَةً فِي قُوَّةِ الحِفْظِ.
وَقِيْلَ: كَانَ الجَاحِظُ يَنُوْبُ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ العَبَّاسِ الصُّوْلِيِّ مُدَّةً فِي دِيْوَانِ الرَّسَائِلِ.
وَقَالَ فِي مَرَضِهِ لِلطَّبِيْبِ: اصْطَلَحَتِ الأَضْدَادُ عَلَى جَسَدِي، إِنْ أَكَلْتُ بَارِداً، أُخِذَ بِرِجْلِي، وَإِنْ أَكَلْتُ حَارّاً، أُخِذَ بِرَأْسِي.
وَمِنْ كَلاَمِ الجَاحِظِ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ: المَنْفَعَةُ تُوْجِبُ المَحَبَّةَ،
وَالمَضَرَّةُ تُوْجِبُ البِغْضَةَ، وَالمُضَادَّةُ عَدَاوَةٌ، وَالأَمَانَةُ طُمَأْنِيْنَةٌ، وَخِلاَفُ الهَوَى يُوْجِبُ الاسْتِثْقَالَ، وَمُتَابَعَتُهُ تُوْجِبُ الأُلْفَةَ.العَدْلُ يُوْجِبُ اجْتِمَاعَ القُلُوْبِ، وَالجَوْرُ يُوْجِبُ الفُرْقَةَ.
حُسْنُ الخُلْقِ أُنْسٌ، وَالانْقِبَاضُ وَحْشَةٌ، التَّكَبُّرُ مَقْتٌ، وَالتَّوَاضُعُ مِقَةٌ، الجُوْدُ يُوْجِبُ الحَمْدَ، وَالبُخْلُ يُوْجِبُ الذَّمَّ، التَّوَانِي يُوْجِبُ الحَسْرَةَ، وَالحَزْمُ يُوْجِبُ السُّرُوْرَ، وَالتَّغْرِيْرُ نَدَامَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ إِفْرَاطٌ وَتَقْصِيْرٌ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ نَتَائِجُهَا إِذَا أُقِيْمَتْ حُدُوْدُهَا.
فَإِنَّ الإِفْرَاطَ فِي الجُوْدِ تَبْذِيْرٌ، وَالإِفْرَاطَ فِي التَّوَاضُعِ مَذَلَّةٌ، وَالإِفْرَاطَ فِي الغَدْرِ يَدْعُو إِلَى أَنْ لاَ تَثِقَ بِأَحَدٍ، وَالإِفْرَاطَ فِي المُؤَانَسَةِ يَجْلِبُ خُلَطَاءَ السُّوْءِ.
وَلَهُ: وَمَا كَانَ حَقِّي - وَأَنَا وَاضِعٌ هَذَيْنِ الكِتَابَيْنِ فِي خَلْقِ القُرْآنِ، وَهُوَ المَعْنَى الَّذِي يُكَثِّرُهُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ وَيَعِزُّهُ، وَفِي فَضْلِ مَا بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ، وَعَبْدِ شَمْسٍ وَمَخْزُوْمٍ - إِلاَّ أَنْ أَقْعُدَ فَوْقَ السِّمَاكَينِ، بَلْ فَوْقَ العَيُّوقِ، أَوْ أَتَّجِرَ فِي الكِبْرِيْتِ الأَحْمَرِ، وَأَقُوْدَ العَنْقَاءَ بِزِمَامٍ إِلَى المَلِكِ الأَكْبَرِ.
وَلَهُ: كِتَابُ (الحَيَوَانِ) سَبْعُ مُجَلَدَاتٍ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ كِتَابَ (النِّسَاءِ) ، وَهُوَ فَرْقٌ مَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَكِتَابُ (البِغَالِ) ، وَقَدْ أُضِيْفَ إِلَيْهِ كِتَابٌ، سَمَّوْهُ كِتَابُ (الجِمَالِ) لَيْسَ مِنْ كَلاَمِ الجَاحِظِ، وَلاَ يُقَارِبُهُ.
