Permalink (
الرابط القصير إلى هذا المقطع):
https://hadithtransmitters.hawramani.com/?p=150071&book=5519#4180e8
إسحاق بن إبراهيم بن ميمون
أبو محمد التميمي، المعروف أبوه بالموصلي روى عن جماعة، وروي عنه؛ وقدم دمشق مع المأمون.
عن حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: قال لي أبي: قلت ليحيى بن خالد، أريد أن تكلم لي سفيان بن عيينة ليحدثني بأحاديث؛ فقال: نعم، إذا جاءنا فأذكرني.
قال: فجاءه سفيان، فلما جلس أومأت إلى يحيى، فقال: يا أبا محمد، إسحاق بن إبراهيم من أهل العلم والأدب، وهو مكره على ما تعلمه منه.
فقال سفيان: وما تريد بهذا الكلام؟ قال: تحدثه بأحاديث؛ قال: فكره ذلك، فقال يحيى: أقسمت عليك إلا فعلت؛ قال: نعم، فليبكر إلي.
قال: فقلت ليحيى: افرض لي عليه شيئاً؛ فقال له: يا أبا محمد، افرض له شيئاً؛ قال: قد جعلت له خمسة أحاديث؛ قال: زده؛ قال: قد جعلتها سبعة؛ قال: هل لك أن تجعلها عشرة؟ قال: نعم.
قال إسحاق: فبكرت إليه، واستأذنت ودخلت وجلست بين يديه، فأخرج كتابه فأملى علي عشرة أحاديث، فلما فرغ قلت له: يا أبا محمد، إن المحدث يسهو ويغفل وإن المحدث أيضاً كذلك، فإن رأيت أقرأ عليك ما سمعته منك؛ قال: اقرأ فديتك؛ فقرأت عليه.
وقلت له أيضاً: إن القارئ ربما أغفل طرفه الحرف، والمقروء عليه ربما ذهب عنه الحرف، فأنا في حل أن أروي جميع ما سمعته منك؟ قال: نعم، فديتك، أنت والله فوق أن تستشفع أو يشفع لك، فتعال كل يوم، فلوددت أن أصحاب الحديث كانوا مثلك.
وعن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: جئت أبا معاوية الضرير، ومعي مئة حديث أريد أن أقرأها عليه، فوجدت في دهليزه رجلاً ضريراً، فقال: إنه قد جعل الإذن عليه اليوم إلي لينفعني، وأنا رجل جليل؛ فقلت له: معي مئة حديثٍ، وأنا أهب لك مئة درهم؛ فقال: قد رضيت.
ودخل فاستأذن لي، فدخلت وقرأت المئة حديث؛ فقال لي أبو معاوية: الذي ضمنته لهذا يأخذه من أذناب الناس، وأنت من رؤسائهم، وهو ضعيف معيل، وأنا أحب منفعته؛ قلت قد جعلتها له مئة دينار؛ فقال: أحسن الله جزاءك؛ فدفعتها إليه فأغنيته.
قال أبو بكر الخطيب: يقال: إنه ولد في سنة خمس ومئة، وقيل: ولد بعد ذلك، وكتب الحديث عن سفيان بن عيينة وهشيم بن بشير، وأبي معاوية الضرير، وطبقتهم؛ وأخذ الأدب عن أبي سعيد الأصمعي، وأبي عبيدة، ونحوهما؛ وبرع في علم الغناء، وغلب عليه فنسب إليه، وكان حسن المعرفة، حلو النادرة، مليح المحاضرة، جيد الشعر، مذكوراً في السخاء، معظماً عند الخلفاء، وهو صاحب كتاب الأغاني الذي يرويه عنه ابنه حماد.
قال إسحاق: بقيت دهراً من دهري أغلس كل يوم إلى هشيم أو غيره من المحديثن وأسمع منه، ثم أصير إلى الكسائي أو الفراء أو ابن غزالة فأقرأ عليه جزاءاً من القرآن، ثم آتي منصور زلزل فيضاربني طريقتين أو ثلاثة، ثم آتي عاتكة بنت شهدة فآخذ منها صوتاً أو صوتين، ثم آتي الأصمعي وأبا عبيدة فأناشدهما وأحدثهما وأستفيد منهما، ثم أصير إلى أبي فأعلمه بما صنعت، ومن لقيت، وما أخذت، وأتغدى معه؛ فإذا كان العشي رحت إلى أمير المؤمنين الرشيد.
وحدث محمد بن عطية العطوي الشاعر، أنه كان عند يحيى بن أكثم في مجلس له يجتمع الناس فيه، فوافى إسحاق بن إبراهيم فأخذ يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن وقاس واحتج، وتكلم في الشعر واللغة ففاق من حضر؛ فأقبل على يحيى، فقال: أعز الله القاضي، أفي شيء مما ناظرت فيه وحكيته نقص أو مطعن؟ قال: لا؛ قال: فما بالي أقوم بسائر هذه العلوم قيام أهلها وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه؟ قال العطوي: فالتفت إلي يحيى بن أكثم، فقال: جوابه في هذا عليك وكان العطوي من أهل الجدل فقلت: نعم أعز الله القاضي الجواب علي.
