الفتح بن خاقان بن عرطوج
أبو محمد التركي قدم دمشق معادل المتوكل على جمازة، ونزل بالمزة، فلما رحل المتوكل عن دمشق ولاها الفتح بن خاقان، فاستخلف بعده كلباتكين التركي. وكان أديباً ظريفاً، له شعر حسن، وكان من السماحة في الغاية، وكان على خاتم المتوكل، وقتل معه.
دخل المعتصم يوماً إلى خاقان يعوده، فرأى الفتح ابنه وهو صبي لم يثغر، فمازحه ثم
قال: أيما أحسن، داري أم داركم؟ فقال الفتح: يا سيدي دارنها إذا كنت فيها أحسن. فقال المعتصم لا أبرح حتى أنثر عليه مئة ألف درهم. ففعل ذلك.
قال الفتح بن خاقان: غضب علي المعتصم ثم رضي عني وقال: ارفع حوائجك لتقضي، فقلت: يا أمير المؤمنين ليس شيء من عرض الدنيا وإن جل يفي برضى أمير المؤمنين وإن قل. فأمر فحشي فمي جوهراً.
ومن شعر الفتح بن خاقان: من الرمل
بني الحب على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستملح في وصف الهوى ... عاشقٌ يحسن تأليف الحجج
قال أبو العباس المبرد: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل إسحاق القاضي؛ فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع في يده كتاب قرأه من أوله إلى آخره، أي كتاب كان. وأما الفتح فكان يحمل الكتاب في حقه، فإذا قام بين يدي المتوكل ليبول أو ليصلي أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي يريد، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى أن يأخذ مجلسه. وأما إسماعيل بن إسحاق فإني ما دخلت عليه قط إلا وفي يده كتابٌ ينظر فيه، أو يقلب الكتب لطلب كتابٍ ينظر فيه.
قال البحتري: كان أول ما مدحت به الفتح بن خاقان: من الطويل
هب الدار ردت رجع ما أنت قائله
فأنشدته إياها في سنة ثلاثٍ وثلاثين بعد أن أقمت شهراً لا أصل إلى إنشاده، وهو مع ذلك يجري علي ويصلني، ثم جلس جلوساً عاماً وحضرت وحدي، فأنشدته فرأيته يتبسم عند
كل بيتٍ جيد فعلمت أنه يعلم الشعر، وكان ذلك أعجب إلى من جميع ما وصلني به، وكان أول ما اهتز له حين بلغت قولي:
وقد قلت للمعلمي إلى المجد طرفه ... دع المجد فالفتح بن خاقان شاغله
أطل بنعماه فمن ذا يطاوله ... وعم بجدواه فمن ذا يساجله
أمنت به الدهر الذي كنت أتقي ... ونلت به القدر الذي كنت آمله
ولما حضرنا سدة الإذن أخرت ... رجالٌ عن الباب الذي أنا داخله
فأفضيت من قربٍ إلى ذي مهابةٍ ... أقابل بدر الأفق حين أقابله
فسلمت واعتاقت جناني هيبةً ... تنازعني القول الذي أنا قائله
فلما تأملت الطلاقة وانثنى ... إلى ببشرٍ أنستني مخايله
ذنوت فقبلت الثرى من يد امرئٍ ... جميلٍ محياه سباط أنامله
صفت مثلما تصفو المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله
فلما فرغت سره ما سمع، وأمر لي بخمسة آلاف درهم وقال: أمير المؤمنين يخرج إلى المصلى الفطر ويخطب، فاعمل شعراً تنشده إياه إذا رجع. فلما جاء الفطر وركب ورجع أوصلني إليه، فدخلت فأنشدته: من الطويل فلما بلغت قولي:
وحال عليك الحول بالفطر مقبلاً ... فباليمن والإقبال قابلك الفطر
لعمري لئن زرت المصلى بجحفلٍ ... يرفرف في أثناء راياته النصر
عليك ثياب المصطفى ووقاره ... وأنت به أولى إذا حصحص الأمر
ولما صعدت المنبر اهتز واكتسى ... ضياء وإشراقاً كما سطع الفجر
بهرت قلوب السامعين بخطبةٍ ... هي الزهر المبثوث واللؤلؤ النثر
فما ترك المنصور نصرك عندها ... ولا خانك السجاد فيها ولا الحبر
جزيت جزاء المحسنين عن الهدى ... وتمت لك النعمى وطال لك العمر
فقال المتوكل للفتح: هذا شاعرك! فجعل يصفني له، فعلمت أنه في صلتي إلى أن أمر لي بعشرة آلاف درهم، فأخذتها من وقتي وخصصت بالفتح حتى كنت أشفع الناس إليه، ثم صيرني بعد في جلساء المتوكل.