قَالَ رَجُلٌ لِلْجَاحِظِ: أَلَكَ بِالبَصْرَةِ ضَيْعَةٌ؟
قَالَ: فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: إِنَّمَا إِنَاءٌ وَجَارِيَةٌ وَمَنْ يَخْدمُهَا، وَحِمَارٌ، وَخَادِمٌ، أَهدَيتُ كِتَابَ (الحَيَوَانِ) إِلَى ابْنِ الزَّيَّاتِ، فَأَعطَانِي أَلفَي دِيْنَارٍ، وَأَهدَيتُ إِلَى فُلاَنٍ، فَذَكَرَ نَحْواً مِنْ ذَلِكَ.
يَعْنِي: أَنَّهُ فِي خَيْرٍ وَثَروَةٍ.
قَالَ يَمُوْتُ بنُ المُزَرَّعِ: سَمِعْتُ خَالِي يَقُوْلُ:
أَملَيْتُ عَلَى إِنْسَانٍ مَرَّةً: أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، فَاسْتَمْلَى: أَخْبَرَنَا بِشْرٌ، وَكَتَبَ: أَخْبَرَنَا زَيْدٌ.
قُلْتُ: يَظْهَرُ مِنْ شَمَائِلِ الجَاحِظِ أَنَّهُ يَخْتَلِقُ.
قَالَ إِسْمَاعِيْلُ الصَّفَّارُ: حَدَّثَنَا أَبُو العَيْنَاءِ، قَالَ:أَنَا وَالجَاحِظُ وَضْعَنَا حَدِيْث فَدَكٍ، فَأَدخَلنَاهُ عَلَى الشُّيُوْخِ بِبَغْدَادَ، فَقَلَبُوهُ إِلاَّ ابْنَ شَيْبَةَ العَلَوِيَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لاَ يُشبِه آخِرُ هَذَا الحَدِيْث أَوَّلَه.
ثُمَّ قَالَ الصَّفَّارُ: كَانَ أَبُو العَيْنَاءِ يُحَدِّثُ بِهَذَا بَعْدَ مَا تَابَ.
قِيْلِ لِلْجَاحِظِ: كَيْفَ حَالُكَ؟
قَالَ: يَتَكَلَّمُ الوَزِيْرُ بِرَأْيِي، وَصِلاَتُ الخَلِيْفَةِ مُتَوَاتِرَةٌ إِلَيَّ، وَآكُلُ مِنَ الطَّيْرِ أَسْمَنَهَا، وَأَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ أَلْيَنَهَا، وَأَنَا صَابِرٌ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِالفَرَجِ.
قِيْلَ: بَلِ الفَرَجُ مَا أَنْتَ فِيْهِ.
قَالَ: بَلْ أُحِبُّ أَنْ أَلِيَ الخِلاَفَةَ، وَيَخْتَلِفَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ -يَعْنِي: الوَزِيْر-.
وَهُوَ القَائِلُ:
سَقَامُ الحِرْصِ لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ ... وَدَاءُ الجَهْلِ لَيْسَ لَهُ طَبِيْبُ
وَقَالَ: أَهدَيتُ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ كِتَابَ (الحَيَوَانِ) ، فَأَعطَانِي خَمْسَةَ آلاَفِ دِيْنَارٍ.
وَأَهْدَيْتُ كِتَابَ (البَيَان وَالتبيين) إِلَى أَحْمَدَ بن أَبِي دُوَادَ، فَأَعطَانِي كَذَلِكَ.