ثم أقبلت على إسحاق، فقلت: يا أبا محمد، أنت كالفراء والأخفش في النحو؟ قال:
لا؛ قلت: أفأنت في اللغة وعلم الشعر كالأصمعي وأبي عبيدة؟ قال: لا، قلت: أفأنت في الأنساب كالكلبي وأبي اليقظان؟ قال: لا؛ قلت: أفأنت في الكلام كأبي الهذيل والنظام؟ قال: لا؛ قلت: أفأنت في الفقه كالقاضي؟ قال: لا؛ قلت: فأنت في قول الشعر كأبي العتاهية وأبي نواس؟ قال: لا؛ قلت: فمن هاهنا نسبت إلى ما نسبت إليه لأنه لا نظير لك فيه ولا شبيه، وأنت في غيره دون رؤساء أهله.
فضحك وقام فانصرف؛ فقال لي يحيى بن أكثم: لقد وفيت الحجة حقها، وفيها ظلم قليل لإسحاق، وإنه لممن يقل في الزمان نظيره.
وعن محمد بن عبد الله بن الحزنبل، قال: ما سمعت ابن الأعرابي يصف أحداث بمثل ما يصف به إسحاق من العلم والصدق والحفظ، وكان كثيراً ما يقول: أسمتم بأحسن من ابتدائه في قوله: من الخفيف
هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل؟
هل تعرفون من شكا نومه بمثل هذا اللفظ الحسن؟ وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: كان إسحاق الموصلي ثقة صدوقاً عالماً، وما سمعت منه شيئاً، ولوددت أني سمعت، وما كان يفوتني منه شيء لو أردته.
وعن يزيد بن محمد المهلبي، قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة. قال لي الأصمعي: كم حملت معك من كتبك؟ قلت: تخففت فحملت ثمانية أحمال ستة عشر صندوقاً؛ قال: فعجب، فقلت: كم معك من كتبك يا أبا سعيد؟ قال: ما معي إلا صندوقٌ واحد! قلت: ليس إلا؟ قال: وتستقل صندوقاً من حق!.
وعنه قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: رأيت في منامي كأن جريراً ناولني كبة من شعر فأدخلتها في فمي، فقال بعض المعبرين: هذا رجل يقول من الشعر ما شاء.
قال: وجاء مروان بن أبي حفصة يوماً إلي فاستنشدني من شعري فأنشدته: من الطويل
إذا كانت الأحرار أهلي ومنصبي ... ودافع ضيمي خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخٍ وتناولت ... يداي السما قاعداً غير قائم
قال: فجعل مروان يستحسن ذلك ويقول لأبي: إنك لا تدري ما يقول هذا الغلام!.
قال إسحاق: دخلت على هارون الرشيد، فقال لي: يا إسحاق أنشدني شيئاً من شعر؛ فأنشدته: من الطويل
وآمرة بالبخل قلت لها: اقصدي ... فذلك شيء ما إليه سبيل
قال الخطيب: كذا رأيته بخط ابن حيويه اقصدي بالدال.
أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلاً له في العالمين خليل
وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال: بخيل
ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال شيئاً أن يكون ينيل
عطائي عطاء المكثرين تكرماً ... ومالي كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
فقال: لا، كيف؟ إن شاء الله، يا فضل أعطه مئة ألف درهم، ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها يا إسحاق ما أجود أصولها، وأحسن فصولها؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، كلامك أحسن من شعري؛ فقال: يا فضل أعطه مئة ألفٍ أخرى.
قال إسحاق: فكان ذلك أول مالٍ اعتقدته.
عن أبي العيناء قال: قال لي الأصمعي يوماً: لقيني إسحاق الموصلي، فقال لي: ما تقول في قول الشاعر: من الخفيف
هل إلى نظرة إليك سبيل ... يرو منها الصدى ويشفي الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير من المحب القليل
فقلت له: هذا والله الديباج الخسرواني، وأعجبت به؛ فقال لي: إنه ابن ليلته، أي أنا قلته البارحة؛ فخجلت وقلت له: لا جرم، إن أثر التوليد فيه؛ قال: لا جرم، إن أثر الحسد فيك.
وإنما سرق إسحاق هذا البيت من العباس بن قطن الهلالي حيث يقول: من الطويل
قفي متعينا يا مليح بنظرة ... فقد حان منا يا مليح رحيل
أليس قليلاً نظرةٌ إن نظرتها ... إليك وكلاً ليس منك قليل
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: استبطأني أبو زيد الكلابي، فقال: من الطويل
نزورك يا ابن الموصلي لحاجة ... ونفعك يا ابن الموصلي قليل
وفي غير هذه الرواية بيت ثانٍ وهو هذا:
فمالك عندي من فعالٍ أذمه ... ومالك ما يثنى عليك جميل
فأعتبته.