قال البحتري: كنت أمدح المتوكل بمثل مدائحي في الفتح بن خاقان مقوماً لفظي عبر مرسلٍ نفسي، فقال لي الفتح - وكان قوي الأدب حسن المعرفة بالشعر - ليس بك حاجةٌ في مدد أمير المؤمنين إلى مثل هذا، لين كلامك حتى يفهم عنك، فإنه يلذ ما يفهم. فعلمت أنه نصحني، فمدحته بأشعاري الني منها: من الخفيف
لي حبيبٌ قد لج في الهجر جداً ... وأعاذ الصدود منه وأبدا
ومنها قولي: من مجزوء الكامل
لم لا ترق لذل عبدك ... وخضوعه فتفي بوعدك
ومنها قولي: من مجزوء الكامل
عن أي ثغرٍ تبتسم ... وبأي طرفٍ تحتكم
فحظيت عنده وقربت من قلبه، وتوفرت علي صلاته.
قال البحتري: قال لي المتوكل: قل في شعراً وفي الفتح، فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي، ولا يفقدني فيذل، فقل في هذا المعنى، فقلت: من الخفيف
سيدي أنت كيف أخلفت وعدي ... وتثاقلت عن وفاء بعهدي
لا أرتني الأيام فقدك يا فت ... ح ولا عرفتك ما عشت فقدي
أعظم الرزء أن تقدم قبلي ... ومن الرزء أن تؤخر بعدي
حسداً أن تكون إلفاً لغيري ... إذ تفردت بالهوى فيك وحدي
فقتلا معاً وكنت حاضراً فربحت هذه الضربة - وأومأ إلى ضربةٍ في ظهره - فقال: أحسنت با بحتري! وجئت بما في نفسي لما أنشدته من أمر الفتح. وأمر لي بألف دينار.
قال البحتري: كنت عملت هذه الأبيات في غلامٍ لي، كنت أكلف به، فلما أمرني المتوكل بما أمر تنحيت فقلت الأبيات وأريته عملتها في وقتي وما غيرت فيها إلا لفظة واحدة، فإني كنت قلت:
لا أرتني الأيام فقدك ما عشت
فجعلته يافتح.
قال علي بن الجهم: إني عند المتوكل يوماً، والفتح جالس إذ قيل له: فلان النخاس بالباب، فأذن له، فدخل ومعه وصيفة، فقال له المتوكل: ما صناعة هذه؟ قال ترقأ بألحان، فقال الفتح: اقرئي لنا خمس آيات، فاندفعت تقول: من السريع
قد جاء نصر الله والفتح ... وشق عنا الظلمة الصبح
خدين ملكٍ ورجا دولةٍ ... وهمه الإشفاق والنصح
الليث إلا أنه ماجدٌ ... والغيث إلا أنه سمح
وكل بابٍ للندى مغلقٌ ... فإنما مفتاحه الفتح
قال: فوالله لقد دخل أمير المؤمنين من السرور ما قام إلى الفتح فوقع عليه يقبله، ووثب الفتح يقبل رجله! وأمر أمير المؤمنين بشرائها، وأمر لها بجائزةٍ وكسوة، وبعث بها إلى الفتح، فكانت أحظى جواريه عنده، فلما قتل الفتح رثته بهذه الأبيات: من المنسرح
قد قلت للموت حين نازله ... والموت مقدامةٌ على البهم
لو قد تبينت ما فعلت إذاً ... قرعت سنا عليه من ندم
فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به ... ما بعد الفتح للموت من ألم
ولم تزل تبكي وتنوح عليه حتى ماتت.