وَأَهْدَيْتُ كِتَابَ (الزَّرْعِ وَالنَّخْلِ) إِلَى إِبْرَاهِيْمَ الصُّوْلِيِّ، فَأَعطَانِي مِثْلَهَا، فَرَجَعتُ إِلَى البَصْرَةِ، وَمَعِيَ ضَيعَةٌ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى تَحدِيْدٍ، وَلاَ إِلَى تَسمِيدٍ.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ: ابْنُ أَبِي دَاوُدَ حَدِيْثاً وَاحِداً.وَتَصَانِيْفُ الجَاحِظِ كَثِيْرَةٌ جِدّاً: مِنْهَا (الرَّدُّ عَلَى أَصْحَابِ الإِلهَامِ) ، وَ (الرَّدُّ علَى المُشَبِّهَةِ) ، وَ (الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى) ، (الطُّفَيْلِيَّةُ) ، (فَضَائِلُ التُّرْكِ) ، (الرَّدُّ عَلَى اليَهُوْدِ) ، (الوَعِيْدُ) ، (الحُجَّةُ وَالنُّبُوَّةُ) ، (المُعَلِّمِيْنَ) ، (البُلْدَانُ) ، (حَانُوْتُ عَطَّارٍ) ، (ذَمُّ الزَّنَى) ، وَأَشْيَاءُ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ سَلاَمَةَ كِتَابَةً، عَنْ أَحْمَدَ بنِ طَارِقٍ، أَخْبَرَنَا السِّلَفِيُّ، أَخْبَرَنَا المُبَارَكُ بنُ الطُّيُوْرِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ الصُّوْرِيُّ إِمْلاَءً، حَدَّثَنَا خَلَفُ بنُ مُحَمَّدٍ الحَافِظُ بِصُوْرَ، أَخْبَرَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ بنُ زَبْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ:
أَتَيتُ الجَاحِظَ، فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَاطَّلَعَ عَلَيَّ مِنْ كُوَّةٍ فِي دَارِه، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟
فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيْثِ.
فَقَالَ: أَوَ مَا عَلِمتَ أَنِّي لاَ أَقُوْلُ بِالحَشْوِيَّةِ؟
فَقُلْتُ: إِنِّي ابْنُ أَبِي دَاوُدَ.
فَقَالَ: مَرْحَباً بِكَ وَبِأَبِيكَ، ادْخُلْ.
فَلَمَّا دَخَلْتُ، قَالَ لِي: مَا تُرِيْدُ؟
فَقُلْتُ: تُحَدِّثَنِي بِحَدِيْثٍ وَاحِدٍ.
فَقَالَ: اكتُبْ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بنُ المِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ:
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى عَلَى طِنْفِسَةٍ.
فَقُلْتُ: زِدْنِي حَدِيْثاً آخَرَ، فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي دَاوُدَ أَنْ يَكذِبَ.
قُلْتُ: كَفَانَا الجَاحِظُ المَؤُونَةَ، فَمَا رَوَى مِنَ الحَدِيْثِ إِلاَّ النَّزْرَ اليَسِيْرَ، وَلاَ هُوَ بِمُتَّهَمٍ فِي الحَدِيْثِ، بَلَى فِي النَّفْسِ مِنْ حِكَايَاتِهِ وَلَهْجَتِهِ، فَرُبَّمَا جَازَفَ، وَتَلَطُّخُهُ بِغَيْرِ بِدْعَةٍ أَمْرٌ وَاضِحٌ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَارِيٌّ عَلاَّمَةٌ، صَاحِبُ فُنُوْنٍ وَأَدَبٍ بَاهِرٍ، وَذَكَاءٍ بَيِّنٍ - عَفَا اللهُ عَنْهُ -.
العَلاَّمَةُ، المُتَبَحِّرُ، ذُوْ الفُنُوْنَ، أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بنُ بَحْرِ بنِ مَحْبُوْبٍ البَصْرِيُّ، المُعْتَزِلِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ.
أَخَذَ عَنِ: النَّظَّامِ.
وَرَوَى عَنْ: أَبِي يُوْسُفَ القَاضِي، وثُمَامَةَ بنِ أَشْرَسَ.
رَوَى عَنْهُ: أَبُو العَيْنَاءِ، وَيَمُوْتُ بنُ المُزَرَّعِ - ابْنُ أُخْتِهِ، وَكَانَ أَحَدَ الأَذْكِيَاءِ -.
قَالَ ثَعلَبُ: مَا هُوَ بِثِقَةٍ.وَقَالَ يَمُوْتُ: كَانَ جَدُّهُ جَمَّالاً أَسْوَدَ.
وَعَنِ الجَاحِظِ: نَسِيْتُ كُنْيَتِي ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى عَرَّفَنِي أَهْلِي.
قُلْتُ: كَانَ مَاجِناً، قَلِيْلَ الدِّيْنِ، لَهُ نَوَادِرُ.