عن الناشئ قال: كتب علي بن هشام إلى إسحاق الموصلي يتشوقه، فكتب إليه إسحاق: وصل إلي منك كتاب يرتفع عن قدري، ويقصر عنه شكري، ولو ما قد عرفت من معانيه لظننت أن الرسول غلط بي وأراد غيري فقصدني، فأما ما ذكرت من التشويق واللوعة والتحريق فلولا ما حلفت عليه وصرفت الآلة إليه لقلت: من الكامل
يا من شكا عبثاً إلينا شوقه ... فعل المشوق وليس بالمشتاق
لو كنت مشتاقاً إلي تريدني ... ما طبت نفساً ساعةً بفراقي
وحفظتني حفظ الخليل خليله ... ووفيت لي بالعهد والمثياق
هيهات قد حدثت أمورٌ بعدنا ... وشغلت باللذات عن إسحاق
وأنشد جحظة لإسحاق بن إبراهيم التميمي، فقال: من البسيط
سقي نديمك أقداحاً معتقة ... قبل الصباح وأتبعها بأقداح
تريك من حسنها في خده حللاً ... ويترك الريق منه طعم تفاح
لا تشرب الراح إلا من يدي رشأٍ ... تقبيل راحته أشهى من الراح
وقال حماد بن إسحاق: أنشدني أبي: من الكامل
يبقى الثناء وتذهب الأموال ... ولكل دهرٍ دولةً ورجال
ما نال محمدة الرجال وشكرهم ... إلا الجواد بماله المفضال
لا ترض من رجلٍ حلاوة قوله ... حتى يصدق ما يقول فعال
فإذا وزنت مقاله بفعاله ... فتوازنا فأخاك ذاك جمال
وعن نصر بن رباح، قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: رضى المتجني غاية لا تدرك؛ وأنشد يقول: من الوافر
ستذكرني إذا جربت غيري ... وتعلم أنني لك كنت كنزا
بذلت لك الصفاء بكل جهدي ... وكنت كما هويت فصرت جزاً
وهنت عليك لما كنت ممن ... يهون إذا أخوه عليه عزاً
ستندم إن هلكت وعشت بعدي ... وتعلم أن رأيك كان عجزا
وأنشد حماد لأبيه: من الوافر
أخلاي الأطايب حيث كانوا ... وما لي في الأطايب من خليل
أخلاي القليل بكل أرضٍ ... وكل الخير في ذاك القليل
قال إسحاق الموصلي: كان في قلب محمد بن زبيدة علي شيء، فأهديته إليه جارية ومعها هدية، فردها، فكتبت إليه: من المتقارب
هتكت الضمير برد اللطف ... وكشفت أمرك لي فانكشف
فإن كنت تحقد شيئاً مضى ... فهب للخلافة ما قد سلف
وجد لي بالعفو عن زلتي ... فبالفضل يأخذ أهل الشرف
فلم يفعل، فكتبت إليه: من المجتث
أتيت ذنباً عظيماً ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أولا ... فاصفح بفضلك عنه
فعاد إلى الجميل.
وعن ثعلب قال: لقي مصعب الزبيري وصباح بن خاقان أحمد بن هشام، فقال لهما: لشيء ما شهركما إسحاق بن إبراهيم الموصلي! ؛ فقالا: بماذا؟ فقال: بقوله: من الرمل
لام فيها مصعب وصباحٌ ... فعذ لنا مصعباً وصباحا
عذلا ما عذلا ثم ملا ... فاسترحنا منهما واستراحا
فقالا: ما قال إلا خيراً، إنما ذكرنا أنا نهيناه فلم ينته، لكن ما شهرك به أشد، قال: ما هو؟ قالا: قوله: من الطويل
وصافية تعشي العيون لذيذةٍ ... رهينة عامٍ في الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الروية موهناً ... من الليل حتى انجاب كل ظلام
فما ذر قرن الشمس حتى كأننا ... من العي نحكي أحمد بن هشام
قال: فكأنما سود وجهه بأنقاس.
قال صباح بن خاقان: اعتللت علة أشفيت منها، فبلغ ذلك إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فاغتم منها، ثم ورد عليها الخبر بإفاقتي، فكتب إلي: من الوافر
حمدت الله إذ عافى صباحا ... وأعقبه السلامة والصلاحا
وكنا خائفين على صباحٍ ... من الخبر الذي قد كان باحا
وخوفني من الحدثان أني ... رأيت الموت إن لم يفد راحا
وعن عبد الأول بن مريد، عن أبيه، قال: مات إسحاق الموصلي سنة خمس وثلاثين ومئتين، ومات فيها إسحاق بن إبراهيم الطاهري.
قال: أنشدني في ذلك الوقت رجل يعرف بابن سيابة: من الوافر
تولى الموصلي فقد تولت ... بشاشات المعازف والقيان
وأي غضارةٍ تبقى فتبقي ... حياة الموصلي على الزمان
ستبكيه المعازف والملاهي ... وتسعدهن عاتقة الدنان
وتبكيه الغوية يوم ولى ... ولا تبكيه تالية القران