قال المبرد: سمع الفتح ينشد قبل أن يقتل بساعات: من الطويل
وقد يقتل الغتمي مولاه غيلةٌ ... وقد ينبح الكلب الفتى وهو غافل
أبو محمد التركي قدم دمشق معادل المتوكل على جمازة، ونزل بالمزة، فلما رحل المتوكل عن دمشق ولاها الفتح بن خاقان، فاستخلف بعده كلباتكين التركي. وكان أديباً ظريفاً، له شعر حسن، وكان من السماحة في الغاية، وكان على خاتم المتوكل، وقتل معه.
دخل المعتصم يوماً إلى خاقان يعوده، فرأى الفتح ابنه وهو صبي لم يثغر، فمازحه ثم
قال: أيما أحسن، داري أم داركم؟ فقال الفتح: يا سيدي دارنها إذا كنت فيها أحسن. فقال المعتصم لا أبرح حتى أنثر عليه مئة ألف درهم. ففعل ذلك.
قال الفتح بن خاقان: غضب علي المعتصم ثم رضي عني وقال: ارفع حوائجك لتقضي، فقلت: يا أمير المؤمنين ليس شيء من عرض الدنيا وإن جل يفي برضى أمير المؤمنين وإن قل. فأمر فحشي فمي جوهراً.
ومن شعر الفتح بن خاقان: من الرمل
بني الحب على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستملح في وصف الهوى ... عاشقٌ يحسن تأليف الحجج
قال أبو العباس المبرد: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل إسحاق القاضي؛ فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع في يده كتاب قرأه من أوله إلى آخره، أي كتاب كان. وأما الفتح فكان يحمل الكتاب في حقه، فإذا قام بين يدي المتوكل ليبول أو ليصلي أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي يريد، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى أن يأخذ مجلسه. وأما إسماعيل بن إسحاق فإني ما دخلت عليه قط إلا وفي يده كتابٌ ينظر فيه، أو يقلب الكتب لطلب كتابٍ ينظر فيه.
قال البحتري: كان أول ما مدحت به الفتح بن خاقان: من الطويل
هب الدار ردت رجع ما أنت قائله
فأنشدته إياها في سنة ثلاثٍ وثلاثين بعد أن أقمت شهراً لا أصل إلى إنشاده، وهو مع ذلك يجري علي ويصلني، ثم جلس جلوساً عاماً وحضرت وحدي، فأنشدته فرأيته يتبسم عند
كل بيتٍ جيد فعلمت أنه يعلم الشعر، وكان ذلك أعجب إلى من جميع ما وصلني به، وكان أول ما اهتز له حين بلغت قولي:
وقد قلت للمعلمي إلى المجد طرفه ... دع المجد فالفتح بن خاقان شاغله
أطل بنعماه فمن ذا يطاوله ... وعم بجدواه فمن ذا يساجله
أمنت به الدهر الذي كنت أتقي ... ونلت به القدر الذي كنت آمله
ولما حضرنا سدة الإذن أخرت ... رجالٌ عن الباب الذي أنا داخله
فأفضيت من قربٍ إلى ذي مهابةٍ ... أقابل بدر الأفق حين أقابله
فسلمت واعتاقت جناني هيبةً ... تنازعني القول الذي أنا قائله
فلما تأملت الطلاقة وانثنى ... إلى ببشرٍ أنستني مخايله
ذنوت فقبلت الثرى من يد امرئٍ ... جميلٍ محياه سباط أنامله
صفت مثلما تصفو المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله
فلما فرغت سره ما سمع، وأمر لي بخمسة آلاف درهم وقال: أمير المؤمنين يخرج إلى المصلى الفطر ويخطب، فاعمل شعراً تنشده إياه إذا رجع. فلما جاء الفطر وركب ورجع أوصلني إليه، فدخلت فأنشدته: من الطويل فلما بلغت قولي:
وحال عليك الحول بالفطر مقبلاً ... فباليمن والإقبال قابلك الفطر
لعمري لئن زرت المصلى بجحفلٍ ... يرفرف في أثناء راياته النصر
عليك ثياب المصطفى ووقاره ... وأنت به أولى إذا حصحص الأمر
ولما صعدت المنبر اهتز واكتسى ... ضياء وإشراقاً كما سطع الفجر
بهرت قلوب السامعين بخطبةٍ ... هي الزهر المبثوث واللؤلؤ النثر
فما ترك المنصور نصرك عندها ... ولا خانك السجاد فيها ولا الحبر
جزيت جزاء المحسنين عن الهدى ... وتمت لك النعمى وطال لك العمر
فقال المتوكل للفتح: هذا شاعرك! فجعل يصفني له، فعلمت أنه في صلتي إلى أن أمر لي بعشرة آلاف درهم، فأخذتها من وقتي وخصصت بالفتح حتى كنت أشفع الناس إليه، ثم صيرني بعد في جلساء المتوكل.