قَالَ المُبَرِّدُ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَنْتَ؟
قَالَ: كَيْفَ مَنْ نِصْفُه مَفْلُوجٌ، وَنِصْفُهُ الآخَرُ مُنَقْرَسٌ؟ لَوْ طَارَ عَلَيْه ذُبَابٌ لآلَمَهُ، وَالآفَةُ فِي هَذَا أَنِّي جُزتُ التِّسْعِيْنَ.
وَقِيْلَ: طَلَبَه المُتَوَكِّلُ، فَقَالَ: وَمَا يَصْنَعُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ بِشقٍّ مَائِلٍ، وَلُعَابٍ سَائِلٍ؟!!
قَالَ ابْنُ زَبْرٍ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَقَالَ الصُّوْلِيُّ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
قُلْتُ: كَانَ مِنْ بُحُوْرِ العِلْمِ، وَتَصَانِيْفُه كَثِيْرَةٌ جِدّاً.
قِيْلَ: لَمْ يَقَعْ بِيَدِهِ كِتَابٌ قَطُّ إِلاَّ اسْتَوفَى قِرَاءتَه، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَكتَرِي دَكَاكِيْنَ الكُتْبِيِّيْنَ، وَيَبِيتُ فِيْهَا لِلْمُطَالَعَةِ، وَكَانَ بَاقِعَةً فِي قُوَّةِ الحِفْظِ.
وَقِيْلَ: كَانَ الجَاحِظُ يَنُوْبُ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ العَبَّاسِ الصُّوْلِيِّ مُدَّةً فِي دِيْوَانِ الرَّسَائِلِ.
وَقَالَ فِي مَرَضِهِ لِلطَّبِيْبِ: اصْطَلَحَتِ الأَضْدَادُ عَلَى جَسَدِي، إِنْ أَكَلْتُ بَارِداً، أُخِذَ بِرِجْلِي، وَإِنْ أَكَلْتُ حَارّاً، أُخِذَ بِرَأْسِي.
وَمِنْ كَلاَمِ الجَاحِظِ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ: المَنْفَعَةُ تُوْجِبُ المَحَبَّةَ،
وَالمَضَرَّةُ تُوْجِبُ البِغْضَةَ، وَالمُضَادَّةُ عَدَاوَةٌ، وَالأَمَانَةُ طُمَأْنِيْنَةٌ، وَخِلاَفُ الهَوَى يُوْجِبُ الاسْتِثْقَالَ، وَمُتَابَعَتُهُ تُوْجِبُ الأُلْفَةَ.العَدْلُ يُوْجِبُ اجْتِمَاعَ القُلُوْبِ، وَالجَوْرُ يُوْجِبُ الفُرْقَةَ.
حُسْنُ الخُلْقِ أُنْسٌ، وَالانْقِبَاضُ وَحْشَةٌ، التَّكَبُّرُ مَقْتٌ، وَالتَّوَاضُعُ مِقَةٌ، الجُوْدُ يُوْجِبُ الحَمْدَ، وَالبُخْلُ يُوْجِبُ الذَّمَّ، التَّوَانِي يُوْجِبُ الحَسْرَةَ، وَالحَزْمُ يُوْجِبُ السُّرُوْرَ، وَالتَّغْرِيْرُ نَدَامَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ إِفْرَاطٌ وَتَقْصِيْرٌ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ نَتَائِجُهَا إِذَا أُقِيْمَتْ حُدُوْدُهَا.
فَإِنَّ الإِفْرَاطَ فِي الجُوْدِ تَبْذِيْرٌ، وَالإِفْرَاطَ فِي التَّوَاضُعِ مَذَلَّةٌ، وَالإِفْرَاطَ فِي الغَدْرِ يَدْعُو إِلَى أَنْ لاَ تَثِقَ بِأَحَدٍ، وَالإِفْرَاطَ فِي المُؤَانَسَةِ يَجْلِبُ خُلَطَاءَ السُّوْءِ.
وَلَهُ: وَمَا كَانَ حَقِّي - وَأَنَا وَاضِعٌ هَذَيْنِ الكِتَابَيْنِ فِي خَلْقِ القُرْآنِ، وَهُوَ المَعْنَى الَّذِي يُكَثِّرُهُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ وَيَعِزُّهُ، وَفِي فَضْلِ مَا بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ، وَعَبْدِ شَمْسٍ وَمَخْزُوْمٍ - إِلاَّ أَنْ أَقْعُدَ فَوْقَ السِّمَاكَينِ، بَلْ فَوْقَ العَيُّوقِ، أَوْ أَتَّجِرَ فِي الكِبْرِيْتِ الأَحْمَرِ، وَأَقُوْدَ العَنْقَاءَ بِزِمَامٍ إِلَى المَلِكِ الأَكْبَرِ.
وَلَهُ: كِتَابُ (الحَيَوَانِ) سَبْعُ مُجَلَدَاتٍ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ كِتَابَ (النِّسَاءِ) ، وَهُوَ فَرْقٌ مَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَكِتَابُ (البِغَالِ) ، وَقَدْ أُضِيْفَ إِلَيْهِ كِتَابٌ، سَمَّوْهُ كِتَابُ (الجِمَالِ) لَيْسَ مِنْ كَلاَمِ الجَاحِظِ، وَلاَ يُقَارِبُهُ.
قَالَ رَجُلٌ لِلْجَاحِظِ: أَلَكَ بِالبَصْرَةِ ضَيْعَةٌ؟
قَالَ: فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: إِنَّمَا إِنَاءٌ وَجَارِيَةٌ وَمَنْ يَخْدمُهَا، وَحِمَارٌ، وَخَادِمٌ، أَهدَيتُ كِتَابَ (الحَيَوَانِ) إِلَى ابْنِ الزَّيَّاتِ، فَأَعطَانِي أَلفَي دِيْنَارٍ، وَأَهدَيتُ إِلَى فُلاَنٍ، فَذَكَرَ نَحْواً مِنْ ذَلِكَ.
يَعْنِي: أَنَّهُ فِي خَيْرٍ وَثَروَةٍ.
قَالَ يَمُوْتُ بنُ المُزَرَّعِ: سَمِعْتُ خَالِي يَقُوْلُ:
أَملَيْتُ عَلَى إِنْسَانٍ مَرَّةً: أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، فَاسْتَمْلَى: أَخْبَرَنَا بِشْرٌ، وَكَتَبَ: أَخْبَرَنَا زَيْدٌ.
قُلْتُ: يَظْهَرُ مِنْ شَمَائِلِ الجَاحِظِ أَنَّهُ يَخْتَلِقُ.
قَالَ إِسْمَاعِيْلُ الصَّفَّارُ: حَدَّثَنَا أَبُو العَيْنَاءِ، قَالَ:أَنَا وَالجَاحِظُ وَضْعَنَا حَدِيْث فَدَكٍ، فَأَدخَلنَاهُ عَلَى الشُّيُوْخِ بِبَغْدَادَ، فَقَلَبُوهُ إِلاَّ ابْنَ شَيْبَةَ العَلَوِيَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لاَ يُشبِه آخِرُ هَذَا الحَدِيْث أَوَّلَه.
ثُمَّ قَالَ الصَّفَّارُ: كَانَ أَبُو العَيْنَاءِ يُحَدِّثُ بِهَذَا بَعْدَ مَا تَابَ.
قِيْلِ لِلْجَاحِظِ: كَيْفَ حَالُكَ؟
قَالَ: يَتَكَلَّمُ الوَزِيْرُ بِرَأْيِي، وَصِلاَتُ الخَلِيْفَةِ مُتَوَاتِرَةٌ إِلَيَّ، وَآكُلُ مِنَ الطَّيْرِ أَسْمَنَهَا، وَأَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ أَلْيَنَهَا، وَأَنَا صَابِرٌ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِالفَرَجِ.
قِيْلَ: بَلِ الفَرَجُ مَا أَنْتَ فِيْهِ.
قَالَ: بَلْ أُحِبُّ أَنْ أَلِيَ الخِلاَفَةَ، وَيَخْتَلِفَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ -يَعْنِي: الوَزِيْر-.