قال البحتري: كنت أمدح المتوكل بمثل مدائحي في الفتح بن خاقان مقوماً لفظي عبر مرسلٍ نفسي، فقال لي الفتح - وكان قوي الأدب حسن المعرفة بالشعر - ليس بك حاجةٌ في مدد أمير المؤمنين إلى مثل هذا، لين كلامك حتى يفهم عنك، فإنه يلذ ما يفهم. فعلمت أنه نصحني، فمدحته بأشعاري الني منها: من الخفيف
لي حبيبٌ قد لج في الهجر جداً ... وأعاذ الصدود منه وأبدا
ومنها قولي: من مجزوء الكامل
لم لا ترق لذل عبدك ... وخضوعه فتفي بوعدك
ومنها قولي: من مجزوء الكامل
عن أي ثغرٍ تبتسم ... وبأي طرفٍ تحتكم
فحظيت عنده وقربت من قلبه، وتوفرت علي صلاته.
قال البحتري: قال لي المتوكل: قل في شعراً وفي الفتح، فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي، ولا يفقدني فيذل، فقل في هذا المعنى، فقلت: من الخفيف
سيدي أنت كيف أخلفت وعدي ... وتثاقلت عن وفاء بعهدي
لا أرتني الأيام فقدك يا فت ... ح ولا عرفتك ما عشت فقدي
أعظم الرزء أن تقدم قبلي ... ومن الرزء أن تؤخر بعدي
حسداً أن تكون إلفاً لغيري ... إذ تفردت بالهوى فيك وحدي
فقتلا معاً وكنت حاضراً فربحت هذه الضربة - وأومأ إلى ضربةٍ في ظهره - فقال: أحسنت با بحتري! وجئت بما في نفسي لما أنشدته من أمر الفتح. وأمر لي بألف دينار.
قال البحتري: كنت عملت هذه الأبيات في غلامٍ لي، كنت أكلف به، فلما أمرني المتوكل بما أمر تنحيت فقلت الأبيات وأريته عملتها في وقتي وما غيرت فيها إلا لفظة واحدة، فإني كنت قلت:
لا أرتني الأيام فقدك ما عشت
فجعلته يافتح.
قال علي بن الجهم: إني عند المتوكل يوماً، والفتح جالس إذ قيل له: فلان النخاس بالباب، فأذن له، فدخل ومعه وصيفة، فقال له المتوكل: ما صناعة هذه؟ قال ترقأ بألحان، فقال الفتح: اقرئي لنا خمس آيات، فاندفعت تقول: من السريع
قد جاء نصر الله والفتح ... وشق عنا الظلمة الصبح
خدين ملكٍ ورجا دولةٍ ... وهمه الإشفاق والنصح
الليث إلا أنه ماجدٌ ... والغيث إلا أنه سمح
وكل بابٍ للندى مغلقٌ ... فإنما مفتاحه الفتح
قال: فوالله لقد دخل أمير المؤمنين من السرور ما قام إلى الفتح فوقع عليه يقبله، ووثب الفتح يقبل رجله! وأمر أمير المؤمنين بشرائها، وأمر لها بجائزةٍ وكسوة، وبعث بها إلى الفتح، فكانت أحظى جواريه عنده، فلما قتل الفتح رثته بهذه الأبيات: من المنسرح
قد قلت للموت حين نازله ... والموت مقدامةٌ على البهم
لو قد تبينت ما فعلت إذاً ... قرعت سنا عليه من ندم
فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به ... ما بعد الفتح للموت من ألم
ولم تزل تبكي وتنوح عليه حتى ماتت.
قال المبرد: سمع الفتح ينشد قبل أن يقتل بساعات: من الطويل
وقد يقتل الغتمي مولاه غيلةٌ ... وقد ينبح الكلب الفتى وهو غافل