وَهُوَ القَائِلُ:
سَقَامُ الحِرْصِ لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ ... وَدَاءُ الجَهْلِ لَيْسَ لَهُ طَبِيْبُ
وَقَالَ: أَهدَيتُ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ كِتَابَ (الحَيَوَانِ) ، فَأَعطَانِي خَمْسَةَ آلاَفِ دِيْنَارٍ.
وَأَهْدَيْتُ كِتَابَ (البَيَان وَالتبيين) إِلَى أَحْمَدَ بن أَبِي دُوَادَ، فَأَعطَانِي كَذَلِكَ.
وَأَهْدَيْتُ كِتَابَ (الزَّرْعِ وَالنَّخْلِ) إِلَى إِبْرَاهِيْمَ الصُّوْلِيِّ، فَأَعطَانِي مِثْلَهَا، فَرَجَعتُ إِلَى البَصْرَةِ، وَمَعِيَ ضَيعَةٌ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى تَحدِيْدٍ، وَلاَ إِلَى تَسمِيدٍ.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ: ابْنُ أَبِي دَاوُدَ حَدِيْثاً وَاحِداً.وَتَصَانِيْفُ الجَاحِظِ كَثِيْرَةٌ جِدّاً: مِنْهَا (الرَّدُّ عَلَى أَصْحَابِ الإِلهَامِ) ، وَ (الرَّدُّ علَى المُشَبِّهَةِ) ، وَ (الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى) ، (الطُّفَيْلِيَّةُ) ، (فَضَائِلُ التُّرْكِ) ، (الرَّدُّ عَلَى اليَهُوْدِ) ، (الوَعِيْدُ) ، (الحُجَّةُ وَالنُّبُوَّةُ) ، (المُعَلِّمِيْنَ) ، (البُلْدَانُ) ، (حَانُوْتُ عَطَّارٍ) ، (ذَمُّ الزَّنَى) ، وَأَشْيَاءُ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ سَلاَمَةَ كِتَابَةً، عَنْ أَحْمَدَ بنِ طَارِقٍ، أَخْبَرَنَا السِّلَفِيُّ، أَخْبَرَنَا المُبَارَكُ بنُ الطُّيُوْرِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ الصُّوْرِيُّ إِمْلاَءً، حَدَّثَنَا خَلَفُ بنُ مُحَمَّدٍ الحَافِظُ بِصُوْرَ، أَخْبَرَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ بنُ زَبْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ:
أَتَيتُ الجَاحِظَ، فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَاطَّلَعَ عَلَيَّ مِنْ كُوَّةٍ فِي دَارِه، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟
فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيْثِ.
فَقَالَ: أَوَ مَا عَلِمتَ أَنِّي لاَ أَقُوْلُ بِالحَشْوِيَّةِ؟
فَقُلْتُ: إِنِّي ابْنُ أَبِي دَاوُدَ.
فَقَالَ: مَرْحَباً بِكَ وَبِأَبِيكَ، ادْخُلْ.
فَلَمَّا دَخَلْتُ، قَالَ لِي: مَا تُرِيْدُ؟
فَقُلْتُ: تُحَدِّثَنِي بِحَدِيْثٍ وَاحِدٍ.
فَقَالَ: اكتُبْ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بنُ المِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ:
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى عَلَى طِنْفِسَةٍ.
فَقُلْتُ: زِدْنِي حَدِيْثاً آخَرَ، فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي دَاوُدَ أَنْ يَكذِبَ.
قُلْتُ: كَفَانَا الجَاحِظُ المَؤُونَةَ، فَمَا رَوَى مِنَ الحَدِيْثِ إِلاَّ النَّزْرَ اليَسِيْرَ، وَلاَ هُوَ بِمُتَّهَمٍ فِي الحَدِيْثِ، بَلَى فِي النَّفْسِ مِنْ حِكَايَاتِهِ وَلَهْجَتِهِ، فَرُبَّمَا جَازَفَ، وَتَلَطُّخُهُ بِغَيْرِ بِدْعَةٍ أَمْرٌ وَاضِحٌ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَارِيٌّ عَلاَّمَةٌ، صَاحِبُ فُنُوْنٍ وَأَدَبٍ بَاهِرٍ، وَذَكَاءٍ بَيِّنٍ - عَفَا اللهُ عَنْهُ -.